عنوان الفتوى : هل تبطل السرقة الجهاد في سبيل الله؟
هل تبطل السرقة الجهاد في سبيل الله؟ بمعنى هل من سرق في الجهاد نستطيع القول عنه أنه ليس بمجاهد؟ جزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالسرقة في الجهاد إن كانت من الغنائم فهي غلول، وهو من كبائر الذنوب التي يستحق بها المجاهد وعيدا شديدا، قال الدكتور مرعي الشهري في بحثه (أحكام المجاهد بالنفس في سبيل الله عز وجل في الفقه الإسلامي): يمكن تعريف الغلول بأنه: ما أخذ من الغنيمة أو الفيء على وجه الكتمان مما لم يبح الانتفاع به مما يجب قسمته بين العسكر... والغلول من الغنيمة والفيء حرام قليله وكثيره، يدل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة فمن الكتاب... جاء في بداية المجتهد: "اتفق المسلمون على تحريم الغلول". إذا تقرر تحريم الغلول بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فللغال من الغنيمة والفيء عقوبتان:
العقوبة الأولى: عقوبة أخروية إذا مات ولم يتب ويتحلل مما غل، وقد تقدمت الأدلة على ذلك والتي توضح أن الغال يأتي يوم القيامة بما غل يحمله معذبا به، وموبخا بإظهار خيانته على رءوس الأشهاد، وأنه يحرم الفوز بالشهادة ويعذب في النار.
العقوبة الثانية: عقوبة دنيوية وتكون عامة وخاصة. فأما العامة: فإن الغلول ما ظهر في قوم إلا ألقي في قلوبهم الرعب وتأخر النصر عنهم، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ قال: (ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقي في قلوبهم الرعب..)، وأما الخاصة فهي فيمن غل، اتفق الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى فيما أعلم ـ على أن للإمام تعزيزه بالضرب، أو الحبس أو ما يراه مناسبا لعقوبته ورادعا لأمثاله، واختلفوا في إحراق رحل الغال ومتاعه... اهـ.
وإن كانت من غير الغنيمة، بل من أموال المجاهدين الخاصة وما في حكمها من الأموال المحترمة، فهي أيضا كبيرة، ولكنها أخف من الغلول، وحكمها حكم السرقة عموما. جاء في (فتاوى السبكي): قال العلماء: الغلول عظيم؛ لأن الغنيمة لله تصدق بها علينا من عنده في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ {الأنفال:41}، فمن غل فقد عاند الله، وإن المجاهدين تقوى نفوسهم على الجهاد والثبات في مواقفهم علما منهم أن الغنيمة تقسم عليهم، فإذا غل منها خافوا أن لا يبقى منها نصيبهم فيفرون إليها، فيكون ذلك تخذيلا للمسلمين وسببا لانهزامهم، كما جرى لما ظنوا يوم أحد؛ فلذلك عظم قدر الغلول، وليس كغيره من الخيانة والسرقة. اهـ.
وفي كلا الحالين لا نعلم أحدا من أهل العلم نص على رفع اسم أو ثواب الجهاد عن المجاهد بمجرد حصول السرقة منه! والذي تدل عليه أصول الشريعة أن الأمر يكون مقاصة بين ثواب الجهاد وغيره من الأعمال الصالحة، وبين وزر السرقة وغيرها من الذنوب وحقوق العباد، قال ابن القيم في (زاد المعاد): الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجس من حاطب مكفرا بشهوده بدرا... وهذا كما أنه ثابت في محو السيئات بالحسنات؛ لقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] وقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» فهو ثابت في عكسه؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264]، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2]، وقول عائشة عن زيد بن أرقم أنه لما باع بالعينة: "إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب"، وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: «من ترك صلاة العصر حبط عمله» إلى غير ذلك من النصوص والآثار الدالة على تدافع الحسنات والسيئات وإبطال بعضها بعضا، وذهاب أثر القوي منها بما دونه، وعلى هذا مبنى الموازنة والإحباط. اهـ.
وقال في كتاب (الصلاة وأحكام تاركها): إن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم، قد دل القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات, كما أن الحسنات يذهبن السيئات. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}... وقد نص الإمام أحمد على هذا فقال: "ينبغي للعبد في هذا الزمان أن يستدين ويتزوج لئلا ينظر ما لا يحل فيحبط عمله"، وآيات الموازنة في القرآن تدل على أن السيئة تذهب بحسنة أكبر منها، فالحسنة يحبط أجرها بسيئة أكبر منها. اهـ.
والله أعلم.