عنوان الفتوى : القسط والبر لأهل الكتاب المسالمين؛ بخلاف المحاربين
سادتي الكرام، أرجو منكم توضيح لبس يقع فيه الكثيرون بين مسلمين وغير مسلمين في خصوص تفسير الآية 29 من سورة التوبة والتي يدّعي أعداء الإسلام أنها دليل على عدم احترام الإسلام لغير المسلمين وأنه يجوز لنا أن نذلهم ونقسو عليهم. فهل يجب علينا كمسلمين أن نفهم من هذه الآية ومن تفسيرها حسب تفسير ابن كثير وخاصة قوله "فَلِهَذَا لَا يَجُوز إِعْزَاز أَهْل الذِّمَّة وَلَا رَفْعهمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَلْ هُمْ أَذِلَّاء صَغَرَة أَشْقِيَاء".. هل يعني هذا أنه علينا أن نعامل غير المسلمين في بلادنا باحتقار ونسيء إليهم؟؟ كيف يمكن أن نوفق بين هذا التفسير الذي يُفهم منه الأمر بالإساءة لأهل الذمة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من آذى ذميا فقد آذاني.." الحديث، وقوله أيضا "من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" الحديث.. كيف يمكن التوفيق بين هذين المعنيين المختلفين وكيف يجب أن نفهم الآية 29 من سورة التوبة وخصوصا تفسيرها؟؟ وشكرا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنا ننبهك إلى أنه لا يوجد جرم أعظم من شرك العبد بربه الذي أسبغ عليه نعمه التي لا تحصى، فقد خلقه في أحسن صورة وجعله من الآدميين الذين كرمهم وفضلهم، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ.{الانفطار:6-8}. وقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا.{الإسراء:70}. وقال: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.{لقمان: 20}
فإذا بدل العبد شكر هذه النعم بالشرك وتكذيب الوحي فإنه أصبح شر الخلائق؛ كما أخبر سبحانه وتعالى عنه في قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون.{الأنفال:55}. وقال الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.{لقمان:13}.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك. متفق عليه.
وأما الآية التي ذكرت فهي في التعامل مع الكفار المحاربين، أما إذا كانوا ذميين أو معاهدين فإن العلاقة معهم يجب أن يكون أساسها البر إليهم والعدل معهم والإنصاف لهم.
فقد أمر الشارع بالإحسان لأهل الذمة وحسن معاملتهم، وحرم أشد التحريم ظلمهم والبغي عليهم، فقد حثّ القرآن على القسط والبر بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين، فقال تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.{الممتحنة:8}، والبر أعلى أنواع المعاملة، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين، وهو الذي وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بقوله: البر حسن الخلق. رواه مسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم في التحذير من ظلم أهل الذمة وانتقاص حقوقهم: من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة. أخرجه أبو داود والبيهقي وحسنه الألباني.
وأما مسألة (الجزية) فقد كانت غاية للقتال ولذا عبر عنها بحتى الغائية في قوله: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.{التوبة:29}، ومعنى الصغار هنا ليس التحقير والإذلال وإنما معناه حتى يعطوا الجزية عن طاعة وإذعان للإسلام، ودلالة ذلك دفع هذا المبلغ الزهيد الذي يعبر عن إذعانهم لسلطان الدولة وهو دينار واحد عن البالغ المتكسب. فعن معاذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم -يعني محتلما- دينارا أو عدله من المعافر ثياب تكون باليمن. رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وفي مقابل الجزيه تقوم الدولة بحمايتهم والدفاع عنهم، والكفالة المعيشية للعاجزين منهم، كما فعل سيدنا عمر حين فرض ليهودي محتاج ما يكفيه وعياله من بيت مال المسلمين. فمعنى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ. أي وهم خاضعون لسلطان الدولة منقادون لها غير خارجين عليها لأن تشريع أي دولة وقانونها هو سلطان فوق الجميع مهما اختلفت الأديان أو الأيديولوجيات.
قال ابن القيم في كتابه ( أحكام أهل الذمة ): والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار. اهـ
فدل هذا على أن الأمر بالصغار الوارد في قوله: وهم صاغرون.، لا يتنافى مع ما رأيناه في نصوص الوحي من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام ، ففسره الشافعي وغيره بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة الغالبة.
وفسره التابعي عكرمة مولى ابن عباس بصورة دفع الجزية للمسلمين، فقال: أن يكونوا قياماً، والآخذ لها جلوساً، إذ لما كانت اليد المعطية على العادة هي العالية، طلب منهم أن يشعروا المعطي للجزية بتفضلهم عليه، لا بفضله عليهم.
يقول القرطبي في تفسيره: فجعل يد المعطي في الصدقة عليا، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى، ويد الآخذ عليا.
وقال ابن القيم: لما كانت يد المعطي العليا ويد الآخذ السفلى احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا.اهـ
واعلم أن الذمة معناها الضمان والعهد، أي أنهم في ضمان الله ورسوله وجماعة المسلمين وعهدهم، لا يجوز دينا إخفار ذمتهم، أو نقض عهدهم المؤبد، الذي يصون حرماتهم، ويحفظ دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. والأصل في ذلك هو القاعدة التي يتناقلها المسلمون خاصتهم وعامتهم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
واعلم أن حديث: من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة. رواه الخطيب وأعله وقال : حديث منكر بهذا الإسناد، وحكم ابن الجوزي بوضعه، وقال أحمد: لا أصل له ، وفيه داود الظاهري ، قال الأزدي: تركوه. وفيه عباس بن أحمد الواعظ، قال في الميزان: إنه غير ثقة. كذا قال البيروتي في أسنى المطالب .
وقال ابن القيم في المنار: ومن الأحاديث الباطلة حديث: من بشرني بخروج نيسان ضمنت له على الله الجنة، وحديث من آذى ذميا فقد آذاني. اهـ
وقال الألباني في غاية المرام: من آذى ذميا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله. لا أصل له بهذا اللفظ.
وبهذا تعلم أن ما ذكر ابن كثير ليس متفقا عليه.
وقد سبقت لنا فتاوى عديدة حول ضوابط التعامل مع الكفار، فراجع منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 1367، 3681، 1724، 20632، 3308.
والله أعلم.