عنوان الفتوى : الجزية.. أحكامها.. مقدارها.. وممن تؤخذ منه

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

ورد في الفتوى رقم: 130845 صحة الرواية عن عمر بن الخطاب، وأنه وضع الجزية عن اليهودي الضرير، يرجى توضيح كيفية الجمع بين هذا الخبر، وبين أحاديث النبي المتعددة في تحديد أن الجزية لا تؤخذ إلا من حالم، قادر على حمل السيف، ولا تؤخذ عن الطفل الصغير والكهل والرهبان وما إلى ذلك. فهذا الشيخ الضرير لا تصح أن تؤخذ منه الجزية أصلا حسب ما حددها النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه شيخ أولا، ولأنه ضرير ثانيا. جزاكم الله خيرا.

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فأحكام الجزية كغيرها من الأحكام الشرعية، عليها أدلة إجمالية من القرآن، ثم تبين السنة شيئا من هذا الإجمال، ثم يأتي التفصيل فيها من النظر في باقي الأدلة، كالقياس، وعمل الخلفاء الراشدين، وأقوال الصحابي، والمصالح المرسلة، وغير ذلك. ويتأكد هذا في الأحكام المتعلقة بالسياسة الشرعية، فإن عمل الخلفاء الراشدين فيها يعد أصلا في كثير من مسائلها. ومن ذلك أحكام الجزية، فتفصيلها لم ينص عليه في السنة؛ كما يفهم من كلام السائل: (أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المتعددة في تحديد أن الجزية لا تؤخذ إلا من حالم، قادر على حمل السيف، ولا تؤخذ عن الطفل الصغير والكهل والرهبان)!! فهذا غير صحيح؛ فلم يأت النص على هذا التفصيل في السنة، بل جاء النص فقط على الجملة الأولى منها، وهو شرط البلوغ، كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، أو عدله معاقر. أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم وغيرهم. ومع ذلك فجمهور العلماء على أن ذلك التقيد بهذا القدر (الدينار) غير لازم للإمام.

قال ابن القيم في (أحكام أهل الذمة): الجزية غير مقدرة بالشرع تقديرا لا يقبل الزيادة والنقصان، ولا معينة الجنس. قال الخلال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة أنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص ... وهذا قول سفيان الثوري وأبي عبيد وغيرهم من أهل العلم. وأول من جعل الجزية على ثلاث طبقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جعلها على الغني ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين، وعلى الفقير اثني عشر، وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة. وهذا يدل على أنها إلى رأي الإمام، ولولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع المواضع ولم يجز أن تختلف. وقال البخاري: قال ابن عيينة: عن ابن أبي نجيح قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من أجل اليسار، وقد زادها عمر أيضا على ثمانية وأربعين فصيرها خمسين درهما. واحتج الشافعي رحمه الله تعالى بأن الواجب دينار على الغني والفقير والمتوسط بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدرها بذلك في حديث معاذ رضي الله عنه وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، ولم يفرق بين غني وفقير، وجعلهم ثلاث طبقات، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع من اجتهاد عمر. ونازعه الجمهور في ذلك وقالوا: لا منافاة بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ما فعله عمر رضي الله عنه بل هو من سنته أيضا، وقد قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سنته وسنة خلفائه في الاتباع، فما سنه خلفاؤه فهو كسنته في الاتباع، وهذا الذي فعله عمر رضي الله عنه اشتهر بين الصحابة، ولم ينكره منكر، ولا خالفه فيه واحد منهم ألبتة، واستقر عليه عمل الخلفاء والأئمة بعده، فلا يجوز أن يكون خطأ أصلا. اهـ.
وأنت ترى أن حديث معاذ لا يفرق بين البالغين، فيتناول إطلاقه الشيخ الفاني ونحوه، ولذلك وقع الخلاف في أخذ الجزية من هؤلاء.

قال ابن القيم: لا جزية على شيخ فان، ولا زمن، ولا أعمى، ولا مريض لا يرجى برؤه، بل قد أيس من صحته، وإن كانوا موسرين، وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد أقواله؛ لأن هؤلاء لا يقتلون ولا يقاتلون، فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والذرية.
قال الشافعي في القول الآخر: تجب عليهم الجزية، بناء على أنها أجرة السكنى، وأنهم رجال بالغون موسرون، فلا يقيمون في دار الإسلام بغير جزية، وحديث معاذ يدل عليه بعمومه، وحديث عمر يتناوله بعمومه أيضا، فإنه أمر أن تضرب على من جرت عليه المواسي، وإن الجزية إن كانت أجرة عن سكنى الدار فظاهر، وإن كانت عقوبة على الكفر فكذلك أيضا، فعلى التقديرين: لا يقرون بغير جزية.
وأصحاب القول الأول يقولون: لما لم يكن هؤلاء من أهل القتال لم يكن عليهم جزية كالنساء والصبيان، وقد قال أحمد في رواية عنه: من أطبق بابه على نفسه ولم يقاتل لم يقتل ولا جزية عليه. اهـ.
وعلى ذلك؛ فإن كان إشكال السائل مبنيا على تصور وضوح هذه الأحكام، والنص عليها في السنة، فقد تبين له خطأ ذلك التصور. ويتأكد هذا في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن كثيرا من أحكام الجزية استقرت عند أهل العلم أخذا من اجتهاده وإقرار الصحابة له عليه. ومن ذلك أمره رضي الله عنه لأمراء الأجناد أن لا يأخذوا من صبي ولا امرأة. رواه أبو عبيد وابن زنجويه كلاهما في كتاب الأموال، وسعيد بن منصور والبيهقي في سننيهما.
وأما إن كان السائل قد فهم من عبارة: "وضع الجزية" أن عمر جعل عليه الجزية!  فالمراد بوضعها: إسقاطها ورفعها، وفرق كبير بين قولنا: وضع عنه، وقولنا: وضع عليه. وهذا واضح جلي في سياق القصة، فروى ابن زنجويه في كتاب الأموال بإسناده عن صلة بن زفر قال: أبصر عمر شيخا يسأل، فقال: ما لك؟ فقال: ليس لي مال وأنا تؤخذ مني الجزية. قال: وهو شيخ كبير، فقال عمر: ما أنصفناك إن أكلنا شبيبتك، ثم نأخذ منك الجزية. ثم كتب إلى عماله ألا يأخذوا الجزية من شيخ كبير. اهـ.
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال عن عمر بن عبد العزيز قال: بلغني أن أمير المؤمنين عمر – يعني ابن الخطاب - مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس، فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه. اهـ.
وروى أبو يوسف في كتاب الخراج عن أبي بكرة الثقفي قال: مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه؛ فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. اهـ.
وانظر في مذاهب أهل العلم فيمن تؤخذ منهم الجزية، الفتويين: 209560، 70448.

والله أعلم.