رحلة حج محمد الأمين الشنقيطي


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فأما هذا العلامة فقد تقدم أن اسمه: محمد الأمين فاسمه مركب: الأمين اسمه ومحمد أضيفت، كما كان العامة يضيفون للبركة، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح ، من أولاد الطالب هوبك ، وهذا من قبيلة جكن الأبرجد، وهي القبيلة الكبيرة المعروفة المشهورة بالجكنين، ويرجع نسبهم إلى حمير.

وقد ولد رحمه الله تعالى سنة (1325) هـ عند ماء يسمى تنبة، من أعمال مديرية كيفا من القطر المسمى شنقيط في دولة موريتانيا المعروفة الآن، ونشأ رحمه الله يتيماً.

الشنقيطي يبدأ بحفظ القرآن

قال: توفي والدي وأنا صغير، أقرأ في جزء عم، وترك لي ثروة من الحيوان والمال، وكانت سكناي في بيت أخوالي -وأمي بنت عم أبي- وحفظت القرآن على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم ، حفظ القرآن وعمره عشر سنوات رحمه الله تعالى، وتعلم رسم المصحف العثماني عن ابن خاله وقرأ عليه التجويد، لقراءة نافع ، برواية ورش وكذلك قالون ، وأخذ عنه بذلك سنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمره ست عشرة سنة، ودرس القرآن منهجاً متكاملاً، بما في ذلك رسمه ونوع كتابته، وضبط المتشابه في الرسم والتلاوة، وحفظ في ذلك السن بعض الأراجيز المتعلقة بهذا الفن والعلم، وكذلك درس مختصرات في فقه الإمام مالك رحمه الله كرجز الشيخ ابن عاشر ، وأخذ مبادئ النحو الآجرومية، وتمرينات واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية، أخذها عن أمه، فكانت أمه إذاً عندها علم واضح بهذا، وهذا كثير عند الشناقطة الاهتمام باللغة العربية، وحفظ المنظومات في هذا، وكذلك في الأصول أخذ نظم الغزوات لـأحمد البدوي الشنقيطي يزيد على خمسمائة بيت وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بـحماد ، ونظم عمود النسب للمؤلف وهو يُعد بالآلاف، ودرس أشياء في علوم القرآن والأدب والسير والتاريخ.

هذا فقط في محيط الأقارب من أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله، وكذلك درس بقية الفنون، مثل الفقه المالكي على الشيخ محمد بن صالح ، قسم العبادات، ثم درس عليه النصف من ألفية ابن مالك رحمه الله، ودرس على عدد من العلماء الشناقطة الجكنين، كالشيخ محمد بن صالح المشهور بـابن أحمد الأفرم ، والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار والشيخ العلامة أحمد بن عمر وغيرهم.

قال: وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون، النحو والصرف والأصول والبلاغة، وبعض التفسير والحديث، وأما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة، وكانت طريقة التدريس أن يأتي بعض المشايخ أو بعض العلماء في البوادي يحلون بها، ويتوافد عليهم الطلاب في خيام أو في مبانٍ بدائية تعد لهذا الغرض، وكان الشيخ يُعرف بالمرابط الذي يأتي ويدرس، ولا يأخذ مالاً بل إن كان لديه مال وزعه على الطلبة وأعطاهم، وكانت طريقتهم أنه لا يحق للطالب لديهم أن يجمع بين فنين في وقت واحد، بل يدرس فناً حتى يكمله، كالنحو مثلاً ثم يبدأ في البلاغة، وهكذا، ويبدأ في الفقه ثم بعد ذلك يثني بالأصول ونحو ذلك.

يكتب الطالب في لوح خشبي قد لا يستطيع حفظه ثم يمحوه ثم يكتب قدراً آخر حتى يتم المقرر في الفن، مثل: الألفية في النحو يكتبها أبياتاً حتى يحفظها، ويمحو ويكتب الأبيات التي بعدها وهكذا، فإذا حفظ المتن تقدم للدراسة على الشيخ، يشرحه لهم، في مجالس شرحاً وافياً بقدر ما عنده من تحصيل، وليس العادة أن يفتح الشيخ كتباً عندهم، وبعد ذلك يراجعون ما أخذوه عن الشيخ ويستذكرونه ويناقشونه، ويقابلونه لكي يتأكدوا من ضبط ما أخذوه.

رحلة الشنقيطي في طلب العلم

وكان الشنقيطي -رحمه الله- في أول أمره وهو في سن الطفولة ميالاً للهو واللعب كغيره من الأطفال، قال: كنت أميل للهو واللعب أكثر من الدارسة حتى حفظت الحروف الهجائية، وبدءوا يقرءونني إياها بالحركات، بَ فتحة، بِ كسرة، بُ ضمة، وهكذا التاء والثاء، فقلت لهم: أو كل الحروف هكذا؟ إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة، فتركوني فقرأتها، قال: ولما حفظت القرآن وأخذت الرسم العثماني وتفوقت فيه على الأقران، عنيت بي والدتي وأخوالي أشد العناية، وعزموا على توجهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين، أحدهما عليه مركبي وكتبي والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات وقد هيئت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب، وملابسي كأحسن ما تكون فرحاً بي، وترغيباً لي في طلب العلم ... إلى أن قال: هكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل.

فإذاً الدرس العظيم الذي نأخذه من هذه القصة، أن تنشئة الأطفال على طلب العلم وإظهار الفرح بهم إذا حفظوا شيئاً أو نبغوا في شيء، وإعطائهم من الدنيا والأعطيات والهدايا والملابس الجميلة ونحو ذلك، وبيان قدرهم ورفعة شأنهم من الأشياء التي تحمس الولد على الطلب، وهكذا كانوا يعتنون به ولا شك أن مثل هذه الأم في هذه العناية تخرج مثل الشنقيطي رحمه الله تعالى.

وبعد ذلك سار في هذا المركب، يطوف على أهل العلم في القرى التي حوله يحصل ويجلس إليهم، وقال: قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل، فسأل عني من أكون في ملأ من تلامذته، فقلت مرتجلاً:

هذا فتى من بني جكان قد نزلا     به الصبا عن لسان العرب قد عدلا

رمت به همة العلياء نحوكم          إذ شام برق علوم نوره اشتعلا

فجاء يرجو ركاماً من سحائبه     تكسو لسان الفتى أزهاره حللا

إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبى     ألا يميز شكل العين من فعلا

وقلنا: عين الفعل من أكثر المشكلات في دراسة اللغة العربية، وما هي التغيرات التي تطرأ على عين الفعل، وأنواع الأفعال بالنسبة لعين الفعل، قال:

وقد أتى اليوم صَبّاً مولعاً كلفاً     فالحمد لله لا أبغي له بدلا

وهذا إشارة إلى قصيدة لامية الأفعال، المبدوءة بالحمد لله، وقصد بقوله شكل العين دارسة قصيدة لامية الأفعال على هذا الشيخ، ولما لُوحِظت نجابته أذن له مشايخه بأن يقرن بين كل فنين -مع أن العادة عندهم عندما يبدأ الطالب لا يجمع أكثر من فن واحد- تفرساً فيه، وحرصاً على سرعة تحصيله، فانصرف بهمة عالية.

قال: توفي والدي وأنا صغير، أقرأ في جزء عم، وترك لي ثروة من الحيوان والمال، وكانت سكناي في بيت أخوالي -وأمي بنت عم أبي- وحفظت القرآن على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم ، حفظ القرآن وعمره عشر سنوات رحمه الله تعالى، وتعلم رسم المصحف العثماني عن ابن خاله وقرأ عليه التجويد، لقراءة نافع ، برواية ورش وكذلك قالون ، وأخذ عنه بذلك سنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمره ست عشرة سنة، ودرس القرآن منهجاً متكاملاً، بما في ذلك رسمه ونوع كتابته، وضبط المتشابه في الرسم والتلاوة، وحفظ في ذلك السن بعض الأراجيز المتعلقة بهذا الفن والعلم، وكذلك درس مختصرات في فقه الإمام مالك رحمه الله كرجز الشيخ ابن عاشر ، وأخذ مبادئ النحو الآجرومية، وتمرينات واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية، أخذها عن أمه، فكانت أمه إذاً عندها علم واضح بهذا، وهذا كثير عند الشناقطة الاهتمام باللغة العربية، وحفظ المنظومات في هذا، وكذلك في الأصول أخذ نظم الغزوات لـأحمد البدوي الشنقيطي يزيد على خمسمائة بيت وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بـحماد ، ونظم عمود النسب للمؤلف وهو يُعد بالآلاف، ودرس أشياء في علوم القرآن والأدب والسير والتاريخ.

هذا فقط في محيط الأقارب من أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله، وكذلك درس بقية الفنون، مثل الفقه المالكي على الشيخ محمد بن صالح ، قسم العبادات، ثم درس عليه النصف من ألفية ابن مالك رحمه الله، ودرس على عدد من العلماء الشناقطة الجكنين، كالشيخ محمد بن صالح المشهور بـابن أحمد الأفرم ، والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار والشيخ العلامة أحمد بن عمر وغيرهم.

قال: وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون، النحو والصرف والأصول والبلاغة، وبعض التفسير والحديث، وأما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة، وكانت طريقة التدريس أن يأتي بعض المشايخ أو بعض العلماء في البوادي يحلون بها، ويتوافد عليهم الطلاب في خيام أو في مبانٍ بدائية تعد لهذا الغرض، وكان الشيخ يُعرف بالمرابط الذي يأتي ويدرس، ولا يأخذ مالاً بل إن كان لديه مال وزعه على الطلبة وأعطاهم، وكانت طريقتهم أنه لا يحق للطالب لديهم أن يجمع بين فنين في وقت واحد، بل يدرس فناً حتى يكمله، كالنحو مثلاً ثم يبدأ في البلاغة، وهكذا، ويبدأ في الفقه ثم بعد ذلك يثني بالأصول ونحو ذلك.

يكتب الطالب في لوح خشبي قد لا يستطيع حفظه ثم يمحوه ثم يكتب قدراً آخر حتى يتم المقرر في الفن، مثل: الألفية في النحو يكتبها أبياتاً حتى يحفظها، ويمحو ويكتب الأبيات التي بعدها وهكذا، فإذا حفظ المتن تقدم للدراسة على الشيخ، يشرحه لهم، في مجالس شرحاً وافياً بقدر ما عنده من تحصيل، وليس العادة أن يفتح الشيخ كتباً عندهم، وبعد ذلك يراجعون ما أخذوه عن الشيخ ويستذكرونه ويناقشونه، ويقابلونه لكي يتأكدوا من ضبط ما أخذوه.

وكان الشنقيطي -رحمه الله- في أول أمره وهو في سن الطفولة ميالاً للهو واللعب كغيره من الأطفال، قال: كنت أميل للهو واللعب أكثر من الدارسة حتى حفظت الحروف الهجائية، وبدءوا يقرءونني إياها بالحركات، بَ فتحة، بِ كسرة، بُ ضمة، وهكذا التاء والثاء، فقلت لهم: أو كل الحروف هكذا؟ إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة، فتركوني فقرأتها، قال: ولما حفظت القرآن وأخذت الرسم العثماني وتفوقت فيه على الأقران، عنيت بي والدتي وأخوالي أشد العناية، وعزموا على توجهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين، أحدهما عليه مركبي وكتبي والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات وقد هيئت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب، وملابسي كأحسن ما تكون فرحاً بي، وترغيباً لي في طلب العلم ... إلى أن قال: هكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل.

فإذاً الدرس العظيم الذي نأخذه من هذه القصة، أن تنشئة الأطفال على طلب العلم وإظهار الفرح بهم إذا حفظوا شيئاً أو نبغوا في شيء، وإعطائهم من الدنيا والأعطيات والهدايا والملابس الجميلة ونحو ذلك، وبيان قدرهم ورفعة شأنهم من الأشياء التي تحمس الولد على الطلب، وهكذا كانوا يعتنون به ولا شك أن مثل هذه الأم في هذه العناية تخرج مثل الشنقيطي رحمه الله تعالى.

وبعد ذلك سار في هذا المركب، يطوف على أهل العلم في القرى التي حوله يحصل ويجلس إليهم، وقال: قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل، فسأل عني من أكون في ملأ من تلامذته، فقلت مرتجلاً:

هذا فتى من بني جكان قد نزلا     به الصبا عن لسان العرب قد عدلا

رمت به همة العلياء نحوكم          إذ شام برق علوم نوره اشتعلا

فجاء يرجو ركاماً من سحائبه     تكسو لسان الفتى أزهاره حللا

إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبى     ألا يميز شكل العين من فعلا

وقلنا: عين الفعل من أكثر المشكلات في دراسة اللغة العربية، وما هي التغيرات التي تطرأ على عين الفعل، وأنواع الأفعال بالنسبة لعين الفعل، قال:

وقد أتى اليوم صَبّاً مولعاً كلفاً     فالحمد لله لا أبغي له بدلا

وهذا إشارة إلى قصيدة لامية الأفعال، المبدوءة بالحمد لله، وقصد بقوله شكل العين دارسة قصيدة لامية الأفعال على هذا الشيخ، ولما لُوحِظت نجابته أذن له مشايخه بأن يقرن بين كل فنين -مع أن العادة عندهم عندما يبدأ الطالب لا يجمع أكثر من فن واحد- تفرساً فيه، وحرصاً على سرعة تحصيله، فانصرف بهمة عالية.

قال: ومما قلت في شأن طلب العلم وقد كنت في أخريات زمني في الاشتغال بطلب العلم، دائماً اشتغالي به عن التزويج؛ لأنه ربما عاقني عنه، وكان إذ ذاك بعض البنات ممن يصلح لمثلي يرغبن في زواجي ويطمعن فيه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم عن ذلك المنوال أيست مني. كانت امرأة تريد أن تتزوج منه، لكنها يئست منه؛ لأنه كان في الطلب طويل الباع.

فتزوجت ببعض الأغنياء وقال لي بعض الأصدقاء: إن لم تتزوج الآن، من تصلح لك؟ تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال ولم تجد من يصلح لمثلك، يريد أن يصرفني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات:

دعاني الناصحون إلى النكـاح     غداة تزوجت بيض الملاح

فقالوا لي تزوج ذات دل     خلوف اللخط حائلة والوشاح

ضحوكاً عن مؤشرة رقاق     تمج الراح بالماء القراح

ثم قال:

فقلت لهم دعوني إن قلبي     من الغي الصراح اليوم صاح

ولي شغل بأبكار عذارى     كأن وجوهها غرر الصباح

أراها في المهالك لابسات     براقع من معانيها الصحاح

أبيت مفكراً فيها فتضحى     لفهم الفدم خافضة الجناح

أبحت حريمها جبراً عليها     وما كان الحريم بمستباح

يقصد مسائل العلم، وأنه قد صار مغرماً بها وأنه اشتغل بها عن النساء، وكما قلنا بأن الشنقيطي رحمه الله لم يكن مُتعبداً بترك الزواج، ولم يكن راغباً عنه مخالفةً للسنة، وهو يعلم أن الزواج سنة المرسلين وتزوج وأنجب أولاداً بعد ذلك، ولكن حيثُ أنه لم يكن ممن يجب عليه الزواج، فإنه لم يُسارع إليه، وإلا لو كان يُخشى على الإنسان من الشهوة أو يخشى على نفسه الحرام ويخشى على نفسه العنت فإنه يجب عليه أن يتزوج حالاً، وذكر نص العلماء في كتب النكاح من كتبهم الفقهية، في أوائل كتاب النكاح في كتب الفقه تجد أحكام النكاح الخمسة، يذكرها بعضهم ومنها: الوجوب، وأنه إذا لم يكن له طريق لتحصين نفسه من الزنا إلا بالنكاح، فيجب عليه أن يتزوج.

وإذا كان ذا شهوة ويصبر ويضبط نفسه، فيستحب له أن يتزوج، وكذلك المرأة، قالوا: إن كانت محتاجة إلى النفقة وإن كانت تواقة إلى الرجل، وإن كانت تخشى على نفسها من دخول واقتحام الفجرة عليها، فيجب عليها أن تتزوج.

المرأة ماذا تفعل؟ تخلي بين الزوج المتقدم وبين النكاح، أي: لا تمتنع، فهي لا تستطيع أن تطوف وتقول: تزوجوني أيها الرجال، لكن ماذا تفعل؟ ما الحل بالنسبة للمرأة؟

إذا وجب عليها النكاح، ألا تمنع من يتقدم إليها، ولا تمتنع عمن يتقدم إليها إن كان ذا خلقٍ ودين.

وبرز الشنقيطي رحمه الله بعلمه مبكراً، فصار يُدرس ويُستفتى ويستقضى ويطلب قضاؤه، ويُرحل إليه في هذا، وصارت أخبار نجابته شائعةً ذائعةً في القطر الموريتاني.

اشتغل بالتدريس والفتيا عند خروجه من مسقط رأسه للحج، حيث وجد أرضاً متعطشة للعلم، ولذلك أفتى ودرس وحكم في طريق رحلته إلى الحج ماراً بقرية كيفا في موريتانيا ، وتامشقط والعيون والنعمة وغيرها.

وكان مروره في هذه القرى على بعير ثم باعه في قرية النعمة وركب السيارة، وقلنا: لعله أراد بذلك الاستعجال لإدراك موسم الحج قبل فواته، فالرحلة كانت تأخذ وقتاً طويلاً حتى يصل إلى مكة ، وأكمل الطريق إلى قرية فاوى مروراً ببلد بنيامي عاصمة النيجر الفرنساوية في ذلك الوقت، وقرية الجنينة ، وبلدة أندرمان في السودان ، وسيأتي ذكر بعض فوائد هذه الرحلة العظيمة جداً في رحلة الشنقيطي رحمه الله في الحج، وهذا مؤلف مستقل رحلة الحج للشنقيطي رحمه الله.

وطريقته في القضاء أنه إذا أتاه الطرفان استكتب رغبتهما في التقاضي أولاً حتى يذعنا للحكم، يستكتب المدعي دعواه ويكتب جواب المدعى عليه في أسفل كتابة الدعوى، ثم يكتب الحكم مع الدعوة والإجابة، ويقول لهما: اذهبا إلى من شئتم من المشايخ أو الحكام أي: القضاة، فلا تأتي هذه العريضة واحداً من المشايخ إلا أقرها وصدق عليها عندما يرى قضاء الشنقيطي وحكمه فيها رحمه الله.

وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود، من ورعه رحمه الله، وقد كُونت لجنة بمسمى لجنة الدماء وطُلب من الشيخ الشنقيطي أن يكون فيها، فكان أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره رحمه الله.

ألف في صغره كتاباً أو نظماً في أنساب العرب قبل البلوغ، قال في أوله:

سميته بخالص الجمـان     في ذكر أنساب بني عدنان

قبل البلوغ، إن أولادنا الآن يلعبون بالأتاري، وبعد البلوغ يلعبون بالأتاري أيضاً، أما الشنقيطي فكان يؤلف نظماً في أنساب العرب، ولكنه بعد البلوغ دفنه، وقال: لأنه كان على نية التفوق على الأقران، لم يكتبه بنية خالصة، وقد لامه بعض المشايخ على دفنه، وقالوا: كان من الممكن تحويل النية وتحسينها، لكنه لم يفعل ذلك، وكتب رجزاً في فروع مذهب مالك ، يختص بالعقود من البيوع والرهون يبلغ آلافاً متعددة، يقول فيها:

الحمد لله الذي قد ندبا     لأن نميز البيع عن نفس الربا

ومنى بالمؤلفين كتبـا     تطرد أطواد الجهالة هبا

تكشف عن عين الفؤاد الحجبا     إذا حجاب دون علم ضربا

أشار رحمه الله إلى هذا النظم في مصنفه في التفسير، وفي قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة:276] وعلق ما نصه: وقد كنت حررت مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة، في نظم لي طويل في فروع مالك ، بقولي:

وكل ما يُذاق من طعام ربـا     النسي فيه من الحرام

مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف     ذاك الطعام جنسه أو ائتلف

وكذلك كما قلنا: إن مسائل الأطعمة من المسائل التي اختلف العلماء في علة الربا فيها، الآن الذهب بالذهب مثلاً بمثل والفضة بالفضة مثلاً بمثل، إذا زاد أو لم يحدث تقابض فهو ربا، وكذلك التمر بالتمر، صاع بصاعين ربا، القمح بالقمح والشعير بالشعير والملح بالملح.

بقية المطعومات وبقية الأشياء، والرز لم يذكر في الحديث، هل يقاس عليها أم لا؟ وهذه الأشياء كالزبيب والأشياء الأخرى التي لم تذكر مثل اللحوم، هل يجري فيها الربا أم لا؟ وغير ذلك من الثمار ونحوها ما هو الضابط، إذا بعت كيلوين بكيلو هل يصير ربا؟ ما هو الضابط؟ ما هي حدود الأشياء التي يجري فيها الربا؟ قيل الطعام.

وقال بعضهم: العلة الوزن، إذا كانت الأطعمة توزن، أما إذا كانت معدودة كتفاحتين بتفاحة، مثلاً فلا بأس وهكذا.

والآن صارت بعض الأشياء توزن، وبعض الأشياء كانت تباع بالعدد، البيض مثلاً أو التفاح تباع بالعدد، الآن يباع بالوزن، فهل الآن لما صار الناس يجرون على الوزن تغيرت المسألة الأولى؟ هذه مسألة عويصة فيها نقاش طويل، فقال في المنظومة:

وكل ما يذاق من طعام     ربا النسي فيه من الحرام

مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف     ذاك الطعام جنسه أو ائتلف

وإن لم يكن يطعم للدواء     مجرداً فالمنع ذو انتفاء

إلى آخر الكلام، فكانت هذه إشارة إلى هذه المسألة، المقصود أنه ألف نظماً في هذا، ثم ألف نظماً في الفرائض

أولها تركة الميت بعد الخـامس     بخمسة محصورة عن سادس

وحصرها في الخمس بالاستقراء     وانبذ لحصر العقل بالعراء

إلى آخر القصيدة، وكذلك فإنه رحمه الله تعالى قد ألف منظومات أخرى، ولما عزم على الحج ركب في رحلته المشهورة الزاخرة إلى الحج بأنواع المحاضرات والدروس، والمناظرات، والنكت الأدبية، والعلمية، والفوائد والشروحات التي حصلت وكتابة الفتاوى، وكتابة القضايا، رحمه الله تعالى.

بدأ الرحلة في السابع من شهر جمادى الآخرة، وحط عصا الترحال في العشر الأوائل من ذي الحجة من نفس العام، وصل على الموسم رحمه الله، وكان الباعث على الخروج كما بين قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] لا قول عمر بن أبي ربيعة :

إن كنت حاولت دنياً أو أقمت لها     ماذا أخذت بترك الحج من ثمن

ثم قال: اعلم أنا خرجنا من عند أهلنا بجانب الوادي والبطاح والمياه والنخيل وودعنا كل قريب وخليل، والبين يولج في القلوب الداء الدخيل، فترى ورد الخدود يطله جمود الدموع، والأعين تنكر السنة والهجوع، ماء العيون في الجفن حائر حسبما قال الشاعر:

ومما قد شجاني أنها يوم ودعت     ولت وماء العين في الجفن حائر

فلما أعادت من بعيد بنظرة     إلي التفاتاً أسلمته المحاجر

وخرج لسبع مضين من جمادى الآخرة في سنة (1367) هـ، يقول: وكان يوم خروجي لهذه القاعدة الكبيرة لسبع مضين لجمادى الآخرة، ومن سنة (1367) هـ أمننا الله مما نخشاه من الأمام والخلف.

وصول الشنقيطي إلى كيفا

فخرجنا من بيتنا يصحبنا بعض تلامذتنا إلى قرية اسمها كيفا فوصلناها في مدة خفيفة، والجمال تسعى بنا في الأودية والرمال، وفي مدة إقامتنا في كيفا ، سألتنا كريمة من بنات العم وهي أم الخيرات عن مسألتين فيما يحيك في النفس من عدم الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، انظر هذه من النساء تسأل في مسألة لا نعرف معناها، فضلاً عن الراجح فيها، وما هي الأقوال فيها ونحو ذلك.

فأجاب رحمه الله في أربع صفحات وعن السؤال الثاني في صفحة ونصف، قال: ثم ارتحلنا من كيفا عشية بعد أن توادعنا مع من يعز علينا، يُشيعنا فلان وفلان، فمررنا في الطريق بـأم البوادي أم الخز ، ونزلنا عند حي من قبيلة الأقيال اسمها حلة أهل الطالب جدة ، فأحسنوا إلينا غاية الإحسان، ومن جملة من زارنا عالم ذلك الحي ومفتيه، الشيخ الأستاذ محمد فال بن أحمد نوح ، فسألنا عن قول الأخضري في سلمه -في كلامه- على القياس الاستثنائي، وذكر البيت وجوابه عن القياس الاستثنائي، وبعد ذلك تابع المسيرة، قال: فصلنا عند قرية تامشقط عند صلاة المغرب، فزارنا جُل من فيها من الأكابر والعلماء، وعاملونا معاملة الكرماء، وذكر الذين نزلوا عنده صاحب البيت، وفلان وفلان، ودارت المذاكرة في البيت، والسؤال عن مسألتين فذكرهما، ومنهما تحقيق الفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، فأجاب عن ذلك في ثلاث صحائف، الأولى والثانية في صحيفة.

ثم قال: ثم ذهبنا من قرية تامشقط قبيل غروب الشمس، ونحن على جمالنا في أخريات جمادى الآخرة، وشيعنا جّل من فيها من الأكابر وودعونا وقدم لنا وقت الوداع العالم الأديب الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن جدة بن خليفة القلاوي أبياتاً:

مني إلى المعهود ذي الفتح الجلي     درع الكماة إذا التقت في الجحفل

مباحثات علمية في قرية العيون وتمبدرة

وذكر قصيدة في مدحه، مشوا وارتحلوا إلى قرية العيون وإلى تمبدرة ، وإلى تنبتقة ، وهكذا وصلوا إلى ذلك المكان في شهر الله رجب الفرد، قال: في هذه المسألة فتذكرت كل ما مر بي من اسم. أحياناً يمر بأسماء بلدان، فيذكر أبياتاً شعرية ورد فيها هذا الاسم دليلاً على سعة حفظه للشواهد الشعرية والأبيات بشكل عجيب جداً، ربما لا يُعرف له مثيل في عصرنا، لما وصل قال: وصلناها في شهر الله رجب الفرد، تذكرت قول مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني:

ما مر بي رجب إلا نعمت بـه     يا حبذا رجب لو دام لي رجب

وحصل هناك مباحثات أيضاً لما نزلوا في ذلك المكان، وكانت من المسائل التي نوقشت النص الفلاني منسوخ بالإجماع، ما حكم قول هذا؟ ودخلوا في مسألة الإجماع، لا يجوز النسخ به شرعاً أم لا؟ وأجاب عن ذلك ودارت مناقشة في مسألة هل يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين؟

لا يجوز الجمع بين الأختين من الحرائر في الزواج من حرائر، أما ملك اليمين إذا اشتريت إماء، هل يجوز أن تشتري أمة وأختها، أم لا؟ هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يشمل قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء:23] عموم يدخل في الإماء أو لا يدخل؟ أجاب عنها بسبع صفحات رحمه الله تعالى، وذكر مناقشات حصلت في فروع مذهب مالك رحمه الله.

ومن المسائل: هل يجوز السلم في الكاغد المتعامل به في فلوس النحاس؟ لأن هناك عُملات ورقية وعُملات معدنية، فأجاب عن ذلك، فهناك من علمائنا الآن من يجيز ذلك عشر ورق بتسع معدن، ومنهم من يقول: لا يجوز؛ لأن الكل ريالات، ومادامت العملة واحدة، ولو كانت من عملات مختلفة، يجوز التفاوت، قد تشتري -مثلاً- دولاراً بأربعة ريالات بشرط التقابض، ريال بمائة ليرة بشرط التقابض، فتفاوت العدد إذاً هنا جائز مادام اختلفت العملات؛ لأن اختلاف العملات ينـزل منزلة اختلاف الأجناس، لكن لو كان من عملة واحدة هنا ريال معدن بريال ورق فما هو الحكم؟ فبعض أهل العلم قال: إن هذا مثل استلاف الأجناس، وهذا ورق وهذا معدن، ومنهم من قال: لا. الريال واحد، الريال هو الريال، وهذه الأوراق في الحقيقة لا قيمة لها من جهة الورق في الكتابة عليه وما يُضمن به من قِبل الجهات التي تضمنه، فليس في الحقيقة للريال قيمة من جهة الورق ككونه ورقاً بخلاف المعدن، قد يكون له قيمة في نفسه، قد يكون المعدن ثميناً، مثلاً: بعض العملات ذهبية وبعضها فضية، إلى آخره، فالمقصود أنه حصل نقاش في هذه المسألة.

وقال: ومما سألونا عنه مذهب أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وقوله عز وجل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وقوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان) ونحو ذلك، فأجابهم في أربع عشرة صفحة، والذي يستدعي الوقوف هنا، أن الشنقيطي رحمه الله كان سلفياً منذ أول أمره، في الأسماء والصفات.

ولما سُئل عن هذه الأسئلة أجاب عنها بقول السلف ، وهذا موجود مسطر في رحلته في الحج أجابه في أربع عشرة صفحة.

الشنقيطي يحفظ الشواهد الشعرية والطرائف

المباحثات العلمية أحياناً تحتاج إلى شيء من الملح والطرائف والنوادر الشعرية للترويح حتى لا تمل النفس ونحو ذلك، وقد حصل في بعض المجالس سؤال عن أيام العرب وأشعارها وملح الأدباء ونوادرهم، وقلنا: إن دروس ابن عباس رضي الله عنه كان فيها درس في التفسير ودرس في الحديث ودرس في كذا، ومنها درس في الشعر، أو في كلام العرب، والشواهد الشعرية هذه مفيدة جداً في تقوية الملكة العربية، والفصاحة ثم معرفة معنى الكلمة، لأن الكلمة عندما توضع في بيت شعر تعطيك معناها حسب السياق تفهم المعنى.

فربما تأتي الكلمة في القرآن أو في السنة، فيرجع العلماء إلى الشواهد الشعرية المذكورة فيها هذه الكلمات لمعرفة معناها عند العرب، فالشواهد الشعرية مهمة؛ ولذلك ترى كتاب ابن جرير الطبري رحمه الله مليئاً بالشواهد الشعرية، فالشواهد لها فوائد في معرفة معاني الكتاب والسنة.

وكذلك ربما كانت تستعمل في الملح والأحماض، لطرد الملل من المجالس، قالوا: ومما وقع السؤال عنه في أثناء المذاكرة، ثناء أدباء الشعراء في قصار النساء، كقول الشاعر:

من كان حرباً للنساء     فإنني سلم لهن

فإذا عثرن دعونني          وإذا عثرت دعوتهن

وإذا برزن لمحفل     فقصارهن ملاحهن

قال: معاني القصر جداً وصف مذموم كما يدل عليه قول كعب بن زهير .

لا يشتكى قصر منها ولا طول

أي: أن من محاسن المرأة أن تكون متوسطة لا مفرطة في الطول ولا في القصر، وكذلك ذكر رحمه الله طرفة، قال: إننا لما دخلنا -أي: ذكر عن بعض العامة، جهلهم- لما جاءوا على مدينة خرطوم في السودان ، قال: قال لنا واحد بكلامه الدارج ومضمونه، أنه يغبطنا ويغار منا بسبب أننا نمر من أرض السودان التي فيها موضع شريف، قلنا له: وما ذاك الموضع الشريف -يقول: أنا لا أعرف أن في السودان موضعاً جاء فضله في الكتاب والسنة، مثل مكة والمدينة وبيت المقدس - فقال: الخرطوم ، قلنا: وأي شرف للخرطوم ؟ قال: مذكور في القرآن العظيم في قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم:16] فقلنا له: ذاك خرطوم آخر غير الخرطوم الذي تعنيه، فضحك من يفهم من الحاضرين.

وحصل مناقشة في مجلس قال: واستدل بعضهم بدليل هو عليه لا له، وهذه من الأشياء التي يقع فيها حتى بعض الشباب من طلاب العلم ونحوهم فقال بعض الحاضرين وكان عندهم أدب -عندهم الأدب يعني: أنهم يحفظون الأشياء والطرائف- قال: هذا مثل مغني اللصوص، فضحك من له خبرة بقصة مغني اللصوص، وهي قصة مشهورة، ملخصها أن بعض الأمراء أسر لصوصاً كانوا يقطعون الطريق، فقدمهم للقتل واحداً بعد الآخر حتى لم يبقَ منهم إلا واحد، فقال: لا تقتلوني فأنا لست من اللصوص، وإنما كنت مغنياً لهم، أطربهم بالأناشيد والأغاني، فقالوا له: بم كنت تغني لهم؟ ماذا كنت تغني للصوص؟ فقال: أغنيهم بقول الشاعر :

عن المرء لا تسل وسل عن قرينه     فكل قرين بالمقارن يقتدي

فإن كان ذا شر فجانب بسرعة     وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي

فهذا مغني اللصوص الذي جاء بالأشعار يظنها أنها حجة له فإذا هي حجة عليه.

وطلب منا قوم من أهل النعمة أن أفسر لهم سورة الواقعة، ففسرتها لهم ليلاً، وسأل بعض طلبة العلم عن الفعل المبني للمفعول، هل هو أصل أو فرع، فأجابه عن ذلك، ودخل في المناقشة في قضية تتعلق بهذه المسألة.

الشنقيطي في قرية النواري

وقال: بتنا في القرية الفلانية بـالنواري ولم نعرف أحداً من أهلها -يقول: البلد هذه النواري ما عرفنا فيها أحداً- فتذكرت قول الشاعر:

إن للدهر إن تأملت صرخـة     يكسب المرء حكمة واعتبارا

ها أنا اليوم بـالنواري مقيـم     أي عهد بيني وبين النواري

ليست لي علاقة فيهم، ولا أعرف أحداً منهم، لكن اضطر الحال إلى أن نزلت في هذه البلد، وليس لي فيها معرفة.

قال: وجاءت بنا السيارة، بلد بامكوف الليلة الثالثة آخر الليل فنزلنا عند تاجر منا طيب الشمائل والأخلاق اسمه أحمد بن الطالب الأمين ، وهو من أخص إخواني وتلاميذي، فبالغ في إكرامنا وأهدى لنا ثياباً ودفع عنا أجرة السيارة إلى بلدة نبتا فابتدرنا السفر إلى هذه الجهة، وركب معنا أخونا المذكور في السيارة، وباتت بنا في تلك الليلة في قرية اسمها سكثو وباتت في الليلة الثانية في قرية اسمها صن ، ومررننا في طريقنا على قرى صغيرة مساكنها العرش والأخواص، يزرعون الذرة واللوز، وليس على أبدانهم شيء من الثياب أصلاً، ونساؤهم حالقات الرءوس، عاريات جميع البدن، والواحد منهم ذكراً كان أو أنثى يجعل خرقة صغيرة جداً أو ورقة من أوراق الشجر على سوءة قبله، ولا يستتر بشيء غير ذلك، وهم سود الألوان، سمعت بالاستفاضة أنهم وثنيون يعبدون الشجر، وما نزلنا في شيء من قراهم، ولا كلمنا منهم أحداً مع أن السيارة تمر بنا من بين مزارعهم، وسمعت أنهم ربما أكلوا الناس، ويسمون باللسان الدارجي العرايا وهم تحت حكم فرنسا .

ثم جاءت بنا السيارة بلدة مبتى وقت الظهر فنزلنا في دار فيها تجار منا فبالغوا في إكرامنا وبتنا معهم ليلتين، ثم ذهبنا إلى بلدة فاوى ودوينصة ، ودخلنا فاوى وقت الضحى، فنزلت عند رجل تاجر من أبناء العلم اسمه الزاوي ، وهو رجل طيب الأخلاق والشمائل فأحسن إلينا غاية الإحسان، واجتمع علينا التجار من قبيلتنا الجكنين، كانوا في أرض فاوى فمكثنا معهم أسبوعاً في غاية الإكرام والتبجيل.

وزارنا كثير من أهل فاوى ، وسألونا عن مسائل منها: امرأة غاب زوجها، فسمعت في غيبته أنه مات، فظنت صدق الخبر فاعتدت وتزوجت، فحملت من الزوج الثاني ثم انكشف الغيب عن حياة الزوج الأول وعدم فراقه لزوجته، ما الحكم في ذلك في مذهب مالك رحمه الله؟ فأجبناهم بفتوى كتبناها لهم محررة بنصوص فروع مذهب مالك ، وذكر صاحبها في صفحة ونصف تقريباً.

يعني هل تبين حكم الزواج بالثاني أنه باطل، لماذا؟ لأنها ما زالت في عصمة الأول؛ لأن الأول ما طلق ولا مات لتعتد عدة صحيحة، فإذاً الزواج الثاني باطل.

فهل ترجع إلى الأول؟ كيف ترجع إلى الأول وفي بطنها حمل؟ إذاً لا بد أن تنتظر حتى تضع حملها فإذا وضعت حملها وصار الرحم نظيفاً وبعد ذلك يُقال للأول: هل تريدها أم لا؟ فإذا قال: أريدها، رجعت إليه، وإن قال: لا أريدها، نقول: طلقها، فيطلقها فتعتد فيتزوجها الثاني زواجاً صحيحاً.

المهم هذه المسألة وفيها مناقشات وأبحاث للفقهاء، على أية حال أجابهم رحمه الله عن ذلك.

الشنقيطي يلقى الترحيب والإكرام في أكثر القرى التي مر بها

قال: ولما قدمنا إلى بلدة أنيامي في الضحى بعد الليلة الثانية، نزلنا عند تاجر اسمه الكيدي تورى ، وهو رجل كريم السجايا والطبائع، فيه نفع للمار به من عامة المسلمين -جزاه الله عنهم خيراً- ففرح بقدومنا وأكرمنا غاية الإكرام، ورغب جداً في أن نقيم عنده شهر رمضان وقد استهل ونحن عنده، ووعدنا بأن يحملنا من كيسه في طائرة إلى جدة إن أقمنا معه مدة، فقلنا له: لا بد لنا من أن نجد في السير في الوقت الحاضر فأهدى لنا وودعنا.

فقد يقول قائل: ولماذا لم يسافروا بالطائرة إلى جدة ؟ يقال: إن في سفره فوائد، فهو يريد أن يفيد الناس، وإذا ذهب إلى جدة بالطائرة فاتت كل الفوائد على الناس، وكذلك ربما يريد رحمه الله أن يدفع من جيبه أجرة الحج لأنه لا شك أنه كلما بذل الإنسان في حجه من جيبه كان أفضل، فالذي يحج على نفقته، أفضل من الذي يحج على نفقة غيره، مع أن الحج على نفقة الغير صحيح ولو كان فرضاً.

في مدة إقامتنا عند الحاج الكيدي تورى جاءنا رجل من أهل العلم من قبيلة تسمى الطلابا اسمه محمد بن إبراهيم وطلب منا أن نبين له معاني سلم الأخضري في فن المنطق بدرس شاف فأجبته، وكان يكتب ما أملي عليه من إيضاح معانيه، ليلاًً ونهاراً خوفاً من معاجلة السفر قبل إتمامه يقول: قبل أن يذهب الشيخ، نكتب ما عنده من العلم ليلاً ونهاراً، يكتب، الطالب قد يتحمل لكن الشيخ جاء من سفر، وفي سفر ومع ذلك بذل نفسه رحمه الله في الإملاء والتعليم، فجاء الإملاء شرحاً وافياً وعن غيره كافياً، الحمد لله رب العالمين.

ثم سألنا عن تعين الناسخ لآية الوصية للوالدين والأقربين ما الذي نسخها؟ فقلت له: كان هذا مشكلاً عليّ في زمن درسي فن أصول الفقه إشكالاً قوياً -فما الذي نسخ الآية؟ هل هي آية المواريث أم آية من القرآن أخرى، أم الذي نسخها من السنة، وهو حديث: (لا وصية لوارث) وإذا كان هذا فهل السنة تنسخ القرآن؟ وفي ذلك بحث طويل- فالشاهد أنه أجابه وبين له وجه الإشكال في خمس صفحات ورد عليه.

قال: ثم بعد ذلك قدمنا إلى بلدة مرادي وفي العشر الأوائل من رمضان أكرمت فيها ونزلت عند أحد أبناء عمي وفي ضيافته خمسة أيام، وقدّمنا فلوساً كانت عندنا إلى فورنلي بطريق الحوالة -يحتاجون إلى إرسال نقود إلى قرية سيأتون عليها، أو بلد سيأتون عليها فأرسلوا لها حوالة -ثم سافرنا من القرية التي تسمى مرادي ، إلى بلد اسمها كانو ، فلما مشينا قليلاً مررنا على مركز فرنساوي، هو الحدود بين النيجر الفرنسي ونيجيريا الإنجليزية وهذه تحت الاستعمار الفرنسي، وهذه تحت الاستعمار الإنجليزي، فنظر رئيس المركز في جوازات السفر وأمضاها، وبتنا تلك الليلة في بلد اسمها كتنة ، ثم من الغد نزلنا وكان آخر النهار فنزلنا عند شريف ظريف، اسمه محمد الأمين الشريف ، فأحسن إلينا غاية الإحسان، وبتنا عنده ليلة وبادرنا السفر من صبيحتها متجهين إلى قرية تسمى جص.

الشنقيطي وبعض الصعوبات التي واجهته أثناء الرحلة

ركبنا في قطار الحديد إلى قرية تسمى جص فبتنا دونها ليلة، وجئناها من الغد فوجدناها كما قال الشاعر:

ولكن الفتى العربي فيها     غريب الوجه واليد واللسان

غريب الوجه: أي: ما ترى فيها عربي، واليد واللسان، ولا لسان عربي، فلم يفهموا كلامنا، ولم نفهم كلامهم، وبتنا فيها ليلة واحدة، ثم وجدنا واحداً يفهم من العربية قليلاً، فحصل بيننا مفاهمة مع صاحب سيارة ذاهبة إلى بلدة مادثري ، فدفعنا لصاحبها أجرتها وركبنا فيها، فلما سارت بنا تسعة وستين ميلاً وقع فيها خلل مانع من الحركة، فمكثنا يومين وليلة في محل واحد موحش، كثير البعوض والندى -الرطوبة- في خلاء من الأرض ثم أصلح فسادها حتى لم يبق بيننا وبين البلدة التي يقصدونها إلا مائة ميل وسبعة عاودها الفساد، فمرت بنا سيارة ذاهبة إلى تلك البلدة، فدفعنا الأجرة لصاحبها وركبنا فيها، فأدخلتنا البلدة في تلك الليلة، فنزلنا على تاجر اسمه عبد المحمود ، فأصلح لي خللاً كان في جواز رفيقي عند الحكومة، فشكرت له، وتذكرت قول الشاعر:

وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعـةً     من جاهه فكأنها من ماله

ومكثنا في هذه البلدة ليلتين، ثم سافرنا إلى فورنلي ، فركبنا بالأجرة في سيارة مشت بنا خمسة أميال ففسدت فساداً مانعاً من الحركة، فبتنا في ذلك المكان، وأرسل الله مطراً كأفواه القرب، فلما كان آخر النهار فعل لها سائقها شبه الإصلاح، وسرنا فيها آخر النهار سيراً ضعيفاً للخلل الواقع بها، فلما سارت بنا ستة أميال راجعها الفساد بأشد من الحالة الأولى فبتنا في ذلك المكان تلك الليلة، ولما ارتفع النهار مرت بنا سيارة، فدفعنا الأجرة إلى صاحبها وركبنا فيها، فسارت بنا بقية اليوم، فلما كان آخر النهار حبسها المطر، في قرية اسمها كنبار ، فلما كان من الغد وجاءت بنا آخر النهار إلى بلد اسمها كسرى ، فأتعبنا أهل مركزه بتفتيش المتاع، وأخذوا منا جوازات السفر وباتت عندهم.

أي: هذا يؤخذ منه، كيف الذي كان يحج البيت العتيق، يعاني من المشاق الشديدة في السفر، والآن ينبغي أن نحمد الله سبحانه وتعالى على الوسائل التي هيأها للسفر، فكيف كانوا يعانون لأجل الذهاب إلى البيت العتيق، وتعترضهم هذه الاعتراضات.

وذكر قصة أن بعضهم قد أصر على أن يدفع أجرة السيارة عنهم، وأنه دعا له بالخير حيث قال: جزاه الله خيراً، ومعروف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن من قال لأخيه جزاك الله خيراً فقد أجزل له في العطاء) أي: إذا صنع لك معروفاً ولم تستطع أن تسدي له مثله، فلتدعو لصاحبه، فبأي شيء تدعو له؟ من السنة أن تدعو له بأن يجزيه الله خيراً، فتقول: جزاك الله خيراً.

قال بعد ذلك: جميع السيارات التي نحن فيها والتي ترافقنا مشحونة من السوادين الذين لا يفهمون كلامنا ولا نفهم كلامهم، وأكثرهم كالبهائم -أي: لا دين ولا عقل- فذكرتني مرافقتنا معهم أبيات -تصور أن واحداً يرافق أناساً لا دين لهم ولا عقل، كالبهائم- لـمحمد بن السالم الشنقيطي :

إذ يطرحوني أرضاً لا يؤانسني     إلا لص هريت الشدق نباح

فكم تكنفني في ظل مدرسـة     شم الأنوف لهم كتب وألواح

وكم يغازل جماء العظـام على     أنيابها العنبر الهندي والراح

وفي تلك الأيام أغلق الفرنسيون الطريق المعهودة إلى قرية آتيفا ، فهاشت بنا السيارة إلى بحر الغزال، فبتنا دونها ليلة وجاء من الغد ورحنا آخر النهار متوجهين إلى قرية آتين في طريق غير معبد، فهو إلى بنيات الطريق أقرب منه إلى الطريق كلما خرجنا من ورطة حبستها أخرى، والأرض هناك رمال لينة جداً، بتنا الليل كله نمشي على أقدامنا، لكن قليلاً قليلاً لكثرة عوائق السيارات من الرمل اللين، فدخلنا وادياً فيه زراعات ومياه، وفيه الفلفل الأحمر بكثرة لا ندري ما اسمه، وقلنا فيه -من القيلولة- ثم رحنا منه آخر النهار.

ثم جئنا بعد ذلك إلى القرية فالتمسنا عربياً نبيت عنده، فدعاني رجل عربي -هذه قصة جيدة- والله ما سألته عن اسمه ولا اسم أبيه خوفاً من الغيبة -الآن دخلوا بلداً فأبوا أن يضيفوهم، حتى جاء رجل عربي رضي أن يضيفهم، لكن لما رأى الشنقيطي رحمه الله مستوى الضيافة، أو ما عند الرجل أو ماذا سيقدم لهم، ما سأله عن اسمه ولا اسم أبيه، خشية الغيبة ، خشية أن يذكره بعد ذلك بشر وهو يعرف اسمه- قال: والله ما سألت عن اسمه واسم أبيه خوفاً من الغيبة، فأنزلنا في مكان يعوي منه الكلب، وأغلقه علينا من الخارج، فبتنا بليلة لا أعاد الله علينا مثلها، أشد من ليلة النابغية وأشد من ليلة المهلهلية، فذكرتني ليلة النابغة :

كليني لهم يا أميمة ناصب     وليل أقاسيه بطيء الكواكب

ليلة مرت علينا طويلة جداً من المشقة في ذلك المكان، واستعار أيضاً من المهلهل يصف ليلة طويلة:

كأن كواكب الجوزاء عود     معطفة على ربع كسير

كأن الجدي أثناه ربق     أسير أو بمنزلة الأسير

هذا الجدي والجوزاء نجوم في السماء، لها منازل إذا مرت الليلة تمر النجوم، يقول: كأن الجدي هذا مربوط كأنه أسير.

كواكبها زواحف لاغبات     كأن سماءها بيدي مجير

ثم بعد ذلك مضت تلك الليلة، وصُبح تلك الليلة أحب غائب إلينا، فخرجنا من ذلك الضيق أول النهار.

الشنقيطي يناقش مسألة الزواج بنية الطلاق

ونزلوا على الحاج مكي في محطة فقابلهم بالبشر والترحاب، وأكرمهم فدعا له، قال: جزاه الله خيراً، ثم بعد ذلك جاءوا إلى بعض المراكز -يقتربون الآن من مراكز حدودية وتفتيش- قال: ومما سأله عنه أهل قرية الجنينة ، تولية المسلم على المسلم إذا كانت صادرة من غير مسلم متغلب، هل هي منعقدة أم لا؟ -متغلب من هو مثلاً: فرنسي أو إنجليزي، إذا ولى مسلماً على مسلم ولاية، هل تنعقد الولاية؟ هل هي شرعاً صحيحة؟- ومما سألونا عنه صلاة الجمعة في مسجد جديد بناه رجل من أهل البلد في جانب من جوانب البلد، هل يجوز لمن أراد صلاة الجمعة فيه أن يصليها فيه، أو يرسلهم يصلوا في الجامع الكبير الذي هو مسجد الجمعة العتيق؟ ومما سئلنا عنه: الغريب في بلد يريد التزوج فيه ونيته أنه إن أراد العودة لوطنه ترك الزوجة طالقاً في محلها، فهل تزوجه مع نية الفراق بعد مدة، يجعل نكاحه نكاح متعة، فيكون باطلاً أم لا؟

فالمسألة باختصار هل يجوز الزواج بنية الطلاق؟ بدون أن يشرط عليهم ذلك ولا يخبرهم ولا يكلمهم ولا يتفق معهم في العقد ولا شيء، شخص تزوج امرأة بنية أن يطلقها بعد مدة؟

قول جمهور العلماء الجواز، وأنها فرق بين هذا وبين نكاح المتعة، نكاح المتعة نكاح على أجل معلوم بين الزوجين يُذكر في العقد، وبانتهاء المدة ينتهي العقد، أما هذا نية حديثة في النفس غير مخبر عنها ولا متفق عليها ولا هي في العقد، ثم كما يقول الشيخ عبد العزيز في تبين رجحان الجواز، قال: قد يأتيه منها أولاد وقد يرغب فيها، وقد يمسكها ولا يطلقها، وأن الفراق ظني، فقول جمهور العلماء في هذه المسألة: الجواز.

قال: ونزلنا الأبيض بعد ذلك، فنزلنا عند رجل اسمه محمد خير مكثنا في قرية الأبيض ليلتين وصاحبنا الذي نحن في ضيافته، يُرسل لنا في يومينا قبل المغرب قطعة من عصيدة الدخن عليها بعض الإدام، فمرة تركناها وأكلنا من زادنا، ومرة تناولناها، فتذكرت قول الشاعر:

الجوع يطرد بالرغيف اليـابس     فعلام تكثر حسرتي ووساوسي

والموت سوى حين عدّل قسمه     بين الخليفة والفقير البائس

يقول: الجوع مطرود بالرغيف اليابس فلماذا أتحسر على طعام لا أشتهيه، أو على طعام ليس بجيد، الجوع يطرد بالرغيف اليابس.

الشنقيطي في معهد أم درمان

ثم ذكر بعد ذلك في الطريق أن بعض الأساتذة المدرسين في معهد أم درمان ، وأثنى على أم درمان ، وعلى معهد أم درمان ، وعلى الطلاب الذين في هذا المعهد الديني، وقال: إنه سأله بعض الأساتذة أن يتكلم له على قوله جل وعلا: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد:31] ذكر الجواب في ثلاث صفحات.

ثم سألونا عن وجه الجمع بين قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16] وبينا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف:28] وذكر في تفسيره أضواء البيان كلاماً رائعاً حول هذا، والقراءات في (آمرنا وأمّرنا، أمرنا) أن أمر أو أمِر في اللغة تأتي بمعنى الكثير أي: كثرناهم، ويستشهد بقول أبي سفيان : أمِر أمر ابن أبي كبشة أي: عظم وانتشر.

ثم سألني بعض أذكياء الطلبة عن قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] في معهد أم درمان سألوه عن تفسيرها، وعن قصة الغرانيق، فأجابهم في تسع صفحات.

ثم سألوه عن تحقيق بيتين في ألفية ابن مالك ، فأجابهم عن ذلك، وسألوه عن مسائل أخرى لغوية ونحوية، ذكرها رحمه الله في كتابه الذي هو رحلة الحج ، ثم سألنا بعض الطلبة: هل عثرنا على نص من كتاب أو سنة يُفهم منه وجود دولة لليهود في آخر الزمن؟ فأجاب رحمه الله ما ملخصه: إن ذلك قد جاء بالإشارة أن بعض النصوص فيها إشارة إلى هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وأن المقاتلة على وزن مفاعلة، والمفاعلة لا بد أن تكون بين طرفين، هم طرف وأنتم طرف، وإذا كان هذا معنى ذلك أنه لا بد أن يكون هناك جيشان، وإذا كان هناك جيش فلا بد أن يكون هناك اجتماع ونظام وأمير لكل من الطرفين.

فمعنى ذلك، قال: وفي هذا إشارة إلى أنه يكون لليهود دولة وقوة حتى يقاتلوا، هذا كله أخذه من أين؟ كل الكلام هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وذكر أن فيها إشارة فعلاً إلى ذلك وأنه لا يصلح أن يقاتلونا وهم كما قال الله تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً [الأعراف:168] أنهم مقطعين مشردين فلا بد أن يجتمعوا وتكون لهم قوة ويعملون جيشاً ثم يقاتلون، ولكن ستكون الغلبة في النهاية للمسلمين عليهم.

وسأله بعض الطلاب عن الحديث الثابت في قتال الترك: (كأن وجوههم المجان المطرّقة) فما معنى هذا؟ ومن أين أخذ؟ وقال: لم تزل المذاكرة بينا وبين علماء معهد أم درمان الديني حتى جاء حديث الضيافة والإحسان إلى الضيف في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ذكروا أن الشعراء ربما هجوا على عدم القِرة -أي: عندما يأتي ضيف فلا يجد أحداً يُضيفه- وذكرت لهم نبذاً من هجاء الشعراء -انظر العالم وميزة العالم، أن كل شيء يأتي تجد أن له فيه إسهاماً، من شعر أو قول فكانت هذه الملح في هذا- قال: وأنهم ربما هجوا على قلة المقدم إليهم، كما قال بعض الأدباء:

أبو جعفر رجل عـالم     بما يصلح المعدة الفاسدة

تخوف من تخمة أضيافه     فعودهم أكلة واحدة

فهذا من بخله، لكن الشاعر، يتندر عليه فيقول: هذا حريص ع

فخرجنا من بيتنا يصحبنا بعض تلامذتنا إلى قرية اسمها كيفا فوصلناها في مدة خفيفة، والجمال تسعى بنا في الأودية والرمال، وفي مدة إقامتنا في كيفا ، سألتنا كريمة من بنات العم وهي أم الخيرات عن مسألتين فيما يحيك في النفس من عدم الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، انظر هذه من النساء تسأل في مسألة لا نعرف معناها، فضلاً عن الراجح فيها، وما هي الأقوال فيها ونحو ذلك.

فأجاب رحمه الله في أربع صفحات وعن السؤال الثاني في صفحة ونصف، قال: ثم ارتحلنا من كيفا عشية بعد أن توادعنا مع من يعز علينا، يُشيعنا فلان وفلان، فمررنا في الطريق بـأم البوادي أم الخز ، ونزلنا عند حي من قبيلة الأقيال اسمها حلة أهل الطالب جدة ، فأحسنوا إلينا غاية الإحسان، ومن جملة من زارنا عالم ذلك الحي ومفتيه، الشيخ الأستاذ محمد فال بن أحمد نوح ، فسألنا عن قول الأخضري في سلمه -في كلامه- على القياس الاستثنائي، وذكر البيت وجوابه عن القياس الاستثنائي، وبعد ذلك تابع المسيرة، قال: فصلنا عند قرية تامشقط عند صلاة المغرب، فزارنا جُل من فيها من الأكابر والعلماء، وعاملونا معاملة الكرماء، وذكر الذين نزلوا عنده صاحب البيت، وفلان وفلان، ودارت المذاكرة في البيت، والسؤال عن مسألتين فذكرهما، ومنهما تحقيق الفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، فأجاب عن ذلك في ثلاث صحائف، الأولى والثانية في صحيفة.

ثم قال: ثم ذهبنا من قرية تامشقط قبيل غروب الشمس، ونحن على جمالنا في أخريات جمادى الآخرة، وشيعنا جّل من فيها من الأكابر وودعونا وقدم لنا وقت الوداع العالم الأديب الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن جدة بن خليفة القلاوي أبياتاً:

مني إلى المعهود ذي الفتح الجلي     درع الكماة إذا التقت في الجحفل

وذكر قصيدة في مدحه، مشوا وارتحلوا إلى قرية العيون وإلى تمبدرة ، وإلى تنبتقة ، وهكذا وصلوا إلى ذلك المكان في شهر الله رجب الفرد، قال: في هذه المسألة فتذكرت كل ما مر بي من اسم. أحياناً يمر بأسماء بلدان، فيذكر أبياتاً شعرية ورد فيها هذا الاسم دليلاً على سعة حفظه للشواهد الشعرية والأبيات بشكل عجيب جداً، ربما لا يُعرف له مثيل في عصرنا، لما وصل قال: وصلناها في شهر الله رجب الفرد، تذكرت قول مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني:

ما مر بي رجب إلا نعمت بـه     يا حبذا رجب لو دام لي رجب

وحصل هناك مباحثات أيضاً لما نزلوا في ذلك المكان، وكانت من المسائل التي نوقشت النص الفلاني منسوخ بالإجماع، ما حكم قول هذا؟ ودخلوا في مسألة الإجماع، لا يجوز النسخ به شرعاً أم لا؟ وأجاب عن ذلك ودارت مناقشة في مسألة هل يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين؟

لا يجوز الجمع بين الأختين من الحرائر في الزواج من حرائر، أما ملك اليمين إذا اشتريت إماء، هل يجوز أن تشتري أمة وأختها، أم لا؟ هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يشمل قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء:23] عموم يدخل في الإماء أو لا يدخل؟ أجاب عنها بسبع صفحات رحمه الله تعالى، وذكر مناقشات حصلت في فروع مذهب مالك رحمه الله.

ومن المسائل: هل يجوز السلم في الكاغد المتعامل به في فلوس النحاس؟ لأن هناك عُملات ورقية وعُملات معدنية، فأجاب عن ذلك، فهناك من علمائنا الآن من يجيز ذلك عشر ورق بتسع معدن، ومنهم من يقول: لا يجوز؛ لأن الكل ريالات، ومادامت العملة واحدة، ولو كانت من عملات مختلفة، يجوز التفاوت، قد تشتري -مثلاً- دولاراً بأربعة ريالات بشرط التقابض، ريال بمائة ليرة بشرط التقابض، فتفاوت العدد إذاً هنا جائز مادام اختلفت العملات؛ لأن اختلاف العملات ينـزل منزلة اختلاف الأجناس، لكن لو كان من عملة واحدة هنا ريال معدن بريال ورق فما هو الحكم؟ فبعض أهل العلم قال: إن هذا مثل استلاف الأجناس، وهذا ورق وهذا معدن، ومنهم من قال: لا. الريال واحد، الريال هو الريال، وهذه الأوراق في الحقيقة لا قيمة لها من جهة الورق في الكتابة عليه وما يُضمن به من قِبل الجهات التي تضمنه، فليس في الحقيقة للريال قيمة من جهة الورق ككونه ورقاً بخلاف المعدن، قد يكون له قيمة في نفسه، قد يكون المعدن ثميناً، مثلاً: بعض العملات ذهبية وبعضها فضية، إلى آخره، فالمقصود أنه حصل نقاش في هذه المسألة.

وقال: ومما سألونا عنه مذهب أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وقوله عز وجل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] وقوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان) ونحو ذلك، فأجابهم في أربع عشرة صفحة، والذي يستدعي الوقوف هنا، أن الشنقيطي رحمه الله كان سلفياً منذ أول أمره، في الأسماء والصفات.

ولما سُئل عن هذه الأسئلة أجاب عنها بقول السلف ، وهذا موجود مسطر في رحلته في الحج أجابه في أربع عشرة صفحة.