والجواب: أن العلماء قد اختلفوا في هذه المسألة، فذهب الجمهور إلى أنه يجوز الإقدام على هذه الأفعال وغيرها من المعاصي، حتى الأشياء الكفرية، تدخل في هذا بمحرد التهديد قبل وقوع العذاب.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه، إلى أنه لا بد من وقوع العذاب حتى يقوم المسلم بفعل هذه الأشياء، سواء أكانت معاصٍ أو كفراً كما تقدم آنفاً.
والحق في هذه المسألة ما ذهب إليه الجمهور، من أن التهديد والوعيد بمفرده، يكفي في اعتبار الإكراه، وعلى هذا تدل مقاصد الشريعة، فإن هذه الشريعة الغراء قد جاءت بتكثير المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد ومحقها، والضرر كما هو معلوم يزال متى تمكن المرء من إزالته بحسب طاقته واستطاعته، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فمتى كان الضرر متوقعاً حصوله جاز دفعه أو وجب ذلك، وهذا بحسب الإمكان، ويختلف في النظر إلى أصل الضرر الذي يراد زواله، ويراعى في هذا كله أصل الوعيد الصادر من المتوعد، فإن كان من قادر عليه أو ممن لا يتخلف مثله عن الإنفاذ من القادر عليه، فهذا هو الذي حكى أهل العلم أن مثله كاف للإكراه، وقد نقل الإمام القرطبي -رحمه الله- في"تفسيره" (10/ 190) [1] أن الإمام مالكاً -رحمه الله- كان يقول: (والوعيد المُخوف إكراه وإن لم يقع، إذا تحقق ظلم المعتدي وإنفاذه لما يتوعد به) ا. هـ
ومما يحسن ذكره في هذا المقام ما ذكره القاضي أبو يعلى الحنبلي -رحمه الله- في هذه المسالة حيث فرق بين التوعد بالقتل، وغيره من صنوف العذاب، فقال في كتابه (الروايتين والوجهين) (2/ 156) ما نصه:
(فإن كان التوعد بالقتل، وكان ذلك من قاهر مقتدر فيجب أن يقال: إنه إكراه، رواية واحدة، لأن الفعل إذا وقع لم يمكن رفعه، وليس كذلك إذا كان التوعد بضرب وبحبس لأن الفعل إذا وقع يمكن رفعه .... ) ا. هـ
(1) طبعة (دار الفكر) .