خطب ومحاضرات
سلطان العلماء
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة: هذا هو الدرس الثالث والعشرون، في ليلة الإثنين السادس والعشرين، من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) وعنوان هذا الدرس هو: (سلطان العلماء).
لا تنتظروا مني -أيها الإخوة- أن أتحدث لكم عن تفصيلات عن حياة العز بن عبد السلام، أنه ولد في عام (577هـ) أو توفي في عام (660هـ) أو عاش في الشام، أو مات في مصر.
فإن هذه التفاصيل محلها كتب التراجم والتاريخ وهي لا تعنينا في كثير ولا قليل، فضلاً عن أن هذه المعلومات متوفرة بشكل واضح في مصادر ترجمة الإمام العز بن عبد السلام، ككتب طبقات الشافعية للسبكي، والأسنوي وابن قاضي شهبة، وبعض الرسائل الجامعية التي قدمت عن حياة هذا العالم الجليل.
والتي كتبها مجموعة من الباحثين كـعبد العظيم فوده، والدكتور عبد الله الوهيبي، وعلي الفقير، وسيد رضوان الندوي، وغيرهم.
إذاً: ليست مهمتي في هذه الجلسة أن أتحدث لكم عن ترجمة العز بن عبد السلام الملقب بـسلطان العلماء، كلا، وإنما أريد أن أقف عند جوانب ووقفات مهمة في حياة هذا الرجل، وقد تتساءلون: لماذا أتحدث عن ترجمة هذا الإمام؟
فأقول: إن التاريخ يعيد نفسه، فأحداث الأمس هي نفسها أحداث اليوم، والمواقف المنتظرة من رجال اليوم، هي المواقف التي كان يفعلها رجال الأمس، والأمة تمر بها أزمات متكررة في عصورها تحتاج فيها إلى أن ترجع إلى ماضيها وتعيد النظر فيه.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه |
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ تجده كالطير مقصوصاً جناحاه |
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه |
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا |
وإن تراءت لك الحمراء عن كثبٍ فساءل الصرح أين العز والجاه؟! |
وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه |
هذي معالم خرسٌ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه |
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه |
واسترشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه |
يجب أن نعود إلى ماضينا، إلى تاريخنا نستلهم منه الدرس والعبرة.
لماذا لقب بسلطان العلماء؟
وخلاصته أن العز بن عبد السلام كان محتسباً على عِلْية القوم من الأمراء والسلاطين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان ذا قوة وسطوة وهيبة تذل عندها كل القوى، وتضعف عندها كل الإمكانيات.
والشيخ الإمام العز بن عبد السلام عاش في الشام ثم في مصر، وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين، وكانت دولةً قوية، ولكن في آخر عصرها تنافسوا على الملك وأصبح بعضهم يقاتل بعضاً، حتى اضطر بعضهم إلى أن يتحالف مع الصليبين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه، وبني عمه، أو يستعين بهؤلاء النصارى الصليبيين في قتالهم وفتح بلادهم.
ثم كان في آخر دولتهم أن حكمت امرأة ولأول مرة في تاريخ الإسلام تملك المسلمين امرأة كانت تسمى شجرة الدر، وحيث أنها لما مات زوجها أخفت خبر وفاته وعينت رجلاً يحكم بالاسم، وكانت هي تدير الأمور، وظلت على هذا الحال ثلاثة أشهر تقريباً حتى امتعض الناس من هذا الأمر وغضبوا، ثم تنازلت هي عن الأمر وعاد الحق إلى نصابه.
وهذه من الأشياء التي يتمسك بها بعض الذين يحاولون أن يقولوا: إن المرأة يمكن أن تتولى السلطة والحكم في بلاد الإسلام، يحتجون بأنه على مدى أربعة عشر قرناً حكمت امرأة ثلاثة أشهر، ولا أدري كيف يحتجون بثلاثة أشهر ولا يحتجون ببقية القرون كلها، التي لم يحدث فيها ولا من قبيل المصادفة أن امرأة حكمت، ولم يحدث فيها مرة واحدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة -مثلاً- في أحد الغزوات أو السرايا أنه كان يجعل امرأة تكون نائباً عنه في المدينة المنورة؟! والمهم أن هذا هو حال دولة بني أيوب.
بعد ذلك آل الأمر إلى ما يسمى بالمماليك، وكانوا من الأتراك وغيرهم وكانوا عبيداً مماليك للحكام، ثم قفزوا على السلطة وحكموا فيها فترة من الزمن، وقد عاصر الإمام السلطان العز بن عبد السلام - سلطان العلماء - عاصر بداية وجود هذه الدولة وعاش فترة فيها.
أبرز الجوانب في شخصيته
فمثلاً لما جاء مروان بن الحكم وغير بعض سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدم خطبة العيد على الصلاة ثم خطب على المنبر، قام أبو سعيد الخدري وأنكر عليه، وكذلك قام رجل آخر فيما بعد وأنكر، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، بل إن الرجل وقف للأمير وجره بثوبه وقال له: خطبت قبل الصلاة وكانت الصلاة قبل الخطبة فقال: قد ترك ما هنالك.
وهكذا كان عمر رضي الله عنه يقف على المنبر، فيأمر وينهى، فيقوم إليه الرجل فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويحتج عليه وهو على المنبر، فجدد العز بن عبد السلام هذا الهدي والسمت الذي كان معروفاً عند الصحابة والتابعين والأئمة المهديين فكان ينكر على هؤلاء العلية من القوم، على السلاطين وغيرهم علانية، ولم يكن يعتقد أن في هذا ضرراً أو إثارة فتنة.
فوائد الإنكار العلني
أولا: أن العالم يعذر ويعرف الناس أنه قال وتكلم وأمر ونهى فلم يطع؛ فيعذر، ولا يكون مجالاً لحديث الناس أن يقولوا: داهن، ونافق، وسكت عن الحق، لا، بل يعرفون أنه قال بملء فيه ولكن لم يستجب له فحينئذٍ هو معذور في ذلك.
وقد مررت بعددٍ من بلاد الإسلام في أقاصي الأرض بل وفي غيرها من البلاد الكافرة التي يوجد بها بعض المسلمين، فوجدت أنهم يعتبون كثيراً على علماء الأمة أنه حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وما سمعنا كلمة حق.
إذاً: العالم إذا قالها صريحة واضحة؛ فإنه يكون في ذلك العذر له عند الناس.
ومن فوائد ذلك -أيضاً- التفاف العامة حول هذا العالم إذا رأوه يقول كلمة الحق بقوة وشجاعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنهم إذا رأوا ذلك التفوا حوله، وأحاطوا به، وأخلصوا له الود، ووفوا معه، لماذا؟ لأنهم يعرفون أن هذا عالم يريد وجه الله والدار الآخرة، ليس له مطامع، ولا مقاصد، وأنه بذل نفسه في سبيل الله عز وجل.
فمن أجل ذلك يحيطون به، ويفدونه بأرواحهم ومهجهم، ويبذلون من أجله وفي سبيل الحفاظ على مكانته كل غالٍ ونفيس، بخلاف ما إذا لم يكونوا يعلمون بما يقول ويفعل فإنهم قد يتهمونه، ويسوء ظنهم به، وينفضون من حوله، فيبقى العالم منفرداً ليس معه أتباع، ولا يستجيب له أحد، ولا ينتفع بعلمه أحد.
ومن فوائد إنكار العالم بهذه الطريقة: أنه يشجع الآخرين على الإنكار، فإن كثيراً من الناس يقولون: إذا سكت العالم فغيره من باب الأولى، وإذا سكت طالب العلم فكذلك.
فكان العز بن عبد السلام رضي الله عنه ورحمه الله حين يصدع بها عالية مدوية على أعواد المنابر وفي ملأٍ من الناس، كان يفتح الطريق للآخرين ويقودهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يهابوا ولا يخافوا في الله لومة لائم.
ومن الفوائد: قبول الحق، فإن الحق إذا قيل علناً، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، من قبل عالم موثوق معروف بصدقه وإخلاصه وأنه لا يريد الحياة الدنيا ولا زينتها، ولا يبغي علواً في الأرض ولا فساداً كان إعلانه بذلك سبباً في قبول الحق الذي قال به والإذعان له.
ومن أهم فوائد ذلك: رفع مستوى الأمة، وعدم حجب الحقائق عنها، بمعنى أن العالم إذا جهر بالحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر كأنه يقول للأمة كلها: أنتم الحكم بيني وبين خصمي، فأنا قلت الحق وأنتم اسمعوا، فيرتفع مستوى الأمة حينئذٍ، وتصبح أمة مؤثرة قوية، كل فرد منها له قيمته، وله مكانته ورأيه، وله كلمته، وليسوا مجرد أتباع يؤمِّنون ويؤيدون ولا يعرفون هذا من ذاك، ولا يستطيعون أن يشاركون بالرأي والمشورة، لا،بل أصبحت أمة قوية لها ثقل ولها مكان.
وهذا لا يكون إلا إذا أشركها العلماء في أمورهم، وأمرهم، ونهيهم، وصدعهم بالحق؛ وجعلوا الأمة تشارك معهم في هذا العمل، لا يحجبون الحقائق عن الأمة بحجة أن الناس رعاع والناس همج والناس فيهم، وفيهم، لا،كانوا يعلنونها للناس ويجعلون الناس يتبنون الدفاع عن الحق بمجرد أن قاله العالم ونطق به.
حجته في الإنكار العلني
فقال له العز بن عبد السلام: كل ما فعلتَ لا يضيرني، بل هو أمر كنت أتمناه منذ زمان، وأما قولك بأن كلامي يثير الفتنة فأنا ما تكلمت إلا بالحق، ورد البدع لا يثير الفتن، إنما الذي يثير الفتن هو السكوت على البدع وجحد الحق وكتمانه.
العز بن عبد السلام رحمه الله كان ينطلق من مبدأ صريح، وموقف واضح عبّر عنه في خطابه الذي أشرت إليه قبل قليل، فقال لهذا الأمير الذي عاتبه: "ثم إننا بعد ذلك نـزعم أننا من جملة حزب الله عز وجل وأنصار دينه وجنده، والجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي" هكذا يقول العز بن عبد السلام "الجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي".
إذاً ليس صحيحاً أن الإنسان يدعي أنه جندي من جنود الله عز وجل، مجاهد في سبيل الله، آمر بالمعروف ناه عن المنكر ثم لا يخاطر بنفسه في هذا السبيل ولو مرة واحدة، هذا لا يكون أبداً، الذي يريد السلامة لا يكون جندياً، ولا يلبس لباس الجند، ولا يحمل البندقية؛ بل يجلس في بيته، هذه هي طريقة العز بن عبد السلام رضي الله عنه.
لقب الشيخ بهذا اللقب الذي اخترته عنواناً لهذه المحاضرة (سلطان العلماء) من قبل أحد تلاميذه، وهو الشيخ المعروف الإمام ابن دقيق العيد، ولهذا اللقب سرٌ معروف يتضح من خلال هذه المحاضرة.
وخلاصته أن العز بن عبد السلام كان محتسباً على عِلْية القوم من الأمراء والسلاطين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان ذا قوة وسطوة وهيبة تذل عندها كل القوى، وتضعف عندها كل الإمكانيات.
والشيخ الإمام العز بن عبد السلام عاش في الشام ثم في مصر، وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين، وكانت دولةً قوية، ولكن في آخر عصرها تنافسوا على الملك وأصبح بعضهم يقاتل بعضاً، حتى اضطر بعضهم إلى أن يتحالف مع الصليبين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه، وبني عمه، أو يستعين بهؤلاء النصارى الصليبيين في قتالهم وفتح بلادهم.
ثم كان في آخر دولتهم أن حكمت امرأة ولأول مرة في تاريخ الإسلام تملك المسلمين امرأة كانت تسمى شجرة الدر، وحيث أنها لما مات زوجها أخفت خبر وفاته وعينت رجلاً يحكم بالاسم، وكانت هي تدير الأمور، وظلت على هذا الحال ثلاثة أشهر تقريباً حتى امتعض الناس من هذا الأمر وغضبوا، ثم تنازلت هي عن الأمر وعاد الحق إلى نصابه.
وهذه من الأشياء التي يتمسك بها بعض الذين يحاولون أن يقولوا: إن المرأة يمكن أن تتولى السلطة والحكم في بلاد الإسلام، يحتجون بأنه على مدى أربعة عشر قرناً حكمت امرأة ثلاثة أشهر، ولا أدري كيف يحتجون بثلاثة أشهر ولا يحتجون ببقية القرون كلها، التي لم يحدث فيها ولا من قبيل المصادفة أن امرأة حكمت، ولم يحدث فيها مرة واحدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة -مثلاً- في أحد الغزوات أو السرايا أنه كان يجعل امرأة تكون نائباً عنه في المدينة المنورة؟! والمهم أن هذا هو حال دولة بني أيوب.
بعد ذلك آل الأمر إلى ما يسمى بالمماليك، وكانوا من الأتراك وغيرهم وكانوا عبيداً مماليك للحكام، ثم قفزوا على السلطة وحكموا فيها فترة من الزمن، وقد عاصر الإمام السلطان العز بن عبد السلام - سلطان العلماء - عاصر بداية وجود هذه الدولة وعاش فترة فيها.
ومن أبرز الجوانب التي أود أن أتحدث فيها عن شخصية هذا الرجل: هو ما يتعلق بالشجاعة والجرأة التي كان يتميز بها في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد جدد السلطان العز بن عبد السلام الإنكار العلني على السلاطين والأمراء، فكان ينكر عليهم علناً وأمام العامة، وأحياناً من على أعواد المنابر ولا يخاف في الله لومة لائم، وهذا هو الهدي والسمت الذي كان موجوداً عند الصحابة رضي الله عنهم والتابعين.
فمثلاً لما جاء مروان بن الحكم وغير بعض سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدم خطبة العيد على الصلاة ثم خطب على المنبر، قام أبو سعيد الخدري وأنكر عليه، وكذلك قام رجل آخر فيما بعد وأنكر، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، بل إن الرجل وقف للأمير وجره بثوبه وقال له: خطبت قبل الصلاة وكانت الصلاة قبل الخطبة فقال: قد ترك ما هنالك.
وهكذا كان عمر رضي الله عنه يقف على المنبر، فيأمر وينهى، فيقوم إليه الرجل فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويحتج عليه وهو على المنبر، فجدد العز بن عبد السلام هذا الهدي والسمت الذي كان معروفاً عند الصحابة والتابعين والأئمة المهديين فكان ينكر على هؤلاء العلية من القوم، على السلاطين وغيرهم علانية، ولم يكن يعتقد أن في هذا ضرراً أو إثارة فتنة.
كان الشيخ يدرك أن في ذلك الإنكار العلني وقول كلمة الحق والصدع بها، فوائد عديدة ومن أهمها:
أولا: أن العالم يعذر ويعرف الناس أنه قال وتكلم وأمر ونهى فلم يطع؛ فيعذر، ولا يكون مجالاً لحديث الناس أن يقولوا: داهن، ونافق، وسكت عن الحق، لا، بل يعرفون أنه قال بملء فيه ولكن لم يستجب له فحينئذٍ هو معذور في ذلك.
وقد مررت بعددٍ من بلاد الإسلام في أقاصي الأرض بل وفي غيرها من البلاد الكافرة التي يوجد بها بعض المسلمين، فوجدت أنهم يعتبون كثيراً على علماء الأمة أنه حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وما سمعنا كلمة حق.
إذاً: العالم إذا قالها صريحة واضحة؛ فإنه يكون في ذلك العذر له عند الناس.
ومن فوائد ذلك -أيضاً- التفاف العامة حول هذا العالم إذا رأوه يقول كلمة الحق بقوة وشجاعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنهم إذا رأوا ذلك التفوا حوله، وأحاطوا به، وأخلصوا له الود، ووفوا معه، لماذا؟ لأنهم يعرفون أن هذا عالم يريد وجه الله والدار الآخرة، ليس له مطامع، ولا مقاصد، وأنه بذل نفسه في سبيل الله عز وجل.
فمن أجل ذلك يحيطون به، ويفدونه بأرواحهم ومهجهم، ويبذلون من أجله وفي سبيل الحفاظ على مكانته كل غالٍ ونفيس، بخلاف ما إذا لم يكونوا يعلمون بما يقول ويفعل فإنهم قد يتهمونه، ويسوء ظنهم به، وينفضون من حوله، فيبقى العالم منفرداً ليس معه أتباع، ولا يستجيب له أحد، ولا ينتفع بعلمه أحد.
ومن فوائد إنكار العالم بهذه الطريقة: أنه يشجع الآخرين على الإنكار، فإن كثيراً من الناس يقولون: إذا سكت العالم فغيره من باب الأولى، وإذا سكت طالب العلم فكذلك.
فكان العز بن عبد السلام رضي الله عنه ورحمه الله حين يصدع بها عالية مدوية على أعواد المنابر وفي ملأٍ من الناس، كان يفتح الطريق للآخرين ويقودهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يهابوا ولا يخافوا في الله لومة لائم.
ومن الفوائد: قبول الحق، فإن الحق إذا قيل علناً، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، من قبل عالم موثوق معروف بصدقه وإخلاصه وأنه لا يريد الحياة الدنيا ولا زينتها، ولا يبغي علواً في الأرض ولا فساداً كان إعلانه بذلك سبباً في قبول الحق الذي قال به والإذعان له.
ومن أهم فوائد ذلك: رفع مستوى الأمة، وعدم حجب الحقائق عنها، بمعنى أن العالم إذا جهر بالحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر كأنه يقول للأمة كلها: أنتم الحكم بيني وبين خصمي، فأنا قلت الحق وأنتم اسمعوا، فيرتفع مستوى الأمة حينئذٍ، وتصبح أمة مؤثرة قوية، كل فرد منها له قيمته، وله مكانته ورأيه، وله كلمته، وليسوا مجرد أتباع يؤمِّنون ويؤيدون ولا يعرفون هذا من ذاك، ولا يستطيعون أن يشاركون بالرأي والمشورة، لا،بل أصبحت أمة قوية لها ثقل ولها مكان.
وهذا لا يكون إلا إذا أشركها العلماء في أمورهم، وأمرهم، ونهيهم، وصدعهم بالحق؛ وجعلوا الأمة تشارك معهم في هذا العمل، لا يحجبون الحقائق عن الأمة بحجة أن الناس رعاع والناس همج والناس فيهم، وفيهم، لا،كانوا يعلنونها للناس ويجعلون الناس يتبنون الدفاع عن الحق بمجرد أن قاله العالم ونطق به.
لم يكن العز بن عبد السلام يرى مانعاً شرعياً من ذلك، بل بالعكس كتب العز بن عبد السلام لأحد الأمراء، لما كتب إليه أحد الأمراء خطاباً شديد اللهجة يعاتبه على بعض الأمور ويقول تكلمت في أمور لا داعي لها وكان يجب أن لا تتحدث فيها، وفرض عليه الإقامة الجبرية في بيته وعاقبه بعقوبات.
فقال له العز بن عبد السلام: كل ما فعلتَ لا يضيرني، بل هو أمر كنت أتمناه منذ زمان، وأما قولك بأن كلامي يثير الفتنة فأنا ما تكلمت إلا بالحق، ورد البدع لا يثير الفتن، إنما الذي يثير الفتن هو السكوت على البدع وجحد الحق وكتمانه.
العز بن عبد السلام رحمه الله كان ينطلق من مبدأ صريح، وموقف واضح عبّر عنه في خطابه الذي أشرت إليه قبل قليل، فقال لهذا الأمير الذي عاتبه: "ثم إننا بعد ذلك نـزعم أننا من جملة حزب الله عز وجل وأنصار دينه وجنده، والجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي" هكذا يقول العز بن عبد السلام "الجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي".
إذاً ليس صحيحاً أن الإنسان يدعي أنه جندي من جنود الله عز وجل، مجاهد في سبيل الله، آمر بالمعروف ناه عن المنكر ثم لا يخاطر بنفسه في هذا السبيل ولو مرة واحدة، هذا لا يكون أبداً، الذي يريد السلامة لا يكون جندياً، ولا يلبس لباس الجند، ولا يحمل البندقية؛ بل يجلس في بيته، هذه هي طريقة العز بن عبد السلام رضي الله عنه.
ومن هذه الطريقة كان له مواقف في غاية العجب، وهذه المواقف لولا أنها مسطرة ومكتوبة لقلنا إنها خيال من الخيال لكنها مكتوبة، والذين كتبوها من العلماء الذين عاصروه وعاشروه وعاشوا معه، فأذكر لكم بعض هذه المواقف العجيبة:
إنكاره على الملك إسماعيل لتحالفه مع النصارى
وبعد فترة حصل أن الملك الصالح إسماعيل حالف النصارى الصليبيين أعداء الله ورسله، وسلّم لهم بعض الحصون كـقلعة الشقيق وصيدا وبعض الحصون وبعض المدن، أعطاها لهم من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب بـمصر.
فلما رأى العز بن عبد السلام هذا الموقف الخياني المتآمر الموالي لأعداء الله ورسله لم يصبر، فصعد على المنبر وتكلم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين، وقالها له صريحة، وقطع الدعاء له في الخطبة بعد ما كان اعتاد أن يدعو له، وختم الخطبة بقوله: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً، تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ثم نـزل، وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده، فغضب عليه غضباً شديداً، وأمر بإبعاده عن الخطابة وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة.
بعد ذلك خرج العز بن عبد السلام من دمشق مغضباً إلى جهة بيت المقدس فصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة والتقى بأمراء النصارى قريباً من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من خاصته وبطانته وقال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام ولاطفه ولاينه بالكلام الحسن واطلب منه لعلك تأتي به معك إلي ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه.
فذهب الرسول إلى العز بن عبد السلام وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه إلا أن تأتي وتقبل يد السلطان لا غير، فكل ما في الأمر أن تأتي إلى الملك الصالح إسماعيل وتقبل يده، وتعود إلى ما كنت عليه ونـزيدك مناصب جديدة.
فضحك العز بن عبد السلام ضحكة الساخر، وقال: يا مسكين! والله ما أرضى أن الملك الصالح إسماعيل يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده! يا قوم، أنا في وادِ وأنتم في وادٍ آخر، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له: إذن نسجنك، فمعي أمر إذا لم تمتثل أن تسجن، فقال: افعلوا ما بدا لكم.
فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ القرآن في هذه الخيمة، وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد مجلساً أو مؤتمراً مع بعض زعماء النصارى الصليبيين، وكانوا قريبين من العز بن عبد السلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر قساوسة المسلمين، -يريد أن يفتخر عندهم بهذا العمل- سجناه؛ لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين، فماذا قال له ملوك النصارى؟ -لقد ظن أنهم سوف يشكرونه على هذا العمل- لكنهم قالوا له: والله! لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.
أي لو كان عندنا رجل بهذا الإخلاص للأمة وبهذه القوة، وبهذه الشجاعة؛ لغسلنا رجليه وشربنا الماء الذي غسلنا به رجليه، فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذل، وكانت هذه بداية هزيمته وفشله، فجاءته جنود المصريين وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبد السلام.
هذا موقف صدع به العز بن عبد السلام -رحمه الله- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر، ورأى أن هذا الذي يسعه، مع أنه كان يستطيع غير ذلك، لكن رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب خاصةً أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها وتجولوا في أسواقها ودكاكينها، وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين.
ولذلك وجه إليه استفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح إلى النصارى؟ فأفتى رضي الله عنه بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز، لأنك تعلم أنهم سوف يصوبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين.
موقفه مع نجم الدين أيوب
وكان المتوقع أن العز بن عبد السلام يقول: هذه مناصب توليتها ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظاً على مصالح المسلمين، وأن لا أعكر ما بيني وبين هذا الحاكم خاصة أن الملك الصالح أيوب في مصر مع أنه رجل عفيف وشريف، إلا أنه كان رجلاً جباراً مستبداً شديد الهيبة، حتى إنه ما كان أحد يستطيع أن يتكلم بحضرته أبداً، ولا يشفع في أحد، ولا يتكلم إلا جواباً لسؤال لشدة هيبته.
حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائماً نقول -ونحن في مجلس الملك الصالح أيوب-: ما نخرج من المجلس إلا إلى السجن؛ لأنه رجل مهيب وإذا سجن إنساناً نسيه، ولا أحد يستطيع أن يكلمه فيه أو يذكره به، وكان حوله الخدم، والحشم، والأعوان، والشرط.
رجل له هيلمان، وسلطة، وصولجان، وخوف، وذعر في نفوس الناس، والخاص والعام، فماذا كان موقف العز بن عبد السلام مع هذا الرجل؟ كان له موقف في غاية الطرافة: في يوم العيد خرج الموكب، موكب السلطان يجوب شوارع القاهرة والشرطة مصطفون على جوانب الطريق والأمراء، وهذه كانت عادة سيئة موجودة عند الأمراء في ذلك الوقت يقبلون الأرض بين يدي السلطان، فكان له هيبة وأبهة والسيوف مصلتة.
فوقف العز بن عبد السلام وقال: يا أيوب! -يخاطب الحاكم- يا أيوب التفت إليه الحاكم مذهولاً من الذي يخاطبه باسمه الصريح، هكذا بلا مقدمات: يا أيوب فالتفت إليه، فقال له: ما حجتك عند الله عز وجل غداً إذا قال لك ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر فأبحتَ الخمور.
فقال: ويحدث هذا في مصر؟ قال: نعم، في مكان كذا، وكذا، حانة يباع فيها الخمر، فقال: يا سيدي! هذه من عهد أبي أنا ما فعلت هذا، فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذن أنت من الذين يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:23] فقال: لا، أعوذ بالله وأصدر أمراً مرسوماً بإبطالها فوراً ومنع بيع الخمور في مصر.
موقف عجيب وانتهى الموقف، ورجع العز بن عبد السلام رضي الله عنه إلى مجلسه يعلم الطلاب ويدرسهم، وكان يعلمهم مواقف البطولة والشجاعة قبل أن يعلمهم الحلال والحرام، ويعلمهم الغيرة على الدين مثلما يعلمهم الأحكام، لأنه لا قيمة لطالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن وكتب الفقه والحديث، ومع ذلك غيرته ميتة على الإسلام، لا يغضب لله ورسوله، لا يتمعر وجهه إذا ما رأى المنكر، لا يتطلع إلى منازل الصديقين والشهداء، ما قيمة هذا العلم؟!
فرجع العز بن عبد السلام إلى مجلس درسه، فجاءه أحد تلاميذه، يقال له الباجي، يسأل، فيقول: يا سيدي، كيف الحال؟ قال: بخيرٍ والحمد لله، قال: كيف فعلت مع السلطان؟ قال: يا ولدي، رأيت السلطان في أبهة ومنظر ومظهر فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فأردت أن أهينه.
إذاً: العز بن عبد السلام كان يربي السلطان، كان العز يستطيع أن يقول للحاكم بأذنه: في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر، لكن لماذا أعلن هذا الأمر على الناس؟ إنه يريد أن يربي السلطان، فهو يريد إنكار منكرين في وقت واحد، المنكر الأول -وهو صغير بالنسبة للثاني-: الحانة التي يباع فيها الخمر، ويمكن أن تزال ببساطة.
لكن المنكر الثاني الأكبر هو: هذا الغرور، وهذه الأبهة، وهذا الطغيان الذي بدأ يكبر في نفس الحاكم، فأراد أن يقمعه ويقعده ويزيله، قال: فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فقال له الباجي (تلميذه): يا إمام، أما خفت؟ قال: لا والله يا ولدي، استحضرت عظمة الله عز وجل فرأيت السلطان أمامي كالقط.
إلى هذا الحد! يا سبحان الله! لكن ما رأيكم في طالب علم أصبح يخاف حتى من القط! هل يأمر؟ هل ينهي؟ لا، ولذلك أقول: كان العز بن عبد السلام رضي الله عنه يتخذ هذه المواقف لأغراض عديدة منها -كما سيأتي- تربية الناس على مثل هذه المواقف وأن يجر الأمة كلها إلى مواقف شجاعة قوية.
بيعه للمماليك الأمراء
المهم أنه كان كبير القضاة بمصر، فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء لواحد من هؤلاء المماليك يراها لا تصلح فيبطلها؛ لأن هذا عبد مملوك حتى لو كان أميراً كبيراً عندهم أو قائداً في الجيش، فيرده ويقول له: يجب أن يُحَرر فيباع أولاً، وبعد ذلك يصح بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها، أما الآن فهم عبيد.
لهذا فإنهم تضايقوا من هذا العمل، وجاءوا إليه يقولون له: ماذا تصنع بنا؟ قال: أريد أن أبيعكم، فغضبوا أشد الغضب، ورفعوا أمره إلى السلطان، فغضب السلطان وقال: هذا أمرٌ لا يعنيه، هذا يتدخل فيما لا يعنيه -وهذه كلمة قديمة تستخدم: هذا يتدخل فيما لا يعنيه- فلما سمع العز بن عبد السلام هذه الكلمة، تصرف تصرفاً بسيطاً لكنه مهم، فقام وعزل نفسه من القضاء.
إذاً: من أهم جوانب قوة العز بن عبد السلام أنه كان أكبر من المناصب، وأكبر من الوظائف، وأكبر من الأسماء، ولذلك ما كان يتطلع إليها أو يستمد قوته منها، بل كان يستمد قوته من إيمانه بالله عز وجل، ومن وقفته إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بكلمة الحق، ثم من هذه الأمة التي أعطته مهجها وأرواحها.
وأصبح العز بن عبد السلام في حياتهم وقلوبهم هو تاج الزمان ودرته، وأصبح هو أعظم عالم وداعية وإمام في العالم الإسلامي في وقته، فلذلك عزل نفسه من القضاء؛ لأن كل أمور المسلمين تدخل تحت تصرف القاضي، والعالِم يحكم فيها بحكم الله ورسوله.
ثم قام بتصرف آخر مشابه، وهو أنه جمع متاعه وأثاث بيته واشترى حمارين، وضع الأثاث والأمتعة -البسيطة- في حمار، وركّب زوجته وطفله على الحمار الآخر وأمسك رسن الحمار، ومشى باسم الله. فإلى أين هذا الموكب البسيط المتواضع؟ إنه يريد أن يخرج من مصر ويرجع إلى بلده الأصلي، يرجع إلى الشام، وليس في الأمر ما يدعو إلى أن يذكر.
إنها قصة عادية رجل ركب حمارين ومشى لكن ما الذي حدث؟!
لقد خرجت الأمة كلها وراء العز بن عبد السلام، حتى ذكر المؤرخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعباد والرجال والنساء والأطفال، وحتى الذين لا يؤبه لهم، هكذا تقول الرواية: أي النجارون، الصائغون، والصباغون، والكناسون وكل أصحاب الحرف والمهن الشريفة والوضيعة من الأمة خرجت وراء العز بن عبد السلام في موكب مهيبٍ رهيب.
فجاء الناس إلى السلطان وقالوا له: من بقي لك تحكمهم إذا خرج العز بن عبد السلام وخرجت الأمة كلها وراءه؟! ما بقي لك أحد، قد ذهب ملكك، فأسرع الملك الصالح أيوب إلى العز وركض يدرك هذا الموكب، ويسترضيه، ويقول له: ارجع ولك ما تريد، قال: لا أرجع أبداً إلا إذا وافقت على ما طلبت: أن نبيع هؤلاء المماليك، قال: لك ما تريد، افعل ما تشاء.
فرجع العز بن عبد السلام، وبدأ المماليك يحاولون به: أمعقول يبيعنا؟! أمعقول أن مسئولاً كبيراً في دولة المماليك يعلن عليه بالأسواق بالمزاد العلني: من يشتري؟ من يشتري؟ لا يمكن هذا! فغضبوا حتى قام نائب السلطنة وهو واحد منهم وذهب وقال: لا بد من تصفية جسدية، لا يوجد حل إلا أننا نقتل هذا الرجل؛ لأنه أصبح غصة في حلوقنا فلابد من قتله.
فذهب نائب السلطنة -وهو مملوكي وهو أول من سوف يحرج عليه في المزاد العلني- ذهب ومعه مجموعة من الأمراء ثم طرق باب العز بن عبد السلام وكانت سيوفهم مصلتة يريد أن يقتله فخرج ولد العز بن عبد السلام واسمه عبد اللطيف، فلما رأى ما رأى -موقف مهيب مخيف- رجع إلى والده، وقال: يا والدي انج بنفسك، الموت، الموت، قال: ما الخبر؟ قال: الخبر: كيت، وكيت، فقال العز بن عبد السلام لولده: يا ولدي والله! إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله عز وجل.
ثم خرج مسرعاً فما لبس ثياباً ولا شيئاً؛ لأنه يخشى أن تفوته هذه الفرصة خرج مسرعاً إلى نائب السلطنة فلما رآه يبست أطرافه وتجمد! وأصابته حالة عصبية من الذعر والرعب، وأصبح يضطرب، وسقط السيف من يده، واصفر وجهه، وبدأ يضطرب، وسكت قليلاً، ثم تراد إليه نَفَسُه، فبكى وقال: يا إمام، حدِّث، ماذا تعمل؟ قال: أبيعكم. قال: تحرج علينا؟ قال: نعم، قال: تقبض الثمن؟ قال: نعم، قال: أين تضعه؟ قال: في مصالح المسلمين العامة، في بيت المال أضعه، فطلب منه الدعاء، لقد بكى بين يديه وطلب منه الدعاء له، ثم انصرف.
لقد فعلها العز بن عبد السلام رضي الله عنه، فقام وجمع هؤلاء، وأعلن عنهم، وبدأ يبيعهم، وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعد أن يوصله إلى أعلى الأسعار، لا يبيعه تحلة للقسم، لا،بل يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء، فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني مثل البائع الشحيح، فلا يبيع الأمير إلا بعدما يستوفي قيمته.
وهذه القصة حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأنها لم تحدث في تاريخ البشرية كلها، وأعتقد أن هذا صحيح، طيلة تاريخ البشرية في جميع الأمم، إذا أتوا يفاخرونا نفاخرهم بأئمة أفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام، هاتوا لنا عالماً يقف مثل هذا الموقف! أو شخصية فكرية في الأمم كلها يقف مثل هذا الموقف! وتاريخ الإسلام كله لا يعرف فيه مثل هذا الموقف الذي حصل للعز بن عبد السلام رضي الله عنه وأرضاه.
وقد سجل هذا الموقف بقلمه البارع وأدبه الرفيع الأديب مصطفى صادق الرفاعي رحمه الله في كتابه وحي القلم تحت عنوان (أمراء للبيع) وألف أحد المعاصرين كتاباً سماه العز بن عبد السلام بائع الملوك.
هذا جانب، إذاً، العز بن عبد السلام كان شجاعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بكلمة الحق، وكان يرى أن يقول ذلك علانية وصراحة ولا يداهن ولا يخاف في الله لومة لائم.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5157 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |