خطب ومحاضرات
رفيق الدرب
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لقد كانت هذه المحاضرة عن الرفيق الذي كان يسير معي على الطريق ثم حاد عن الطريق إما لشهوة أو لشبهة، فلما أخبرت بأن العنوان حدث فيه بعض التغيير توقفت عن التحضير في آخر الصفحات؛ لعلي أن أستدرك الموضوع الجديد، ثم لا هذا أكملت ولا ذاك أدركت، فجئتكم الليلة ببضاعة مزجاة، وجئتكم بموضوع آخر، لكن والله الذي لا إله إلا هو! نحن في أمس الحاجة إلى مثل هذا الموضوع، وأردت أن يكون الموضوع في هذه الليلة حديث من القلب إلى القلب، وهو موعظة ذكرنا بها القرآن في مواضع عدة، وأعظم المواعظ مواعظ القرآن، وأعظم الكلمات كلمات القرآن، وأعظم الحروف حروف الرحمن جل في علاه، لذلك أردت أن يكون أول لقاء بيني وبين أهل عنيزة كلمات تنطلق من القرآن.
إن الحياة حقيقة هي حياة القلوب وليست حياة الأبدان، فالماء يحيي الأرض، وذكر الله يحيي القلوب، فقد رأيتم اليوم عندما نزل المطر كيف تغير واقع الأرض، ورأيتم كيف أن الأرض هشت وبشت فرحاً باستقبال الحياة، فكذلك القلوب لا تحيا إلا بذكر علام الغيوب، قال الله: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، فهذا يدل على أمور عظيمة، ثم إن الله في سياق هذه الآيات قال: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5-7]، فنزول الماء، وإحياء الأرض دليل على قدرة الباري جل في علاه على إحياء الناس بعد موتهم، وبعثهم ونشرهم ثم حسابهم، ثم يتقرر المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، وهي قضية لابد أن تشغل كل واحد منا، فمدار صفحات القرآن على هذه القضية، فما أرسل الله الرسل، ولا أنزل الكتب إلا ليتفكر الناس في ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم الذي سيتقرر فيه المصير والمآل.
إن القلوب إذا حييت استعدت للقاء علام الغيوب، وإذا نسيت غفلت وقست وابتعدت عن صراط الله المستقيم، قال الله: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22]، واليوم الناس يشكون من هذا المرض العظيم، فيشكون من قسوة في قلوبهم، والسبب هو الابتعاد عن ذكر الله جل في علاه، والابتعاد عن النظر في كتاب الله جل في علاه، والابتعاد عما يذكرنا بلقاء الله جل في علاه، فترى مدار أحاديثنا في مجالسنا هو عن الدنيا وما فيها، ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة اشترط على جلسائه شروطاً ثلاثة، فقال: من أراد أن يجلس في مجلسي فأنا أشترط عليه شروطاً ثلاثة -وهذه الشروط ليت أنّا نشترطها في مجالسنا- فقال:
أما الشرط الأول: ألا تتحدثوا في مجلسي عن الدنيا أبداً.
وأما الشرط الثاني: ألا تغتابوا عندي أحداً.
وأما الشرط الثالث: ألا تمدحوا في مجلسي أحداً.
وهذا لأن الإكثار من ذكر الدنيا يقسي القلوب، وغيبة الآخرين كبيرة من الكبائر، وكثرة المدح تميت القلب، وتنسيه ما أعد الله لأهل النعيم، وما أعد الله لأهل الجحيم، فهذه الشروط الثلاثة ليت أنّا نشترطها في مجالسنا، فبذكر الله تحيا القلوب كما تحيا الأرض إذا نزل عليها المطر، وتحيا القلوب أيضاً بذكر سير الأقوام الذين ساروا على ذلك الطريق، فقد أحيا الله بذكرهم أقواماً، فلله در أقوام بذكرهم يحيا أقوام! وتباً لأقوام بذكرهم يموت أقوام، فقد مضوا منذ مئات السنين ولا زالت المنابر تسطع بأسمائهم، وإذا ذُكروا قلنا: لا إله إلا الله، وإذا ذكرت أخبارهم تأدبنا بها واقتدينا بصنع أولئك الرجال، ووالله الذي لا إله إلا هو! لولا أن كتب السِّيَر نقلت لنا أخباراً صحيحة عن أولئك ما كنا نصدق أن أولئك بشر، فقد وصلوا إلى درجة عالية، وزكاهم الله ورضي عنهم وهم يسيرون على الأرض، ومنهم من قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخبرني أنه يحبك، وأنا ضمين بحبك)، ومنهم من اهتز له عرش الرحمن عند وفاته، ومنهم من غسلته الملائكة بين السماء والأرض، ومنهم من كلمه الله كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فما وصلوا إلى تلك الدرجات العالية إلا بقلوب حية معلقة بما عند الله جل في علاه، فإذا أستأنس أهل الدنيا بالدرهم والدينار استأنسوا بما عند الله جل في علاه، فيتردد على مسامعهم وهم يرون الناس يلهون في دنياهم: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الشورى:36].
إن الإيمان هو الحياة الحقيقية، ولا حياة بدون إيمان، فما هو الدافع لي ولك أن نجلس في هذا المسجد أليس هو الإيمان؟ وما هو الدافع لي ولك على فعل الطاعات أليس هو الإيمان؟ وفي المقابل ما هو الرادع لي ولك عن فعل المعاصي والمنكرات أليس هو الإيمان؟ إنه إيمان بما أعد الله للطائعين، والإيمان بما أعد الله للعصاة والمخالفين.
إن الذي يجعل للحياة قيمة هو الإيمان، وبه يتفاوت الناس في دنياهم وأخراهم، لذلك كان إبراهيم عليه السلام في إيمانه أمة، ورجح إيمان أبي بكر الصديق إيمان أمة، ولم يكن بأكثر القوم صلاة ولا قياماً، لكنه كان أكثرهم ثقة وتصديقاً بالله رب العالمين، لذلك كانت حياته غير حياة الآخرين، فالذي يجعل لحياتي وحياتك قيمة هو الإيمان، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122]، فتأمل في قوله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ، أما كان يأكل، ويشرب، ويلبس، ويغدو، ويروح؟ بلى، لكن ليست هذه هي الحياة، لذلك قال أحد المربين لأحد أبنائه: يا بني! لا يكن همك المأكل والمشرب والملبس والمنكح، فهذا هم النفس، فأين هم القلب؟ إن همك هو ما أهمك، فليكن همك الله والدار الآخرة، فمن جعل الهموم هماً واحداً -يعني: هم الآخرة- كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة، أتريد الدنيا؟ فأنا أدلك على الطريق حتى لا تخسر الدنيا والآخرة، (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في صدره، وأتته الدنيا وهي راغمة) ، والعكس بالعكس، (ومن أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قسم الله له) فالذي يجعل لحياتي وحياتك قيمة هو أن يكون لها هدف، فإذا تحدد الهدف تحدد الطريق.
اعلم بارك الله فيك أن الطرق نوعان: النوع الأولى: طرق صعبة فيها مصاعب وآلام وامتحانات وابتلاءات، لكنها توصلك إلى المكان الذي تريد أن تصل إليه، والنوع الآخر: طرق معبدة مذللة فيها شهوات واستراحات وغير ذلك، لكنها لا توصلك إلى المكان الذي تريد أن تصل إليه، فلا شك أنك ستأخذ الطريق الصعب رغم صعوبته؛ لأنك تريد أن تصل، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره)، والحياة امتحان وابتلاء؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، فالذي يحيي القلوب هو ذكر علام الغيوب، فالنظر في آياته، والتدبر في كلماته يحيي القلب، ومصيبتنا أننا لا نعرف القرآن إلا في رمضان، فبقدر ما تعطي القرآن القرآن يعطيك، وبقدر ما تقبل على كتاب الله يقبل الله عليك، وإذا أردت أن تعرف قيمتك عند الله فانظر إلى قيمة كلام الرحمن في صدرك، وفي حياتك، وفي كل شأن من شئون حياتك، فالمطلوب منا عند قراءة القرآن أن نفتح القلوب قبل أن نفتح الآذان، لذلك سيتردد على مسامعك الليلة آيات وآيات، فأسأل الله أن تجد هذه الآيات مكاناً في قلبي وفي قلبك، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم.
إن من أركان الإيمان، وعقائد الإسلام: الإيمان بالله وباليوم الآخر، والضابط الحقيقي لصفة الإنسان هو إيمانه بذلك اليوم، فلا يضبط سلوك البشر في دنياهم إلا إيمانهم بذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؛ ليجزي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته، لذلك حين سأل أحدهم سفيان فقال: كم مضى من عمرك؟ قال: ستون سنة، قال: ستون سنة وأنت في سفر إلى الله، أوشكت أن تصل، قال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: أتعرف معناها؟ فإن معناها أنك لله عبد وأنك إليه راجع، قال سفيان : ومن علم أنه لله عبد فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فماذا أعد للجواب؟ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]، فالضابط الحقيقي لسلوك البشر كلهم أقصاهم وأدناهم هو الإيمان بالله وباليوم الآخر، فإذا كنت مدير شركة أو مؤسسة من المؤسسات فإنك لا تستطيع تراقب كل الموظفين، ولا تستطيع أن تراقب كل واحد في روحته ومجيئه، فما الذي يجعل هذا يبدع في عمله؟ وما الذي يجعل هذا يخلص في أدائه؟ وما الذي يجعل هذا يعطي الحقوق ويمتنع عن المظالم؟ إنه استشعاره باليوم الآخر، وإنه استشعار رقابة الله في كل مكان، كان ابن عمر في مرة من المرات في صحراء، فإذا براعي غنم يرعى أغنامه ويرتاد بها أحسن المراعي، فالمالك لا يراه، لكن الله جل في علاه يراه، وملك السماوات والأرض يراه في كل خطوة، وفي كل مكان يغدوه أو يروحه.
إن هذا الأمر ينقصنا اليوم وهو: أننا نستشعر الرقابة في كل مكان، وأن نستشعر أن الله يرانا في كل مكان، فهو يرى ما في السماء وما في الأرض، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:6-7].
رأى ابن عمر رويعي غنم في صحراء يغدو ويروح بأغنامه إلى أحسن المراعي، فقال له ابن عمر امتحاناً: أعطنا من هذه الشياه، فقال رويعي الغنم: أنا مملوك ولا يحق لي التصرف فيها، فقال ابن عمر امتحاناً: قل للمالك أكلها الذئب، فقال رويعي الغنم بكل بساطة: وماذا أقول لله؟! فانطلق هذا الكلام من داعي الإيمان، والاستشعار والرقابة للرحمن، فماذا أقول: إذا وقفت بين يدي الله وشهدت العينان واليدان والقدمان، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25]، فهذا هو الضابط الحكيم في سلوكنا، فبكى ابن عمر متأثراً بكلامه، وأرسل إليه من يعتقه قائلاً له كلمة: أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن يعتقك يوم أن تلقاه، فلا تظن أن هذه الكلمة سهلة، فإنها تدل على حقيقة العبودية لله رب العالمين، ودلت على قلب مملوء بالإيمان، وهذا ما ينقصنا اليوم حتى نكون على قدر المسئولية، فإننا تنقصنا الضمائر الحية، والقلوب الواعية، والعقول السليمة التي تفكر في المصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
لقد أكثر الله من ذكر اليوم الآخر، فلا تكاد صفحة من صفحات القرآن تخلو من ذكر ذلك اليوم، فتأمل - بارك الله فيك- من أول المصحف إلى آخره فلا تكاد صفحة واحدة تخلو من ذكر ذلك اليوم إما تلميحاً أو تصريحاً، أو ذكر بعض أوصاف ذلك اليوم العظيم؛ لأن بذكر ذلك اليوم تحيا القلوب، وبذكر ذلك اليوم واستشعار ما فيه من الشدائد والأهوال تحيا القلوب؛ لذلك كان مدار حديث القرآن هو عن اليوم الآخر، وكان مدار حديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه كلها هو استشعار اليوم الآخر في كل تقلبات الأحوال، فيربطهم بذلك اليوم، فإذا اشتد الحر قال لهم: (وإن أشد ما تجدون من حركم من زمهرير جهنم)، وإذا اشتد البرد قال لهم: (إن أشد ما تجدون من بردكم من زمهرير جهنم)، فهكذا حاله مع أصحابه فهو يربطهم بذلك اليوم، وقد كانوا يعذبون فيقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، ولم يعد الناس بمتاع زائل من متاع الدنيا، وإنما وعدهم بما عند الله جل في علاه، وكلها أمور غيبية لكن ذكرها لنا القرآن وكأننا نراها رأي العين.
لقد قدم الله الإيمان باليوم الآخر على سائر الأركان؛ لبيان أهميته فقال: لََيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177]، ثم قال في آيات أخرى: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، فالإيمان باليوم الآخر هو الذي يدفع المحسن إلى الازدياد من الإحسان، ويدفع المسيئ على مراجعة حساباته قبل فوات الأوان.
وسماه الله باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده، وسماه الله باليوم العقيم؛ لأنه لا يوم بعد ذلك اليوم، ولأهميته ذكره الله في مواضع عدة من كتاب الله، وما جاءت الرسل من أولهم إلى آخره إلا لتحقيق العبودية لله، وربطهم بذلك اليوم العظيم، وسأقرأ عليك بعض الآيات؛ لعلنا ننتقل بقلوبنا إلى ذلك اليوم العظيم، وإلى ذلك المشهد الكريم، قال الله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:1-13].
وقال الله تعالى: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:1-18].
وتأمل -بارك الله فيك- قوله تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3].
وتأمل في سورة سمعناها في الصلاة: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:1-11].
واسمع قوله : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:13-18]، فلا إله إلا الله! كيف سيكون الحال إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور؟!!
وجاء في حديث الصور: (أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة فإن الجبار جل جلالة يسأل ملك الموت: من بقي؟ يقول: بقي جبريل وميكائيل وحملة العرش وبقيت أنا، فيقول الله: فليمت جبريل وميكائيل، فيتكلم العرش وينطق ويقول: يا رب! يموت جبريل وميكائيل؟ فيقول الله: إني كتب الموت على كل من تحت عرشي، فيموت جبرائيل وميكائيل، فيرجع ملك الموت إلى الله جل في علاه -وهو أعلم- فيسأله: من بقي؟ يقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، وبقي إسرافيل، وبقي حملة العرش، فيقول الله: فليمت حملة العرش، فيموتون، فيأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله فيسأله من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا يموت، وبقيت أنا، وبقي إسرافيل، فيقول الله: فليمت إسرافيل، فيموت، ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله فيسأله -والله أعلم- من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا يموت، وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي خلقتك لما ترى فمت، فيموت ملك الموت، فينادي الجبار: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ فلا يجيبه أحد، فينادي الجبار لمن الملك اليوم ؟ فلا يجيبه أحد، فيكرر النداء: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16])، فهو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، فالملك لله الواحد القهار، فبصيحة واحدة يفنى الأولون والآخرون، وبنفخة أخرى إذا هم قيام ينظرون، فكيف حال الناس إذا خرجوا من القبور، وحصل ما في الصدور؟! قال الله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:6-8].
فأما المجرمون فحالهم ليس بعدها حال، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:47-48] وأما المتقون ففي جنات ونهر فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فيا الله! إذا سيق العباد إلى أرض المعاد، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:20-29].
يا الله! ما أعظم تلك الأحوال في ذلك اليوم العظيم، فلا الأرض هي الأرض التي عشنا عليها، ولا السماء هي السماء التي كنا نراها، بل تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه:102-113]، وقد سمى الله ذلك اليوم بيوم التلاق؛ لأنه يلتقي فيه الظالم مع المظلوم، ويلتقي فيه آدم مع آخر أبنائه، وسمى الله ذلك اليوم بيوم القيامة؛ لأن الناس يقومون فيه لله رب العالمين، وقد أكثر الله من ذكر أسماء ذلك اليوم لشدة أهواله وأخباره، ومن سره أن يرى القيامة رأي العين فليقرأ الانشقاق والانفطار والتكوير، إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:1-6]، وقوله: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:1-12]، فإذا قاموا من قبورهم استووا في أرض المحشر، وهي أرض لم يروها من قبل، ورأوا سماء لم يعرفوها ولم يروها من قبل، فيجتمع الأولون والآخرون في ذلك المشهد وذلك المنظر العظيم حفاة عراة، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94].
قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي تسمع هذه الخبر العظيم: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، قال يا ابنة
في الخطاب الذي سيخاطب الله به عيسى في ذلك اليوم العظيم: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118]. (فيقول عيسى: نفسي نفسي نفسي، ولا يذكر ذنباً، فتشتد الأهوال والأحوال على الناس، فيقول لهم عيسى: اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقولون)، وقبل أن أذكر لك ماذا يقولون لمحمد، أتدري من هؤلاء الذين يقول كل واحد منهم: نفسي نفسي نفسي؟ إنهم أولو العزم من الرسل، إنهم أتقى البشر وأخلص البشر، إنهم خير من صلى وصام، وخير من اتقى الله وقام، كل واحد منهم يقول في ذلك اليوم: نفسي نفسي نفسي، فكيف يكون حالي وحالك؟! إن كان هذا هو حال آدم الذي أُسكن الجنة، وحال نوح الشكور، وإبراهيم الخليل، وموسى الكليم، وعيسى المصطفى والمجتبى، فكيف بنا نحن! (فيأتون محمداً، وفي رواية فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله وخاتم المرسلين، أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟! ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها)، فأبشروا يا أمة محمد!
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
(فأقول: أنا لها، فأنطلق فأخر تحت العرش ساجداً، فيفتح الله عليّ من محامده ما لم يفتحه على بشرٍ من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك -أي: يناديه الجبار، ويقول: يا محمد!- وسل تعطى، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي)، أي: أن الحبيب صلى الله عليه وسلم لم ينسنا في ذلك الموقف، ولم يتخل عنا في أشد الأحوال والأهوال، بل نادى بأعلى صوته: يارب! أمتي أمتي أمتي، فأين أمة محمد عن دعوته؟! وأين أمة محمد عن نصرة دينه؟!
يا مدعي حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دين المحبينا
ما لي أراك تأخذ شيئاً من شريعة وتترك البعض تهويناً وتدوينا
خذها سماوية خيراً تفوز به أو اطرحها وخذ رجز الشياطينا
(فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي! فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من ليس عليه حساب من الباب الأيمن من الجنة) أي: والبقية يكونون شركاء للناس في سائر الأبواب، ويقول بأبي هو وأمي: (إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي تضيق من الزحام)، فبينما الناس على تلك الحال أذن الجبار بفصل الحساب، فبينما هم على تلك الحال خاشعو الأصوات، وجلو القلوب يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، ولو تركت على أرض المحشر لأتت على أولهم وآخرهم، إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12]، فتزفر زفرة فتصيح الخلائق، فتزفر ثانية فتجثوا الأمم على الركب، مصداق قول الحق: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ * إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12-13]، وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13]، فتصيح وتنادي بأعلى صوت: والله! لأنتقمن اليوم ممن خلقتَه وعبد غيرك، والله! لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك وشكر سواك، كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:21-24]، فهل تظن أن الأمر إلى هنا قد انقضى؟ كلا، بل تزداد الأهوال، وتزداد الأحوال، فيُصفّ الناس صفوفاً يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة:18]، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]، وتتطاير الصحف، وتنصب الموازين، وتذكّر قول الله: أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:57-62].
فكيف أنت إذا نادى الله في أهل الموقف وقال: يا آدم! فقال: لبيك يا ربي! وسعديك، والخير كله إليك، قال: يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل
يسر مؤسسة الوقف الإسلامي أن تدعوكم إلى دعم مشروع وقف الأرض والمقام بالمدينة المنورة، والذي يبعد (300) متر فقط، ويتكون من اثني عشر طابقاً، وهو بكلفة إجمالية تصل إلى(36) مليون ريال، ويصرف هذا المشروع على المطلقات والأرامل والأيتام، فهذا هو الزاد الذي ننجو به في ذلك اليوم، وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عند الله [البقرة:110]، فبالصدقات نستظل في ظل العرش في ذلك اليوم، وبالصدقات نرى من الأجور ما الله به عليم.
فأدعو نفسي وإياكم إلى المشاركة في هذا الوقف، فإذا مات ابن آدم انقطع عمله، وستبقى هذه الصدقة الجارية تجر عليه الحسنات حتى يلقى الله.
وحساب الرقم: (7203) فرع (279)، فلا تتأخروا في دعم إخوانكم ودعم مشاريع الخير، وقد كنا بالأمس نتذاكر الجمعيات الخيرية الباطلة في بلاد الكفر، وقد بلغت في إحدى الإحصائيات: مليوناً وخمسمائة جمعية، وكلها تحارب الإسلام والمسلمين، وشعارهم في رسائلهم: ادفع دولاراً لمحاربة الإسلام والمسلمين فيدفعون، وأنا أقول: ادفعوا لنصرة الإسلام ونصرة المسلمين، فالإسلام اليوم في أمس الحاجة لأبنائه وتكاتفهم مع بعضهم البعض، ولا يخفى عليكم ما يجري لإخواننا هنا وهناك، ولا يخفى عليكم الحصار الذي حوصرت به العراق وفلسطين والشيشان وكل بقاع المسلمين، فنريد أن نحيي قضية الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ونريد نحيي قضية: (المؤمن للمؤمن كالبنان أو كالبنيان وشبك بين أصبعيه)، فهل تظن أن الذي يجري هناك بسبب ذنوبهم هم؟ لا، بل هو بسبب تقصيري أنا وأنت، وبسبب ذنوبنا نحن، فإن نحن قصرنا ونحن جسد واحد ابتُليت قطعة من الجسد بالبلاء، فكل ما تستطيع أن تقدمه لهم فافعله، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وأبسط ما نستطيع أن نقدمه لهم هو أن ندعو لهم، العراق ليست بمأساتنا الأولى ولا بمأساتنا الآخرة:
هاهو الأقصى يلوك جراحه
والمسلمون جموعهم آحاد
يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا
أَوَما لنا سعد ولا مقداد
وربما قد حيل بيننا وبين أشياء لكننا نستطيع أن نفعل أشياء أخرى، فنستطيع أن نفعل بإذن الواحد الأحد بثبات الفرد أشياء كثيرة، فبثبات الفرد يغير الله مجرى أمم، وبثبات آحاد تثبت أمم وتثبت جماعات، فاثبت على صراط الله المستقيم، وأريدك أن تسعى إلى أن تكون مجاهد دعوة، وأريد منك أن تسعى إلى أن تصل إلى درجة تجاب فيها دعوتك حتى إذا قلت: يا رب! قال الله: لبيك وسعديك، فالأمة تنصر بأوليائها، فالمنتسبون إلى الدين كثير لكنهم لم يبلغوا رتبة الولاية، تلك الرتبة التي قال الله عنها في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فلم نصل إلى تلك الرتبة؛ لأننا لم نصدق مع الله كما صدقوا، فقد وقف ابن الحضرمي على مياه الخليج وقد فرت سفن الروم، فقال لجيشه -وكان أبو هريرة في ذلك الجيش-: توضئوا، فتوضئوا وصلوا، ثم دعا وقال: يا حي يا قيوم، يا محيي يا مميت، يا ربنا يا رب كل شيء! ثم أمر جيشه وقال: خوضوا البحر، يقول أبو هريرة : والله! لقد خضناه فما ابتل حافر حصان لنا، فلما أرادوا الرجوع قال لهم: ارجعوا من حيث أتيتم، فرجعوا من نفس الطريق. فلما سخّروا أنفسهم لله سخّر الله لهم كل شيء، كانوا هم قد استطاعوا فنحن أيضاً نستطيع، وإن كانوا قد فعلوا فنحن أيضاً سنفعل، لكن المطلوب مننا أن نصدق كما صدقوا، فقد جعلوا حياتهم وقفاً لله كما أمر الله. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]،
اللهم انصر إخواننا في العراق وفلسطين والشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان والسودان والصين وإيران وفي كل مكان، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم اربط على قلوبهم، وأفرغ عليهم صبراً، وثبت الأقدام، اللهم سدد رأيهم ورميهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب الأنام!
اللهم إنهم قلة فكثرهم، وحفاة فاحملهم، وجياع فأطعمهم، وخائفون فأمنهم، ومظلومون فانتصر لهم، اللهم مكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم، اللهم بدلهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونك لا يشركون بك شيئاً، وتكفل بأيتامهم، وصن أعراضهم، واحقن دمائهم، وأطعم جياعهم، واشف مرضاهم، وتقبل موتاهم، وتقبل شهدائهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين!
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اقلب أرض الفلوجة على الكفار ناراً، وسمائها شهباً وإعصاراً، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، لا تدع لهم قوة على الأرض إلا دمرتها، ولا قوة في البحر إلا أغرقتها، ولا قوة في السماء إلا أسقطتها، اللهم خالف بين كلمتهم، وشتت رأيهم ورميهم، وخالف بين قلوبهم، اللهم سلط عليهم ما خرج من الأرض، وما نزل من السماء، اللهم اجعل رقابهم غنيمة للمجاهدين يا رب العالمين! اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، اللهم أخرجهم منها أذلة صاغرين، اللهم عليك بهم وبمن عاونهم فإنهم لا يخفون عليك ولا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم إننا حيل بيننا وبينهم فلا تحرمنا أجرهم يا غفور يا رحيم! اللهم إننا ليس لدينا لهم إلا الدعاء فلا تردنا خائبين، اللهم يا رحمان السموات والأرضين! ارحم ضعفنا وضعفهم، وتقصيرنا وتقصيرهم، واجبر كسرنا وكسرهم، وأعز الإسلام والمسلمين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
دور المهتدين والملتزمين بالدين تجاه إخوانهم الشباب الغارقين في الشهوات
الجواب: هذا كلام له وعليه، فأما الإخوة الذين هداهم الله فإنهم مطالبون بأن يسعوا إلى هداية إخوانهم، وهذا واجب على كل من سلك طريق الاستقامة، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، لكن أنت أيها السائل! في المقابل إذا غرقت فإنك في يوم القيامة ستحاسب بنفسك وحيداً كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، فالله سيحاسبك عن أخطائك أنت، فإن لم يأتوك هم فاذهب أنت إليهم، فأنت مطالب كما هم مطالبون، فكلٌ مطالب بفكاك رقبته والفوز بالجنة، وفي المقابل كلنا مطالب بأن نتعاون على مثل هذا.
وأقول لمن هداهم الله: اتقوا الله في إخوانكم، فوالله! إن فيهم من الخير ما الله به عليم، ووالله! إن أكثرهم لا يحتاج إلا إلى دفعة خفيفة وتوجيه ميسر، بل إن أحدهم - والله يا إخوان!- يقول: كنت أجلس على شاشات الإنترنت الساعات الطوال التي تصل إلى ست أو سبع ساعات، فأجلس أحادث هذه وتلك ثم بعد ذلك خصومات معهن وسب وشتام ولعان وكلمات لا يعلم بها إلا الله، يقول: وفي مرة من المرات قبيل صلاة الفجر إذا بفتاة من الذين يدخلون على مثل هذه المواقع حتى ينشروا رسائل دعوية، فترسل من غير إظهار شخصيتها، فخاطبت أحد الشباب الذين اشتهروا في ذلك الموقع بتطاولهم هنا وهناك، فأرسلت له مقطع من شريط فقط وقالت له: أسألك بالله أن تسمع هذه المقدمة، ثم أغلقت وخرجت من الموقع، يقول: فقلت في نفسي ماذا أخسر لو سمعت هذه المقدمة، يقول: فسمعتها فجلست مكاني أفكر، ثم بدأت أبكي، ثم في اليوم الثاني أتانا من منطقته إلى الدمام، أي: أنه قطع أربعمائة كيلو ويقول: أنا أريد أن أغير مجرى حياتي، فلم تكلف دعوته شيئاً سوى دقائق معدودة غيرت مجرى حياته، وهو الآن يقيم ويرابط في المسجد ولا يخرج منه، فهو يأكل وينام ويصلي مع المصلين، يقول: سبحان الله! وجهه يستنير يوماً بعد يوم، وهذا كله بدعوة صادقة من فتاة أرسلتها إليه فتغير واقع حياته.
إن الشباب فيهم خير كثير، لكنهم يحتاجون إلى تذكير، فإذا إن كان ذلك الجيل الفريد يذكَّر فنحن من باب أولى نحتاج إلى أن يذكر بعضنا بعضاً.
لكن أقول لهذا: انتبه على نفسك، فإذا لم يأتوك هم فاذهب أنت إليهم، واسعَ إلى نجاة نفسك، فستسأل أنت يوم القيامة، ولا أسال أنا عنك لماذا أنت فعلت كذا؟
حكم دخول النساء الإنترنت من أجل الدعوة
الجوب: الإنترنت فيه خير كثير، لكن عندنا مصيبة وهي: أننا نسيء استخدام الوسائل، فبدلاً من أن تنفعنا تنقلب ضدنا، وأغلى ما أملك أنا وأنت هو الدين، فلا أخاطر بديني في أي حال من الأحوال، أحد الناس أعرفه كان صالحاً من الصالحين، لكنه توسع في قضية الانترنت، يقول: نقلت إلى منطقة نائية فأخذت الجهاز معي، فبدأت أتدرج شيئاً فشيئاً، والشيطان لا يأتيك ويقول لك: اعص الله من أول وهلة، بل يأتيك ويقول لك: ادعهم، وبيِّن لهم، فيدخل عليك من هذا المدخل، يقول: شيئاً فشيئاً وجدت نفسي أنحرف، ثم وجدت نفسي قد تركت الدعوة تماماً ودخلت إلى مواقع الرذيلة، والآن يقول: ماذا أصنع؟ فنقول له: لا تستسلم، فأنت الآن تغرق، فهل تريد أن تغرق إلى النهاية؟
فالمشكلة يا إخوان! أننا قد نصل إلى قمة الجبل، لكن لا نستطيع أن نمكث هناك فلابد أن ننزل بعض الشيء، لكن لو انحدرت من قمة الجبل شيئاً ثم راجعت الحسابات فإنك سترجع، لكن مشكلتنا أننا ننحدر فلا نراجع الحسابات، ثم يزيد الانحدار فلا نراجع الحسابات، ثم نصل إلى سفح الجبل فننظر إلى القمة وقد صارت بعيدة، ويمكن الرجوع فليس بمستحيل، ولكنه صعب، ولو أني تداركت الأمر من أول مرة لرجعت بسهولة، ففكر في كلامي هذا، ولا تخاطر بالدين، حتى ولو كان من باب الدعوة، فإن كانت الدعوة ستفتح عليك أبواباً من الشر فلا، وخاصة الفتيات فإنهن يدخلن بنية صادقة، لكن يتجرأ عليهن السفهاء وشيئاً فشياً تخسر أشياء كثيرة، والإنسان ليس مطالباً بإنقاذ الناس على حساب نفسه، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أصلح لي ديني)، (اللهم! احفظني في ديني)، (اللهم! لا تجعل مصيبتي في ديني)، فأمر الدنيا يهون، لكن إذا صارت المصيبة في الدين فهي عظيمة، واسمع هذه القصة: كان هناك مؤذن يرقى المئذنة للأذان في بلاد مصر، وكان هناك مسلمون وأقباط، وقد نهى الله تعالى عن الالتفات والتكشف على بيوت الناس، فخالف الأوامر، وهذه هي مصيبتنا: مخالفة الأوامر، فالله يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، وذلك حتى لا نهلك مع الهالكين، ويوم أحد دخل في النفس أثارة من دنيا، فقالوا: الغنيمة الغنيمة، وخالفوا أمر الوقوف على الجبل فانقلبت الموازين، وأما اليوم فالمخالفات في الأمة لا تعد ولا تحصى، فقيل لهذا المؤذن: لا تلتفت، فالتفت يوماً فإذا بنصرانية قبطية من أجمل النساء، فبدلاً من أن يرفع الأذان تمادى في النظر، ولو أنه غض بصره من أول مرة لأورثه الله إيماناً في قلبه، قيل للحسن : كيف نستعين على غض البصر؟ قال: أن تعلم أن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه.
ويقول ابن عباس : إن الرجل تمر عليه المرأة وهو يريد أن ينظر إليها، فيمر عليه القوم فيغض البصر من أجلهم، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالله يعلم أن في قرارت نفسه أنه يريد أن ينظر إلى الحرام، فالرجل المؤذن بدلاً من أن يرفع الأذان تمادى في النظر، فنزل يطرق عليها الباب يطلبها لريبة، فقالت: لا أجيبك إلى ريبة، قال: أتزوجك؟ قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية كافرة وأبي لا يزوجني إياك، قال: أتنصر، قالت: إن فعلت قبلنا، فتنصر - والعياذ بالله- فوافقوا عليه، فبينما هو يمشي في ذلك اليوم زلت قدمه فسقط على رأسه ميتاً، فخسر الدنيا والآخرة.
إن مصيبة الدين مصيبة عظيمة، وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الشورى:45]، فاحفظ دينك بارك الله فيك، لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ولا تورد نفسك المهالك والمخاطر، ولا تظلم نفسك فالعاصي ظلم نفسه؛ لأنه أوردها عذاب الله، فلنتق الله في الخلوات، فلا تظهر حقيقةُ الإيمان إلا في الخلوات، وأما بعضنا البعض فكلنا يتزين للآخر، لكن متى يظهر صدق إيماني وإيمانك؟! يظهر ذلك إذا خلونا بعيداً عن أعين الناس، (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، أسأل الله أن يصلح لنا السر والسريرة.
نصيحة لمن يتابعون القنوات الفضائية ويصوتون لبرامج أكاديمي (استار)
الجواب: لم يستطيع لنا أعداؤنا بالمدفع والدبابة فقد واجهتهم الأمة في ذلك مع أنهم يفوقونها عدداً بمرات كثيرة، وبأعداد وفيرة، فعند المواجهة نحن الأقوياء، فعلموا أنه ليس هناك سلاح يفتك بنا مثل نشر الفاحشة والرذيلة، فأصبحت الأمة ثقافتها المسموعة غنائية، وثقافتها المرئية أفلام ومسلسلات، وثقافتها المقروءة لعب وكرة، حينها استطاعوا لنا، فقسموا العالم الإسلامي، واستعمروا الشعوب، واستولوا على الثروات، ونحن لا زلنا نغط أمام أكاديمي استار، والعجيب أن سبعين مليوناً يصوتون من العالم الإسلامي لأكاديمي استار! سبعون مليوناً يصوتون للذين ينشرون الفاحشة والرذيلة، وحين قالت الأمم المتحدة: صوتوا لوقف الحرب على أفغانستان قتلوا بعدها بعشرة أيام خمسين ألفاً، فهم يقولون: نريد تحرير الشعوب، فلماذا يقتلون الأبرياء؟! والأمر كما قال الله تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8]، فلما علموا أنهم لا يستطيعون لنا بالمدفع والدبابة هاجمونا بالشاشات والقنوات، ونشْر الفواحش والرذيلة في المجتمعات، وظهرت النتائج واضحة في أوضاع البنين والبنات.
تقول إحداهن في استبيان: أقسم بالله العظيم إني وصلت إلى درجة أني كنت أتمنى أني أكون مكان إحدى هؤلاء الفتيات اللاتي يعرضن الرذيلة، ولكن الله أنقذني، فأين الغيرة يا إخوان ؟! ولماذا ضاعت؟! فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، هل البيوت لا تدري أن الخطر واقع؟ بل يدرون ويرونه واضحاً ملموساً في سلوك الصغار والكبار، لكننا جبناء ليس عندنا قدرة على تغيير المنكر، أفلا يستطيع أحدنا أن ينتفض ويرقى السلم إلى سطح ذلك المنزل ويزيح ذلك الجهاز الذي دمر المعتقدات والأخلاق؟
والله! لولا حرمة المكان لذكرت لكم مآسي وآهات، لكن نسأل الله أن يعفو عنا وعنكم، فالمفسدة واقعة، والكل يعرف هذا، لكن ليس عندنا الدافع الإيماني الذي يدفعنا لفعل الطاعة، وليس عندنا الرادع الذي يردعنا عن فعل المعاصي والمنكرات، فما هي قيمة الحياة من غير إيمان؟ فما سيطرت علينا الشاشات والقنوات إلا لضعف إيماننا، وأما إذا قوي الإيمان فإننا سننتصر على هذه الأمور بسهولة.
إن الناس اليوم يعصون الله مع سبق الإصرار أي: يعصونه عمداً وهم يدرون، فقد التقيت بشاب في محطة من المحطات، وذلك أنى نزلت ومعي مجموعة من الشباب لأداء صلاة العصر، فقلت للشباب: هل أنتم متوضئون؟ وأما أنا فعلى وضوء، وسأذهب إلى الدكان أشتري بعض الحاجات، فدخلت ودخل شاب في مقتبل العمر في العشرينات، فنظرت في سيارته فإذا فيها نساء وأطفال، والطرق طويلة محفوفة بالمخاطر، فأنت على الطرق قصيرها وطويلها، أحوج ما تكون إلى حب الله لك، فكم هم الذين يموتون على الطرقات؟ إنهم بالمئات، بل بالآلاف المؤلفة، والإحصائيات كل يوم في زيادة، فأنت أحوج ما تكون إلى حفظ الله لك، (احفظ الله يحفظك)، فدخل الشاب في جهة تعرض فيها الأغاني، وبدأ ينتقي من هذا وذاك، وأنا أريد أكلمه لكني لم أجد عليه مدخلاً، فلم يكتف بالمعروض يا إخوان! فقال لراعي المحل: أليس عندكم المطرب الفلاني؟ فقمت أنا وقلت: هناك أحسن، قال: عندي خبر، أنا توقعت أن يقول لي: جزاك الله خيراً، وبارك الله فيك، لكن سدها في وجهي من كل الجهات، وقال لي: عندي خبر، أدري أن كلام الرحمن أحسن من كلام الشيطان، لكن إذا كنت أختار شيئاً فسأختار كلام الشيطان، فهذا عصيان مع سبق الإصرار والترصد، وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء:64]، قلت له: ستر الله عليك، وقد تقول: هذه معصية وهو تحت المشيئة: إن شاء الله عذبه وإن شاء رحمه، لكن أقول: أوصل بنا ضعف الإيمان إلى درجة أننا نكفر بالله مع سبق الإصرار؟! نسأل الله العفو والعافية.
وأحد الشباب يروي لي خبر قصته مع رئيسه فيقول: كلمني بالليل وقال لي: ائتني غداً إلى المطار؛ فإننا سنسافر إلى البلد الفلاني في مهمة عمل، فلا تتأخر فإن الحجز قد تمّ، والإجراءات قد انتهت، فقلت: مهمة عمل في تلك البلاد، وهي أيضاً بلاد مشهورة بالسحر والشعوذة والكهانة!!
يقول: وفي الصباح كنت في المطار، فانتقلنا حتى وصلنا إلى تلك الديار، فلما أنهينا إجراءات السفر خرجنا من صالة المطار، فبدأ الرئيس يتكلم مع سواقي سيارات الأجرة ويسألهم عن أماكن السحرة والمشعوذين فقلت له: اتق الله، فما جئنا من أجل هذا، فقال: لا تتدخل، فقلت: كيف لا أتدخل ونحن لم نأت من أجل هذا! قال: لا تتدخل، قلت: يا شيخ! هذا كفر، قال: عندي خبر، أدري أنه كفر لكن أنا مضطر، فقلت: المضطر يدعو الذي قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، والمضطر يدعو الذي قال: َإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، والمضطر يدعو الذي قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، والمضطر يلجأ إلى الله، فالملوك والوزراء والرؤساء تقفل أبوابها في ساعات معينة وباب الرحمن مفتوح بالليل وبالنهار.
التقى أحدهم برجل في الحرم، فقال له: ادعُ فإني مضطر، قال: ادعه أنت فإنه يجيب المضطر، ولا بد حين ندعو الله أن نصدق معه، وأن ندعوه بقلوب حاضرة، فلا ندعوه باللسان والقلب في مكان آخر، فعظمة الإنسان وتحقيقه للعبودية تكون في لجوئه إلى الله تعالى.
وقد التقى أحد الأمراء بأحد علماء السلف في الحرم المكي يوماً فقال له: أما لك حاجة نقضيها لك؟ أي: أنه يريد أن يتقرب إلى هذا العالم، فقال العالم: أستحي أن أسألك وأنا في بيته، فانتظر الأمير حتى خرج العالم من الحرم، فقال له: سلني الآن، فقال: أسألك من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: لم أسأل ذلك ممن يملكه أفأسألك أنت؟ فعظمتنا تخلد إذا لجأنا إلى الله، لكن لابد أن ندعوه بقلب صادق.
إن الحجاج بن يوسف الثقفي على ما عنده من المساوئ لديه الكثير من الأخبار العظيمة، فهو الذي جزأ القرآن ثلاثين جزءاً وحزب القرآن، وقد رأى رجلاً أعمىً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يدعو ويقول: اللهم رد عليّ بصري! اللهم رد علي بصري! اللهم رد علي بصري! ثم وجده في اليوم الثاني في نفس المكان، وهو متعلق بأستار الكعبة ويدعو بنفس الدعاء، فقال له الحجاج : إذا لم يرد الله لك بصرك في الغد فسأقطع رقبتك، فلما جاءه في اليوم الثالث وجده مبصراً عند الكعبة، فقيل للحجاج : لماذا قلت له هذا؟ قال: وجدته يدعو بقلب ساهٍ، لكن عندما عرف أن الأمر فيه موت ألحّ، ودعا من قلبه.
فهكذا نريد ونحن ندعوه ونقول: يا رب! نريدها أن تخرج من صميم القلب لا من أطراف اللسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، قال بعض شراح الحديث: عندما كان يونس بن متى في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت قائلاً: إني جعلت بطنك له مسكناً، ولم أجعله لك طعاماً، فاستجاب الحوت للأوامر، ولما كان يونس عليه السلام في بطن الحوت ظن أنه قد مات، فمس قدميه فإذا هي تتحرك، فعلم أنه حي، فقام يصلي، فسمع تسبيح الحوت والأسماك في قعر الأرض، فبدأ يسبح لله، وقام يصلي كعادته، ثم قال في دعائه لله: واتخذت لك مسجداً لم يتخذه أحداً من قبلي، فسبحان الله! يناجى وهو في بطن الحوت، وذلك في أدنى الدرجات تحت الأرض؛ في قاع البحر، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الدرجات في السماء، وذلك عند سدرة المنتهى، فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوني على يونس بن متى): أنه عندما كان يونس في بطن الحوت وأنا عند سدرة المنتهى لم أكن أقرب إلى الله منه، فالله قريب سميع مجيب.
فلا بد أن نعرف كيف نطرق الباب فقط، فهناك تستجاب الدعوات، وتقضى الحاجات، أسأل الله أن يتقبل دعائي ودعائكم، وأن يفرج همي وهمكم، وأن يعفو عن ذنبي وذنبكم.
الحث على صلاة الفجر في جماعة
الجواب: إذا أردت أن تعرف أن الله يحبك أم لا - وكلنا يريد أن يعرف إن كان الله يحبه أم لا، وتتفاوت درجات المحبة، فعلى قدر حبك أنت يحبك الله، وعلى قدر صدقك أنت مع الله يصدق الله معك - فإذا وُفِّقت لصلاة الفجر والناس نيام فاعلم أن الله يحبك، وإذا جلست في مصلاك والناس قد صلوا الفجر وانطلقوا إلى فرشهم وأنت جالس فاعلم أن الله يحبك أكثر منهم، وإذا ركعت أربعاً من الضحى فاعلم أن الله يحبك، وإذا حافظت على أربع قبل الظهر وأربع بعدها، وخشعت لله في صلاتك فاعلم أن الله يحبك، وإذا وفِّقت للدعوة والبذل والعطاء فاعلم أن الله يحبك، وإذا وقعت في المعصية فاعلم أن الله قد تخلى عنك، وإذا وقعت في المعصية فاعلم أن الله قد وكلك إلى نفسك.
واعلم أن الله يصرف عنك المأساة وأنت لا تشعر، ولو ترك ابن آدم إلى نفسه لوقع، فهذا نبي الله يوسف اعترف واستسلم وقال: وََإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:32-33]، فقال الله: فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:34]، فلما كان مُخلَصاً صرفت عنه السوء والفحشاء، فإذا وفقت لصلاة الفجر فاعلم أن الله يحبك.
لقد قامت جارية تصلي من الليل فأيقظت سيدها فأبى الاستيقاظ، فكررت المحاولة فأبى الاستيقاظ، فتوضأت وأحسنت الوضوء وانطلقت تصلي، فقام قبيل الفجر بقليل، وليس من قام ساعة كمن قام ساعات، وليس من وقف عند الباب دقيقة كمن يقف عند الباب ساعة، فبحث عنها فوجدها في ناحية من نواحي البيت تصلي ساجدة تناجي ربها وتقول: اللهم! إني أسألك بحبك لي إلا غفرت لي، فلما انتهت من صلاتها قال لها سيدها: من أين عرفتِ أنه يحبك، أو كيف عرفت أنه يحبك؟ قالت: أما أَنامَك وأقامني بين يديه؟ أما وفقني للقيام وأنت تغط في سبات عميق؟ فلا يوقف بين يديه من إلا الذين يحبهم.
إن صلاة الفجر تشكو من زمن وليس من اليوم، فالوقت بدأ يتراجع، والصفوف تنقص، والمشكلة أننا في أزمات، وعند الأزمات لابد أن نصدق مع الله، فلن تنفرج الأزمات إلا إذا صدقنا مع الله، وما أجمل تلك العبارات التي أراها ملقاة ومعلقة في كثير من الأماكن: إذا أردنا النصر فلنصلِّ الفجر؛ لأن صلاة الفجر انتصار على النفس، وانتصار على الشهوات، وانتصار على الرغبات، وانتصار على الشيطان.
جاء عند الترمذي : (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، إحداهن بالتراب)، وفي رواية: (أولاهن)، وفي رواية: (أخراهن)، وتأمل هذا الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل نام عن صلاة الفجر حتى أشرقت الشمس؟ فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه). الآن بول الكلب وإلا بول الشيطان؟ بول الشيطان، فإذا استيقظ هذا الذي بال الشيطان على أذنيه أول شيء يسويه ما هو؟ يغسل أذنيه سبعاً إحداهن بالتراب.
إن مأساتنا مع الفجر مأساة كبيرة، فقد زرت مدرسة من أيام ماضية تعداد طلابها(400) طالب، وقبلها بأيام زرت مدرسة تعدادها طلابها (800)، بعد المقدمة والأخذ والعطاء قلت: اصدقوني القول: من منكم صلى الفجر اليوم في جماعة؟ وتعداد لطلاب (400) فلم يتجاوزوا العشرين طالباً، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، والمدرسة التي قبلها عددهم مع المدرسين (800)، فلم يتجاوزوا العشرين، أي: أن (780) من بيوت المسلمين تعيش في غفلة، فالشيطان يبول على آذان أهلها في كل يوم، فكيف يتغير الواقع؟ وإذا أردت أن تعرف مقدار المأساة فاخرج إذا أذن الفجر إلى الشوارع فإنك لا تكاد ترى سيارة تتحرك، ولا تكاد ترى بشراً يسيرون في الطرقات، ثم مر بجانب البيوت فإنك لا تسمع صوتاً، وتدخل المسجد فتجد آباء وكبار في السن وقلة قليلة من الشباب الذين هداهم الله، ثم قم وأخرج بعد صلاة الفجر بساعة إلى الشوارع فسترى الزحام والأصوات من كل مكان، فسبحان الله! كيف ننتصر على أعدائنا ولم ننتصر على أنفسنا؟!! إن الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وحتى الشباب الصالح لنا عليه مآخذ، فكثير منهم إلى الآن لم يصدق، فترى بعضهم يصلي سنة الفجر يومياً بعد الفجر، وترى كثيراً من الشباب الصالح تفوته الركعة والركعتان، وترى كثيراً من الشباب الصالح قد يصلي في الجماعات الثانية، وقد كان الجيل الأول يقولون: إذا رأيت الرجل تفوته تكبيرة الإحرام ...، فكيف إذا رأونا؟
فإذا لم نصدق في التربية فإن الواقع لا يتغير، والهداية إنما تأتي من الاتباع، فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:17-18]، والهداية ليست درجة واحدة، بل هي درجات، فكل من صَدق صُدق معه، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، والحديث يقول: (من صلى لله في جماعة أربعين يوم يدرك تكبيرة الإحرام كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، فما تريد أكثر من هذا؟ إذا جاءك صك براءة من النار، فهذا يعني أنك من أهل الجنة، وصك براءة من النفاق، وهذا يعني أنك ستسلم من الفتن، فنريد أن نصدق في الأربعين يوماً، فهذا سعيد بن المسيب لم تفته تكبيرة الإحرام أربعين سنة، وهذا ميمون بن مهران الأعمش يقول لبناته ساعة وفاته: على ماذا البكاء وأنا خمسون عاماً لم تفتني صلاة الجماعة؟! فنريد أنا وأنت أن نصدق في الأربعين يوماً فقط، فوالله الذي لا إله إلا هو! لو جرِّبت فإنك سترى الأثر العظيم بعد الأربعين.
يقول ابن القيم رحمه الله : وما حافظ عبد على عمل صالح أربعين يوماً إلا فُتح له باب هذا العمل. وليس هناك أعظم من تكبيرة الإحرام، وقد قال لي أحد الشباب: دائماً وأنت تدندن على مسامعنا: تكبيرة الإحرام، تكبيرة الإحرام، فماذا؟ فأقول: وهل يصنع الأبطال إلا في الصفوف الأُوَل مع تكبيرات الإحرام، واعلم أن من أراد إدراك المفاخر لم يرضَ بالصف الآخر، ومن يطلب الحوراء لم يغلها المهر، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، فأهل الصفوف الأولى يُعرفون، فهم أهل همم عالية، يقول: دائماً وأنت تدندن علينا، فقلت له: لأن تكبيرة الإحرام تصنع رجالاً يعتمد عليهم، فالرجل يعرف من صلاته، فقد رأى عمر رجلاً يصلي مرةً صلاة عجيبة أُعجب فيها عمر صاحبُ الفراسة، فقال بعد أن انتهى الرجل من صلاته: ائتوني بهذا الرجل، فلما جاءه قال له عمر : نريد نستخدمك في بعض أمورنا، قال: يا أمير المؤمنين! أنا لا أصلح لجمع الصدقات والزكوات، وإنما أصلح للموت في سبيل الله، فقال عمر : من أجل هذا أردناك، فعينه قائداً على جيش من جيوشه، إنه النعمان بن المقرن رضي الله عنه وأرضاه، فقد عرفه عمر من صلاته، فصلاتي أنا وأنت اليوم مثل صلاتي وصلاتك بالأمس، وصلاتنا غداً هي نفس الصلاة لم تتقدم ولم تتأخر، وقد بدأ الله صفات الفلاح بالصلاة وختمها بالصلاة فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، إلى أن قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:9-10].
عبد الله! اصدق مع الله يصدق الله معك، وخذ بالأسباب التي تعينك على الاستيقاظ، والسهر منهي عنه أصلاً بعد صلاة العشاء، فعلى ماذا نسهر؟ فالصالحون قد يسهرون على مباحات لكن والله! ما ذبحنا إلا المباحات وما قتلنا إلا السهر أمام المباحات، فلا تظن أن الذنوب والمعاصي فقط هي التي تقسي القلب، بل إن المباحات والإفراط فيها تقسي القلوب أيضاً إذا زادت على حد الضرورة، فهي من الفضول، فاصدق في أخذ الأسباب، وبدل الساعة الواحدة ضع ثنتين، وأوصي فلاناً أن يوقظك، فوالله إني منذ أن حملت الجوال في جيبي منذ سنوات وأنا وأحد الإخوان كل واحد منا يتعاهد صاحبه، فالذي يقوم قبل يدق على صاحبه ولا يتوقف حتى يضغط الآخر أن الرقم مشغول، أي: أنه قد استيقظ، فلماذا لا نتواصى فيما بيننا، وما هي قيمة الهواتف والجوالات إذا لم نستخدمها في طاعة الله، فالصادق يُعرف، وإذا صدق العبد مع الله صدق الله معه، وإذا صدق في نيته صدق الله معه في تأييده ونصرته، فبعضهم يضع بدل المنبه منبهين، وأحدهم يقول فيما ذكره الشيخ المنجد في كتيب اسمه (شكاوى وحلول) أو لعله: (مشكلتك لها حل) ذكر مشكلة النوم عن صلاة الفجر فقال: كل مشكلة لها جانب علمي وجانب عملي، فالجانب العلمي: أننا نعرف الأجر المترتب على المحافظة، والأجر المترتب على التخلف، ثم قال: ولا بد من جانب عملي حتى نحل المشكلة، ثم ذكر النية الصادقة، والنوم المبكر، والوضوء، وذكر أذكار النوم، والنوم على الشق الأيمن، والاستعانة بالآخرين، ثم الأخذ بالأسباب، فأحدهم كان يضع المنبه في قدر، ثم يضع القدر في الدولاب، فإذا انطلق مع صلاة الفجر تصير ضجة كبيرة في الغرفة فيقوم من مكانه ويحط الكرسي، ثم ينزل القدر ويطفي الساعة، فيطير النوم، وهذه لم يذكرها الشيخ، ولكن أعرفها، وآخر يربط حبلاً في رجله ويرميه من الشباك فيمر عليه رجل شايب مع الفجر فيقوم بجر الحبل، والصادق يفعل عدة أسباب حتى يحافظ على صلاة الفجر، فالله الله يا إخوان! أن نجرب أربعين يوماً كما ذكرنا، وإياك أن يقول المؤذن: الله أكبر وتقول: سأذهب بعد قليل، وإياك أن تسمع المنادي ينادي وتقول: سأفعل هذا، أو سأفعل ذلك، وتذكّر قول الله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11]، فكن منهم، واجعل همتك عالية، ولا ترضى بالدون، (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى)، وما ذلك على الله بعزيز.
قال لي صاحبي: أربعون يوماً، ثم جاءني وقال: ستة وعشرين يوماً وفاتتني، فقلت: تبدأ من جديد، فبدأ ثم جاءني وقال: سبعة وثلاثين يوم وفاتتني، قلت: ابدأ من جديد، فنحن يا إخوان! نتعبد الله طول العمر وليس بالأربعين، ثم انطلق من رمضان الذي قبل هذا ثم أكثر بعده، وقال: أبشرك! أدركت تكبيرة الإحرام أكثر من أربعين يوماً، قلت له: وكيف كان شعورك؟ قال: أقسم بالله العظيم! إنها أغلى عندي من نفسي وأولادي وأهلي، فتكبيرة الإحرام أغلى عندي من كل شيء في حياتي؛ لأنه استشعر الأثر، قال ابن القيم : فإذا جاءت المداومة وجاءت المحافظة كشفت الأستار، وظهرت الأنوار، وبانت الأسرار.
وأما الصلاة المتقطعة: مرة في الصف الأول، ومرة في الصف الثاني، ومرة يدرك ركعة، ومرة يدرك ركعتين، فوالله! لا تغير الحال، فلا يتغير الحال إلا إذا صدقنا مع الله، فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21].
فأسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصادقين، وأنتِ أيضاً لا تنامي، وأيقظيه وحثيه على صلاة الفجر، فعلى الرجل أن يعلم زوجته المنهج من أول يوم في الزواج، فتبرمج المرأة على ما تريد، فإن عودتها على الكسل كسلت معك، وإن عودتها على العمل عملت معك، قال النبي صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرأ قام من الليل فصلى وأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها من الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)، فنريد المحافظة على تكبيرة الإحرام، ونريد أن نجعل البيوت تحيا في هذا الزمن الذي ماتت فيه بيوت كثير من الناس.
أسأل الله أن ينفعنا بما نسمع وبما نقول.
اللهم! حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا رب! من الراشدين.
استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
انها النار | 3543 استماع |
بر الوالدين | 3427 استماع |
أحوال العابدات | 3412 استماع |
يأجوج ومأجوج | 3349 استماع |
البداية والنهاية | 3336 استماع |
وقت وأخ وخمر وأخت | 3271 استماع |
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب | 3255 استماع |
أين دارك غداً | 3205 استماع |
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان | 3099 استماع |
أين أنتن من هؤلاء؟ | 3097 استماع |