عنوان الفتوى : هل يجوز تقديم الزواج على الجهاد العيني؟
هل يجوز تقديم أمر الزواج على الجهاد إذا كان الجهاد فرض عين في بلدة معينة؟ مع العلم أن الرجل ليس لديه تكاليف زواج، لكنه يدعو الله كل يوم أن يرزقه عملًا؛ لأنه مصرّ على الزواج من الفتاة، فما حكم هذه الحالة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فالجهاد إذا تعيَّن لا يجوز الانشغال عنه بالزواج، ولا بغيره، إذا كان يحول بين المرء وبين القيام بما وجب عليه عينًا؛ قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
وهذا إذا تعارض الزواج مع الجهاد المتعين، أما إذا أمكن الجمع بينهما، فلا حرج، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري في قصة فتى منهم كان حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة. فأخذ الرجل سلاحه ... الحديث.
ومعلوم أن الجهاد في الخندق كان من جهاد الدفع، وهو واجب على العموم؛ قال ابن القيم في كتاب (الفروسية): قتال الدفع أوسع من قتال الطلب، وأعم وجوبًا؛ ولهذا يتعين على كل أحد، ويجاهد فيه العبد بإذن سيده، وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد، والخندق، ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون، فإنهم كانوا يوم أحد، والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار؛ ولهذا تباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو، ولم يخف كرته؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد، ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالبًا مطلوبًا أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين ... فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلًا. اهـ.
وهنا لا بد من التنبيه على أمرين:
الأول: أن الجهاد في الأصل فرض كفاية، إلا إنه يتعين في بعض الأحيان، وقد سبق لنا بيان ذلك، وبيان شروط وجوب الجهاد، في الفتوى رقم: 7730، وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 289735.
والثاني: أن الرجل إذا احتاج إلى الزواج، وكان إليه تواقًا، فإنه يقدم على الجهاد الكفائي؛ قال الزيلعي في (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق): (وهو سنة، وعند التوقان واجب) أي: النكاح سنة، وعند شدة الاشتياق واجب ليمكنه التحرز عن الوقوع في الزنا؛ لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبًا كوجوبه، وعند عدم التوقان سنة حتى كان الاشتغال به أفضل من التخلي للعبادة النفل عندنا خلافًا للشافعي -رحمه الله- هو يقول: إن النكاح من المعاملات حتى صح من الكافر، والعبادة أولى منها؛ لأنها شرعت لله تعالى وشرع المعاملات للعباد ...
والله تعالى أعلم.