جمال الدين الأفغاني
مدة
قراءة القصيدة :
5 دقائق
.
هَويِتَ لِنُصرةِ الحقّ السُهادا | فلولا الموتُ لم تُطِقِ الرُّقادا |
ولولا الموتُ لم تَتْرُكْ جِهاداً | فَلَلْتَ به الظغاةَ ولا جِلادا |
ولولا الموتُ لم تُفْرِحْ فُرادى | صعَقْتَهُمُ ، ولم تُحزِنْ سودا |
ولولا الموتُ لم يَذهبْ حريقٌ | بيانعةٍ وقد بَلَغتْ حَصادا |
وإنْ كانَ الحدادُ يَرُدُّ مَيتاً | وتَبلُغُ منه ثاكلةٌ مُرادا |
فانَّ الشَّرقَ بينَ غدٍ وأمسٍ | عليكَ بِذِلَّةٍ لبِسَ الحِدادا! |
ترفَّعْ أيُّها النجم المُسَجَّى | وزِد في دارة الشَّرَفِ اتّقادا |
ودُرْ بالفكر في خَلَدِ الليالي | وجُلْ في الكون رأياً مُستعادا |
وكُنْ بالصَّمتِ أبلغَ منك نُطْقاً | وأورى في مُحاجَجةٍ زِنادا |
فانَّ الموتَ أقصرُ قِيدَ باعٍ | بأنْ يَغتالَ فِكراً واعتقادا |
جمالَ الدين ، يا رُوحاً عَليّاً | تنزَّلَ بالرسالة ثمَّ عادا |
تجشَّمْتَ المهالكَ في عَسوفٍ | تجشَّمَهُ سواك فما استَقادا |
طَريقِ الخالدينَ ، فمَنْ تَحامى | مصايرَهُمْ تَحاماه وحادا |
كثير الرُعْبِ بالأشلاء ، غطَّتْ | مَغاورَهُ الجماجِمُ والوِهادا |
جماجِمُ رائِدي شَرَفٍ وحقٍّ | تهاوَوا في مَجاهلهِ ارتْيادا ! |
وأشباحُ الضحايا في طواهُ | على السارينَ تحتشِد احتشادا! |
وفوقَ طُروسه خُطَّتْ سُطورٌ | دمُ الأحرار كان لها مِدادا |
شقَقْتَ فِجاجَهُ لم تخْشَ تَيْهاً | ومَذْئَبةً ، وليلاً ، وانُفرادا |
لأِنَّكَ حاملٌ ما لا يُوازي | بقُوَّتهِ : العقيدةَ والفؤادا! |
وتختلِفُ الدُروبُ وسالكوها | وغايتُها ، دُنوّاً وابتعادا |
ويختلفُ البُناةُ ، ورُبَّ بانٍ | بَنى مِن فِكرةٍ صَرْحاً وشادا |
وأنت ازْدَدْتَ من سُمٍّ زعافٍ | تَذَوَّقَهُ سَواك فما استزادا! |
نضالِ المستبدِّ ، يَرى انكشافاً | عَمايتَه ، وعثرتَه سَدادا |
إذأ استحلىَ غَوايتَه وأصغى | إلى المتزلّفِينَ له تمادى |
خَشِيتَ اللهَ عن علمٍ ، وحقٌّ | إذا لم تَخشَ في الحقّ العبادا |
وجَدْتَ اللذَّةَ الكُبرى فكانت | طريفَ الفِكرِ والهِمَمِ التِلادا |
وأعصاباً تَشُدُّ على الرَّزايا | إذا طاشَتْ وتَغلِبُها اتئادا |
ولمَّا كنتَ كالفجر انبلاجاً | " وكالعنقاء تكْبُرُ أنْ تُصادا" |
مَشَيْتَ بقلبِ ذي لبَدٍ هَصورٍ | " تُعانِدُ من تُريدُ له العِنادا" |
صليبَ العُودِ ، لم يَغمزْكَ خَوفٌ | ولم تَسهُلْ على التَرفِ انعقادا |
ولم تَنزِلْ على أهواء طاغٍ | ولا عمَّا تُريدُ لمِا أرادا |
ولم أرَ في الرجالِ كمُستَمِدٍّ | من الحقِّ اعتزازاً واعتدادا |
وكان مُعسكرانِ : الظُلمُ يَطغى | ومظلومٌ ، فلم تَقفِ الحيِادا |
ولم تحتجَّ أنَّ البَغْيَ جيشٌ | وأنَّ الزاحفينَ له فُرادي |
ولا أنَّ اللياليَ مُحرِجاتٌ | وأنَّ الدَّهَر خصمٌ لا يُعادى |
و أنَّ الأمرَ مرهونٌ بوقتٍ | ينادي حينَ يأْزَفُ لا يُنادى |
مَعاذيرٌ بها ادَّرَعَتْ نُفوسٌ | ضعافٌ تَرهبُ الكُرَبَ الشِّدادا |
تُريدُ المجدَ مُرتميا عليها | جَنىً غَضّاً تَلَقَّفُهُ ازدِرادا! |
جمالَ الدينِ كنتَ وكانَ شَرقٌ | وكانتْ شِرعةٌ تَهَبُ الجْهادا |
وكانت جَنَّةٌ في ظِلِّ سيفٍ | حَمَى الفَردُ الذِمارَ به وذادا |
وإيِمانٌ يقودُ الناسَ طَوعاً | إلى الغَمَراتِ فَتوىً واجتهادا |
وناسٌ لا الحضارةُ دنَّسَتْهُمْ | ولا طالُوا مع الطَمَعِ امتِدادا |
وكانت " عُروةٌ وُثْقَى " تُزَجَّى | لمنقَسِمينَ حُبّاً واتحادا |
ونيَّةُ ساسةٍ بَسُطَتْ فبانت | ووجْهُ سياسةٍ جلَّى وكادا |
وحُكْمٌ كالدَّجى عُريانُ صافٍ | فلم يُنْكِرْ ، إذا انتَسبَ ، السَّوادا |
ولم يُدخِلْ من الألوانِ ظّلاً | يلوذُ به انتقاصاً وازْديادا |
دَجَا قَسْراً وسادَ ، وكان شَهماً | صريحاً أنَّه بالرُّغمِ سادا |
وجِئتَ ورُفقة لك كالدَّراري | لِضُلاَّلٍ بغَيْهَبِه ، رشادا |
تَصُدُّ عُبابَهُ وجهاً لوجهٍ | وتَزْحَمُهُ انْعكاساً وَاطَّرادا |
جمالَ الدينِ كنتَ وكانَ عهدٌ | سُقيتَ لما صمَدْتَ له العِهادا |
نَما واشتطَّ واشتدَّتْ عُراه | وزادَ الصامدونَ لهُ اشتدادا |
مشَتْ خمسونَ بعدَك مرْخياتٍ | أعِنَّتَها ، هِجاناً لا جِياداً |
محَّملةً وسُوقاً من فُجورٍ | وشامخةً كَمُحصَنةٍ تهادى |
تحوَّرَتِ السياسةُ عن مَداها | إلى أنأى مدىً وأقلَّ زادا |
وباتَ الشرق ليلَتَه سَليماً | على حالينِ ما اختَلَفا مُفادا |
على حُكْمين من شَفعٍ وَوتْرٍ | عُصارةُ كلّ ذلك أن ْ يُسادا |
ولُطِّفَتِ الابادةُ ، فهو حُرٌّ | بأيِّ يَدٍ يُفَضِّلُ أنْ يُبادا! |
ومُدَّتْ إصْبَعٌ لذويهِ فيهِ | فعاثَتْ فوقَ ما عاثُوا فَسادا! |
فكَمْ في الشَّرقِ من بَلدٍ جريحٍ | تشَكِّى لا الجروحَ بَلِ الضِّمادا! |
تشَكَّى بَغيَ مُقتادٍ بغيضٍ | تأبَّى أنْ يُطاوعَه انقيادا |
فكانتْ حِيَلةٌ أنْ يَمْتَطيهِ | رضيعُ لِبانه فبغى وزادا |
صَدىً للأجنبيّ ، ورُبَّ قَفْرٍ | أعادَ صدىً فَسُرَّ بما أعادا |
وكان أجلَّ من زُمَرٍ إذا ما | تجَّنى المُستَبيحُ ، بها تفادى |
فكانوا منه في العَوْراتِ سِتراً | وكانوا فوق جمرتهِ رمادا |
تروَّى من مطامعهِ وأبقى | لهم من سُؤر ما وَرَدَ ، الثمادا |
وكان إذا تهضَّمهُ غريبٌ | أقامَ له القيامةَ والمعادا |
فأسلَمَهُ الغريبُ إلى قَريبٌ | يسّخِرُهُ كما شاءَ اضطهادا |
وكان الأجنبيُّ وقد تَولَّى | زمام الأمرِ واغتَصَبَ البلادا |
يرى أدنى الحُقوقِ لهمْ عليه | مُساغَ النقد والكلِم المُعادا |
فأضحوا يحسبونَ النقد فتحاً | لو اسطاعُوا لِما يَصِمُ انتِقادا |
فبئسَ مُنىً لمصفودٍ ذليلٍ | لَوَ انَّ يَديه لم تضَعا الصِفادا |
وبئسْ مَصيرُ مُفَترشينَ جمراً | تَمّنْيهم لو افترَشوا القَتادا! |
وكانوا كالزُّروعِ شََتْ مُحُولاً | فلمَّا استمْطرتْ مُطِرَتْ جرادا! |