عنوان الفتوى : غايات الجهاد وفلسفة الفتوحات في الإسلام
هناك مدرس مسيحي سألني ما هي الفتوح الإسلامية؟ أليست احتلالا أو استعمارا؟ لماذا احتللتم بعض الأماكن وقد قال الله تعالى: لا إكراه في الدين، لكم دينكم ولي دين؟ ولماذا تعبرون عن احتلال الأندلس بالفتح وتحررها من المسلمين سقوطاً، بينما فتحكم لها كان استعمارا وفي بعض الأماكن أجبرتم الناس على أن يكونوا مسلمين؟ صراحة لم أعرف كيف أرد عليه؟ ولا كيف أجيبه؟ إلا أنني قلت: هم آذوا المسلمين فرددناها عليهم وأخذنا بحقنا، فساعدوني جزاكم الله خيراً، وسألني ايضاً وقال أخرجتم اليهود من القدس وبعد عودتهم قلتم إنهم احتلوها بينما أنتم من احتلها وطردتموهم أولاً، وجزاكم الله ألف خير.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فجوهر الفرق بين قتال المسلمين وقتال غيرهم يكمن أولا: في الغاية من ورائه عند كل فريق من الفريقين، وثانيا: في الفرق بين الإسلام نفسه كدين: عقيدةً وشريعةً، وبين غيره من الملل، ولإيضاح الأمر الأول نقول: إن غاية المسلمين في قتالهم ليس تحصيل أعراض الدنيا: توسعا في الملك، وتملكا للأرض، وزيادة في الثروات، وإنما هو إعلاء لكلمة الله ودعوة لدينه، ونصرة للحق ورفع للظلم، كما قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا {النساء: 75ـ 76}.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. متفق عليه.
ويدرك ذلك من تأمل وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب قائد جيشه يوم خيبر، لما قال له عليٌّ: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم، فو الله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم. رواه البخاري ومسلم.
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الغاية الحقيقية من وراء الجهاد، وهي فتح الباب للناس لدخول هذا الدين، وليس حصول الغنيمة أو بذل الجزية، ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {النساء:94}.
ولهذا عزل عمرُ بن عبد العزيز الجراحَ بن عبد الله الحكمي عن إمرة خراسان، لأنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارا منها، فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية، فكتب إليه عمر: إن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا ولم يبعثه جابيا، وعزله.
فالجهاد بالنسبة للمسلم هو جَهْد النفس والمال وفقدهما، فلا يجاهد لتحصيل الدنيا، بل يضحي بالدنيا طلبا للجهاد إرضاء لله تعالى، ولهذا نعى الله على المنافقين فقال: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { التوبة: 81ـ 82}.
وراجع لمزيد الفائدة عن ذلك الفتويين رقم: 120465، ورقم: 98595.
ولإيضاح الأمر الثاني نقول: إذا أردنا إقامة العدل في المقارنة التي عقدها هذا المدرس النصراني بين الفتوحات الإسلامية وحروب أهل الملل الأخرى، فلابد من المقارنة بين الإسلام نفسه وبين هذه الملل، من حيث العقيدة والشريعة التي تنتظم أمور الحياة الدنيا، ثم من حيث الأثر في الآخرة وما يترتب على التدين بأي منها!! فإن قام البرهان ـ وهو بحمد الله قائم بسطوع وجلاء ـ على أن الإسلام هو الحق الذي تصلح عليه معايش الناس في الدنيا، ويقبله الله ويجازي عليه بالخلود في الجنة، وأن ما عداه باطل لا يقبله الله ويجازي عليه بالخلود في النار... فإن هذا يعني أن بذل الوسع في نشر الإسلام ممدوح من كل وجه بخلاف غيره، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {آل عمران: 85}.
فالإسلام هو الحق المحض، وكل دين غيره باطل، وهذا من ضروريات اعتقاد المسلم، وهو الذي يحركه للدعوة إلى دينه الحق، استنقاذا للناس من النار، واستخراجا لهم من الظلمات إلى النور، وانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم مع غلام يهودي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: له أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار. رواه البخاري.
فهذا هو خلاصة الفوز في حس المؤمن، كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ {آل عمران: 185}.
وما الجهاد إلا صورة من صور هذه الدعوة المباركة إلى الله تعالى، التي لا يراد من ورائها إلا استنقاذ الناس من العذاب الأبدي في الآخرة، وتحقيق فوزهم بنيل رضوان الله وجنته، في نعيم لا يزول ولا يحول، وذلك بردع من يقف أمام دعوة الخير وإزالة العوائق التي تحول بين الناس وبين سماع الحق، وكم من أناس قاتلهم المسلمون وأسروهم، فلما عرفوا حقيقة الإسلام عن قرب، دخلوا فيه مختارين راغبين، وصاروا بعد ذلك هم وأبناؤهم من المجاهدين والفاتحين، كحال طارق بن زياد فاتح الأندلس!! والمقصود أن الجهاد لم يشرع إزهاقا للأرواح وإتلافا للنفوس، بل على العكس، فما هو إلا سبيل من سبل إحياء النفوس بتمهيد طريق الإيمان الذي به يحيون الحياة الأبدية في النعيم المقيم، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الأنعام: 122}.
ولا يخفى على الدارس لتاريخ البشرية أن ملوك الدنيا وسلاطين الأرض لا يُعرف عنهم في الأعم الأغلب على مدار التاريخ أنهم يتنازلون عن ملك الدنيا وملاذها إلا رغما عن أنوفهم، فلولا دفع الله لسلطانهم بجهاد المسلمين ما خلَّوْا بين الناس وبين الدخول في الإسلام، ويكفينا تذكر حال هرقل الذي عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضنَّ بملكه، مع علمه وإقراره أن الله سينصر نبيه صلى الله عليه وسلم إما حالا وإما مآلا، ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن الجهاد لا يعني من قريب ولا من بعيد أن يُكَره الناس على الدخول في الإسلام، ولا أدل على ذلك من بقاء أناس على دينهم إلى اليوم في البلاد التي فتحها الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ وفي المقابل فإن مدنا ودولاً أخرى دخل أهلها في الإسلام من غير قتال، وحسبك مثالا على ذلك: عاصمة دولة الإسلام الأولى المدينة النبوية، ويكفينا في مراحل التاريخ المتعاقبة دولة أندونيسيا وما جاورها وكيف دخل أهلها في الإسلام من دون قتال، وراجع للأهمية الفتوى رقم: 170755.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 116779.
أما مسألة إخراج اليهود من القدس: فهذه مغالطة مكشوفة، فالقدس ـ كما هو معلوم تاريخيا ـ كانت خالية من اليهود، عند فتح المسلمين لها، فإن هرقل كان حرم على اليهود السكن في بيت المقدس، وراجع في ذلك كتاب: تاريخ الخلفاء الراشدين ـ للدكتور محمد طقوش، والفتوى رقم: 155713.
والله أعلم.