الغيرة على الأعراض


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، أحمده سبحانه وأشكره، شرع الشرائع لتهدي إلى الخير والرشاد والفضيلة، وسَدَّ الذرائع لتحول عن الشر والفساد والرذيلة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد بالثواب كما توعد بالعقاب، فقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند ربه، فأنار القلوب وهداها، وطهر النفوس من فجورها وزكاها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل وخشيته، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:52].

أيها المسلمون: لا ترجع هزائم الأمم، ولا انتكاسات الشعوب إلى الضعف في قواها المادية، ولا إلى النقص في معداتها الحربية، ومن يظن هذا الظن، ففكره قاصر، ونظره سقيم.

إن الأمم لا تعلوا إلا بعد إذن الله، إلا بضمانات الأخلاق الصلبة في سير الرجال، بل إن رسالات الله ما جاءت إلا بالأخلاق وإتمام الأخلاق بعد توحيد الله عز وجل وعبادته، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بُعثت لأُتمم صالح الأخلاق ).

أهمية اكتساب الأخلاق

إن الأخلاق الفاضلة يضعف أمامها العدو، وينهار أمامها أهل الشهوات، حينما يكون المجتمع صارماً في نظام أخلاقه وضوابط سلوكه، غيوراً على كرامة فرده وأمته، مؤثراً رضا الله على نوازع شهواته؛ حينئذٍ يستقيم مساره في طريق الحق والصلاح والرفعة والإصلاح.

أيها الإخوة: إن الأخلاق ليست شيئاً يُكتسب من القراءة والكتابة، ولا بالمواعظ والخطابة، ولكنها درجة، بل درجات، لا تُنال -بعد توفيق الله ورحمته- إلا بالتربية والتهذيب، والصرامة والحزم، وقوة الإرادة والعزم.

أيها الإخوة: وهذا حديث عن مقياسٍ دقيق من مقاييس الأخلاق، ومعيارٍ جلي من معايير ضبط السلوك، إنه الغيرة على الأعراض، وحماية حمى الحرمات.

إن الأخلاق الفاضلة يضعف أمامها العدو، وينهار أمامها أهل الشهوات، حينما يكون المجتمع صارماً في نظام أخلاقه وضوابط سلوكه، غيوراً على كرامة فرده وأمته، مؤثراً رضا الله على نوازع شهواته؛ حينئذٍ يستقيم مساره في طريق الحق والصلاح والرفعة والإصلاح.

أيها الإخوة: إن الأخلاق ليست شيئاً يُكتسب من القراءة والكتابة، ولا بالمواعظ والخطابة، ولكنها درجة، بل درجات، لا تُنال -بعد توفيق الله ورحمته- إلا بالتربية والتهذيب، والصرامة والحزم، وقوة الإرادة والعزم.

أيها الإخوة: وهذا حديث عن مقياسٍ دقيق من مقاييس الأخلاق، ومعيارٍ جلي من معايير ضبط السلوك، إنه الغيرة على الأعراض، وحماية حمى الحرمات.

أيها الأحبة الغيورون: كل امرئ عاقل، بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرماً مصوناً، لا يرتع فيه اللامزون، ولا يدوس حماه العابثون.

إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهاً تتطاول عليه بألسنتها، أو تناله ببذيء ألفاظها، نعم! ويصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضاً.

بل لا يقف الحد عند هذا، فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته، ويبذل مهجته، ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته، فيهون على الكرام أن تُصاب الأجسام لتسلم العقول والأعراض، وقد بلغ دينكم في ذلك الغاية حين أعلن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم قائلاً: (من قُتِلَ دون عرضه فهو شهيد ).

أيها الإخوة والأخوات: بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاء الدين، وجمال الإنسانية، وبتدنسه وهوانه ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: " إذا رحلت الغيرة من القلب، ترحل الدين كله ".

ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس غيرةً على أعراضهم، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوماً لأصحابه: (إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه، يشهد أربعاً، فقام سعد بن معاذ متأثراً، فقال: يا رسول الله! أأدخل على أهلي، فأجد ما يريبني فأنتظر حتى أشهد أربعاً!! لا والذي بعثك بالحق إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحن بالرأس عن الجسد، ولأضربن بالسيف غير مصفح، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء، فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبون من غيرة سعد ، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرَّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن... إلى آخر الحديث ) وأصل الحديث في الصحيحين .

من حرم الغيرة حرم طهر الحياة

من حُرم الغيرة حُرم طهر الحياة، ومن حرم طهر الحياة، فهو أحط من بهيمة الأنعام، ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال، وكرائم النساء.

إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار، وأما عيشة الدعارة، فطريقها سهل، وهو الانحلال والانهيار، وبالمكاره حفت الجنة، وبالشهوات حفت النار.

مدنية العصر دعوة صارخة لهتك الأعراض

أيها الإخوة: إن الأسف كل الأسف.. والأسى كل الأسى! فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض، ووأد كريه للغيرة، فتجد تفاصيل الفحشاء تعرض من خلال وسائل النشر والإعلام المختلفة، بل إنه ليرى الرجل والمرأة يأتيان الفاحشة وبواعثها ومثيراتها ويشاهدان وهما يعانقان الرذيلة غير مستورين عن أعين المشاهدين والناظرين، لقد انقلب الحال عند كثير من الأقوام، بل الأفراد والأسر، حتى صار الساقطون الماجنون يُمثلون الأسوة والقدوة، ويجعلون من منكرهم وسام افتخار وعنوان رجولة.

تصوروا -رعاكم الله وحماكم- خبيثاً وخبيثةً يقفان على قارعة الطريق ليمارسا الفاحشة علانية كما تفعل البهائم من الحمير والخنازير أعز الله مقامكم ونزَّه أسماعكم!

هل خلت النفوس من الغيرة؟ وهل غاض ماؤها؟ وهل انطفأ بهاؤها؟ هل في الناس دياثة؟ هل فيهم من يقر الخبث في أهله؟

لا يدري الغيور من يخاطب، هل يخاطب الزواني والبغايا؟ أم الكرام والحرائر؟

إن المدينة المعاصرة هي: إعلان للفحشاء بوقاحة، وإغراق في المجون بتبجح، أغاني ساقطة، وأفلام آثمة، وسهرات فاضحة، وقصص داعرة، وملابس خالعة، وعبارات مثيرة، وحركات فاجرة، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد، في صور وأوضاع يُندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله.. على الشواطئ والمنتزهات، وفي الأسواق والطرقات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

حسبنا الله من أُناسٍ يهشون للمنكر، ويودون لو نبت الجيل كله في حمأة الرذيلة، وحسبنا الله من فئاتٍ تود لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة.

ما هذا البلاء؟ كيف يستسيغ هذا ذوو الشهامة من الرجال، والعفة من النساء؟

كيف يستسيغون لأنفسهم ولأطفالهم ولفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر من ابتكارات البث المباشر، وقنوات الفضاء المباشر؟! أين ذهب الحياء؟! وأين ضاعت المروءة؟!

أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أدواء الفتنة، وجرتها إلى مستنقعات التفسخ جراً، وجلبت لها محرضات المنكر، تدفعها إلى الإثم دفعاً، وتدعها إلى الفحشاء دعاً؟!

اطلعت امرأة شريفة على الخمر، ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم هذا؟ قالوا: نعم، قالت: زنين ورب الكعبة.

أيها الإخوة والأخوات: إن طريق السلامة لمن يريد السلامة بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته، ينبع من البيت والبيئة، فهناك بيئات تنبت الذل، وأخرى تنبت العز، وثمة بيوتات تظللها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر.

الإسلام والمحافظة على الأعراض

أيها الأحبة: لا تحفظ المروءة، ولا يسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوف بتعاليم الإسلام، وآداب القرآن، ملتزم بالستر والحياء، تختفي فيه المثيرات وآلات اللهو والمنكر، ويتطهر من الاختلاط المحرم.

عباد الله: الغيرة الغيرة.. احذروا الحمو فإنه الموت، واحذروا السائق والخادم، وصديق العائلة وابن الجيران، ناهيك بالطبيب المريب، والممرض المريض، واحذروا الخلوة بالبائع والمدرس في البيت!

حذار أن يظهر هؤلاء وأشباههم على عورات النساء.

فذلكم اختلاط يتسع فيه الخرق على الراقع، وتصبح فيه الديار من الأخلاق بلاقع!

هل تأملتم -وفقكم الله وحماكم- لماذا توصف المؤمنات المحصنات بالغافلات؟

الغافلات وصف لطيف محمود، وصف يجسد المجتمع البريء والبيت الطاهر الذي تشب فتياته زهرات ناصعات لا يعرفن الإثم.

إنهن غافلات عن لوثات الطباع السافلة، وإذا كان الأمر كذلك، فتأملوا! كيف تتعاون الأقلام الساقطة، والأفلام الهابطة، لتمزق حجاب الغفلة هذا، ثم تتسابق وتتنافس في شرح المعاصي، وفضح الأسرار، وهتك الأستار، وفتح عيون الصغار قبل الكبار: أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].

أيها الإخوة والأخوات: الغيرة الغيرة! إن لم تغاروا فاعلموا أن ربكم يغار، فلا أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرَّم الفواحش.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: {يا أمة محمد! ما من أحدٍ أغير من الله، أن يزني عبده، أو تزني أمته }.

وربكم يمهل ولا يهمل، وإذا ضيع أمر الله، فكيف تستنكر الخيانات البيتية، والشذوذات الجنسية، وحالات الاغتصاب، وجرائم القتل، وألوان الاعتداء؟

إذا ضيع أمر الله طفح المجتمع بنوازع الشر، وامتلأ بدوافع الأثرة، وتولدت فيه مشاعر الحسد والبغضاء، ومن ثم قلما ينجو من فساد وفوضى وسفك دماء، وقد قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:22-24].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

أقول قولي هذا.. وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.


استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة اسٌتمع
حق الطريق وآداب المرور 3701 استماع
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم 3092 استماع
اللغة .. عنوان سيادة الأمة 3073 استماع
الطلاق وآثاره 3021 استماع
لعلكم تتقون 3005 استماع
الماء سر الحياة 2961 استماع
من أسس العمل الصالح 2937 استماع
الزموا سفينة النجاة 2886 استماع
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل 2875 استماع
بين السلام وإباء الضيم 2856 استماع