تفسير سورة المؤمنون (9)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة المؤمنون المكية فهيا بنا مع تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى.

قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:45-50].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! مازال السياق الكريم في ذكر نبذ من قصص الأولين، وذلك للعظة والاعتبار، فذكر قصة نوح، ثم قصة هود ثم قصة صالح، والآن مع قصة موسى وأخيه هارون، فأين يوجد موسى وأخوه هارون؟ يوجدان في مصر، وهما من بني إسرائيل من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، كيف نزلوا بالديار المصرية؟ أعلمنا الله في كتابه أنه لما تمت تلك الأحداث لنبي الله يوسف عليه السلام، وانتقل إلى مصر وبيع فيها رقيقاً، ثم ساد وحكم، جاء إخوته ونزلوا مصر، وتوالدوا هناك في مصر وأصبحوا جيلاً، فهذا هو سبب وجود موسى وهارون في مصر.

يقول تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [المؤمنون:45]، والآيات التي أعطيها موسى عليه السلام تسع آيات، وكل واحدة تشهد أن لا إله إلا الله وأن موسى رسول الله، وقد جاء ذكر خمس منها في آية من سورة الأعراف، إذ قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133]، وآية العصا التي تهتز كأنها جان، وآية انفلاق البحر إلى فلقتين، واليد التي تخرج بيضاء من غير سوء، وانفجار الحجر بالماء، فهذه تسع آيات تدل على أن موسى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه هارون من سأل له النبوة فأعطيها؟ موسى، فكان موقفاً عجباً أن يسأل لأخيه النبوة، إذ ما حدث هذا في البشرية أبداً، وقد استجاب الله له، فنبأه الله وأرسله معه، قال تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:29-34]، وهذا مقابل أن يجعل أخاه نبياً ويرسله معه.

ومن هنا عرفنا أن علة هذه الحياة، وأن سر هذا الوجود هو أن يذكر الله ويشكر، فلهذا ينبغي ألا نفتر أبداً عن ذكر الله تعالى، وإنما مسبحين ذاكرين طول الليل والنهار، إذ إن هذا هو سر حياتنا، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ [طه:29-33]، أي: من أجل أن، نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34]، فهل عرفتم هذا؟ فلنعمل ما استطعنا على أن نقضي جل أوقاتنا في ذكر الله وتسبيحه، سواء كنا نقود السيارة، أو كانت المسحاة في يدنا، أو كان القلم في يدنا، أو كنا في مجلس ما، لابد من ذكر الله تعالى.

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [المؤمنون:45]، والسلطان المبين هو الحجة القوية، وهي تلك الآيات التسع.

أرسلناهما إلى من؟ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [المؤمنون:46]، ما المراد بالملأ؟ الذين يملئون العين إن نظرت إليهم، وهم أعيان البلاد ورجالها وأغنياؤها ومسئولوها، وملأ فرعون كلهم جهلة وفسقة وفجرة وكفار، إلا من تاب الله عليهم وهم السحرة، إذ ماتوا مؤمنين مسلمين، وذلك لما كان ذلك الموقف العظيم أو المباراة التي لم تر الدنيا مباراة مثلها أبداً، إذ جمع فرعون كل السحرة من الإقليم المصري، وذلك من شرقه وغربه وشماله وجنوبه، وأحضرهم في ساحة عظيمة، وحضرت الأمة، وبرز موسى بعصاه، فابتلعت كل السحر، فإذا بالسحرة خروا ساجدين: آمنا بالله رب العالمين، وقتلهم فرعون، ولكن قتل ماذا؟! إن أرواحهم في دار السلام في الجنة.

ثم قال: فَاسْتَكْبَرُوا [المؤمنون:46]، وانظر إلى الاستكبار والكبر كيف يمنع من قبول الحق؟ إذ إنهم سيقولون: كيف أن هذا الرجل عاش بيننا يتيماً ويريد أن يصبح الآن سيداً لنا ورئيساً علينا؟ لا نقبل هذا، ولا نمشي وراءه ووراء أخيه، وهما ممن هم عندنا أذلاء مستعبدين مستغلين، فكيف يصبح سيداً علينا؟

وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ [المؤمنون:46]، أي: متكبرين وعالين، فما استطاعوا أن يؤمنوا برسالة موسى وأنه رسول الله، وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يرسلوا مع موسى بني إسرائيل إلى أرض القدس، فالذي حملهم على الكفر والشرك هو الكبر والعياذ بالله.

وقال الله تعالى في آية أخرى: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا [المؤمنون:47]، من القائل؟ فرعون وملؤه، وذلك متعجبين: كيف نؤمن لبشرين مثلنا لا بملكين؟! وزيادة على هذا أن قومهما، أي: آباءهم وأجدادهم خدم وعبيد لنا، فكيف نتبعهم ونمشي وراءهم ونقبل هذه الدعوة؟ وذلك لأن الجالية الإسرائيلية في تلك الديار كانت مستغلة ومستعمرة ومستعبدة كما هو الواقع، وقد حدث أن فرعون رأى رؤيا، فقال له الكهنة والمسئولون: إن سلطان دولتك سيزول على يد واحد من بني إسرائيل، فأصدر قانوناً بقتل أولاد بني إسرائيل، فإذا ولدت المرأة ذكراً فإنه يقتل على الفور، وإذا ولدت أنثى تترك، ومضت سنون وقلت اليد العاملة، فقال الخبراء والمسئولون: إن هذه الطريقة ستؤثر على البلاد، إذ إننا نعدم اليد العاملة، فماذا قال؟ أعفوا عن الذكور عاماً، واقتلوهم عاماً، وفي عام العفو ولد هارون قبل موسى، وفي عام المؤاخذة والقتل ولد موسى، ودبر الله له النجاة فنجا، وهذا مفصل في سورة القصص غاية التفصيل.

وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، أي: خدم وأذلاء تحتنا، فكيف نمشي وراءهما ونؤمن برسالتهما؟ لن يكون هذا أبداً؛ وقالوا هذا لأنهم يساقون بقضاء الله وقدره إلى الهلاك والدمار في الدنيا والآخرة.

قال تعالى: فَكَذَّبُوهُمَا [المؤمنون:48]، أي: كذب فرعون وملؤه موسى وهارون في رسالتهما ودعوتهما إلى أن لا إله إلا الله وأنهما رسولا الله، وأن يبعث معهما بني إسرائيل إلى الديار القدسية، فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [المؤمنون:48]، والله لقد غرقوا عن آخرهم، حتى إن فرعون غرق غرقاً عجباً، وذلك لما عم الطوفان الديار المصرية كاملة، بقي فرعون يتعنتر حتى أدركه الغرق، ولما وصل الماء إلى عنقه وكاد أن يموت قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فقال تعالى: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92]، لا بروحك، لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92]، فنجاه الله ببدنه وما ضاع في البحر، وهو الآن موجود في مصر.

إذاً: فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [المؤمنون:48]، الذين أهلكهم الله بالغرق أجمعين.

ثم قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [المؤمنون:49]، ما المراد بالكتاب هنا؟ التوراة، والتوراة مأخوذة من النور، وهو كتاب موسى، وتحتوي على ألف سورة، وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الإسراء:2]، لماذا ما ذكر هارون معه؟ لأن هارون ما أعطي التوراة، وإنما أعطيها موسى فقط، وذلك لما استقل بنو إسرائيل وخرجوا من الديار المصرية بعد أن أغرقها وأهلكها، في الطريق استخلف موسى أخاه هارون على بني إسرائيل وقال له: أنا سأمشي إلى موعد مع ربي في جبل الطور، فترك موسى أخاه هارون مع بني إسرائيل.

وفي خلال هذه الفترة حدثت حادثة من أعجب الحوادث، ألا وهي: لما كانوا في طريقهم وجدوا أهل قرية يعبدون عجلاً، فقالوا لهارون: اجعل لنا كذلك عجلاً! فماذا يفعل هارون؟ وعظ وذكر لكن ما استجابوا؛ لأن السامري كان شيطاناً، إذ قال لهم: هذا إلهكم وموسى قد أخطأ فقط، فعبدوا العجل، ولما رجع موسى وجدهم في هذه الحال، فكاد أن يهلك من الحزن والكرب والألم.

والشاهد عندنا: فلما ذهب إلى اللقاء، وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف:142]؛ لأنه واعده ثلاثين يوماً، وإذا به يتناول شيئاً في فمه، فاحتاج إلى أن يصوم عشرة أيام أخرى حتى يناجي الله بفم طيب، فكانت أربعين يوماً، وفي خلالها أعطاه الله التوراة وجاء بها إلى بني إسرائيل، فلهذا قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [المؤمنون:49]، أي: التوراة، ولم يذكر هارون، لكن العمل بها والدعوة إليها فموسى وهارون على حد سواء.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [المؤمنون:49]، لماذا؟ ما العلة؟ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [المؤمنون:49]، أي: لعل بني إسرائيل يهتدون، وقد اهتدى البعض وضل أكثرهم، أليسوا ضالين اليوم؟ من قرون، إذ من حارب رسول الله وأراد قتله؟ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [المؤمنون:49]، لكن ما اهتدى إلا القليل منهم، لكن الله فعل ما ينبغي أن يفعل، فقد أعطى موسى الكتاب رجاء أن يهتدي بنو إسرائيل عليه فيعبدون الله وحده بما شرع، فيكملون ويسعدون في الدنيا والآخرة، وإذا بهم يتعاطون السحر والتدجيل والضلال والعياذ بالله.

ثم قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون:50]، من هو ابن مريم؟ عيسى عليه السلام، وهو روح الله تعالى، ، ولماذا ذكر مريم هنا؟ لأنها أيضاً شاركت في هذه الآية العظيمة، إذ قد أنجبت عيسى بدون أب، وصبرت على ما قيل فيها وما أثاروه حولها، فهي حقاً صديقة، ومريم بالعبرية: خادمة الله.

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ [المؤمنون:50]، أي: عيسى وأمه آية من آياتنا الدالة على وجودنا، وعلى ألوهيتنا، وعلى قدرتنا، وعلى حكمتنا، وعلى رحمتنا، وعلى تدبيرنا لخلقنا، فما لهم لا يؤمنون بالله ويعبدونه؟ وما لهم يشركون به سواه؟ إن هذه الآيات بين أعينهم فلماذا لا يبصرونها ولا ينظرون إليها؟!

وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]، وذلك لما ولد عيسى أشاع اليهود بأن مريم قد فجرت، وأن عيسى ابن زنا، وصاحوا وتكلموا، وذلك كما تعرفهم الآن في الإعلام من الضجيج والإثارة، واضطهدوهما واضطروهما إلى الخروج من المدينة، فآواهما الله تعالى في مدينة الرملة من أرض القدس، وهي ربوة عالية، أي: أعلى البلاد كلها، وهي قريبة من الشمال بالنسبة إلى تلك البلاد، وفيها المياه جارية، وفيها الفواكه والخضر، وهي كالجنة، فهذه منة الله عز وجل تقول: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ [المؤمنون:50]، واستقرار، وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]، ونجيناهما من تلك الأباطيل والترهات والصياح والضجيج في مدينة القدس.

وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]، والرَبوة والرُبوة والرِبوة هي المكان العالي المرتفع.

إليكم شرح الآيات من الكتاب.

معنى الآيات

قال: [ معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم في ذكر نبذ من قصص الأولين للعظة والاعتبار ولإقامة الحجة على مشركي قريش ]، فالرسول الأمي يتلو هذا الكلام ويقوله وتقول: ما هو برسول؟ هل يعقل هذا الكلام؟ من أين له بهذا الكلام؟ وكيف تلقاه؟ وليس كلمة ولا عشراً ولا ألفاً، وإنما كتاب كامل، والعجب كيف يكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ مع أنه قد كفر بذلك اليهود والنصارى والمجوس والمشركون إلا من رحم الله.

قال: [ فقال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا [المؤمنون:45] -مصحوبة معهم- وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ [المؤمنون:45] -أي: حجج قوية قاهرة- أي: بعد تلك الأمم الخالية -الماضية في الزمن الأول- أرسلنا موسى بن عمران وأخاه هارون بسلطان مبين، أي: بحجج وبراهين بينة دالة على صدق موسى وما يدعو إليه من عبادة الله وتوحيده فيها، والخروج ببني إسرائيل إلى الأرض المباركة أرض الشام -أرسلناه إلى من؟- إِلَى فِرْعَوْنَ [المؤمنون:46]، ملك مصر يومئذ، وَمَلَئِهِ [المؤمنون:46]، من أشراف قومه وعليتهم، فَاسْتَكْبَرُوا [المؤمنون:46]، عن قبول دعوة الحق وكانوا عالين على أهل تلك البلاد قاهرين لها مستبدين بها، وقالوا رداً على دعوة موسى وهارون، قالوا ما أخبر تعالى به في قوله: فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]؟ ]، أي: كيف هذا؟ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ [المؤمنون:47] موسى وهارون؟ هذا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، أي: والحال أن قومهما لنا عابدون، فكيف نؤمن بهما؟

قال: [ وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، أي: خاضعون مطيعون، هكذا أعلنوا متعجبين من دعوة موسى وهارون إلى الإيمان برسالتهما، فقالوا: أنؤمن لبشرين من مثلنا؟ أي: كيف يكون هذا؟ أنتبع رجلين مثلنا فنصبح نأتمر بأمرهما وننتهي بنهيهما؟ وكيف يتم ذلك، وَقَوْمُهُمَا [المؤمنون:47] -يعنون بني إسرائيل- لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، خاضعون أذلاء مطيعون لأمرنا ونهينا ]، فكيف يتم هذا؟ وكل هذا حتى لا يدخلوا الجنة، وكل هذا حتى يتم حكم الله بإغراقهم في الدنيا، وبخزيهم وعذابهم في الآخرة، وإلا فكيف يتبجحون بهذا الكلام؟

قال: [ قال تعالى: فَكَذَّبُوهُمَا [المؤمنون:48] ]، أي: كذبوا موسى وهارون النبيين الرسولين، [ فَكَذَّبُوهُمَا [المؤمنون:48]، فيما دعواهما إليه] إلى أي شيء؟ [ من الإيمان والتوحيد وإرسال بني إسرائيل معهما إلى أرض المعاد ]، إذ إنهم كذبوا موسى وهارون في الإيمان والتوحيد وإرسال بني إسرائيل إلى أرض القدس، وذلك لأن رسالة موسى إلى فرعون أن يأمره بأن يعبد الله وحده، وأن يأمر قومه بعبادة الله وحده ولا يستمروا على الشرك، ثم يرسل معه بني إسرائيل إلى أرض القدس.

[ فَكَذَّبُوهُمَا [المؤمنون:48]، فيما دعواهما إليه من الإيمان والتوحيد وإرسال بني إسرائيل معهما إلى أرض المعاد، فترتب على تكذيبهم لرسول الله موسى وهارون هلاكهم فكانوا من المهلكين، حيث أغرقهم الله أجمعين ]، فما بقي منهم أحد.

[ وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [المؤمنون:49]، ويخبر تعالى أنه بعد إهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل أعطى موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها؛ لأنها تحمل النور والهدى ]، كما أعطى العرب القرآن الكريم يحمل النور والهدى، لكن هل آمنوا؟ أكثرهم آمنوا والحمد لله، قال: [ لأنها تحمل النور والهدى، هذه أيادي الله -أي: نعمه- على خلقه وآياته فيهم، فسبحانه من إله عزيز رحيم ]، فمن يفعل؟ إنه الله عز وجل رحمة بعباده.

[ وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ [المؤمنون:50]، أي: جعل عيسى ووالدته مريم، آيَةً [المؤمنون:50]، حيث خلق عيسى من غير أب، فهي آية دالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته، وهذه موجبة للإيمان به وعبادته وتوحيده ]، ونذكر أن المخلوقات من البشر أربعة أصناف، فآدم خلق بلا أم ولا أب، إذ صنعه الله وصوره ونفخ فيه من روحه، وحواء عليها السلام امرأة آدم وجدتنا لها أب ولا أم لها، إذ أخرجها الله من ضلع آدم الأيسر، فقال الله لها: كوني فكانت، فإذا بها إلى جنبه عليها السلام، فلها أب ولا أم لها، وأما عيسى عليه السلام فله أم ولكن والله لا أب له، وأنا وأنتم لنا أب وأم، وهذا كله تدبير الله عز وجل، فمن يملك مع الله شيئاً؟ كل هذا يرغم أنوفنا في التراب أن نؤمن أن الله موجود، وأنه حي قيوم، وأنه يجب أن يطاع، وأننا مبعوثون بين يديه ليحاسبنا على هذا العمل، ثم ليسعدنا أو يشقينا في دار النعيم أو دار الجحيم.

[ وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ [المؤمنون:50]، أي: جعل عيسى ووالدته مريم، آيَةً [المؤمنون:50]، حيث خلق عيسى من غير أب، فهي آية دالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته، وهذه موجبة الإيمان به وعبادته وتوحيده والتوكل عليه والإنابة والتوبة إليه.

وقوله تعالى: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]، أي: أنزلنا مريم وولدها بعد اضطهاد اليهود لهما ربوة عالية صالحة للاستقرار عليها، بها فاكهة وماء عذب جار؛ إكرام الله تعالى له ولوالدته، فسبحان المنعم على عباده المكرم لأوليائه ]. ربنا لك الحمد.

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات:

أولاً: تقرير نبوة كل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام ]، والله إنهما لنبيان ورسولان، وهذا إخبار الله تعالى بذلك، فموسى وهارون نبيان رسولان من رسل الله وأنبيائه، آمنا بذلك.

[ ثانياً: التنديد بالاستكبار، وأنه علة مانعة من قبول الحق ] وهذه هي الحقيقة، فإن المصابين بهذا المرض لا يخضعون لله ولا يذلون أبداً، ولا يقتنعون أبداً ولو عرضت عليهم ما عرضت من الأدلة والبراهين، إذ مرض الكبر يحملهم على الاستمرار على باطلهم وشرهم وفسادهم، وفي الحديث: ( إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )؛ لأن هذا المثقال وهذا القليل يمنعه أن يركع وأن يسجد لله رب العالمين، بل ويعترف بحقوق الناس ويعطيها مؤمناً بها مصدقاً، وصاحبه لن يدخل الجنة، ففرعون وملؤه ما الذي حملهم على رد دعوة موسى وإرسال بني إسرائيل؟ إنه الكبر، إذ قالوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]؟ كيف يتم هذا؟ وهذا خرج من مصدر وهو الكبر في قلوبهم، فلنحاول ألا يوجد هذا المرض في قلوبنا أبداً.

[ ثالثاً: مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وذلك في إرسال الرسل بالآيات وفي إهلاك المكذبين ]. مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وربوبيته وألوهيته تجلت في أنه يرسل الرسل ويؤيدهم بالعلم والحكمة والسلطان المبين ليدعو الناس إلى أن يعبدوا الله فيكملوا ويسعدوا؛ لأن عبادة الله مفتاح السعادة والله العظيم، إذ من لم يعبد الله لن يسعد لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويشرع الشرائع ويضع القوانين، وكل ذلك من أجل إكمال الناس وإسعادهم ليسعدوا في حياتهم الدنيا، فيعيشون أطهاراً أصفياء كاملين، ويسعدون في الدار الآخرة، فإذا رفضوا دعوة الله وأعرضوا عن كتابه وهديه هلكوا كما نشاهد ونعرف.

[ رابعاً: آية ولادة عيسى من غير أب مقررة قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وبعث الناس من قبورهم للحساب والجزاء ]. فالذين يكذبون بالبعث الآخر فلينظروا فقط إلى عيسى عليه السلام، إذ وجد عليه السلام بدون أب، فمن أوجده؟ الله بكلمة: كن، إذاً أيعجز أن يخلقنا مرة ثانية بكلمة: كن؟! والله ما يعجز، فوجود عيسى بدون أب، ووجود آدم بدون أب ولا أم، ووجود حواء بدون أم، كل هذا يدل دلالة واضحة على أن الله قادر على أن يخلقنا من جديد كما شاء ومتى شاء، وبذلك آمنا بلقاء الله والجزاء على كسبنا في دنيانا، ولا نموت إن شاء الله إلا صالحين مستقيمين، اللهم ثبتنا على ذلك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.