رسالة من وراء القضبان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينة ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.

أما بعد:

فهذه رسالة من وراء القضبان لكل من يريد أن يعرف قضية الدعاة والدعوة إلى الله عز وجل.

حملة اعتقالات للدعاة

أيها الأحبة: لقد حدثت -كما تسامع الكثيرون- حملات متعددة من الاعتقالات كان آخرها في غضون هذا الأسبوع شملت مجموعة من الدكاترة والمشايخ والفضلاء، كان من آخرهم فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، وفضيلة الدكتور عبد الله بن حامد الحامد، والدكتور محسن العواجي، وغيرهم من طلبة العلم والشباب، وقد أكون فرداً صغيراً ضمن هذه القافلة المباركة إن شاء الله تعالى.

وحقيقة يعلم الله أني لا أكره مشاركتهم ولا مشاركة غيرهم في هذا الشرف الذي نتوج به رءوسنا وجباهنا؛ لأنني كلما اعتقل شاب من أبناء هذه البلاد المباركة صغيراً أو كبيراً بغير جرمٍ اقترفه، أو ذنب فعله، شعرت وأنا عاجز عن أن أعمل له شيئاً -لأنه ليس هناك مجال للصوت ولا للكلام- شعرت بتوبيخ يجعلني أتمنى أن يكون الأمر علي دون أن يكون على غيري، وأكون في موقف المتفرج عليهم.

ولذلك فإن مثل هذا العمل يدفع عني وعن أمثالي من الإخوة الدعاة والمصلحين إحراجاً كبيراً نواجهه أمام جموع الشباب وغيرهم ممن قد يظنون أننا نتخلى عن قضيتهم، أو أنهم يذهبون بها ويتلقون بعض الأذى، أما نحن فآمنون سالمون في أولادنا وأهلنا، فنحن نقول لهم: نحن معكم في السراء والضراء، ويجب أن نكون قبلكم في كل أمر تتعرضون له أو يتعرض له غيركم، هذا فضلاً عما يعلمه الجميع من أنه منذ فترة ليست بالقصيرة كنا تحت طائلة من الإجراءات الظالمة التي شملت الفصل عن الأعمال، والمنع من الدروس والمحاضرات والخطب والندوات والتسجيلات، وغيرها من الأشياء التي هي مجال الدعوة إلى الله تعالى ووسيلة مخاطبة الناس بما يعتقد الإنسان ويدين.

إن مثل هذه الأشياء التي حدثت كلها لا نعدها شيئاً يذكر بالقياس إلى هذا الطريق الذي سلكناه، والكثير من الإخوة يقدمون أحياناً لوناً من التعزية أو التصبير أو التثبيت، وقد جاءني مرة أحد الشباب من إحدى المناطق -ربما قطع أكثر من خمسمائة كيلو متر- وقال لي: ما أتيت إلا لأقرأ عليك حديث ابن عباس رضي الله عنه: {يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ثم خرج من عندي ومضى لحال سبيله، ولقد كان لهذه الكلمات وقع عظيم حتى كأني أسمعها لأول مرة؛ لأنني سمعتها من إنسان مخلص يتكلم قلبه قبل أن يبين لسانه.

استصغار البلاء واستعظام الحيلولة دون الدعوة

ولكنني أقول لجميع هؤلاء الإخوة: ماذا لقينا أصلاً حتى يطلب منا أن نصبر أو نحتسب؟

فالواقع أن كل ما حصل مهما كان في نظر الناس كبيراً فإنه لا يعنينا في جانبه الشخصي، فلا يعنينا -مثلاً- أن يقطع راتب الإنسان لأن الرزق من عند الله تعالى، ولا يعنينا أن يمنع الإنسان من العمل فإن مجال الدعوة إلى الله واسع رحب لا يتوقف على مجال بعينه ولا على طريق بذاته، اللهم -لا شك- أن الحيلولة بين الإنسان وبين الدعوة، بين الإنسان ومخاطبة الأمة بما يعتقد في قلبه وما يدين، أن الإنسان يرى أن ترك ذلك وأن السكوت عليه خيانة للأمانة التي حملها، بل وخيانة للأمة التي تنتظر من دعاتها، بل من جميع أفرادها حتى ولو كانوا أفراداً عاديين؛ أن يقولوا كلمة الحق، وأن يصدقوا الله تعالى ويبصروا الناس بما يعرفون، كل بحسب وسعه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.

فلا شك أن الحيلولة بين الإنسان والدعوة هو أمر خطير، ولا يمكن السكوت عنه، أو الصبر عليه، أما ما عدا ذلك فهو هين يسير، ماذا خسرنا باستثناء قضية الدعوة؟

في الواقع أن الإنسان ما خسر إلا كما قال لي أحد الإخوة:

حبوب البندول التي كان يتعاطاها بسبب تعب العمل وعنائه ولأوائه، ثم بعد ذلك ارتاح، فإن كان من أهل العبادة فبعد صلاة الفجر قراءة قرآن حتى ترتفع الشمس، ثم صلاة ركعتين، ثم يقبل على أمر الدنيا، وهذا هو الذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعده الدعاة حتى كان ابن تيمية يفعل ذلك ويقول: هذه ضحوتي لو لم أتغدها لم تحملني قواي أو لم تحملني رجلاي، فإن لم يكن منهم وكان من البطالين الكسالى فبعد صلاة الفجر يقبل على عمل، أو راحة، أو ما أشبه ذلك من الأمور، ثم إن الإنسان يرى من الناس من الحفاوة، إن ذهب إلى سوقٍ أو مطارٍ أو مدرسةٍ أو مؤسسةٍ شيئاً يخشى أن يكون أجره عُجِّل له في هذه الدنيا، وألا يكون له عند الله شيء، ويخشى أن يكون هذا من الاستدراج، ويشهد الله تعالى أننا نخشى من ذلك على أنفسنا لما نراه من حرص الإخوان والأحبة بل وسائر الناس على تقديم ما يستطيعون؛ مع أننا نعتقد وندين على أننا لا نستحق ذلك ولا شيئاً منه.

المقصود أننا لم نخسر شيئاً من أمر يتعلق بالدنيا حتى يأتينا من الإخوة -أحياناً- نوع من التسلية أو نوع من العزاء، وإن كان الصبر مأمور به على كل حال.

أيها الأحبة: لقد حدثت -كما تسامع الكثيرون- حملات متعددة من الاعتقالات كان آخرها في غضون هذا الأسبوع شملت مجموعة من الدكاترة والمشايخ والفضلاء، كان من آخرهم فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، وفضيلة الدكتور عبد الله بن حامد الحامد، والدكتور محسن العواجي، وغيرهم من طلبة العلم والشباب، وقد أكون فرداً صغيراً ضمن هذه القافلة المباركة إن شاء الله تعالى.

وحقيقة يعلم الله أني لا أكره مشاركتهم ولا مشاركة غيرهم في هذا الشرف الذي نتوج به رءوسنا وجباهنا؛ لأنني كلما اعتقل شاب من أبناء هذه البلاد المباركة صغيراً أو كبيراً بغير جرمٍ اقترفه، أو ذنب فعله، شعرت وأنا عاجز عن أن أعمل له شيئاً -لأنه ليس هناك مجال للصوت ولا للكلام- شعرت بتوبيخ يجعلني أتمنى أن يكون الأمر علي دون أن يكون على غيري، وأكون في موقف المتفرج عليهم.

ولذلك فإن مثل هذا العمل يدفع عني وعن أمثالي من الإخوة الدعاة والمصلحين إحراجاً كبيراً نواجهه أمام جموع الشباب وغيرهم ممن قد يظنون أننا نتخلى عن قضيتهم، أو أنهم يذهبون بها ويتلقون بعض الأذى، أما نحن فآمنون سالمون في أولادنا وأهلنا، فنحن نقول لهم: نحن معكم في السراء والضراء، ويجب أن نكون قبلكم في كل أمر تتعرضون له أو يتعرض له غيركم، هذا فضلاً عما يعلمه الجميع من أنه منذ فترة ليست بالقصيرة كنا تحت طائلة من الإجراءات الظالمة التي شملت الفصل عن الأعمال، والمنع من الدروس والمحاضرات والخطب والندوات والتسجيلات، وغيرها من الأشياء التي هي مجال الدعوة إلى الله تعالى ووسيلة مخاطبة الناس بما يعتقد الإنسان ويدين.

إن مثل هذه الأشياء التي حدثت كلها لا نعدها شيئاً يذكر بالقياس إلى هذا الطريق الذي سلكناه، والكثير من الإخوة يقدمون أحياناً لوناً من التعزية أو التصبير أو التثبيت، وقد جاءني مرة أحد الشباب من إحدى المناطق -ربما قطع أكثر من خمسمائة كيلو متر- وقال لي: ما أتيت إلا لأقرأ عليك حديث ابن عباس رضي الله عنه: {يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ثم خرج من عندي ومضى لحال سبيله، ولقد كان لهذه الكلمات وقع عظيم حتى كأني أسمعها لأول مرة؛ لأنني سمعتها من إنسان مخلص يتكلم قلبه قبل أن يبين لسانه.

ولكنني أقول لجميع هؤلاء الإخوة: ماذا لقينا أصلاً حتى يطلب منا أن نصبر أو نحتسب؟

فالواقع أن كل ما حصل مهما كان في نظر الناس كبيراً فإنه لا يعنينا في جانبه الشخصي، فلا يعنينا -مثلاً- أن يقطع راتب الإنسان لأن الرزق من عند الله تعالى، ولا يعنينا أن يمنع الإنسان من العمل فإن مجال الدعوة إلى الله واسع رحب لا يتوقف على مجال بعينه ولا على طريق بذاته، اللهم -لا شك- أن الحيلولة بين الإنسان وبين الدعوة، بين الإنسان ومخاطبة الأمة بما يعتقد في قلبه وما يدين، أن الإنسان يرى أن ترك ذلك وأن السكوت عليه خيانة للأمانة التي حملها، بل وخيانة للأمة التي تنتظر من دعاتها، بل من جميع أفرادها حتى ولو كانوا أفراداً عاديين؛ أن يقولوا كلمة الحق، وأن يصدقوا الله تعالى ويبصروا الناس بما يعرفون، كل بحسب وسعه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.

فلا شك أن الحيلولة بين الإنسان والدعوة هو أمر خطير، ولا يمكن السكوت عنه، أو الصبر عليه، أما ما عدا ذلك فهو هين يسير، ماذا خسرنا باستثناء قضية الدعوة؟

في الواقع أن الإنسان ما خسر إلا كما قال لي أحد الإخوة:

حبوب البندول التي كان يتعاطاها بسبب تعب العمل وعنائه ولأوائه، ثم بعد ذلك ارتاح، فإن كان من أهل العبادة فبعد صلاة الفجر قراءة قرآن حتى ترتفع الشمس، ثم صلاة ركعتين، ثم يقبل على أمر الدنيا، وهذا هو الذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعده الدعاة حتى كان ابن تيمية يفعل ذلك ويقول: هذه ضحوتي لو لم أتغدها لم تحملني قواي أو لم تحملني رجلاي، فإن لم يكن منهم وكان من البطالين الكسالى فبعد صلاة الفجر يقبل على عمل، أو راحة، أو ما أشبه ذلك من الأمور، ثم إن الإنسان يرى من الناس من الحفاوة، إن ذهب إلى سوقٍ أو مطارٍ أو مدرسةٍ أو مؤسسةٍ شيئاً يخشى أن يكون أجره عُجِّل له في هذه الدنيا، وألا يكون له عند الله شيء، ويخشى أن يكون هذا من الاستدراج، ويشهد الله تعالى أننا نخشى من ذلك على أنفسنا لما نراه من حرص الإخوان والأحبة بل وسائر الناس على تقديم ما يستطيعون؛ مع أننا نعتقد وندين على أننا لا نستحق ذلك ولا شيئاً منه.

المقصود أننا لم نخسر شيئاً من أمر يتعلق بالدنيا حتى يأتينا من الإخوة -أحياناً- نوع من التسلية أو نوع من العزاء، وإن كان الصبر مأمور به على كل حال.

بعض الإخوة حدثوني حديث المشفق الخائف بعد ما عرفوا أني أستقبل الضيوف في أوقات الصلوات في مسجدي، وفي يوم الخميس ليلة الجمعة من كل أسبوع ما لم أكن مسافراً أو مشغولاً، ويتجمع عندي أعداد الشباب من مناطق مختلفة يزيدون أو ينقصون، ومن الطبيعي حين يجلسون يستمعون فإننا لن نتحدث بلغة الإشارات أو بلغة الصمت، بل سأتحدث ويسمعون، وسأجيب حين يسألون، هذا أمر طبيعي وحق مكفول لكل إنسان -لا أقول لي- في شرائع السماء كلها، بل وفي قوانين الأرض أيضاً، مع أن المرجع هو إلى شريعة الله تعالى الخاتمة المنـزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، فعدد من الإخوة كانوا مشفقين علي، ويقولون: نخشى أن ينالك من ذلك ضرر.

وأقول للإخوة الآن علانية كما كنت أقول لهم سراً من قبل حين يسألونني: إن تعرض الإنسان للسجن فهذا أمر طبيعي، فوالله يوم أوقفت عن الدروس والمحاضرات كنت قبل الإيقاف أحدث الإخوة بأنه أمر طبيعي أن يوقف الإنسان وإن لم يكن شرعياً ولا مقبولاً؛ لكن من الطبيعي أن يتعرض أي داعية أو مصلح أنا أو الشيخ سفر أو غيرنا من الدعاة -نسأل الله أن يجعلنا كذلك- أن يتعرض لمثل هذه الأمور.

وضع الداعية للأذى في اعتباره قبل وقوعه

ولا زلت أقول بعد ما حصلت هذه الجلسات في المنـزل: إنني كنت واضعاً في اعتباري أنه ربما يترتب على ذلك ما يترتب عليه من آثار، أي قيمة وأي معنىً لوجود الإنسان إذا كان من غير رسالة يحملها ويؤديها؟!

هب أنك حر طليق تأكل وتشرب وتنام وتذهب وتجيء لكنك لا تقوم بأداء المسئولية العلمية والشرعية والاجتماعية التي تشعر أن الله تعالى حملكها ووضعها على عاتقك بحسب ما أعطاك: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165].

إذاً ليس في الأمر غرابة، والسجن أمر طبيعي مألوف، ويجب أن نضع في اعتبارنا -يا كل المخلصين، ويا كل الصادقين، ويا كل دعاة الإصلاح، سواء أسرَّوا أو أعلنوا- يجب أن نضع في اعتبارنا أن الفساد المتجذر في مجتمعنا وفي جميع مجتمعات المسلمين بنسب متفاوتة؛ فساد يضرب برواقه على كل مجالات الحياة بدون استثناء، فساد في مجال التعبد، وفي مجال الأخلاق، وفي مجال السلوك، وفي المعاملات، فساد في الاقتصاد والسياسة والإعلام والتعليم.

إن هذا الفساد الشامل يتطلب إصلاحاً كاملاً، ومن الخطأ أن نتصور أن الإصلاح سيتم عن طريق مجرد الكلام، أو مجرد أن نحمل قلوباً طيبة، أو تصورات سليمة فقط دون أن نتحمل في سبيل الكلمة التي قلناها أو التصور الذي حملناه ولو بعض الأذى والعناء!

إن هذا الفساد الموجود -والذي لا يشك فيه أحد على الإطلاق وإن اختلفت الطرق في إصلاحه- له أنصار كثيرون، وله متحمسون، وسدنة، وله أرباب من البشر يرون بقاءهم في بقائه، ووجودهم بوجوده، وأن زواله كشف لهم، ولذلك فهم ضد كل مصلح يسعون إلى التأليب عليه ويحاربونه بكل وسعهم، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فهذه سنة الله تعالى.

أقول: لا غرابة وإن كانوا ملومين لمخالفتهم شريعة الله ومخالفتهم للحق والله تعالى يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31] وكذلك يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112].

إذاً الصراع صراع بين الحق والباطل، بين الإصلاح والفساد، بين الهدى والضلال، بين العدل والظلم، وهو صراع أزلي، ولابد أن نوقن ونعتقد بأن أي داعية إصلاح يحتاج إلى أن يبرهن على صدقه وإخلاصه، وأنه لا يريد مطمعاً دنيوياً، وأنه صادق في دعوته، وأنه مستعد أن يبذل ويضحي في سبيلها، لا بد أن يبذل ما يكون عربوناً وبرهاناً للناس فيكون ذلك شاهد عدل على ما سمعوه بآذانهم.

ربما يسمع الناس كلاماً معسولاً جميلاً في الأشرطة والمحاضرات والدروس، أو في البرامج أو الندوات وغيرها، وربما يكون الكلام بحد ذاته حلواً مؤثراً مقبولاً؛ لكن ما هو البرهان على أن هذا المتكلم صادق فيما يقول؟ وما هو البرهان على أنه مخلص؟ وما هو البرهان على أنه متجرد عن الهوى؟ وما هو البرهان على أنه بقدر الكلام الذي يقوله؟

البرهان هو أن يعزز قوله بفعله، وأن يصبر ويصابر، وأن يتحمل مسئولية الكلمة التي قالها مهما كلفه ذلك من تضحيات، فينبغي أن نضع ذلك في بالنا، وما لم يكن الأمر كذلك فإنه لا يتصور أبداً أن يقع إصلاح أو تعديل حقيقي.

إننا نعلم جميعاً أن إصلاح خلل جزئي في مكان معين: في مدرسةٍ، أو شخص غير كفء، أو في أي وضع من الأوضاع مهما كان يسيراً، هذا الإصلاح يتطلب مجهوداً ضخماً، وقد ينجح وقد لا ينجح، فكيف نتصور أن إصلاح الأمة كلها في مجالاتها وأنشطتها المختلفة أنه لن يكلفنا أكثر من كلمة نقولها، أو ورقة نكتبها، أو برنامج نقدمه، أو شريط نسجله، هذا لا يمكن أن يكون.

ثم إننا نعلم جميعاً أن الغش والفساد محرم في كتاب الله تعالى وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في أصغر الأمور، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يبيع تمراً فلما قلبه وجد أن أسفل التمر قد أصابه الماء، فقال: {ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا} كما في صحيح مسلم، فإذا كان الغش في زنبيل من التمر أو غيره حرام، بل يصل إلى أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم فاعله بأنه يخرج من سيماء المؤمنين وعلاماتهم وأوصافهم، فما بالك إذا بدأت الأمة كلها تمارس الغش في مؤسساتها ومجالاتها المختلفة وجوانبها! فحينئذٍ يكون السكوت عن ذلك نكولاً عن الحق، وتراجعاً وضعفاً وخوراً، ولا يمكن أن ينجو من العذاب قوم هذا شأنهم، إلا أن يصدعوا بالحق، ويصيحوا في الناس، فحينئذٍ تكون النجاة بإذن الله تعالى للجميع، كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] فإذا كنا مصلحين نجونا من عذاب الله تعالى، وإلا ألم بنا العذاب وحلت بنا الكارثة.

ولا زلت أقول بعد ما حصلت هذه الجلسات في المنـزل: إنني كنت واضعاً في اعتباري أنه ربما يترتب على ذلك ما يترتب عليه من آثار، أي قيمة وأي معنىً لوجود الإنسان إذا كان من غير رسالة يحملها ويؤديها؟!

هب أنك حر طليق تأكل وتشرب وتنام وتذهب وتجيء لكنك لا تقوم بأداء المسئولية العلمية والشرعية والاجتماعية التي تشعر أن الله تعالى حملكها ووضعها على عاتقك بحسب ما أعطاك: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165].

إذاً ليس في الأمر غرابة، والسجن أمر طبيعي مألوف، ويجب أن نضع في اعتبارنا -يا كل المخلصين، ويا كل الصادقين، ويا كل دعاة الإصلاح، سواء أسرَّوا أو أعلنوا- يجب أن نضع في اعتبارنا أن الفساد المتجذر في مجتمعنا وفي جميع مجتمعات المسلمين بنسب متفاوتة؛ فساد يضرب برواقه على كل مجالات الحياة بدون استثناء، فساد في مجال التعبد، وفي مجال الأخلاق، وفي مجال السلوك، وفي المعاملات، فساد في الاقتصاد والسياسة والإعلام والتعليم.

إن هذا الفساد الشامل يتطلب إصلاحاً كاملاً، ومن الخطأ أن نتصور أن الإصلاح سيتم عن طريق مجرد الكلام، أو مجرد أن نحمل قلوباً طيبة، أو تصورات سليمة فقط دون أن نتحمل في سبيل الكلمة التي قلناها أو التصور الذي حملناه ولو بعض الأذى والعناء!

إن هذا الفساد الموجود -والذي لا يشك فيه أحد على الإطلاق وإن اختلفت الطرق في إصلاحه- له أنصار كثيرون، وله متحمسون، وسدنة، وله أرباب من البشر يرون بقاءهم في بقائه، ووجودهم بوجوده، وأن زواله كشف لهم، ولذلك فهم ضد كل مصلح يسعون إلى التأليب عليه ويحاربونه بكل وسعهم، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فهذه سنة الله تعالى.

أقول: لا غرابة وإن كانوا ملومين لمخالفتهم شريعة الله ومخالفتهم للحق والله تعالى يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31] وكذلك يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112].

إذاً الصراع صراع بين الحق والباطل، بين الإصلاح والفساد، بين الهدى والضلال، بين العدل والظلم، وهو صراع أزلي، ولابد أن نوقن ونعتقد بأن أي داعية إصلاح يحتاج إلى أن يبرهن على صدقه وإخلاصه، وأنه لا يريد مطمعاً دنيوياً، وأنه صادق في دعوته، وأنه مستعد أن يبذل ويضحي في سبيلها، لا بد أن يبذل ما يكون عربوناً وبرهاناً للناس فيكون ذلك شاهد عدل على ما سمعوه بآذانهم.

ربما يسمع الناس كلاماً معسولاً جميلاً في الأشرطة والمحاضرات والدروس، أو في البرامج أو الندوات وغيرها، وربما يكون الكلام بحد ذاته حلواً مؤثراً مقبولاً؛ لكن ما هو البرهان على أن هذا المتكلم صادق فيما يقول؟ وما هو البرهان على أنه مخلص؟ وما هو البرهان على أنه متجرد عن الهوى؟ وما هو البرهان على أنه بقدر الكلام الذي يقوله؟

البرهان هو أن يعزز قوله بفعله، وأن يصبر ويصابر، وأن يتحمل مسئولية الكلمة التي قالها مهما كلفه ذلك من تضحيات، فينبغي أن نضع ذلك في بالنا، وما لم يكن الأمر كذلك فإنه لا يتصور أبداً أن يقع إصلاح أو تعديل حقيقي.

إننا نعلم جميعاً أن إصلاح خلل جزئي في مكان معين: في مدرسةٍ، أو شخص غير كفء، أو في أي وضع من الأوضاع مهما كان يسيراً، هذا الإصلاح يتطلب مجهوداً ضخماً، وقد ينجح وقد لا ينجح، فكيف نتصور أن إصلاح الأمة كلها في مجالاتها وأنشطتها المختلفة أنه لن يكلفنا أكثر من كلمة نقولها، أو ورقة نكتبها، أو برنامج نقدمه، أو شريط نسجله، هذا لا يمكن أن يكون.

ثم إننا نعلم جميعاً أن الغش والفساد محرم في كتاب الله تعالى وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في أصغر الأمور، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يبيع تمراً فلما قلبه وجد أن أسفل التمر قد أصابه الماء، فقال: {ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا} كما في صحيح مسلم، فإذا كان الغش في زنبيل من التمر أو غيره حرام، بل يصل إلى أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم فاعله بأنه يخرج من سيماء المؤمنين وعلاماتهم وأوصافهم، فما بالك إذا بدأت الأمة كلها تمارس الغش في مؤسساتها ومجالاتها المختلفة وجوانبها! فحينئذٍ يكون السكوت عن ذلك نكولاً عن الحق، وتراجعاً وضعفاً وخوراً، ولا يمكن أن ينجو من العذاب قوم هذا شأنهم، إلا أن يصدعوا بالحق، ويصيحوا في الناس، فحينئذٍ تكون النجاة بإذن الله تعالى للجميع، كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] فإذا كنا مصلحين نجونا من عذاب الله تعالى، وإلا ألم بنا العذاب وحلت بنا الكارثة.

أيها الأحبة: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] ماذا يريد الدعاة؟ هل طلبوا مالاً، أو منصباً، أو وظيفة، أو رتبة؟ كلا والله! وإنني أقول والأمر يستدعي أن يقال هذا الكلام، وهو في نفوسنا يجمجم منذ زمن بعيد؛ لكن آن الأوان أن يقال: والله إن هذه الأشياء كلها ليس لها عندنا من وزن ولا قيمة، وليست في برنامجنا أو اعتبارنا ولا في ميزاننا كأشخاص، فلا يعنينا هذا الأمر قط، ولو أراده إنسان لعرف أن الطريق إليه سهل، فليس هو مكلفاً أو مؤذياً، بل الأمر كما قال الله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام:90] فنحن ندعو إلى إصلاح أحوال الناس كلها، وإلى إتاحة المجال للدعوة إلى الله تعالى، والكلمة الحرة الصادقة المنضبطة بضابط الشرع، يقولها داعية، أو خطيب، أو إعلامي صحفي، أو كاتب، أو شاعر، أو ناثر، أو معلم، أو موظف، ندعو إلى أن يتمكن الناس من التعبير عن الحق الذي يعتقدونه، والمشاركة في الإصلاح لهذه الأمة التي تحيط بها الأخطار والفتن من كل جانب.

الأخطار المحيطة بالأمة تقتضي الإفصاح والإصلاح

إنه لم يعد يخفى على أحد أن مجتمعنا هاهنا ومجتمعات المسلمين عامة أصبحت جزيرة في بحر متلاطم، فالأخطار كبيرة جداً، واليوم كنت أقرأ في بعض الجرائد أن الرئيس الأمريكي يستقبل من يسميهم ببذور السلام، وهم مجموعة من أطفال وصبيان العرب واليهود يزيدون على مائة أخذوا في جولة طويلة في أمريكا، يربون على مسخ جميع ألوان التميز والاستقلال والاعتقاد والانتماء؛ ليكونوا قوماً -فيما يعتقدون ويعلنون- ليس بينهم عداوة كما يزعمون ويعبرون، هم بذور السلام، وسيكون العداء بينهم قي المستقبل -كما يعبر الرئيس الأمريكي- مجرد ذكرى قديمة نسوها ومضت عليها الأيام والليالي، هذا جانب.

جانب محاولة تحويل المنطقة إلى سوق للبضائع اليهودية مثلاً، سواء أكانت هذه البضائع بضائع فكرية ثقافية، أم إعلامية، أم أمنية، أم تجارية، أم غير ذلك.

جانب تحويل بلاد المسلمين إلى مجرد أتباع ضعفاء لا يعلم بهم، ولا يقام لهم وزن في هذا المعسكر أو ذاك، لهذه الدولة أو تلك.

جانب تحويل المسلمين وجعلهم عبارة عن قطيع يساق إلى مرعاه، ولا يدري إلى أين يسافر، وليس من حق الواحد أن يعبر ولا أن يتكلم ولا أن يبدي رأيه، بل عليه أن يبصم على كل شيء، ويؤيد كل شيء، ويوافق على كل شيء، وألا يعترض، وإلا فإنه يكون حينئذٍ قد وضع نفسه تحت طائلة العقاب والتأديب والتشهير والأذية وتسلط الأجهزة الأمنية إلى غير ذلك مما هو معروف.

وهذا الطريق صد عن سبيل الإصلاح، ويراد به وضع العراقيل والعقبات أمام أي إصلاح؛ سواء أكان إصلاح فرد أم تيار بحيث إن الناس يرون أن الطريق صعب وشاق ويرجعون -كما يقال- وأول الدرج، من أول السلم.

الكبت للحريات وتكميم الأفواه يتحول حقداً

إذاً المهمة هي مهمة إصلاح أوضاع الناس، حتى أوضاع الناس الدنيوية، فالكثيرون يتحدثون في مجالسهم وخصوصياتهم عما يشعرون به من فقدان العدل الاجتماعي، ومن سحق كثير من الطبقات، وأنهم لا يجدون حقوقهم في المال العام، في الوظائف، وفي المخصصات، ولا يجدون حقوقهم في الفرص التي هي في الأصل حقوق مشتركة للأمة يتساوى فيها الجميع، يشتكي من ذلك المزارع، ويشتكي منه الموظف الصغير والمتوسط، ويشتكي منه الطلاب، والمتخرجون، ويشتكي منه ألوان وأصناف من الناس، وكثير من رجال البادية، وكثير من أهل المناطق المختلفة المتباينة وغيرهم، فالجميع يتحدثون عن ذلك.

فبالله! من هو المستفيد من أن تظل هذه الأشياء مجرد مشاعر دفينة في النفوس تتحول إلى أحقاد بغضاء وتدمير للمجتمع، دون أن تعطى فرصة على الأقل للتنفيس؟! ماذا يضرك أن تعطي الناس مجالاً للتنفيس عما في نفوسهم؟ ربما شعر لو تحدث أنه وضع عن ظهره حملاً ثقيلاً وعبئاً جليلاً ينوء به، وما يضيرك أن يتحدث عنك الناس؟ بل ماذا يضير أن يتحدثوا ويأخذ من كلامهم النافع المفيد ليكون نبراساً؟ فإننا لا نعتقد أن أحداً يملك أن يصلح الأمة وهي فاسدة أو نائمة، بل ولا أحد يستطيع ذلك لو أراده، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يريده إلا دعاة الإصلاح الذين يشهد الناس لهم بذلك، أما مجرد أن أدعي -أنا أو غيري- ذلك، فهذه دعوى لا تصدق ولا تكذب إلا من خلال الواقع الذي يمكن أن يحكم لها أو عليها.

الغرض الإصلاح لاحظ النفس، والحرية حق الجميع

فالدعاة إلى الله تعالى يبرءون من جميع المصالح والحظوظ الشخصية، بل هم يتنازلون عن حقوقهم الخاصة من مرتبات أو أعمال أو أموال أو وظائف، فإنهم لا يطالبون بها ولا يرون أنها بالنسبة لهم قضية تستحق أن يثار حولها كلام طويل، وليس يضيرهم ولا يزعجهم هذا، وليست قضيتهم أن يوجد من يعتدي عليهم أو من يؤذيهم أو يسجنهم أو يتجسس عليهم أو يطاردهم، هذه أيضاً ليست هي قضية الدعاة أبداً.

إنما الدعاة يطالبون بقضية تخص الأمة والبلاد من شرقها إلى غربها، تخص المنطقة الجنوبية وتخص المنطقة الشمالية، وكما تخص المنطقة الشرقية كما تخص المنطقة الغربية، وتخص المنطقة الوسطى، بل إنها تخص هذه البلاد وتعم كل مسلم يعنيه أمر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

فالقضية هي قضية الامتثال لشريعة الله تعالى التي جاءت بالعدل وجاءت بالمساواة، وجاءت برفع الظلم، وجاءت بتحقيق المطالب الإنسانية، وجاءت بحفظ كرامة الإنسان وحقه، فلا يُعتدى عليه ولا يظلم ولا يبخس حقه، ولا يهضم، ولا يتجسس عليه، ولا يوقف بغير بينة وبغير نص، ولا يحقق معه إلا بنص، ولا يحق لأحد أن يتجسس عليه أو يتلصص على مكالماته، أو خصوصياته أو مراسلاته، أو محادثاته، إلى غير ذلك، ليس الدعاة بل الأمة كلها، كل إنسان مسلم ومواطن من المسلمين له هذا الحق.

ولذلك فليست قضية الدعاة قضية شخصية وإنما هي قضية تهم الأمة كلها من أولها إلى آخرها، أما الدعاة فقد آن الأوان ليعلنوها للناس كلمة صريحة، العدو والصديق.. القريب والبعيد.. الحاكم والمحكوم.. من يعرفهم ومن لا يعرفهم: لا نسألكم عليه من أجر، لا نسألكم عليه مالاً.

إن رأيتمونا يوماً من الأيام طلاب جاه، أو طلاب شهرة، أو طلاب منصب، أو طلاب مال، أو طلاب وظيفة، فاحثوا في وجوهنا التراب، واعتبروا هذا آية على عدم مصداقية ما ندعو إليه، نحن دعاة حق نرى أنه يجب أن يدعو إليه الجميع، ويجب أن يلتف عليه الجميع، ويجب ألا تسقط هذه الراية بحال من الأحوال، لأنها الراية التي تسعى إلى إعادة الحقوق إلى أهلها، سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً معنوية، مثل كون الإنسان يعرف ما يخصه، هو فرد من الأمة له الحق أن يعرف لماذا حصل كذا، ولماذا اتخذت الأمة هذا الموقف، ولماذا حاربت هذا، ولماذا سالمت هذا، ولماذا عادت هذا، وما هي الأشياء التي ستفعلها، هو فرد من الأمة من حقه أن يعرف ما يخصه، ولا يجوز أبداً أن يعتم عليه، أو يضلل، أو يعمى؛ بحيث يعتبر أنه قاصر العقل، والفكر، ليس على مستوى أن يدرك أو يفهم، ولهذا ينبغي أن تكون الأمور في ظنهم أسراراً وطلاسم لا يعرفها إلا نفر قليل، أما الباقون فمن حقهم أن يقرءوا -مثلاً- في الجرائد أو يسمعوا من الإذاعة، وما قرأوا أو سمعوا، فليعتبروا أن هذا هو الكلام الذي يجب أن يقوله حتى لو لم يؤمنوا به ولو لم يصدقوه، ويجب أن يرددوه ويجيبوا به.

إذاً أين عقول الأمة؟ أين أفكار الأمة؟ أين المختصون؟ بل أين الآلاف المؤلفة من الدكاترة والفضلاء والأساتذة وطلاب الجامعات والمتخرجين الذين بذلت أموال طائلة من أجل إعدادهم وتعليمهم وتخريجهم؟ فما معنى -بعد ذلك- أن يحازوا ويحصروا ويقال لهم: إن عقولكم في إجازة مفتوحة، ليس من حقكم أن تفهموا، ولا أن تسألوا، وتناقشوا، وتشاركوا، ولا أن تشيروا، هذه مصادرة لحقوق معنوية كبيرة للأمة لأن الإنسان إنسانيته ليست بجسمه، كما قال القائل:

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

وقول الله أبلغ: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].

المشاركة حق كل فرد وليس الصواب حكراً على أحد

فالله تعالى كرم الإنسان بالعقل، فلماذا نجعل هذا العقل في إجازة مفتوحة؟ ونفترض أن جماهير الناس ليست على مستوى أن تفهم الأحداث، ولا أن تشارك فيها أو أن تشير!!

من أين جاء هذا المعنى الغريب عن الأمة التي رباها النبي صلى الله عليه وسلم على المشاركة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصعد على المنبر فيتحدث مع الناس في أي قضية من القضايا، يصعد المنبر -مثلاً- فيتكلم في حادثة الإفك، يصعد المنبر ويقول: أشيروا عليَّ أيها الناس، في قضية بدر أو أحد، في المعارك التي تخوضها الأمة، في المواقف المختلفة، حتى في قضية توزيع المال، عندما يتكلم الناس يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول: {يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟! ألم أجدكم ضلالاً... } إلى آخر الحديث المعروف وهو في الصحيحين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه من بعده وخلفاؤه الراشدون، والخلفاء المسلمون يعتبرون الأمة مسئولة معهم كما يحتاجونها في حال الشدة، فلذلك كانوا يشركونها في مثل هذه الأمور ولا يصادرون رأيها أو قناعتها.

نعم لا بد من ضوابط لذلك، ولا بد من قنوات؛ لكن أين هذه القنوات، وأين هذه الضوابط، وأين هذه الفرص التي تجعل للناس على الأقل ولو قلنا لنخبة من الناس مجالاً أن يعبروا عن رأي أو اجتهاد قد ينفع الله به، وقد يكون سبباً في دفع أذى أو ضر عن البلاد والعباد؟!

إن الله تعالى لم يجعل الصواب حكراً على فئة بعينها ولا شخص بذاته، حتى ولو كان عالماً جليلاً، أو ذكياً نبيلاً، أو عبقرياً فذاً، أو شهيراً خطيراً، فإنه قد يوجد الحق والرأي السداد عند عامة الناس فضلاً عن خاصتهم.

إذاً هذه الحقوق التي يمكن أن نعبر عنها بالحقوق المعنوية إضافة إلى الحقوق المادية التي يتكلم الناس كلهم عنها من تجار ومزارعين ومتوسطين، وموظفين وغير هم ممن حرموا كثيراً من حقوقهم، أو سدت في وجههم أبواب الوظيفة، أو سدت في وجههم أبواب العمل الحر الذي يسددون به ديونهم، أو ينفقون به على أزواجهم وأولادهم، أو على الأقل ينفذون به ما أباح الله تعالى وأحل لهم: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة:275] فلماذا يمنعون هؤلاء من ذلك في الوقت الذي تجد الكثير منهم قد يجدون أنفسهم محتاجين أو مضطرين فيما يعتقدون إلى أن يستدينوا من البنوك بفوائد ربوية، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة:275] لكنهم يرون أنه ليس لهم مخرج إلا ذلك، والواقع أن المخارج المباحة كثيرة.

إنه لم يعد يخفى على أحد أن مجتمعنا هاهنا ومجتمعات المسلمين عامة أصبحت جزيرة في بحر متلاطم، فالأخطار كبيرة جداً، واليوم كنت أقرأ في بعض الجرائد أن الرئيس الأمريكي يستقبل من يسميهم ببذور السلام، وهم مجموعة من أطفال وصبيان العرب واليهود يزيدون على مائة أخذوا في جولة طويلة في أمريكا، يربون على مسخ جميع ألوان التميز والاستقلال والاعتقاد والانتماء؛ ليكونوا قوماً -فيما يعتقدون ويعلنون- ليس بينهم عداوة كما يزعمون ويعبرون، هم بذور السلام، وسيكون العداء بينهم قي المستقبل -كما يعبر الرئيس الأمريكي- مجرد ذكرى قديمة نسوها ومضت عليها الأيام والليالي، هذا جانب.

جانب محاولة تحويل المنطقة إلى سوق للبضائع اليهودية مثلاً، سواء أكانت هذه البضائع بضائع فكرية ثقافية، أم إعلامية، أم أمنية، أم تجارية، أم غير ذلك.

جانب تحويل بلاد المسلمين إلى مجرد أتباع ضعفاء لا يعلم بهم، ولا يقام لهم وزن في هذا المعسكر أو ذاك، لهذه الدولة أو تلك.

جانب تحويل المسلمين وجعلهم عبارة عن قطيع يساق إلى مرعاه، ولا يدري إلى أين يسافر، وليس من حق الواحد أن يعبر ولا أن يتكلم ولا أن يبدي رأيه، بل عليه أن يبصم على كل شيء، ويؤيد كل شيء، ويوافق على كل شيء، وألا يعترض، وإلا فإنه يكون حينئذٍ قد وضع نفسه تحت طائلة العقاب والتأديب والتشهير والأذية وتسلط الأجهزة الأمنية إلى غير ذلك مما هو معروف.

وهذا الطريق صد عن سبيل الإصلاح، ويراد به وضع العراقيل والعقبات أمام أي إصلاح؛ سواء أكان إصلاح فرد أم تيار بحيث إن الناس يرون أن الطريق صعب وشاق ويرجعون -كما يقال- وأول الدرج، من أول السلم.

إذاً المهمة هي مهمة إصلاح أوضاع الناس، حتى أوضاع الناس الدنيوية، فالكثيرون يتحدثون في مجالسهم وخصوصياتهم عما يشعرون به من فقدان العدل الاجتماعي، ومن سحق كثير من الطبقات، وأنهم لا يجدون حقوقهم في المال العام، في الوظائف، وفي المخصصات، ولا يجدون حقوقهم في الفرص التي هي في الأصل حقوق مشتركة للأمة يتساوى فيها الجميع، يشتكي من ذلك المزارع، ويشتكي منه الموظف الصغير والمتوسط، ويشتكي منه الطلاب، والمتخرجون، ويشتكي منه ألوان وأصناف من الناس، وكثير من رجال البادية، وكثير من أهل المناطق المختلفة المتباينة وغيرهم، فالجميع يتحدثون عن ذلك.

فبالله! من هو المستفيد من أن تظل هذه الأشياء مجرد مشاعر دفينة في النفوس تتحول إلى أحقاد بغضاء وتدمير للمجتمع، دون أن تعطى فرصة على الأقل للتنفيس؟! ماذا يضرك أن تعطي الناس مجالاً للتنفيس عما في نفوسهم؟ ربما شعر لو تحدث أنه وضع عن ظهره حملاً ثقيلاً وعبئاً جليلاً ينوء به، وما يضيرك أن يتحدث عنك الناس؟ بل ماذا يضير أن يتحدثوا ويأخذ من كلامهم النافع المفيد ليكون نبراساً؟ فإننا لا نعتقد أن أحداً يملك أن يصلح الأمة وهي فاسدة أو نائمة، بل ولا أحد يستطيع ذلك لو أراده، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يريده إلا دعاة الإصلاح الذين يشهد الناس لهم بذلك، أما مجرد أن أدعي -أنا أو غيري- ذلك، فهذه دعوى لا تصدق ولا تكذب إلا من خلال الواقع الذي يمكن أن يحكم لها أو عليها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع