عنوان الفتوى : الوعد بالنصر وعدم رؤية بعض المؤمنين له في الدنيا.. نظرة شرعية
سؤالي هو: الله سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. (الروم:47)، ويقول سبحانه وتعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿الحج:40﴾، ويقول سبحانه وتعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. ﴿غافر:51﴾، ويقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. ﴿محمد:7﴾ هل ممكن أن يموت المؤمن المظلوم بسبب الظلم قبل أن يرى نصر الله له؟ وإذا كان كذلك كيف نوفق بين هذا وبين الآيات؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد يموت المؤمن، ولا يرى نصر الله في الدنيا، ولا يشاهد الوعد الإلهي المحتوم بكون العاقبة للمتقين، ولا يتنافى هذا مع الآيات التي وعدت أهل الإيمان بالنصر والتأييد، فإنهم ولا شك منصورون بالحجة والبيان، وأما النصر بالسيف والسنان، فقد يتخلف أحيانا لحكمة يعلمها الله تعالى، ومن ذلك تقصير المؤمنين في بعض ما أوجب عليهم ربهم، وإتيانهم ببعض ما يستوجبون معه تأخر النصر.
قال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ صِفَاتِ مَنْ وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ [22 41] . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَلَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَيْسَ لَهُمْ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ الْبَتَّةَ. فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْأَجِيرِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ لِمُسْتَأْجِرِهِ شَيْئًا، ثُمَّ جَاءَهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْأُجْرَةَ. فَالَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي مِمَّنْ يَتَسَمَّوْنَ بِاسْمِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ سَيَنْصُرُنَا - مَغْرُورُونَ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِ اللَّهِ الْمَوْعُودِينَ بِنَصْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَمَعْنَى نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ - نَصْرُهُمْ لِدِينِهِ وَلِكِتَابِهِ، وَسَعْيُهُمْ وَجِهَادُهُمْ فِي أَنْ تَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا، وَأَنْ تُقَامَ حُدُودُهُ فِي أَرْضِهِ، وَتُمْتَثَلَ أَوَامِرُهُ وَتُجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ، وَيُحْكَمَ فِي عِبَادِهِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى.
وقد أخبر الله أن بعض رسله قتل؛ كما قال تعالى: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ {البقرة:87}. وإذا كان بعض الرسل قد يتسلط عليه عدوه بالقتل، فلا يرى نصر الله في الدنيا، فغيره أولى، ثم إن الله ينتقم لرسله وأوليائه بما شاء، ولا ينافي تسلط عدوهم عليهم كونهم منصورين بالحجة مؤيدين بالبرهان، كما أن العاقبة لأتباعهم ولأهل الإيمان ولا بد.
قال العلامة الألوسي رحمه الله: وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا... إلخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى لبيان أن ما أصاب الكفرة من العذاب المحكي من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة هو أن شأننا المستمر أننا ننصر رسلنا وأتباعهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحانا إذ العبرة إنما هي بالعواقب وغالب الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك فتذكر. انتهى.
ويظهر تمام النصر للمؤمنين على أعدائهم في الآخرة حين يخلد هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، ويظهر أن ما اغتر به الكفار من بعض التسلط والغلبة في الدنيا لم يكن إلا كسراب لا حقيقة له، وأن ما عاناه المؤمنون من التعب والنصب، بل والقتل أحيانا إنما هو ثمن يسير بجانب ما وعدوا به من نصر الله تعالى وعاقبته الحميدة.
والله أعلم.