خطب ومحاضرات
انتفاضة الأقصى ومصير الأمة
الحلقة مفرغة
الحمد لله خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأسبغ عليهم آلاءه ونعمه ليشكروه، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه ليعرفوه، أحمده سبحانه وأشكره حمد عبدٍ يخاف ربه ويرجوه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُسأل عما يفعل وخلقه مسئولون عما فعلوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله؛ دعا أمته إلى التوحيد، وحذَّرهم من الشرك، وأوصاهم أن يخافوا الله ويتقوه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، آمنوا به وعزروه وآزروه ونصروه، والتابعين وتابعيهم بإحسان، الذين عرفوا الحق ولزموه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعــد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالتقوى بالتوقِّي، ومن يتقِ الله يَقِه، واعلموا أن الأجل دون الأمل، فبادروا الأجل بالعمل، وإنه لا عمل بعد الأجل، والآخرة باقية، والدنيا فانية، فقدموا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولا تأخذكم في الله لومةُ لائم، واحذروا فإن الحذر محله القلب.
أيها المسلمون: منذ أن ظهرت الحضارات الإنسانية وميزان القوى لا يستقر على حال، أممٌ تكون في الصدارة، ثم تمسي فإذا هي في غير القافلة، وأخرى لم تكن شيئاً مذكوراً، فإذا هي تترقى في أوج العظمة وقمم المجد، إنها أيام الله يداولها بين الناس، هذا التداول بإذن الله وأمره يخضع لسُننٍ من الله شتى: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
إن حركة التاريخ في السنن والنواميس تعطي أفُقاً واسعاً للنظر والتأمل والتدبر، أسبابٌ تجتمع بإذن الله، فيكون باجتماعها انتصار وقوة، ثم تجتمع بطريقة أخرى ليكون بها التشرذم والانحسار والضعف، لا مفر من سنن الله العاملة في التاريخ، فهي لن تحابي أحداً: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] .
ومن منظور هذه السنن، وبتأمل هذه النواميس، شاء الله سبحانه أن يجعل بيت المقدس مسرى نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومنطَلَق المعراج إلى السماء في رحلة النبي الأكرم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولأمرٍ حكيمٍِ شاء سبحانه أن يجعل بيت المقدس قِبلة المسلمين الأولى منذ فُرضت الصلاة في العهد المكي وثمانية عشر شهراً من العهد المدني، وهو ما يزيد على نصف سِنِيِّ البعثة المحمدية.
ثم لأمرٍ حكيم وحكمة عظيمة تسلَّم العبقري الملهم الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس من دون سائر المدائن التي فتحها الله على المسلمين، إنه التمييز الواضح، والخصوصية الخاصة، والإعلان الصريح لهذه المدينة المقدسة، لما لهذه المدينة المقدسة من منزلة كبرى في دين الإسلام وتاريخ المسلمين.
للمسجد الأقصى وقصة الإسراء خبرٌ خاص، وسورة كاملة في قلب مصحفنا ودستورنا، إنها سورة الإسراء، سورة بني إسرائيل في آياتها ودلالاتها وكنوزها.
بسم الله الرحمن الرحيم: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] رباطٌ قرآني محكم بين هاتين المدينتين المقدستين، واتصالٌ ديني وثيق بين مكة المكرمة والقدس الشريف، ورباطٌ مقدس بين أقدس بقعتين فيهما الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى، رباطٌ إلهي وثيق وما وصله الله لا ينقطع.
بيت المقدس ربوة مباركة ذات قرار ومعين، أرضٌ مقدسة، قبلة الأمة، وبوابة السماء، وميراث الأجداد، ومسئولية الأحفاد، معراج محمدي، وعهدٌ عمري، دار الإسلام، بها يُجَسَّد تراث الأمة، ويُحَدَّد مستقبلها، ويثبت وجودها.
إلى مسجدها تُشَدُّ الرحال، ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة.
فتحه المسلمون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بست سنوات، وحكموه قروناً طويلة، ثم احتله الصليبيون تسعين عاماً، فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله.
وهذه الأيام يحتله يهود، ولن يخرجوا والله إلا بـصلاح الدين .
حَكَم المسلمون هذه المدينة المباركة هذه الأحقاب الطويلة، فما هدموا بيتاً لساكن، ولا معبداً لمتعبد، التزموا بتعاليم دينهم، احترموا كل ذي عهدٍ وعقدٍ وذمة، وفاءً للعهد العمري، استمعوا رعاكم الله إلى هذا النص من هذا العهد العمري:
[[بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، سقيمها وبريئها، وسائر ملتها ألا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا مِن حيزها، ولا مِن صليبهم، ولا مِن شيءٍ مِن أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يضارَّ أحدٌ منهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم، شهد على ذلك: خالد بن الوليد ، عمرو بن العاص ، عبد الرحمن بن عوف ، معاوية بن أبي سفيان ، عمر بن الخطاب ، سنة خمس عشرة من الهجرة، شهد على ذلك وكتب وحضر
لقد تضمن العهد العمري حرية المعتقَد، وحرية السكنى، وحرية التنقل، وهو عهدٌ منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، لم يكن متأثراً بشعارات حقوق الإنسان المنافقة في عصرنا، ولكنها كانت تطبيقاً لمنهج الإسلام في التعامل الراقي المقسط مع أهل الأديان الأخرى.
لقد أصبحت القدس الشريفة وسكانها من مختلف الديانات في حماية المسلمين، يحافظون عليها، ويدافعون عنها وعمن فيها، هذا حديث أهل الإسلام، وحكمهم، وتاريخهم، هذا حديثنا، وحكمنا، وتاريخنا.
أما اليوم فـبيت المقدس يجري فيه ما لم يحدث على أيدي أي غزاة في تاريخ البشرية كلها، ولم يجرِ ذلك في تاريخ بيت المقدس الممتد آلاف السنين، لم يفعل غازٍ أو محتل مثلما فعله ويفعله اليهود اليوم، وليس بعد شهادة التاريخ من شهادة، وليس مَن رأى كمَن سمع على ما تشاهدون في هذه الأيام، بل في هذه الساعات.
احتلوا القدس الشريف منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فأحرقوا المسجد الأقصى، ونسبوا ذلك إلى معتوه مختل العقل، وكأن المجانين لا يخرجون إلا على مقدسات المسلمين.
أما أعمال الحفر والهدم والتخريب حول المسجد فهي متواصلة منذ أن وطئت أقدامُهم قدسَنا ولا تزال.
انبعث باعثٌ منهم ليحصد المصلين من المسلمين وهم يصلون في مسجد الخليل، فقتلهم وهم ركعٌ سجود.
ومنذ أيام والمسلمون في صلاة الجمعة أُطْلِقَت النار على المصلين وهم في رحاب المسجد الأقصى؛ ليسقط العديد من القتلى والجرحى.
هُدِّمت الأبنية والآثار الإسلامية في سعي دائمٍ وحثيث لإزالة المعالم وتغيير الهوية.
وفي هذه الأيام يخطر تصرفٌ استفزازي يُوصَف بأنه شاذ، مع أنه مدعومٌ من جهاتهم الرسمية، تصرفٌ أسال الدماء، وفجَّر الحرب، وأزهق الأرواح، إنه ليس تصرفاً من مختل العقل، وليس تصرفاً فردياً، ولكنه تصرف من رئيس حزبٍ من أحزابهم، اقتحامٌ لحرمة المقدسات، محاطٌ بحراسة آلاف الجنود مسلحين بالعتاد والحراب والقنابل، تصرفات عدوانية أسالت الدماء، ورسَّخت الكراهية، وبعثت الأحقاد، وأعادت أجواء الحرب، زرعٌ للحقد الأسود في مدينة الإيمان والسلام والأرض المباركة، اعتداءاتٌ وانتهاكاتٌ في صورٍ فظيعة، تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاحٍ ممكن لحماية نفسه، مظلومٌ احتلت أرضه يقابل جيشاً مدججاً بكل أنواع الأسلحة والآليات الفتاكة، يقابله أطفال وشباب أحداث، ليس لهم حيلة إلا العصي والحجارة والصراخ؛ ليدافعوا عن أنفسهم ومقدساتهم وأرضهم ومنازلهم.
كلٌّ يدعي التسامح، وكلٌّ يزعم الديمقراطية ، وكلٌّ يتشبث بحقوق الإنسان في هذا القرن، قرن التحضر، وقرن المدنية، قرن المواثيق الدولية والقرارات الأممية؛ ولكن العمل والواقع والأرض والتاريخ هو الذي يصدِّق ذلك أو يكذِّبه.
دماءٌ تراق، وحصدٌ للأرواح من المدنيين العزل في أماكن العبادة والشوارع والطرقات والساحات العامة، بل صواريخ وقنابل داخل المنازل والشقق وحربٌ من الأرض والبحر والسماء.
يتحدثون عن السلام بألسنتهم، ويباشرون في خططهم واستعداداتهم وأفعالهم أفعالاً شنيعة، وتجاوزاتٍ رهيبة، لا تثير لدى الجهات الدولية القائمة على رعاية المواثيق الدولية، والقيِّمة على حقوق الإنسان، وحاملة لواء الديمقراطية ، والمسئولة عن الأمن الدولي والاستقرار العالمي، لا تثير لديها أي تحركٍ أو تصرفٍ منصف.
بل إن هؤلاء اليهود الصهاينة لم يُسألوا عن جريمة ارتكبوها، ولم تُحجَب عنهم مساعدة طلبوها، ولم يتأخر عنهم مددٌ سألوه، ولم يُوجَّه إليهم لومٌ ولا عتاب في جرمٍ اقترفوه.
بل لقد توافد كبار ساسة العالم من أجل أسراهم، وبُعِثت التعازي من أجل قتلاهم، أما إخواننا في فلسطين فلا بواكي لهم، بل لقد قال أحد هؤلاء الساسة: لن نتغاضى مطلقاً عن قتل الجنود اليهود مهما كانت معاناة الشعب الفلسطيني.
أين العدل؟! وأين الإنصاف؟! وأين حقوق الإنسان مِن شعبٍ يعيش منذ سبعين عاماً في احتلال وفي مخيمات، وفي ملاجئ، والملايين منه يعيشون في التشريد والشتات؟!
شعب فلسطين حياته كلها خوف وتعذيب واعتقال وطرد، تُهَدَّم البيوت، وتُغْلَق المدارس، بل تُغْلَق المخازن والمتاجر لتُسَدَّ عنهم أبواب الرزق القليلة، تجويعٌ وبطالة، استيلاءٌ على الأرض، وتَحَكُّمٌ في مصادر المياه، بل تحكم في فرص الحياة، محتلٌ يلاحق من يشاء، ويتهم من يشاء، ويقتل من يشاء، ويعتقل من يشاء، ينشئ المستوطنات، ويقيم الحواجز، ويبني الأسوار، ويغلق المدن والقرى، ثم يزعم أنه يريد السلام!
أيها المسلمون! عندما تنعدم الخيارات أمام المظلوم، وتضيق البدائل بشعبٍ مقهور، فإن كل سلوكٍ متوقَّع، وكل سياسات يمكن فهمها، وإن صعب تبريرها. غزارةُ دمٍ يسيل، وحرارةُ دمٍ يغلي، ليسوا طرفين متكافئين، جيشُ احتلال مسلح ضد شعبٍ أعزل، القتلى والضحايا في طرف، والقاتل والجلاد الذي يطلق النار في طرفٍ آخر، قاتلٌ ومقتولٌ وجلادٌ وضحية.
إن مشاهدة هذه المناظر ومتابعة الأحداث تقطع الأمل للرغبة الجادة في السلام، إن من بدهيات الأمور وأبجديات التفكير: أن السلام الذي يُبْنَى على أساليب القهر والإذلال والتعسف والإملاء والابتزاز غير السلام الذي يُبْنَى على الحق والعدل والمساواة والتكافؤ والنِّدِّيَّة.
إن القوة والقهر والظلم لا يمكن لها أن تنشئ حقاً، أو تقيم سلاماً.
إن العدوان لا يولِّد إلا العدوان.
وإن مشاعر الشعوب هي معيار الضغط النفسي، وهي مقياس بواعث الانفجار.
أيها المسلمون! إن ما يجري في بيت المقدس وفلسطين المحتلة امتحان شديد لأمة الإسلام.
أمة الإسلام أمة معطاءة تجود ولا تبخل في تاريخها المشرق الطويل، قدَّمت ما يشبه المعجزات، وهي اليوم تعيش مفترق طرقٍ خطير يحيط بها، وبقدسها، وبأجزاء محتلة من ديارها، إنها لن تعجز عن إيجاد آلية عاقلة منصفة، قوية متزنة، تعيد الحق إلى نصابه، وترد المغتصب إلى صوابه.
أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم، أمةُ الإسلام، وأمةُ الجهاد، وأمةُ العزة لا تعجز بإذن الله أن تجد لنفسها بتوفيق الله وعونه مخرجاً من أزمتها وعطلها الحضاري، والقدس والأرض المباركة أغلى وأثمن وأكبر من أن تُتْرَك لمتاجرات أو مساومات.
أيها الإخوة! إن قضية بيت المقدس ، وقضية فلسطين لا تنفصل ألبتة عن قضية الإسلام كله، إنها ليست أرضاً فلسطينيةً أو عربيةً فحسب، بل إنها قبل ذلك وبعده أرض المسلمين أجمعين، تُفْدَى بالأرواح والمُهَج، وإذا ضعف الإسلام في نفوس الأتباع ضعفت معه روابط الحقوق والحماس والفداء في قضاياه كلها، ويوم يترسخ الإيمان، ويصفو المعتقد، وتسود الشريعة، وتعلو الشعائر، ستحيا كل القضايا، وسيتحقق كل مطلوب.
وبعد فيجب أن يعي المسلمون ويعلنوا أنه لا سبيل لاسترداد الحقوق واستنقاذ المغتصبات في أي مكان، وعلى أي أرض، إلا حين يعتصمون بحبل الله، ويكونون جميعاً ولا يتفرقون، ويصطفون عباداً لله إخواناً، يجمعهم نداءٌ واحد لا نداءَ غيرُه: (يا مسلم، يا عبد الله ) وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21] .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:138-141].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله؛ الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته دليلاً: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:9] أحمده سبحانه وأشكره، أولانا من فضله وكرمه عطاءً جزيلاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا شبيه ولا مثيلٍ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، قام في عبادة ربه حتى تفطرت قدماه، وتبتل تبتيلاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، حازوا بصحبته وأتباعه والجهاد معه فوزاً عظيماً، وذكراً جميلاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعــد:
أيها المسلمون: اتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن بيت المقدس والأرض المباركة في خطرٍ عظيم، والعمل من أجل إنقاذها وتطهيرها، فريضة شرعية وواجبٌ ديني، يستنهض عزم أبناء الأمة، وبذل كل الجهود والوسائل لإحقاق الحق ونصرة القضية.
في نصوص الكتاب والسنة، ربطٌ متين صريح للأرض المقدسة والأرض المباركة بأصلها الأصيل وهو الإسلام، فهو مستقبلها وبه حياتها، ولن يتم لها أمر أو يعلو لها شأن إلا من خلال دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الربط يعطي لقضية القدس والأرض المحتلة ولكل قضايا الأمة إطاراً رحباً، وعمقاً عميقاً، لا يتحقق من خلال نظرة إقليمية، أو دعوة قومية، إن مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، وبيت المقدس ، هي سر القوة التي جابت خيولها العالم.
أيها المسلمون! إن الذي ينظر إلى القضية بمنظار القرآن فلن يُخدَع أبداً، فالقرآن الكريم يقول: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100] .
ومن يتزود بزاد القرآن فلن يضعف أبداً: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14].. قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة:14-15] .
ومن يتعامل مع قضاياه على هدي القرآن فلن يضل أبداً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] .
ومَن صدَّق بما في القرآن فلن يتنازل عن حقٍ أبداً: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء:7] .
ولكن مع الأسف -أيها المسلمون- إذا كان الإسلام ذاته في عقول بعض المسلمين وكتاباتهم وإعلامهم لا يستحق أن يحظى منهم بتفكير أو اهتمام، بل إذا كانت العقيدة عند بعضهم أهون من الأرض، والشريعة أرخص من التراب، فهيهات أن تنتصر القضية، أو يتنزل نصر.
يا هؤلاء! لا عودة للحق قبل العودة الصحيحة إلى الإسلام.
إن من سنن الله أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، ولكن من سننه أيضاً إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإنه يستبدل قوماً غيرهم ويَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ.
أيها المسلمون! النصر قادمٌ لا محالة بكم أو بغيركم: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
ودين الله منصورٌ بكم أو بغيركم: إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:39].
والحق سيعلو على أيديكم أو أيدي غيركم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].
والباطل سيزهق بجهودكم أو جهود غيركم: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
ولكن لماذا لا يطلب المسلم الخير لنفسه، لماذا لا يكون لَبِنَة في طريق النصر، وسهماً من سهام الحق، وأداة لزهق الباطل؟!
أيها المسلمون! مطلوبٌ من أمة الإسلام بقياداتها وشعوبها وهي على أبواب قمة تجمع قادتها وقد تبين لها من الأحداث ما تبين، مطلوبٌ فعاليات مؤثرة، ترفع الذلة، وتثبت العزة، وتجمع الكلمة، وتعيد الحقوق، وتعرف العدو من الصديق، وتقف صفاً واحداً في مصالح أمتها، وما يحاك من مؤامرات.
إن الأمة التي لا تحمي مقدساتها بأغلى ما تملك من أنفسٍ ونفيس لن تجد ما تحميه وتدافع عنه، وستبقى مستباحة الكرامة والحقوق والديار.
أيها المسلمون! إن من البشائر ومما يبعث الأمل ويقوي العزائم: هذا التفاعل الذي شهده المسلمون، وقرت به الأعين، هذا التفاعل من الأمة كلها في الأقطار الإسلامية كافة -شعوباً وقادة- لقاء هذه الاعتداءات الآثمة من هذا العدو الصهيوني المحتل الغاشم، والمآسي التي يتعرض لها إخواننا في فلسطين ، لقد أبدت الأمة بقادتها وساستها وعلمائها ومثقفيها أبدوا مواقف مشرفة من الاستنكار ورفع الأصوات عالية مسموعة بالتنديد وفضح الأعداء، وعدم الوقوف مكتوفي الأيدي في نداءات وكتابات وتحليلات وإعلام ومواقف سياسية، ثم ذلك التفاعل في تقديم المساعدات والإمدادات المادية والعينية والإسعافية، وتأتي بلاد أمِّ المقدسات، بلاد الحرمين الشريفين لتكون في مقدمة الصفوف مع أشقائها البلاد العربية والإسلامية للقيام بواجب العون والدعم، ومهما قُدِّم ويُقَدَّم فليس بكثير ولا مستكثر على مقدساتنا وإخواننا.
ثم قبل ذلك وبعده ما يبذله المسلمون من الدعاء لإخوانهم، والصالحون في الأمة كثيرٌ إن شاء الله.
سبحانك ربنا، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، سبحانك وبحمدك، لا يُهْزَم جندُك، ولا يُخْلَف وعدُك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم إن هؤلاء اليهود قد طغوا وبغوا، وظلموا وأفسدوا، اللهم أنزل عليهم رجزك وبأسك وغضبك وعذابك إله الحق.
اللهم إن هؤلاء اليهود قد طغوا وبغوا، وظلموا وأفسدوا، اللهم أنزل عليهم رجزك وبأسك وغضبك وعذابك إله الحق.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم اليهود الغاصبين المحتلين وزلزلهم.
اللهم خالف بين قلوبهم، وفرق جمعهم، وشتت شملهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يُرَد عن القوم المجرمين.
اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين ، اللهم انصر إخواننا في فلسطين .
اللهم كن لهم مؤيداً ونصيراً، ومعيناً وظهيراً.
اللهم إنهم حُفاةٌ فاحملهم، وضَعَفَةٌ فقوهم.اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وقوِّ عزائمهم، واحفظ عليهم دينهم، واجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم.
اللهم أنت المرتجى، لا ملجأ إلا إليك، اللهم إنا نسألك لهم فرجاً عاجلاً، ونصراً مؤزراً.
اللهم لقد مسهم الضر، اللهم لقد مسهم الضر، اللهم فاكشف عنهم هذه الغمة، واكشف الغمة عن إخواننا المسلمين في كل مكان.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان.اللهم انصرهم في كشمير ، وفي الشيشان ، وفي كل مكان يا رب العالمين!
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
حق الطريق وآداب المرور | 3701 استماع |
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم | 3092 استماع |
اللغة .. عنوان سيادة الأمة | 3073 استماع |
الطلاق وآثاره | 3020 استماع |
لعلكم تتقون | 3005 استماع |
الماء سر الحياة | 2961 استماع |
من أسس العمل الصالح | 2937 استماع |
الزموا سفينة النجاة | 2886 استماع |
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل | 2875 استماع |
بين السلام وإباء الضيم | 2855 استماع |