عنوان الفتوى : أسباب القتال في الإسلام وأنواعه والحكمة منه
أنا شاب مسلم حريص على طلب العلم، وعندي أمل بأن تجيبوا عن سؤالي، فأنا بأمس الحاجة لجوابٍ شافٍ. فقد حاورني أحد العلمانيين قائلاً إن دينكم يحرض على العنف! واستدل بآيات من سورتي: الأنفال والتوبة والقتال التي فيها تحريض على القتل صراحة ًفلم أستطع الرد، وبصراحة تأثرت جداً بيني وبين نفسي على عدم وجود جواب! فهل من مجيب؟ وهل ديننا يحض على العنف مع المخالف؟ وإذا كان الجواب لا، فكيف نفسر آيات التحريض على القتل؟ أريد جواباً شافيا من عالم رباني؛ لذا لجئت إليكم. والله يحفظكم ويرعاكم ودمتم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما يسميه البعض عنفاً، قد يسميه غيره قوةً وحزماً وردعا، والناس ليسوا على شاكلة واحدة، فمنهم من يقف عند حده ويلتزم العدل والإنصاف، ولا يحارب الحق ولا يعاديه، ومنهم من يبغي ويطغى، ويظلم ويتعدى، ويبغض الحق ويحاربه، ويصد عن سبيل الله. وليس من العقل ولا من الحكمة أن يعامَل الجميع معاملة واحدة، ولذلك تجد في القرآن قوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { الأنفال: 61}.
كما تجد فيه قوله عز وجل: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ { التوبة: 12ـ 13}.
وتجد فيه كذلك قوله سبحانه: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا {النساء: 75}.
وما أحسن قول المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضر كوضع السيف في موضع الندى.
فالعنف قد يُحمد أحيانا، كما قد يُذم اللين أحيانا، والحكمة أن يوضع الشيء في موضعه، والجهاد في الإسلام لم يشرع لتحصيل أغراض دنيوية، بل شرع ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، مما يدرأ الفتنة، ويحاصر أبوابها ومنافذها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان، لكونهم مالا للمسلمين، والأول هو الصواب، لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: والفتنة أكبر من القتل ـ أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين لله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم. اهـ.
ولمعرفة أسباب القتال في الإسلام يحسن أن ننقل كلام الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه أصول الدعوة حيث يقول: يقول بعض الكتاب المحدثين: إن القتال في الإسلام أو الجهاد في الإسلام هو دفاعي لا هجومي، بمعنى أنَّه لا يجوز للدولة الإسلامية أن تهاجم دولة غير إسلامية إلّا إذا هاجمتها هذه الأخيرة، والواقع أنَّ هذا القول غير سديد وينقصه التحقيق والتدقيق، ولا تدل عليه دلائل الشريعة، ذلك أنَّ القتال في الإسلام له أسباب: منها: ردّ الاعتداء، وفي هذا قال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. ومنها: القتال لنصرة ضعفاء المسلمين الذين يتعرَّضون لظلم الكفرة، قال تعالى: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا.
ومنها: أن يبدأ المسلمون قتال الكفرة إذا رفضوا الإسلام ومنعوا المسلمين من تولي الحكم والسلطان، لإقامة شرع الله وتطبيقه في الأرض، وهذا هو الذي يجادل فيه البعض ويعتبره من قبيل القتال الذي يبدأ به المسلمون غيرهم بلا مبرِّر، والحقيقة أنَّ القرآن والسنة النبوية يدلان على هذا النوع من القتال، وقال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ـ والحقيقة أنَّ بدء المسلمين لغيرهم بالقتال إذا رفضوا الإسلام أو الجزية إنَّما هو لمصلحة عموم المشركين الذين يخضعون لسلطان الكفر، لأنَّ المسلمين يريدون بهذا القتال رفع هذا الحكم الكافر عنهم، وإزالة شرائعه الباطلة، ورفع الحواجز عن عموم الناس لرؤية الإسلام وشرائعه، فمن شاء آمن، ومن شاء بقي على كفره بشرط الولاء للدولة الإسلامية. وهذا كله من مصلحة المشركين الدنيوية والأخروية، أمَّا الدنيوية فتظهر في تمتعهم بعدل الإسلام والمحافظة على أموالهم وحقوقهم، وأمَّا الأخروية فبتهيئة سبل رؤيتهم الإسلام واحتمال دخولهم فيه عن رضًى واختيار، لا عن جبر وإكراه، وفي هذا سعادتهم وفوزهم في الآخرة. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية تحت عنوان: حكمة تشريع الجهاد ـ القصد من الجهاد دعوة غير المسلمين إلى الإسلام أو الدخول في ذمة المسلمين ودفع الجزية وجريان أحكام الإسلام عليهم، وبذلك ينتهي تعرضهم للمسلمين، واعتداؤهم على بلادهم، ووقوفهم في طريق نشر الدعوة الإسلامية، وينقطع دابر الفساد، قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين. وقال عز وجل: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. اهـ.
وللاستزادة في هذا الموضوع يحسن مراجعة مقال مطول للشيخ عبد العزيز بن باز بعنوان ليس الجهاد للدفاع فقط وهو مطبوع في الجزء الثالث من مجموع فتاويه، وكذلك رسالة الدكتوارة للدكتور علي بن نفيع العلياني وهي بعنوان أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية.
وأخيرا نذكر بأن غير المسلمين قد جرّوا على البشرية من أنواع الحروب والعنف والقتال ما لم يعرفه الإسلام، ولا يقبله المسلمون، لا من حيث الغاية، ولا من حيث الأسلوب والضوابط، ولا من حيث الآثار، ويكفي للوقوف على حقيقة ذلك مقارنة التاريخ الحربي للمسلمين بطوله، بالتاريخ الغربي في الحربين العالميتين فقط، جاء في الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي: انتهت الحرب العالمية الثانية فى سنة 1945م بعد استسلام ألمانيا في مايو 1945م، وإلقاء القنبلة الذرية على اليابان واستسلامها فى سبتمبر سنة 1945م، ونتج عن هذه الحرب خسائر فادحة فى الأرواح والأموال والعمران، كما أنها خلفت مشكلات اجتماعية عديدة، وقدرت هذه الخسائر بـ 1154مليار دولار، وفقد فيها 41 مليون قتيل بخلاف الجرحى والأسرى. اهـ.
والله أعلم.