فهرس الكتاب
الصفحة 129 من 854

بينت سابقًا - وتظهر هذه الحقيقة ماثلة للعيان والأذهان، حين يخبر الله تعالى، عن حال من كذب وأعرض بأنه مكابر معاند يجحد ما توقن به نفسه. - واليقين كما هو معلوم من أعلى درجات المعرفة - وذلك في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14] .

وهذا اليقين الذي داخل نفوس الخلق بحيث لو أعرض عنه الكافر كان إعراضه نتيجة للكبر الذي من تلبس به لم يفلح أبدًا. أقول هذا اليقين هو من لوازم خلقتهم التي خلقهم الله تعالى عليها، فقد أخبر تعالى أنه أخذ العهد والميثاق على بنى آدم، وهم في عهد الذر بأن يقروا بربوبيته وأن لا يشركوا معه أحدًا من خلقه فأقروا وشهدوا، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173] .

وبذلك يكون الإيمان بالله تعالى وتوحيده أمرًا فطريًا، لا يمكن للنفس البشرية جحده ولا إنكاره إلا ظلمًا وعلوًا، كما أخبر بذلك المولى سبحانه، ولا ينبئك مثل خبير. يقول شيخ الإسلام في بيان هذه الحقيقة المشرقة:"ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم. وهذا أمر ضرورى لهم لا ينفك عنه مخلوق، وهو مما خلقوا عليه وجبلوا عليه، وجعل علمًا ضروريًا لهم لا يمكن أحدًا جحده". (1)

ومع ما تقدم من بيان منهج السلف، فإن الصاوى قد وافق وجهًا من الصواب، حيث أقر بأن معرفة الله تعالى قد تقع بغير النظر، كوقوعها فطرة كما يوحى إقراره لكلام المحلى في ذلك، أو اضطرارًا في قلب العبد. وعبر عن ذلك بالكشف والإلهام. وبذلك خالف الأشاعرة في قصرهم الطريق إلى معرفة الله تعالى على النظر، وكان أكثر اعتدالًا، حين أوجب النظر ولو بعيدًا عن التزامات المتكلمين في

(1) المرجع السابق: (8/ 488) .

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام