تفسير سورة المؤمنون (16)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة المؤمنون المكية فهيا بنا مع تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى.

قال تعالى: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ * ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:93-100].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ [المؤمنون:93]، بعد أن تقدم في السياق السابق توجيهات المشركين وطلب هدايتهم، ولكنهم أعرضوا وأصروا وعاندوا وكابروا، قال تعالى هنا لرسوله قل: يا رب! وإنما حذفت ياء النداء لقرب الله تعالى، والنداء يكون بالياء، فنقول: يا إبراهيم! يا أحمد! لكن إن كان قريباً فلا تقل: يا إبراهيم! وإنما قل: إبراهيم! أحمد! فالرب تبارك وتعالى قريب من كل الخلق؛ لأن الخليقة كلها في قبضته وبين يديه يسمع أقوالها ويرى أفعالها.

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي [المؤمنون:93]، أي: إن تريني، مَا يُوعَدُونَ [المؤمنون:93]، فالميم هنا قيل: لتقوية الكلام، والأصل: إن تريني ما يوعدون من العذاب والهلاك، وقد علَّم الله تعالى رسوله أن يقول هذا القول: فقال له: قُلْ [المؤمنون:93]، يا رسولنا! رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ [المؤمنون:93]، أي: من العذاب والهلاك لإصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب والضلال.

قال تعالى: رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:94]، أي: رب! فلا تجعلني في من تريد إهلاكهم، وإنما أبعدني عنهم ولا تجعلني منهم ولا فيهم ولا بينهم، وهذا تعليم الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، قُلْ رَبِّ [المؤمنون:93]، أي: يا رب! إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ [المؤمنون:93]، أي: من العذاب والهلاك والدمار والقحط والجدب والبلاء في الدنيا.

رَبِّ [المؤمنون:94]، أي: يا رب! فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:94]، حتى لا أهلك معهم، وبالفعل فقد هاجر إلى المدينة وأهلكهم الله بالجدب والقحط سبع سنوات حتى أكلوا الصوف والجيف، واستجاب الله لرسوله، وقد علمه كيف يدعوه؟ وكيف يسأله؟

رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:94]، ومعنى الظالمين: المشركين الكافرين، وقد عرفنا أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالظالم هو الذي يضع الشيء في غير موضعه، فلو أن أحدكم الآن يزحزح من حوله وينام فقد ظلم، إذ إن هذا ليس موضعاً للنوم، أو يأتي أحدكم إلى باب المسجد ويجلس فيه ويسده فقد ظلم، وكذلك الذي يعبد غير الله تعالى فقد وضع العبادة في غير موضعها، إذ المستحق للعبادة هو الخالق الرازق المدبر المعطي المانع، أما الذي لا يملك شيئاً وهو مملوك كيف يُعبد؟ وضع العبادة له والله ظلم، فلهذا كلمة (الظلم) تطلق ويراد بها: الشرك، قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ويعني: كفار قريش ومشركيها، فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:94].

ثم قال له تعالى: وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:95]، أخبره تعالى أنه قادر على أن ينجز وينفذ ما توعدهم به من العذاب.

وَإِنَّا [المؤمنون:95]، أي: رب العزة والجلال والكمال، عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:95]، أي: ما نعدهم به من العذاب والنكال والدمار والهلاك في الدنيا والآخرة لقادرين على ذلك، فهو يطمئن رسوله ويثبته حتى يثبت لنشر دعوته.

ثم قال تعالى لنبيه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96]، هذا تعليمٌ وتوجيه من الله لرسوله، وذلك قبل أن يفرض عليه القتال، إذ إنه ما زال في مكة دار الكفر والشرك يقول له: ادفع بالكلمة الطيبة الحسنة السيئة، فإن سبوا أو شتموا أو عيروا أو قالوا: مجنون وساحر، فادفع تلك الكلمة بالكلمة الطيبة.

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96]، أي: ادفع سوءهم وباطلهم وشرهم لا بمثله، فإن سبوا فلا تسب، وإن قبحوا فلا تقبح، وإنما قل لهم: السلام عليكم أو جزيتم خيراً، إذ إن موقفك لا يقتضي هذا، وإنما فقط ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96]، وهذا وإن نسخ بالنسبة إلى رسول الله لما نزل المدينة وتكونت الدولة وفرض القتال، لكنه بالنسبة إلى أمته باقٍ إلى يوم القيامة، وبالتالي فأيما مؤمن أو مؤمنة يسب من أخيه أو يشتم أو يعير فلا يرد تلك الكلمة السيئة بكلمة سيئة، وإنما يردها ويدفعها بالتي هي أحسن، وليقل له: سامحك الله أو عفا الله عنك أو جزاك الله خيراً، وهذا هو نظام حياة المؤمنين، وقد شاهدنا بعض المؤمنين في هذه البلاد يقولون هكذا وخاصة من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ينبغي أن يكون وصفاً لنا نحن المؤمنين، فندفع السيئة بالتي هي أحسن منها، لا السيئة بالسيئة، وذلك لأننا عقلاء علماء ربانيون أولياء الله تعالى، فلا نكون كالصعاليك والفاشلين والظالمين فنرد كلمتهم السيئة بكلمة سيئة، بل نردها بالتي هي أحسن، وهذا تعليم الله تعالى يعلم رسوله أن يفعل هكذا، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96].

ثم قال له: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، أي: بما يصفونك به من أنك ساحر وشاعر ومجنون، أو يصفون الله بأن له ولداً أو بنتاً أو شريكاً، أو أن الحياة الثانية باطلة لا وجود لها، وكل هذه نحن أعلم بها، وسوف نجزيهم بذلك إذا لم يتوبوا ويدخلوا في الإسلام.

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [المؤمنون:96]، فالتي تدفع ما هي؟ السيئة، وهل هناك أحسن من السيئة؟ الحسنة، فالحسنة حسنة والسيئة سيئة، ولذلك ادفع بالحسنة السيئة، ولا تدفع السيئة بالسيئة فتكون مثلهم وفي موقفهم الباطل.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، وفي هذا تهديد لهم بأنه سينزل بهم نقمته وعذابه؛ لأنه أعلم منك يا رسولنا! بما يصفون، وسوف نجزيهم بحسب كفرهم ووصفهم للرسول ولغيره بالباطل.

وعلمه وأرشده أيضاً فقال له: وَقُلْ رَبِّ [المؤمنون:97]، أي: يا رب! أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ [المؤمنون:97]، تأملوا! إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعرض لهمزات الشياطين ولمزهم ومسهم فكيف بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

وَقُلْ رَبِّ [المؤمنون:97]، أي: يا رب! ألجأ إليك وأتحصن بك وأعوذ بجنابك من همزات الشياطين، والهمزات جمع: همزة، وتكون من ورائك همزة ومن الأمام لمزة، وهذه مهمة الشياطين، أي: إفساد القلوب والعياذ بالله، فالله يرشد رسوله وأمته تابعة له إلى هذا الدعاء العظيم، وقد جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! إني لا أنام إلا مؤرقاً، فأرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ( إذا أويت إلى مضجعك أو فراشك فقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون )، يجب أن نحفظها، ونحن والحمد لله ما إن بلغتنا إلا ونقولها كل ليلة، ولذلك إذا قلتها على فراشك كل ليلة يحفظك الله عز وجل ويحميك من الإنس والجن.

إذاً: هذا تعليم الله لرسوله: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98]، أي: يحضرون عملي فيفتنوني ويفسدون علي ما أعمله وأقوم به.

وهذا الدعاء طيب، فإن شاء الله قد حفظتموه، والذي ما حفظه الآن فليسأل غيره فيما بعد وليقل له: أعدها عليَّ ( أعوذ بكلمات التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون )، والقضية أساساً من أجل همزات الشياطين وأن يحضرون.

ثم قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [المؤمنون:99]، يخبر تعالى عن أولئك المشركين الظالمين الهابطين الساقطين عبدة الشياطين وأهل الشرك والكفر فيقول: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [المؤمنون:99]، فالموت يجيء للكافر وللمؤمن، للبار وللفاجر، في الأولين والآخرين.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99]، أي: يا رب! ارجعون، فلماذا ما قال: أرجعني؟ تعظيماً للرب عز وجل وعظم شأنه وجل جلاله، أو أنه قال للملائكة الذين جاءوا لقبض روحه: ارجعون، ولا حرج في ذلك، سواء هذا أو ذاك، رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99]، إلى أين؟ إلى الحياة الدنيا، وهذا عند سكرات الموت، عندما يشاهد بعينيه ملك الموت ومن معه.

وإليكم الحديث التالي: ذكر ابن جرير الطبري إمام المفسرين في تفسيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وزوجته وحبه عليه الصلاة والسلام، وهي ابنة الصديق رضي الله عنه: ( إن المؤمن إذا عاين الملائكة )، أي: الذين يقبضون روحه، ( قال له )، أي: الملك الذي يقبض الروح، ( نرجعك إلى الدنيا؟ )، أي: يستفهمه فيقول له: هل نرجعك إلى الدنيا؟ فماذا عسى أن يقول المؤمن؟ قال: ( فيقول: إلى دار الهم والحزن؟! )، والله لهي كذلك، إذ لا يخلو أحد من الهم والحزن فيها، ( فيقول: بل قدموني إلى ربي )، وأما الكافر والمنافق والفاسق والفاجر فيقال له: ( نرجعك؟ فيقول: أرجعوني لعلي أعمال صالحاً فيما تركت ).

مرة أخرى: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها: ( إن المؤمن إذا عاين الملائكة وشاهدهم -وهو على سرير الموت- قالوا له: نرجعك إلى الدنيا؟ )، أي: خيروه، ( فيقول: إلى دار الهم والحزن؟! )، أي: إلى دار الهموم والأحزان، ( ولكن ردوني إلى ربي، قدموني إلى ربي )، وأما الكافر والظالم والفاسق والفاجر، ( فيقول: أرجعوني لعلي أعمل صالحاً فيما تركت )، من مال وأولاد وضياع على اختلاف أنواعها.

وفي الحديث الصحيح: ( إذا حملت الجنازة على الأعناق )، كما نشاهد ذلك في كل يوم، ( فأسرعوا بها، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني )، وبالأمس قد شكا إليَّ أحد المؤمنين فقال: لماذا يهرولون ويسرعون بالجنائز؟ فقلت: الرسول أمر بالإسراع، لكن ليس الإسراع بمعنى: الجري والهرولة، وإنما الإسراع المشي مع تقارب الخطى، ( إذا حملت الجنازة على الأعناق فأسرعوا بها! فإن كانت الجنازة التي تشيعونها صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن أعناقكم

مرة أخرى: أيما جنازة محمولة على النعش ويحملها الرجال على أعناقهم وأكتافهم إلا وكانت مؤمنة صالحة برة تقية فتقول: قدموني قدموني، أي: عجلوا بي إلى القبر حيث الجنة، وإن تك سوى ذلك، أي: فاسدة غير صالحة فشر تضعونه عن أعناقكم، أي: تستريحون منه، ولك أن تحلف بالله على هذا، إذ ما من جنازة يحملها المؤمنون على أعناقهم إلا وهي تقول إن كانت صالحة: قدموني قدموني، وإن كانت فاسدة فشر تضعونه عن أعناقكم.

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [المؤمنون:99]، أي: ملك الموت وأعوانه، قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99]، إلى الدنيا لنعمل الصالحات ولنصلح ما أفسدناه فيها من قلوبنا وعقولنا وأموالنا وما إلى ذلك.

لماذا يريد أن يرجع؟

قال تعالى: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100]، ثم قال تعالى: كَلَّا [المؤمنون:100]، والله لا يرد ولا يرجع أبداً، ولو طالب بذلك وصاح كثيراً، إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100]، فقط، إذ لا معنى لها ولا قيمة، فهو لما قال: رب ارجعون، هل يرجع فيحيا من جديد؟ مستحيل هذا، بل ولن يتم أبداً.

وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، وحياة البرزخ تكون من ساعة ما أن يدخل القبر، فهو في برزخ، أي: حاجز بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، إذ البرزخ هو الحاجز بين بحرين أو بين شيئين، فلما يموت المرء يبقى في قبره حياة تسمى حياة البرزخ، والبرزخ فاصل أو حاجز بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وهو الواقع الذي أخبر تعالى به، وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، أي: أحياء من قبورهم للجزاء والحساب على كسبهم وعملهم في هذه الدنيا.

إليكم شرح هذه الآيات مرة أخرى من الكتاب لنزداد بصيرة وعلماً.

معنى الآيات

قال المؤلف غفر الله له ولكم، ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات:

في هذا السياق تهديد للمشركين الذين لم ينتفعوا بتلك التوجيهات التي تقدمت في الآيات السابقة قبل هذه، فأمر الله تعالى رسوله أن يدعوه ويضرع إليه إن هو أبقاه حتى حين هلاك قومه ]. أمر رسوله أن يدعوه ويتضرع إليه إن هو أبقاه حتى يحين هلاك قومه، وذلك حتى لا يهلكه معهم.

قال: [ ألا يهلكه معهم، فقال: قُلْ رَبِّ [المؤمنون:93]، يا رب! إِمَّا تُرِيَنِّي [المؤمنون:93]، أي: أن تريني، مَا يُوعَدُونَ [المؤمنون:93]، أي: من العذاب، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:94]، بل أخرجني منهم وأبعدني عنهم حتى لا أهلك معهم.

وقوله تعالى: وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:95]، يخبر تعالى رسوله بأنه قادر على إنزال العذاب الذي وعد به المشركين إذا لم يتوبوا قبل حلول العذاب بهم.

وقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون:96]، هذا قبل أمره بقتالهم ]، إذ هذا نزل بمكة المكرمة، وأيام مكة لا جهاد ولا قتال، وإنما القتال والجهاد لما تكونت الدولة في المدينة [ أمره بأن يدفع ما يقولونه له بالكفر والتكذيب بالخُلَّة والخصلة التي هي أحسن، وذلك كالصفح والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم ]. فلا يلتفت إليهم ولا ينظر إليهم، وإنما يتركهم كالكلاب يصيحون ويسبون ويشتمون.

[ وقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [المؤمنون:96]، أي: من قولهم لله شريك وله ولد، وأنه ما أرسل محمداً رسولاً، وأنه لا بعث ولا حياة ولا نشور يوم القيامة ]. وهذا كلامهم الذي يقولونه ويرددونه.

[ وقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97-98]، لما علمه الاحتراز والتحصُّن من المشركين بالصفح والإعراض، إذاً أمره أن يتحصن أيضاً من الشياطين بالاستعاذة بالله تعالى، فأمره أن يقول: رَبِّ [المؤمنون:97]، أي: يا رب! أَعُوذُ بِكَ [المؤمنون:97]، أي: أستجير بك من همزات الشياطين، أي: من وساوسهم حتى لا يفتنوني عن ديني، وأعوذ بك أن يحضروا أمري فيفسدوه عليَّ.

وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [المؤمنون:99]، أي: إذا حضر أحد أولئك المشركين الموت، أي: رأى ملك الموت وأعوانه وقد حضروا لقبض روحه، قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون:99]، أي: أخروا موتي كي أعمل صالحاً فيما تركت العمل فيه بالصلاح، وفيما ضيعت من واجبات، قال تعالى رداً عليه: كَلَّا [المؤمنون:100]، أي: لا رجوع أبداً، إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100]، لا فائدة منها ولا نفع فيها، وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ [المؤمنون:100]، أي: حاجز مانع من العودة إلى الحياة وهو أيام الدنيا كلها، حتى إذا انقضت عادوا إلى الحياة، ولكن ليست حياة عمل وإصلاح، ولكنها حياة حساب وجزاء، هذا معنى قوله تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].

هداية الآيات

إن كل آية تحمل هداية وعلامة على الخير، فمن هداية الآيات: قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: مشروعية الدعاء والترغيب فيه، وإنه لذو جدوى للمؤمن ] ومعنى هذا: اعلموا يرحمكم الله! أنكم مدعون إلى الدعاء، فأكثروا من الدعاء ليل نهارا، فهاهو تعالى يرغب فيه ويشرعه ويقول: قُلْ رَبِّ [المؤمنون:93]، أي: يا رب! وعلمه ما يدعو، فلهذا دلت الآية على مشروعية الدعاء والترغيب فيه، وإنه لذو جدوى ومنفعة للمؤمنين.

قال: [ ثانياً: استحباب دفع السيئ من القول أو الفعل بالصفح والإعراض عن صاحبه ]، يستحب لكل مؤمن ومؤمنة أن يدفع السيئة من القول أو العمل أو الفعل بالصفح والإعراض عنه وعدم الالتفات إلى صاحبه.

قال: [ ثالثاً: مشروعية الاستعاذة بالله تعالى من وساوس الشياطين ومن حضورهم أمر العبد الهام حتى لا يفسدوه عليه بالخواطر السيئة ]، الآن شكا إلي أحد الأبناء فقال: إنه قد ارتد كثيراً! فقلت له: كيف ارتددت؟ فقال: الشيطان يقول لي كذا وكذا فأقول، فقلت: العنه واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إذ ما عندنا قدرة على دفع الشيطان إلا باللجوء إلى الله عز وجل بكلمة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإذا وسوس لك الشيطان أو ألقى في نفسك بعض الباطل والمنكر فلا تستجيب، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وانفث عن يسارك ثلاثاً، واعلم أنك إذا لم تنطق أو لم تفعل فإنه لا يضرك وسواسه، والضرر كل الضرر إذا قلت بلسانك الكلمة أو فعلت بيدك أو رجلك ما دعاك إليه، أما مجرد وسواس فلا يضرك أبداً ما دمت تلجأ إلى الله وتحتمي بحماه.

قال: [ ثالثاً: مشروعية الاستعاذة بالله تعالى من وساوس الشياطين ومن حضورهم أمر العبد الهام حتى لا يفسدوه عليه بالخواطر السيئة ]، فكم من إنسان يريد أن يفعل خيراً ثم يأتونه ويصرفونه عن ذلك.

قال: [ رابعاً: موعظة المؤمن بحال من يتمنى العمل الصالح عند الموت فلا يُمكن منه فيموت بندمه وحسرته ويلقى جزاء تفريطه حرماناً وخسراناً في الدار الآخرة ]، وقد سمعتم من حديث عائشة أن المؤمن يطلب أن يقدموه إلى ربه ولا يردوه إلى دار الهم والحزن، والفاسق والفاجر والعياذ بالله ما عنده عمل فهو خائف، ولذلك يقول: أرجعوني لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، هذا والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم بما ندرس ونسمع.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وسلم تسليماً.