أفرأيت من اتخذ إلهه هواه


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بعثه بالهدى، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأصفياء، وأصحابه الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على نهجهم واقتفى.

أما بعـد:

فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

أيها الإخوة: أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

إن هذا التقديم الذي قدم به فضيلة الشيخ مرحباً ومبدياً التحايا والترحيبات -وقبل ذلك لقيت ترحيباً حاراً غمرني وأخجلني- من أهل هذا البلد المضياف الطيب الكريم، وهو غير مستغرب منهم ولا فيهم، فهم أهل الكرم والخير والفضل، فشكر الله لهم، وأجزل لهم المثوبة، وأخص بالذكر-: (ومن لا يشكر الناس، لا يشكر الله ) كما جاء في الحديث- نادي مرخ الرياضي، فقد كنا باستضافته الليلة الماضية ولا زلنا، ورأينا فيه أموراً طيبةً ومشجعة، فحق على أهل العلم، وعلى أهل الدعوة أن يشاركوا بتوجيههم في مسيرته الطيبة الخيرة، ليكون على النحو المرضي الذي يسر أهل الخير، فلهم مني خالص الشكر وجميل الثناء.

أيها الإخوة: الحديث الذي رُغب مني أن أتقدم به إليكم، وهي كلمات في هذا البيت من بيوت الله، حول الهوى - ونعوذ بالله من اتباع الهوى- وقد قدم فضيلة الشيخ، وأشار إلى عظم هذه المسألة، وأهمية هذا الأمر، وقد سمى الله عز وجل بعض المتبعين للهوى أنهم قد اتخذوه إلهاً في آيات كثيرة.

ومن هنا فإن هذا الحديث سوف يكون مشتملاً على عدة أمور لعل فيها جمعاً لهذا الموضوع، وإلا فهو واسع، ومن هذه الأمور التي سوف تعرض في هذا اللقاء استعراض بعض الآيات في الهوى، واتباعه والتحذير منه ولا سيما أهله، ومنه كذلك تقرير أن حق الاختيار، وحق الأمر والنهي هو لله وحده.

فإذا تقرر هذا وعلم المسلم أن الله وحده له حق الخلق، فليعلم أن الله وحده له حق الاختيار، قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

وهذا الأمر إذا استقر في النفوس، واستيقنته القلوب، حينئذٍ يتبين كيف يصيب الشطط أصحاب الهوى، وأتباع الهوى، ثم بعد ذلك نتكلم عن الاستجابة لله ولرسوله، وأنه لا تتحقق الاستجابة إلا بالتجرد من الهوى، وأن من انقاد إلى الهوى فقد جانب الاستجابة لله ولرسوله بمقتضى قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50].

ثم بعد ذلك نشير إلى شيء من الشهوات والشبهات الصادة عن سبيل الله عز وجل، والقائدة إلى الهوى، ثم نبين مواطن يتبين فيها امتحان الهوى، وكيف يتحسس المسلم هل هو متبع لهواه أم ليس متبعاً لهواه، ثم النقطة الأخيرة لصور من اتباع الهوى، بحيث إنه حينما يشعر بها المسلم ويراها يكون عنده ميزان، هل هو متبعٌ لرغبات نفسه، أم متبع لقول الله وقول رسوله في أمور قد تشتبه، لكن حينما أنقلها لكم -كما صورها العلماء- فإني لا آتي بجديد، وأنا حريص على أن أكون متصلاً بكتب أهل العلم، فأغلب ما سوف تسمعونه هو من كلام السلف رحمهم الله، وأخص شيخ الإسلام والإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله، وقبله الإمام ابن الجوزي .

من الآيات التي فيها ذكر الهوى وسوء اتباعه وصفة متبعيه ومصيرهم قوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23] وسوف تأتي إشارة إلى منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، والسر في قوله تعالى في أول السورة: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2] وجاء في ثناياها: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم:23] ومن ذلك قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135].

إذاً: فإن مقابل الحق القسط والحكم بالعدل: الهوى؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135].

ومن ذلك قوله تعالى مبيناً حال الفريقين -فريق الجنة وفريق السعير-: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-41].

إذاً: إيثار الحياة الدنيا، والطغيان المادي نتيجة الثرى مظهر من مظاهر اتباع الهوى، أما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى، وهذا أيضاً في مسلك من مسالك أهل العلم -نسأل الله السلامة- وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:175-176].

فإذاً قد يكون من مسالك أهل العلم- نسأل الله السلامة- ما يقود إلى الهوى، وسوف نشير إلى ذلك في ثنايا الحديث، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في خطابه لنبيه موسى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16].

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43-44] وهذا شأن الكافرين مهما كان عندهم من العلوم، ومهما كان عندهم من المعارف، وكذلك المنافقون؛ بل حتى العصاة أثناء مزاولة المعاصي، فهم متبعون أهواءهم، مغلقون عقولهم، بل عقولهم مطبوع عليها أثناء الإتيان للمشتهيات، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن

إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان هذا هو شأن اتباع الهوى، وما يؤدي إليه الهوى؛ فعلينا أن نقرر حقيقة لا بد أن ننطلق منها، وعلى ضوئها يكون بعدنا وقربنا من الحق، يقول الله عز وجل: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68] ومن إعجاز القرآن الذي يدل على أنه حق من عند الله، ولا تنقضي عجائبه أن هذه الآية هي في نفس السورة التي يقول الله فيها: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].

فما هي المناسبة بينهما عندما قال الله: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50] وقال بعد السياق: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] ثم بعد آيات تأتي قصة قارون: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدُّ قُوَةً وَأكْثَرُ جَمْعاً [القصص:78]؟ فتفسيرات وتبريرات كل فيها مخالف للحق، ومتبع فيها الهوى والرغبات والشهوات، وخاصة شهوة المال، وكذلك شهوة الحكم والاستعلاء عند فرعون، فالآيات التي في سورة القصص كلها تتكلم عن سلطان الحكم، وسلطان المال ممثلاً في سلطان قارون ، فالسورة هذه فيها عجائب، وفيها هاتان القاعدتان: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50] وفيها: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

عند تقرير حق الاختيار لله يتبين لنا مسالك أهل البدع، ومسالك أهل الأهواء، وذلك أن الله عز وجل يقول: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] ولاحظ أن الله قرن الخلق بالاختيار.

إذاً: الخلق مسلَّم، والناس يعلمون أن الخالق هو الله وحده، ولم يدع أحدٌ أنه يخلق أو يرزق، والمشركون مقرون لله عز وجل بتوحيد الربوبية، وأنه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، منزل الغيث إلى آخره كما أن له حق الخلق، ولهذا قال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] ليس لأحد من خلق الله مهما كانت منزلته، ومهما كان مقامه الخيرة من أمره، سواء كان ملكاً أو نبيناً أو ولياً، فكيف بمن دونه من أهل علم أو دونهم؟!

فالاختيار لله في أمر التشريع بأمر التوجيه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68] ثم قال: سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].

إذاً: من أعطى الاختيار لغير الله، أو أعطى لغير الله حق الاختيار فهو مشرك كمن أعطى حق الخلق لغير الله.

وأكثر ما ينصب هذا الأمر على العبادة التي هي محض حق لله وحده، أما في أمور الدنيا فقد جعل الله عز وجل للناس فيها نوع اختيار، والأصل فيها الإباحة، لكن في العبادات، الأيام أيام الله، والبلاد بلاد الله، فاختار الله عز وجل أماكن وجعلها أشرف البقاع، فليس لنا أن نضفي على أي بقعة قداسة، ولا نعتقد فيها أي بركة إلا بمقتضى النص، ومن ذلك أن الله عز وجل خص مكة وشرفها، وبين ذلك في كتابه، وبينه لنا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:96-97].

والمدينة شرفها الله، وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم ما فيها من الفضل، وبيت المقدس الله عز وجل أخبر عن فضله، فقال سبحانه وتعالى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1].

فالبركات لا نعرفها إلا بمقتضى ما أخبرنا الله عز وجل ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فحق الاختيار، أن يختار هذا المكان ليكون أطهر البقاع، وذلك المكان ليكون فيه مزيد فضل، وليس لنا أن نقول: إن تلك البقعة مباركة أو مقدسة، أو فيها فضل أو حسنات، هذا فيما يتعلق بالأماكن.

أما الذي يتعلق بالأيام والشهور والساعات فالأصل أن الأيام أيام الله، وأنها متساوية إلا إذا جاء خبرٌ من الله عز وجل في كتابه، أو خبرٌ عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يقول فيه: إن هذا فيه مزية، وقد جاءت أيام لها مزايا، وشهور لها فضائل، تختلف عن الأشهر الأخرى، فشهر رمضان له فضل، فمن أدى فيه نافلة كان كمن أدى في غيره فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهذا فضل عظيم، ولا نستطيع أن نقول: إن هذا في شوال، أو صفر، أو ربيع، ثم في نفس رمضان هناك أيام تفضل، فالأيام العشر الأخيرة أفضل من بقية أيام رمضان، وليلة القدر أفضل الليالي كلها.

إذاً: هذه كلها لا نعرفها بالاجتهاد، ولا نعرفها بالعقل، إن فعلنا هذا سلكنا جانب البدع، وحينئذٍ البدع هي بمستحسنات عقولنا، أي: بأهوائنا، وهذا اتباع للهوى ولا محالة.

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أخبرنا، أن ليومي الإثنين والخميس مزيد فضل بالصيام خاصة، وليس فيه مزيد فضل الصدقة.

ويوم الجمعة له مزيد فضل -لكن لا يصام- وفضله في ساعة الإجابة التي فيه، وفي كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى حسب ما ورد في النصوص، إذاً: لا نجتهد فنقول: يوم الجمعة فاضل فنحن نتصدق فيه ونصوم، لا. فالفضل إنما يتأتى بمقتضى النص.

فيوم الإثنين فضله في الصيام، ولهذا لا يمكن أن يحتج علينا أحد ويقول: يوم الإثنين هو يوم ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: فكل أيام المولد له صلى الله عليه وسلم نحتج بها، نقول: لا. الفضل في يوم الإثنين هو للصيام، ولا نضع ولائم، ولا احتفالات، ولا زيادة صدقات.

إنما نقتصر في التعبد على النص، وليس لنا أن نختار.

ومثل هذا حفل يوم الخميس ويوم الجمعة، وصيام ست من شوال هذا خاص، ولا نصو

قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50] إذاً الأمر مقسوم إلى طريقين: إما الاستجابة لله ولرسوله، وإما اتباع الهوى لا محالة: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50].

وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] وكما ورد في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) والحديث فيه مقال.

علاقة المحبة بالاتباع

ولا مانع أن نقف قليلاً عند موضوع المحبة لأنها تقيد موضوع الهوى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أنس في البخاري : {ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار }.

إذاً: قضية المحبة لا شك أن للنفس فيها مدخل، والله عز وجل وضع في فطر الناس أن يحبوا أشياء، والله سبحانه وتعالى حينما استخلفهم في هذه الدنيا وسخر لهم ما سخر، واستعمرهم فيها -أي: طلب منهم عمارتها- هيأ لهم الوسائل والأسباب، وغرس في فطرهم محبة الدنيا والأموال والأولاد والأزواج والبيوت والبلاد والمساكن، فالإنسان يحب وطنه ومسكنه، ويحب أشياء كثيرة.

إذاً: هذه الأمور فطرية، ونحن نعلم أن الإسلام لا يعارض الفطرة، وأن الأشياء الغريزية مقرة في الدين، ولهذا حينما حرم الزنا أباح النكاح، ولم يلم على محبة المال والأهل، إنما يتبين الهوى -كما سنذكر في صور اتباع الهوى- حينما يكون ثَم ابتلاء، ولهذا في قوله صلى الله عليه وسلم: { أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما } هذا معناه: أنه يحب، فالإنسان في فطرته أنه يحب ولده ومن أحسن إليه، ويحب صديقه وجاره، ويحب ابن بلده أكثر من الغريب، فهذه قضايا معروفة.

ويبين هذا ويقرره آية أخرى، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:23-24].

إذاً: أغلب هذه الأشياء المذكورة هي المحاب، وهي التي يحبها الإنسان، ويميل إليها بطبعه، ويفضلها على كثير مما يراه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ [التوبة:24] فالإنسان يحب أهله وقبيلته وأبناء بلده، وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا [التوبة:24] وكذلك يحب المال، وكل تلك المحبة إنما هي لعمارة الأرض؛ لأنه مكلف بعمارتها على ما أمر الله عز وجل به، لكن حينما يتعارض عنده أمران: شهوة نفسه وزوجه وماله، مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر الله عز وجل، فإن قدم شهواته ومحابَّه على مراضي الله وأوامره؛ حينئذٍ يكون قد اتبع الهوى، وهذا هو الابتلاء، أما حينما لا يكون هناك تعارض لا يكون هناك ابتلاء كما سنرى في صور اتباع الهوى، ولهذا قال الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11].

والهوى أخشى ما يكون في حال الابتلاء والافتتان، ولهذا بعض الناس قبل أن تهيأ له سبل المعاصي واتباع الهوى يؤدي الصلوات الخمس ويستمر في الطاعة، لكن حينما تلوح لائحة هوى، كأن ينفتح له باب تجارة أو باب شهوة من زنا ونحوه؛ فإنه يسقط على وجهه، وبعض الناس قد يحافظ على الصلاة ولكنه يغش في تجارته، أو يرابي أو يرتشي، وهنا الخطورة..! يصلي ويتعبد وهو منحرف في اتجاه آخر، هنا يكون محك اتباع الهوى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23].

إذاً: بهذا التقرير يتبين معنى قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].

كلام ابن القيم في الاستجابة لله ولرسوله

ولـابن القيم رحمه الله كلامٌ جميلٌ في الاستجابه لله ولرسوله قال: افترض الله سبحانه وتعالى على عباده طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسد دون جنته الطرق، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه عليه الصلاة والسلام، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، ففي المسند من حديث أبي منيب الجرشي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم }.

وجانب التشبه اتباع للهوى، وكما أن الذلة مضروبة على من خالف أمره؛ فالعزة لأهل طاعته ومتابعته، قال سبحانه وتعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].

وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] وقال تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35] ويقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].

قال: وبحسب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاح، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدنيا والآخرة في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة، والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة.

وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأنه لا يؤمن أحدكم حتى يكون أحب إليه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- من ولده ووالده والناس أجمعين، رواه أحمد والبخاري والنسائي .

وأقسم الله سبحانه وتعالى بأنه لا يؤمن من لا يحكِّمه في كل ما تنازع فيه، ثم يرضى بحكمه، ولا يجد في نفسه حرجاً مما حكم به، ثم يسلِّم له تسليماً، وينقاد له انقياداً، فقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره وأمر رسوله، بل إذا أمر فأمره حتمٌ، وإنما في قول غيره إذا خفي أمره.

يعني: إذا لم تكن هناك دلالة واضحة من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى في القرآن وإنما تبين في قول غيره كقول العلماء به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع، لكنه ليس واجباً، فلا يجب اتباع قول أحدٍ سواه، بل غايته أن يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ورسوله، وهذه قضية مهمة في التقليد، وفي اتباع الهوى، وفي اتباع العلماء وتقديرهم واحترامهم، وهناك فرق بين احترامهم وبين النظر أنهم لا يخطئون، أو التعصب لهم، أو نحو ذلك.

"ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ولا لرسوله، فأين هذا ممن يجب -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته؟

فلا يمكن أن يُنْصَبَ قول أحد من أهل العلم مقابلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب عليهم ترك قولهم لقوله صلى الله عليه وسلم، فلا حكم لأحدٍ معه، ولا قول لأحدٍ معه، كما لا تشريع لأحدٍ معه، وكل من سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محَضاً ومخبراً، لا منشئاً ومؤسساً.

فمن أنشأ أقوالاً، وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمة اتباعها، ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن طابقته ووافقته، وشهد لها بالصحة قبلت حينئذٍ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفةً، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا".

إذاً: هذا فيما يتعلق بالاستجابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يسع أحداً ألبتة أن يسمع كلام أحدٍ غير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة إذا كان معارضاً ومشتبهاً، وهذا يظهر كما قلنا في قضية التقليد، وفيما يدور أحياناً في الساحة بين أهل العلم، والمشتغلين بالدعوة في بعض أنواع التوجهات، أو التعصب نحو عالم من العلماء وبخاصة بعض العلماء المعاصرين، فهؤلاء ينبغي أن يعرف فضلهم وعلمهم وباعهم في الدعوة، ولكن الحق أحب إلينا منهم.

وهذا هو الذي يجب أن يتقرر وإلا فكثيرٌ من الذين يقل فقههم أو من الذين لهم أغراض يظن أو يتظاهر بأنه ينتصر للحق، بينما هو ينتصر لنفسه أو لشيخه، وقد قرر ذلك ابن رجب رحمه الله تقريراً بديعاً في جامع العلوم والحكم .

يقول: "المجتهد قد أدى ما عليه واجتهد، وتوصل إلى ما توصل إليه، لكن المقلد -وخاصة يقصد طلبة العلم المقلدة- تجده ينتصر لقول هذا الإمام سواء كان حنبلياً، أو شافعياً، أو حنفياً، أو حتى معاصراً وهو في قرارة نفسه لم يتمثل أنه الحق، وإنما يريد أن ينصر إمامه".

فالأئمة المجتهدون أو غيرهم براء مما يفعله هذا المقلد لهم، فكثير منهم يقول: إما أنه ينتصر لنفسه، أو ينتصر لشيخه، ويلبس ذلك بأنه ينتصر للحق، فهنا مداخل دقيقة جداً ينبغي أن يتحراها أهل العلم، ويتحراها أهل الدعوة، نسأل الله السلامة.

إذاً: بعد أن تبين وتقرر المقصود بأن حق الاختيار هو لله وحده، كما أن له حق الخلق في قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68] ثم تبين لنا كذلك الاستجابة لله ولرسوله، وأن من لم يستجب، فإنه متبعٌ هواه شاء أم أبى، ولو لبس ذلك بلباس الحق، وهذه قضايا كثيراً ما يكون مدخلها قلبي، على معنى لا تستطيع أن تستكشفه.

فحينما يكون هناك ردود بين العلماء -وبخاصة المعاصرين- فالذي يخشاه المطلع أو القارئ أنه يتلمس من ثنايا هذه الردود أن هناك هوى في النفس وتشهياً، وهو لا يريد الحق لمحض الحق، وإنما يريد الانتصار والعلو، ويريد دحر كلام صاحبه، وأحياناً قد يكون من المعالم على هذا والدلائل عليه: اللجوء إلى التجريح الشخصي، فتجده ينال من عرضه، بينما القضية لا تحتمل، ولا يحتاج إلى أنك تتكلم فيه، أو في شخصه، أو في حاله، وإنما يكون الكلام في الباطل الذي أتى به إن أتى باطلاً، أو شبهةً إن كان اشتبه عليه أمر، أو لَبْس إن حصل عليه لَبْس.

أما أن يميل المرء أو يجنح في عباراته إلى النيل الشديد من غير داع، أو استطال في أعراض المسلمين، فهذا لا شك أنه قد يباح عرضه كما ذكر بعض العلماء: أ

ولا مانع أن نقف قليلاً عند موضوع المحبة لأنها تقيد موضوع الهوى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أنس في البخاري : {ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار }.

إذاً: قضية المحبة لا شك أن للنفس فيها مدخل، والله عز وجل وضع في فطر الناس أن يحبوا أشياء، والله سبحانه وتعالى حينما استخلفهم في هذه الدنيا وسخر لهم ما سخر، واستعمرهم فيها -أي: طلب منهم عمارتها- هيأ لهم الوسائل والأسباب، وغرس في فطرهم محبة الدنيا والأموال والأولاد والأزواج والبيوت والبلاد والمساكن، فالإنسان يحب وطنه ومسكنه، ويحب أشياء كثيرة.

إذاً: هذه الأمور فطرية، ونحن نعلم أن الإسلام لا يعارض الفطرة، وأن الأشياء الغريزية مقرة في الدين، ولهذا حينما حرم الزنا أباح النكاح، ولم يلم على محبة المال والأهل، إنما يتبين الهوى -كما سنذكر في صور اتباع الهوى- حينما يكون ثَم ابتلاء، ولهذا في قوله صلى الله عليه وسلم: { أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما } هذا معناه: أنه يحب، فالإنسان في فطرته أنه يحب ولده ومن أحسن إليه، ويحب صديقه وجاره، ويحب ابن بلده أكثر من الغريب، فهذه قضايا معروفة.

ويبين هذا ويقرره آية أخرى، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:23-24].

إذاً: أغلب هذه الأشياء المذكورة هي المحاب، وهي التي يحبها الإنسان، ويميل إليها بطبعه، ويفضلها على كثير مما يراه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ [التوبة:24] فالإنسان يحب أهله وقبيلته وأبناء بلده، وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا [التوبة:24] وكذلك يحب المال، وكل تلك المحبة إنما هي لعمارة الأرض؛ لأنه مكلف بعمارتها على ما أمر الله عز وجل به، لكن حينما يتعارض عنده أمران: شهوة نفسه وزوجه وماله، مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر الله عز وجل، فإن قدم شهواته ومحابَّه على مراضي الله وأوامره؛ حينئذٍ يكون قد اتبع الهوى، وهذا هو الابتلاء، أما حينما لا يكون هناك تعارض لا يكون هناك ابتلاء كما سنرى في صور اتباع الهوى، ولهذا قال الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11].

والهوى أخشى ما يكون في حال الابتلاء والافتتان، ولهذا بعض الناس قبل أن تهيأ له سبل المعاصي واتباع الهوى يؤدي الصلوات الخمس ويستمر في الطاعة، لكن حينما تلوح لائحة هوى، كأن ينفتح له باب تجارة أو باب شهوة من زنا ونحوه؛ فإنه يسقط على وجهه، وبعض الناس قد يحافظ على الصلاة ولكنه يغش في تجارته، أو يرابي أو يرتشي، وهنا الخطورة..! يصلي ويتعبد وهو منحرف في اتجاه آخر، هنا يكون محك اتباع الهوى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23].

إذاً: بهذا التقرير يتبين معنى قوله سبحانه وتعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].

ولـابن القيم رحمه الله كلامٌ جميلٌ في الاستجابه لله ولرسوله قال: افترض الله سبحانه وتعالى على عباده طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيره وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسد دون جنته الطرق، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه عليه الصلاة والسلام، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، ففي المسند من حديث أبي منيب الجرشي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم }.

وجانب التشبه اتباع للهوى، وكما أن الذلة مضروبة على من خالف أمره؛ فالعزة لأهل طاعته ومتابعته، قال سبحانه وتعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].

وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] وقال تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35] ويقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64].

قال: وبحسب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاح، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدنيا والآخرة في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة، والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة.

وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأنه لا يؤمن أحدكم حتى يكون أحب إليه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- من ولده ووالده والناس أجمعين، رواه أحمد والبخاري والنسائي .

وأقسم الله سبحانه وتعالى بأنه لا يؤمن من لا يحكِّمه في كل ما تنازع فيه، ثم يرضى بحكمه، ولا يجد في نفسه حرجاً مما حكم به، ثم يسلِّم له تسليماً، وينقاد له انقياداً، فقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره وأمر رسوله، بل إذا أمر فأمره حتمٌ، وإنما في قول غيره إذا خفي أمره.

يعني: إذا لم تكن هناك دلالة واضحة من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى في القرآن وإنما تبين في قول غيره كقول العلماء به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع، لكنه ليس واجباً، فلا يجب اتباع قول أحدٍ سواه، بل غايته أن يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ورسوله، وهذه قضية مهمة في التقليد، وفي اتباع الهوى، وفي اتباع العلماء وتقديرهم واحترامهم، وهناك فرق بين احترامهم وبين النظر أنهم لا يخطئون، أو التعصب لهم، أو نحو ذلك.

"ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ولا لرسوله، فأين هذا ممن يجب -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته؟

فلا يمكن أن يُنْصَبَ قول أحد من أهل العلم مقابلاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب عليهم ترك قولهم لقوله صلى الله عليه وسلم، فلا حكم لأحدٍ معه، ولا قول لأحدٍ معه، كما لا تشريع لأحدٍ معه، وكل من سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محَضاً ومخبراً، لا منشئاً ومؤسساً.

فمن أنشأ أقوالاً، وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمة اتباعها، ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن طابقته ووافقته، وشهد لها بالصحة قبلت حينئذٍ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفةً، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا".

إذاً: هذا فيما يتعلق بالاستجابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يسع أحداً ألبتة أن يسمع كلام أحدٍ غير كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة إذا كان معارضاً ومشتبهاً، وهذا يظهر كما قلنا في قضية التقليد، وفيما يدور أحياناً في الساحة بين أهل العلم، والمشتغلين بالدعوة في بعض أنواع التوجهات، أو التعصب نحو عالم من العلماء وبخاصة بعض العلماء المعاصرين، فهؤلاء ينبغي أن يعرف فضلهم وعلمهم وباعهم في الدعوة، ولكن الحق أحب إلينا منهم.

وهذا هو الذي يجب أن يتقرر وإلا فكثيرٌ من الذين يقل فقههم أو من الذين لهم أغراض يظن أو يتظاهر بأنه ينتصر للحق، بينما هو ينتصر لنفسه أو لشيخه، وقد قرر ذلك ابن رجب رحمه الله تقريراً بديعاً في جامع العلوم والحكم .

يقول: "المجتهد قد أدى ما عليه واجتهد، وتوصل إلى ما توصل إليه، لكن المقلد -وخاصة يقصد طلبة العلم المقلدة- تجده ينتصر لقول هذا الإمام سواء كان حنبلياً، أو شافعياً، أو حنفياً، أو حتى معاصراً وهو في قرارة نفسه لم يتمثل أنه الحق، وإنما يريد أن ينصر إمامه".

فالأئمة المجتهدون أو غيرهم براء مما يفعله هذا المقلد لهم، فكثير منهم يقول: إما أنه ينتصر لنفسه، أو ينتصر لشيخه، ويلبس ذلك بأنه ينتصر للحق، فهنا مداخل دقيقة جداً ينبغي أن يتحراها أهل العلم، ويتحراها أهل الدعوة، نسأل الله السلامة.

إذاً: بعد أن تبين وتقرر المقصود بأن حق الاختيار هو لله وحده، كما أن له حق الخلق في قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68] ثم تبين لنا كذلك الاستجابة لله ولرسوله، وأن من لم يستجب، فإنه متبعٌ هواه شاء أم أبى، ولو لبس ذلك بلباس الحق، وهذه قضايا كثيراً ما يكون مدخلها قلبي، على معنى لا تستطيع أن تستكشفه.

فحينما يكون هناك ردود بين العلماء -وبخاصة المعاصرين- فالذي يخشاه المطلع أو القارئ أنه يتلمس من ثنايا هذه الردود أن هناك هوى في النفس وتشهياً، وهو لا يريد الحق لمحض الحق، وإنما يريد الانتصار والعلو، ويريد دحر كلام صاحبه، وأحياناً قد يكون من المعالم على هذا والدلائل عليه: اللجوء إلى التجريح الشخصي، فتجده ينال من عرضه، بينما القضية لا تحتمل، ولا يحتاج إلى أنك تتكلم فيه، أو في شخصه، أو في حاله، وإنما يكون الكلام في الباطل الذي أتى به إن أتى باطلاً، أو شبهةً إن كان اشتبه عليه أمر، أو لَبْس إن حصل عليه لَبْس.

أما أن يميل المرء أو يجنح في عباراته إلى النيل الشديد من غير داع، أو استطال في أعراض المسلمين، فهذا لا شك أنه قد يباح عرضه كما ذكر بعض العلماء: أ




استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3698 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3089 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3073 استماع
الطلاق وآثاره 3015 استماع
لعلكم تتقون 3000 استماع
الماء سر الحياة 2957 استماع
من أسس العمل الصالح 2934 استماع
الزموا سفينة النجاة 2883 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2873 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2852 استماع