عوائق في طريق الالتزام [1، 2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

a= 6000394>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:102].

a= 6000493>يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً[النساء:1].

a= 6003602>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنه من نعم الله علينا أن التقينا معاً في هذا المكان في حلقة نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون من حلق الذكر، وأن يكتبنا وإياكم في ديوان السعداء من أهل الجنة، ويكفر عنا سيئاتنا، ويعلي درجاتنا بحوله وقوته، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.

والحقيقة أيها الإخوة! أن التقاء الأخ بإخوانه بعد فترة من الزمن؛ يجدد النشاط للنفس للسلوك في سبيل الله عز وجل.. في سبيل الدعوة إلى الله.. في سبيل تعلم العلم.. في سبيل الالتقاء على الخير، وعلى طريق المحبة في الله.

أما بالنسبة لموضوعنا فسنتكلم الليلة -إن شاء الله- عن عوائق في طريق الالتزام بالإسلام.

نحن أيها الإخوة! سبق أن بينا في درسٍ ماضٍ بعنوان: (جدية الالتزام بالإسلام) حيث بينا تعريف الالتزام، وذكرنا أنه ممثلٌ بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] والسلم: هو الإسلام.. ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] أي: تمسكوا بجميع شعب الدين، وخذوا بجميع عُرى الدين، لا تتركوا منها شيئاً على قدر استطاعتكم، هذا هو الالتزام بالإسلام، ويمكن أن نضع له تعريفات كثيرة، ولكن يكفينا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] أي: لا تتركوا منه شيئاً.

وإذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى واقع الناس اليوم نجدهم في بُعدٍ كبيرٍ عن تعاليم الإسلام، والتمسك بهذا الدين، والالتزام بأحكامه، فإذا سألنا أنفسنا سؤالاً: لماذا يترك الناس الالتزام بالإسلام، وأحكامه مع أنهم يعرفون بأن هذا التمسك واجبٌ عليهم؟

ولماذا يعيشون حياة التفلت التي نراها اليوم في واقع المسلمين وحياتهم؟!

أيها الإخوة! للإجابة على هذا التساؤل لا بد أن نفكر في المعوقات التي أدت إلى هذا التفلت والترك للالتزام بالإسلام، وبالنظر إلى هذه المعوقات وجدناها تنقسم إلى قسمين:

1- قسمٌ يتعلق بالشهوات.

2- قسمٌ يتعلق بالشبهات.

واعلموا أيها الإخوة! أن الله أشار إلى كلٍّ من هذين الأمرين في محكم التنزيل، وفي الكتاب العزيز، فقال عز وجل عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة:10]، وقال جل وعلا: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الحج:53]، وقال عز وجل: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32].

والآن لو سألنا سؤالاً: هاتين الآيتين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة:10]، والآية الثانية: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] أي الآيتين التي فيها ذكر مرض الشهوات، وأي الآيتين التي فيها مرض الشبهات؟

الآية الأولى: فيها مرض الشبهات: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة:10] هؤلاء المنافقون في قلوبهم مرض، هذا المرض هو الذي سبب هذا النفاق، وهو مرض الشبهات التي تترسب في الأذهان والقلوب، فتسبب هذا النفاق بجميع أنواعه وصوره ومراحله.

أما الآية الثانية: يوصي الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ألَّا يخضعن بالقول، أي: أمام الرجل الأجنبي يجب على المرأة ألَّا تلين بالقول، وتتكسر في صوتها، وتتغنج به؛ حتى يطمع الذي في قلبه مرض، وهذا القلب هو الذي يتأثر بالتغير في صوت المرأة، فبسبب مرض الشهوة تستثار الشهوة عندما يسمع الصوت المتكسر المتخلع الرقيق من المرأة.

فلذلك يجب على المرأة أمام الرجال الأجانب أن تخشن من صوتها، وألَّا تجعل فيه ذلك الطبع الأنثوي الذي يثير الغريزة في نفس الرجل.

عندما أشار الله تعالى في القرآن إلى هذين المرضين، لم يترك الخلق وفيهم هذه الأمراض تنتشر وتستفحل! لا. ولكنه أخبر في القرآن بأن فيه علاجٌ لكل مرضٍ، ولكل نوعٍ من هذه الأمراض، فقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقال الله عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [الإسراء:82].

إذاً أيها الإخوة! هذين المرضين من الأمراض المستفحلة العظيمة المهلكة التي تصيب قلوب العباد، وفي موضوعنا هذا تلعب أمراض الشهوات والشبهات أدواراً أساسية في إعاقة التزام الناس بالإسلام، وتحول بينهم وبين الالتزام بأحكام الدين.

أيها الإخوة! في هذا العصر الذي نعيش فيه عمَّ الجهل وقلَّ العلم، واختلطت الحقائق وخفيت، واندرس العلم، واندرست الحقائق الإيمانية -اندرست أي: اندثرت- وكادت أن تزول، فخفيت معالم الهدى واختلط الحق بالباطل، فلذلك تجد كثيراً من التعريفات والمصطلحات المتداولة بين الناس يعرفونها بتعريفاتٍ غير شرعية، وهي غير مقصود منها في الدين هكذا كما يعرفونها، لذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المصطلحات التي تدور على ألسنة الناس اليوم قبل الخوض في الموضوع.

فمثلاً: ما هو تعريف الوسط؟

ما هو تعريف الغلو؟

ما هو تعريف التطرف؟

ما هو تعريف الإسلام؟

ما هو تعريف التقوى؟

ما هو تعريف الإيمان؟

ما هو تعريف العبادة؟

ما هو تعريف الالتزام؟

لماذا هذه التعريفات مهمة؟

لأنك إذا سألت أي أحدٍ من هؤلاء المذنبين العصاة المبتعدين عن الدين، وقلت له: أأنت تعبد الله؟

سيقول لك: نعم، أنا أعبد الله، فتقول له: لماذا أنت الآن مبتعد عن أحكام الدين ومقصر في كذا وكذا وكذا، ولا تكن مثل هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم والتزموا بأحكام الإسلام؟

فيقول لك: هؤلاء أناسٌ مغالون ومتطرفون ومتشددون. أنا أحب الوسط.. أنا أريد أن أكون وسطاً لا أريد أن أكون مزوداً ولا منقصاً في الموضوع، أنا أريد أن أكون وسطاً.

إذاً ما هو تعريف الوسط؟

إذا طرحت هذا الموضوع: (تعريف الوسط) وما هي (الوسطية)؟ تبين لك الحق وانهزم الباطل.

نحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على الوسط، وهذه الأمة هي الأمة الوسط، فالوسط هو الذي بين الإفراط والتفريط، هذا الوسط هو الذي يحتج به كثيرٌ من العصاة اليوم بأنهم يمثلونه، هذا الوسط هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها.. في أبواب العقيدة، وفي أبواب المعاملات، وفي أبوابٍ كثيرةٍ جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان عيشه وسطاً.

إذاً: الناس اليوم يخطئون في تعريف الوسط، ولا يدرون ما هو الوسط؛ نظراً لاضطراب المفاهيم والمفهومات في عقولهم.

ما هو الاعتدال؟

بعض الناس يقول: أنا أريد أن أكون معتدلاً، لا أريد أن أزيد، ولا أنقص!

الاعتدال: هو أن تعرف الأوامر وتمتثلها، وأن تعرف النواهي وتجتنبها، وبهذا تصبح إنساناً معتدلاً وسطاً.

ولما قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] الظالم لنفسه: الذي يترك أداء الزكاة، ويترك الصلاة، ويفرط فيها، ويفرط في النهي عن المنكر، والأمر بالمعروف، وبر الوالدين.

ومنهم النوع الثاني: مقتصد يمتثل الأوامر ويترك النواهي، لكن لا يزيد في أبواب الخير والبر والإحسان على هذه الأشياء، فقط يفعل الأوامر من الصلاة، والزكاة، والصيام، وبر الوالدين.. إلخ، ويترك النواهي؛ لا يزني ولا يسرق، ولا يغش، ولا يكذب، ولا يظلم ... وهكذا، لكنه قد لا يزيد في أعمال البر؛ فلا يخرج الصدقات، ولا يقوم الليل كثيراً، ولا يكثر من الاستغفار وذكر الله عز وجل فهذا مقتصد.

والنوع الثالث: سابقٌ بالخيرات، وهو الذي يفعل الأوامر وينتهي عن النواهي والمنكرات، ويزيد على ذلك في أبواب الخير والبر والإحسان أشياء عظيمة، فلذلك قال بعض أهل العلم: إن هذه الآية تمثل أنواع المسلمين، وليس في أحدهم، فالظالم لنفسه هو الذي يرتكب المنكرات وهو لا يزال مسلماً قائماً بالأمور التي تجعله مسلماً، لكنه مفرط مقصر مثل أغلب الناس اليوم.

فإذاً مفهوم الالتزام عند الناس تغير.. مفهوم العبادة تغير.. مفهوم الاستقامة تغير، قال سبحانه وتتعلا لرسوله عليه الصلاة السلام: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ [هود:112] والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه، لما سأله أن يوصيه: (قل آمنت ثم استقم).

قال النووي رحمه الله: قال العلماء معنى الاستقامة لزوم طاعة الله تعالى، هذه هي الاستقامة.

والعبادة: اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال.

الإيمان تصديقٌ بالجنان، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.

وهذه العبادة على أربع مراتب: قول القلب: وهو التصديق، وقول اللسان: وهو النطق بالشهادتين وذكر الله عز وجل، وعمل القلب: وهو التوكل والإنابة والمراقبة والحياء والخوف والرجاء، وعمل الجوارح: مثل الجهاد في سبيل الله، والصلاة، والحج.. إلخ.

ما هو تعريف العبادة؟

كثيرٌُ من الناس لا يعرفون تعريف العبادة.

ما هو تعريف الإيمان؟

كثير من الناس لا يعرفون تعريف الإيمان.

لماذا نقول هذا الكلام؟

لأن الناس عندما نقول لهم: يجب أن تكونوا مؤمنين، والله أمرنا أن نكون مؤمنين وأن نعبده: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:65].. وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، والله أمرنا أن نستقيم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ [هود:112].

والله أمرنا أن نكون مسلمين؛ فما هو تعريف الإسلام؟ ما هو تعريف الشهادتين؟

الشهادة: كلمة (أشهد) تتضمن التصديق بالقلب، والنطق باللسان، والعمل والصبر على ما تلاقي في سبيلها، وإذا لم تفعل هذه الأشياء؛ لا تسمى شاهداً.. ما شهدت أن لا إله إلا الله، ولا شهدت أن محمداً رسول الله.

إذاً: أيها الإخوة! هذه المصطلحات، وهذه الكلمات وتوضحها في عقول الناس أمرٌ مهمٌ جداً، حتى ندخل بعد ذلك في قضية الالتزام، فكثيرٌ من الناس اليوم لا يرون حال الملتزمين بالدين والمتمسكين وسطاً؛ بل يرونه تطرفاً وغلواً، ويرون أنفسهم هم الوسط والمعتدلون، وعلى أحسن الأحوال يرون أنفسهم مقتصدين، ويرون غيرهم سابقين بالخيرات من الملتزمين، لكنه لا يمكن أن يفكر أبداً أنه ليس متوسطاً وليس ملتزماً.

الناس الآن في جدالنا معهم يقولون: نحن الوسط وأنت مغالٍ ومتطرفٌ متشدد، ونحن الوسط، ونحن المعتدلين؛ لأنهم لو اعترفوا بأنهم ليسوا هم الوسط، وأنك أنت -يا أخي- الملتزم بالدين معناه: أنهم اعترفوا بذنوبهم، وأقاموا الحجة على أنفسهم.

لذلك تجد دائماً في الكلام وفي النقاشات يقولون: نحن نحب الوسط، والمعتدل، كن يا أخي معتدلاً.. كن وسطاً، لا تزيد ولا تنقص!! نعم! أقول لهذا الذي يناقشني: أنا معك أنا أحب الوسط، والإسلام دين الوسط، ودين الاعتدال، لكن ما هو الوسط؟

وما هو الاعتدال؟

أليست هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، وفعله أوامر ونواهي؟

أليس هذا هو الوسط، أم لا؟

لكن المشكلة إذا قلنا: إن الوسط هو الذي يرتكب بعض المنكرات، لو قلنا: إن هذا هو الوسط لضاع الدين، وفتحنا أبواب المعاصي والمنكرات على الناس.

إذاً أيها الإخوة! كلمة (ملتزم) الآن التي ندندن حولها اليوم، تساوي كلمة (مسلم حقيقي) في أيام السلف ، أي: في زمان السلف عندما كان يقول أحدهم: إنه مسلم، ويأمر الناس أن يكونوا مسلمين، أي: ملتزمين بالإسلام، لا يأمر الناس أن يكونوا مسلمين متهاونين ومفرطين بالإسلام.

فلذلك أنت -الآن- تحتاج إلى مصطلحات أخرى للشاب، لأنك لو قلت له: يا أخي! لا بد أن تكون مسلماً. يقول: أنا مسلم، وأنا أشهد بالشهادتين، وأنا كذا، فلا بد أن تزيد الأمر إيضاحاً.

ولذلك وردت قصة: أن أحدهم خرج فلقي إنساناً ملتزماً، فقال له: يا مطوع! تعال. فلما أتى المطوع قال له: يا أخي! أنت ناديتني يا مطوع! فأنا أريد أن أعرف ماذا تكون أنت؟ أي: إذا أنا صرت مطوعاً فأنت عرف لي نفسك.. منافق.. فاسق.. فاجر، ما هي الكلمة التي تريد أن أقولها؟

وهذا قد يقول: قل لي: يا مسلم، لأن الناس لا يفهمون الإسلام والالتزام بالأحكام، هذه هي المشكلة، ولذلك يقولون عن الناس الملتزمين: يا مطوع! وهو ليس بمطوع، فلا بد أن نعرف ما هو تعريفه؟ وما هو المصطلح الذي يريدنا أن نطلقه عليه، نقول: يا مفرط.. يا مضيع.. يا عاصي.. يا مؤمن.. يا ملتزم!! ماذا يريدنا أن نقول عنه؟

هذه المسألة مهمة بالنسبة للذين يجادلون؛ لأنه يريد الواحد منهم أن يقول: أنا الوسط، وأنت يا فلان الملتزم بالدين الذي لا تفعل المنكرات أنت المتطرف.

فلذلك يقولون بعد ذلك مثلاً: يا أخي! هذه اللحية الأمر بها تشدد، وعلى نطاق النساء مثلاً: يعتبر الأمر بالحجاب والتزام المرأة بالحجاب الكامل الساتر، يعتبره تشدداً.

لماذا اعتبروا هذا؟

لأنهم بنوه على أصلٍ فاسد، الذي هو (الوسط) المرأة -الآن- عندما تقول لها: التزمي بالحجاب غطي نفسك وغطي العورة، تقول: أنا امرأة وسط، أنا معتدلة.. تريدني أكون امرأة لا يظهر مني شيء، لا يمكن، هذا تطرف وعندما تأمر المرأة بالحجاب أو أن تتحجب ابنتها تقول الأم: اتركها الآن بدون حجاب.. دعها تتمتع.. دعها تخرج وتذهب.. هذه صغيرة، وغداً -إن شاء الله- عندما تكبر سوق تتحجب.

أي: تكبر ويصبح عمرها خمسين سنة، وتكون من القواعد.. من النساء اللاتي يكون الحجاب في حقهن ليس بواجب، فعند ذلك تتحجب.

انظر إلى الناس! وهذا هو الحاصل الآن وهو الذي يسري في المجتمع، فإن عامة النساء -إلا من رحم ربي- في قضية الحجاب متفلتات، فإذا جئت تأمر بالحجاب تجدها تقول: أنا وسط ومعتدلة، أنا لست كاللواتي يلبسن القفازات ويضعن على الوجه الحجاب، وتلبس الساتر ويصير فضفاضاً، هذه المتطرفة.

انظر -الآن- كيف انعكس الفهم الخاطئ للوسطية والاعتدال، وانعكس على تقييم الناس للأوضاع.

أليس الذي يلتحي ويؤدي الصلوات في المسجد هذا هو الوسط، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فعل هذا، ألم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم له لحية كثة وكان يصلي مع الناس في المسجد؟

نعم! إذاً الرسول هو الوسط، وأي إنسان يخالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يصبح مفرطاً، ومقصراً، ومضيعاً، أو فاسقاً بحسب الأشياء التي يرتكبها.

الحقيقة أيها الأخوة! أن الناس الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ويُطالبون بالالتزام بأحكام الدين، تقف شهواتهم حجر عثرةٍ أمام التزامهم بالإسلام.

فمثلاً: تجد الواحد منهم لسان حاله يقول: أنا شهواتي تصدني عن الالتزام بالإسلام، أنا لا أستطيع أن أقاوم شهواتي، فلذلك أقع في كثيرٍ من المحرمات، ولذلك هذه الشهوات تمنعني من الالتزام بالإسلام.

الالتزام وفقدان اللذة والشهوة

بعضهم يخافون إذا التزموا بالإسلام أن يفقدوا اللذات والشهوات التي يعتبرون أنهم يتنعمون ويتلذذون بها، مثلاً: إنسان غارق في الشهوات، فعندما تعرض عليه الالتزام بالإسلام؛ يخشى في نفسه أن يفقد هذه اللذائذ والشهوات، فيرفض الالتزام؛ لأنه يخشى أن يفقدها.

أولاً: لتوضيح حال هؤلاء الناس أضرب الآن مثالاً واقعياً من الحياة.

شُوهد إنسانٌ ما وهو يمسك الهاتف ويغازل به النساء، فقال له إنسان بعدما انتهى: يا أخي! لماذا لا تصلي؟ فقال هذا الرجل: كيف أصلي وأنا عندي موعد مع فتاة بعد ساعتين؟

الآن من الذي منع هذا الرجل من الصلاة، هو الآن رجل صاحب شهوة، وجالس يركض وراء تلبية شهواته.

فلذلك تجد في عقله تناقضاً، كيف أصلي وبعد ذلك أذهب إلى شهواتي! فلذلك تصعب عليه القضية فماذا يترك؟

للأسف! لا يترك الشهوة بل يترك الصلاة، لأنه يعتقد أن هذه الشهوة حائلٌ بينه وبين الالتزام بالإسلام، ولا يجتمع في عقله ولا في نفسه صلاة مع اتباع الشهوات.

هذا الإنسان علاجه كما قال الله تعالى في القرآن: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] القرآن فيه أنواع كثيرة من الشفاء للشهوات، منها -مثلاً- قصة يوسف عليه السلام، كيف صبر على شهوته.

هذه القضية عندما تعرض على هذا الرجل، وعندما يقرأ هذه القصة يتعظ منها، وتكون نوعاً من الشفاء للمرض الذي في نفسه، فهذا الإنسان يذكَّر بالله عز وجل: كيف يبيع العاقل الجنة بشهوة ساعة؟!

فنقول: أنت -يا أخي- الآن عندما تقول: أنا لا يمكن أن أصلي، وأنا -الآن- على موعد من هذه المواعيد المحرمة، لماذا لا تصلي؟

الآن إذا لم تصل بالكلية تصبح كافراً، وتخلد في النار، فهل الأحسن لك أن تصلي حتى لو ارتكبت هذا المنكر أم لا؟

بعض الناس واقعين في منكرات؛ فيريدون أن يتحللوا من سبب أنواع الطاعات، بحجة أنه واقع في هذه الشهوات، وأنه لا يستطيع أن يقاوم نفسه، وما دام أنه واقع فيها كيف يؤدي الطاعات؟ فيترك الطاعات.

فهذا الرجل يقال له: أنت يا أخي صلِّ، ولعل الله أن يهديك بهذه الصلاة، فتنهاك صلاتك عن الفحشاء والمنكر، وكم من أناسٍ كانت بدايتهم مع الصلاة بداية لهجر المعاصي والمنكرات، إذا هم أخلصوا فيها وعرفوا معنى الخشوع، ومعنى إقامة الصلاة على حقيقتها، في فروضها، وشروطها، وواجباتها، وسننها، وما يترتب عليها، وحال العبد فيها مع الله عز وجل، والإنسان إذا صلى صلاةً صحيحة؛ فإنه لا بد أن صلاته ستنهاه عن الفحشاء والمنكر، والذي يرتكب هذه الشهوات، لا يعتبر إنساناً كافراً، أي: الذي يزني ليس بكافر.

فالذي يزني أو الذي يرتكب شيئاً من الشهوات، هذا لا يعني أنه كفر ولا ينفع معه عمل صالح.

انظر إلى هذا الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنا العبد؛ خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه) فإذا أقلع عن الذنب رجع إليه إيمانه.

فلذلك يجب أن يفهم الناس جميعاً، أنهم لو وقعوا في بعض المنكرات، فهذا لا يعني أنه لن تقبل أعمالهم الصالحة الأخرى.

فيا أخي! لا بد أن تصلي، ولكن لا نفعل كما فعل رجل من الناس، فقد كان هناك اثنين من الفسقة جاء وقت الصلاة فقال الأول: أريد أن أصلي. فقال الثاني: أنا لا أريد أن أصلي، وكل واحد منهما يعلم حال الثاني من الجرائم التي كانوا يقعون فيها، فسمعهما ثالث يقول أحدهم للآخر: ازنِ وصلِ، نحن لا نقول مقالة هذا الرجل، نقول له: يا أخي! صلِ الصلاة كما يريدها الله عز وجل، وإن صلاتك لا بد أن تنهاك عن الفحشاء والمنكر؛ لأن الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] ولا بد أن تجاهد نفسك.

والرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الشاب وقال: أنا أبايعك على كل شيء، لكن اسمح لي بالزنا، فلم يرض الرسول صلى الله عليه وسلم منه هذا، لكن لا بد أن يجاهد الإنسان نفسه، والله عز وجل من سلك سبيله يهديه وييسر له الأمر، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] فالله عز وجل ييسر للعباد الذين انتهجوا سبيله، ييسرهم لليسرى وللحق، ويسهل عليهم التمسك بالحق.

فإذاً: الذي يقول: أنا كيف أشرب الخمر وأصلي هذا تناقض وأنا لا أحب التناقض!

نقول له: صحيح أن التناقض شيء مزعج ومؤذي، لكن هل الحل أنك تختار شرب الخمر وتترك الصلاة؟!

أي: هل هذا علاج التناقض عندك؟ أم أنك تصلي وتلتزم بأحكام الدين، وتحاول أن تتخلص من هذه المنكرات، كما أمر الله عز وجل، جاهد ولا تقل: أنا حاولت لكني فشلت، وهو لم يحاول ألبتة.

أيها الإخوة! بعض الناس مستعد أن يلتزم بالأحكام التي لا شهوة فيها.. مستعد أن يطلق لحيته، ويقصر ثوبه، ويصلي في المسجد؛ لكنه لا يستطيع أن يترك النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأنها مسألة متعلقة بالشعور، يشق عليه أن يترك ويعتزل الشهوات، ولكنه مستعد أن يلتزم بأحكام كثيرة من أحكام الدين.

أيضاً: هذا نفس الكلام الذي ذكرناه وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، فهذا الإنسان يعتصم بالله عز وجل، ومادام أن الباب مفتوح ويجاهد نفسه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] كذلك على مستوى النساء، تجد المرأة مستعدة أن تصلي وتزكي وتصوم وتفعل أشياء كثيرة، لكنه إذا أتيت إلى قضية الخروج بين الرجال، ووضع الزينة والمكياج وهذه الأدوات والمنكرات للفت أنظار الرجل إليها لا تستطيع أن تترك هذه الشهوة.

وقد رأينا أناساً من هذا القبيل، ترى المرأة تصلي وربما تبكي وهي تقرأ القرآن، وفي رمضان و..و..و... إلخ، ولكن إذا أتيت إلى ترك الزينة، والتبرج، وعدم لفت أنظار الرجال إليها لا تقوى على هذا؛ لأن القضية شهوة، هذه المسائل علاجها بمجاهدة النفس، ليس هناك علاج سحري، لكننا نقول: لا تُترك الطاعات الأخرى من أجل هذه المنكرات، ولا بد من مجاهدة النفس بالتخلص من هذه المنكرات.

شهوة المنصب

كذلك من الشهوات مثلاً: شهوة المنصب، بعض الناس لا يلتزمون بأحكام الإسلام، ليس لأنهم لا يحبون الالتزام، ولكن لأنهم يخافون أن يفقدوا مناصبهم الإدارية وما شابه ذلك؛ لأنه يخشى أن يغضب عليه رؤساؤه عند الالتزام، فيعزلونه من منصب الإدارة أو من المنصب الفلاني؛ لأن رؤساءه لا يحبون التدين ولا الالتزام بالإسلام؛ فهو يخشى أنه إذا التزم أن يفقد منصبه، ولن يعطي العلاوات الفلانية، ولا الزيادات، ولن يترقى من مرتبة إلى مرتبة، وسيجمد في مكانه.. وهكذا.

هذه المسألة -مثلاً- نفس قضية الزعامة أو الرئاسة، قد يكون الإنسان في مجموعة من الناس الشاردين، ويكون هو الذي يُسيطر عليهم ويأتمرون بأمره، هو القائد فيخشى إذا التزم أن يفقد سيطرته على هؤلاء الناس، ويفقد هذه الزعامة التي يتمتع بها الآن.. يفقد شهوة حب الرئاسة، لا يتمتع بذلك، هو الآن عنده مجموعة وهو القائم عليها، وهو الذي يطيعون أمره، وإذا قال شيئاً نفذوه.. وهكذا.

هذا يخشى إذا التزم ألَّا يلتزموا معه، أو يخشى إذا التزم أن الالتزام سيذهب هذه الشهوة وسيقضي على إشباع الغريزة.. غريزة حب الرئاسة بنفس هذا الرجل.

أيها الإخوة! إذا خُير الإنسان المسلم بين أمرٍ فيه طاعةٌ لله وبين أمرٍ فيه إرضاءٌ لنزواته وشهواته، فماذا يختار؟

هنا يظهر الالتزام بالإسلام، وهنا يظهر الإيمان حقيقةً، لأنك -الآن- مخير بين أمرين شديدين على نفسك، فما الذي تقدم؟ هل تقدم ما يحبه الله عز وجل ويرضاه، أم تقدم ما ترضي به نفسك وما يُرضي شيطانك؟

بعضهم يخافون إذا التزموا بالإسلام أن يفقدوا اللذات والشهوات التي يعتبرون أنهم يتنعمون ويتلذذون بها، مثلاً: إنسان غارق في الشهوات، فعندما تعرض عليه الالتزام بالإسلام؛ يخشى في نفسه أن يفقد هذه اللذائذ والشهوات، فيرفض الالتزام؛ لأنه يخشى أن يفقدها.

أولاً: لتوضيح حال هؤلاء الناس أضرب الآن مثالاً واقعياً من الحياة.

شُوهد إنسانٌ ما وهو يمسك الهاتف ويغازل به النساء، فقال له إنسان بعدما انتهى: يا أخي! لماذا لا تصلي؟ فقال هذا الرجل: كيف أصلي وأنا عندي موعد مع فتاة بعد ساعتين؟

الآن من الذي منع هذا الرجل من الصلاة، هو الآن رجل صاحب شهوة، وجالس يركض وراء تلبية شهواته.

فلذلك تجد في عقله تناقضاً، كيف أصلي وبعد ذلك أذهب إلى شهواتي! فلذلك تصعب عليه القضية فماذا يترك؟

للأسف! لا يترك الشهوة بل يترك الصلاة، لأنه يعتقد أن هذه الشهوة حائلٌ بينه وبين الالتزام بالإسلام، ولا يجتمع في عقله ولا في نفسه صلاة مع اتباع الشهوات.

هذا الإنسان علاجه كما قال الله تعالى في القرآن: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] القرآن فيه أنواع كثيرة من الشفاء للشهوات، منها -مثلاً- قصة يوسف عليه السلام، كيف صبر على شهوته.

هذه القضية عندما تعرض على هذا الرجل، وعندما يقرأ هذه القصة يتعظ منها، وتكون نوعاً من الشفاء للمرض الذي في نفسه، فهذا الإنسان يذكَّر بالله عز وجل: كيف يبيع العاقل الجنة بشهوة ساعة؟!

فنقول: أنت -يا أخي- الآن عندما تقول: أنا لا يمكن أن أصلي، وأنا -الآن- على موعد من هذه المواعيد المحرمة، لماذا لا تصلي؟

الآن إذا لم تصل بالكلية تصبح كافراً، وتخلد في النار، فهل الأحسن لك أن تصلي حتى لو ارتكبت هذا المنكر أم لا؟

بعض الناس واقعين في منكرات؛ فيريدون أن يتحللوا من سبب أنواع الطاعات، بحجة أنه واقع في هذه الشهوات، وأنه لا يستطيع أن يقاوم نفسه، وما دام أنه واقع فيها كيف يؤدي الطاعات؟ فيترك الطاعات.

فهذا الرجل يقال له: أنت يا أخي صلِّ، ولعل الله أن يهديك بهذه الصلاة، فتنهاك صلاتك عن الفحشاء والمنكر، وكم من أناسٍ كانت بدايتهم مع الصلاة بداية لهجر المعاصي والمنكرات، إذا هم أخلصوا فيها وعرفوا معنى الخشوع، ومعنى إقامة الصلاة على حقيقتها، في فروضها، وشروطها، وواجباتها، وسننها، وما يترتب عليها، وحال العبد فيها مع الله عز وجل، والإنسان إذا صلى صلاةً صحيحة؛ فإنه لا بد أن صلاته ستنهاه عن الفحشاء والمنكر، والذي يرتكب هذه الشهوات، لا يعتبر إنساناً كافراً، أي: الذي يزني ليس بكافر.

فالذي يزني أو الذي يرتكب شيئاً من الشهوات، هذا لا يعني أنه كفر ولا ينفع معه عمل صالح.

انظر إلى هذا الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنا العبد؛ خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه) فإذا أقلع عن الذنب رجع إليه إيمانه.

فلذلك يجب أن يفهم الناس جميعاً، أنهم لو وقعوا في بعض المنكرات، فهذا لا يعني أنه لن تقبل أعمالهم الصالحة الأخرى.

فيا أخي! لا بد أن تصلي، ولكن لا نفعل كما فعل رجل من الناس، فقد كان هناك اثنين من الفسقة جاء وقت الصلاة فقال الأول: أريد أن أصلي. فقال الثاني: أنا لا أريد أن أصلي، وكل واحد منهما يعلم حال الثاني من الجرائم التي كانوا يقعون فيها، فسمعهما ثالث يقول أحدهم للآخر: ازنِ وصلِ، نحن لا نقول مقالة هذا الرجل، نقول له: يا أخي! صلِ الصلاة كما يريدها الله عز وجل، وإن صلاتك لا بد أن تنهاك عن الفحشاء والمنكر؛ لأن الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] ولا بد أن تجاهد نفسك.

والرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الشاب وقال: أنا أبايعك على كل شيء، لكن اسمح لي بالزنا، فلم يرض الرسول صلى الله عليه وسلم منه هذا، لكن لا بد أن يجاهد الإنسان نفسه، والله عز وجل من سلك سبيله يهديه وييسر له الأمر، قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] فالله عز وجل ييسر للعباد الذين انتهجوا سبيله، ييسرهم لليسرى وللحق، ويسهل عليهم التمسك بالحق.

فإذاً: الذي يقول: أنا كيف أشرب الخمر وأصلي هذا تناقض وأنا لا أحب التناقض!

نقول له: صحيح أن التناقض شيء مزعج ومؤذي، لكن هل الحل أنك تختار شرب الخمر وتترك الصلاة؟!

أي: هل هذا علاج التناقض عندك؟ أم أنك تصلي وتلتزم بأحكام الدين، وتحاول أن تتخلص من هذه المنكرات، كما أمر الله عز وجل، جاهد ولا تقل: أنا حاولت لكني فشلت، وهو لم يحاول ألبتة.

أيها الإخوة! بعض الناس مستعد أن يلتزم بالأحكام التي لا شهوة فيها.. مستعد أن يطلق لحيته، ويقصر ثوبه، ويصلي في المسجد؛ لكنه لا يستطيع أن يترك النظر إلى المرأة الأجنبية؛ لأنها مسألة متعلقة بالشعور، يشق عليه أن يترك ويعتزل الشهوات، ولكنه مستعد أن يلتزم بأحكام كثيرة من أحكام الدين.

أيضاً: هذا نفس الكلام الذي ذكرناه وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، فهذا الإنسان يعتصم بالله عز وجل، ومادام أن الباب مفتوح ويجاهد نفسه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] كذلك على مستوى النساء، تجد المرأة مستعدة أن تصلي وتزكي وتصوم وتفعل أشياء كثيرة، لكنه إذا أتيت إلى قضية الخروج بين الرجال، ووضع الزينة والمكياج وهذه الأدوات والمنكرات للفت أنظار الرجل إليها لا تستطيع أن تترك هذه الشهوة.

وقد رأينا أناساً من هذا القبيل، ترى المرأة تصلي وربما تبكي وهي تقرأ القرآن، وفي رمضان و..و..و... إلخ، ولكن إذا أتيت إلى ترك الزينة، والتبرج، وعدم لفت أنظار الرجال إليها لا تقوى على هذا؛ لأن القضية شهوة، هذه المسائل علاجها بمجاهدة النفس، ليس هناك علاج سحري، لكننا نقول: لا تُترك الطاعات الأخرى من أجل هذه المنكرات، ولا بد من مجاهدة النفس بالتخلص من هذه المنكرات.

كذلك من الشهوات مثلاً: شهوة المنصب، بعض الناس لا يلتزمون بأحكام الإسلام، ليس لأنهم لا يحبون الالتزام، ولكن لأنهم يخافون أن يفقدوا مناصبهم الإدارية وما شابه ذلك؛ لأنه يخشى أن يغضب عليه رؤساؤه عند الالتزام، فيعزلونه من منصب الإدارة أو من المنصب الفلاني؛ لأن رؤساءه لا يحبون التدين ولا الالتزام بالإسلام؛ فهو يخشى أنه إذا التزم أن يفقد منصبه، ولن يعطي العلاوات الفلانية، ولا الزيادات، ولن يترقى من مرتبة إلى مرتبة، وسيجمد في مكانه.. وهكذا.

هذه المسألة -مثلاً- نفس قضية الزعامة أو الرئاسة، قد يكون الإنسان في مجموعة من الناس الشاردين، ويكون هو الذي يُسيطر عليهم ويأتمرون بأمره، هو القائد فيخشى إذا التزم أن يفقد سيطرته على هؤلاء الناس، ويفقد هذه الزعامة التي يتمتع بها الآن.. يفقد شهوة حب الرئاسة، لا يتمتع بذلك، هو الآن عنده مجموعة وهو القائم عليها، وهو الذي يطيعون أمره، وإذا قال شيئاً نفذوه.. وهكذا.

هذا يخشى إذا التزم ألَّا يلتزموا معه، أو يخشى إذا التزم أن الالتزام سيذهب هذه الشهوة وسيقضي على إشباع الغريزة.. غريزة حب الرئاسة بنفس هذا الرجل.

أيها الإخوة! إذا خُير الإنسان المسلم بين أمرٍ فيه طاعةٌ لله وبين أمرٍ فيه إرضاءٌ لنزواته وشهواته، فماذا يختار؟

هنا يظهر الالتزام بالإسلام، وهنا يظهر الإيمان حقيقةً، لأنك -الآن- مخير بين أمرين شديدين على نفسك، فما الذي تقدم؟ هل تقدم ما يحبه الله عز وجل ويرضاه، أم تقدم ما ترضي به نفسك وما يُرضي شيطانك؟

أما إذا أتيت إلى جانب الشُبهات؛ فإن أمرها كبير وواسع جداً، وما يسمعه الدعاة إلى الله عز وجل يومياً من الناس وهم يأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، ويدعونهم إلى الطيبات، وإلى سلوك الصراط المستقيم، أي: هذا الكلام الذي يسمع يُوضح بجلاء.. لماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل) هذه الشبهات التي تُعرض وتُطرح ويُصدم بها كل داعية، وتُلقى عليه في وجهه، ولسان حال قائلها يقول: أنا لا يعجبني الالتزام، وأنا لا أريد أن ألتزم بالإسلام.

شبهة: الالتزام بالإسلام يقيد الحرية

هذه الشبهات -أيها الإخوة- كثيرة، ونحن نتطرق إلى شيءٍ منها، فمثلاً: يقول بعض الناس أنا أشعر بأن الالتزام بالإسلام فيه تقييدٌ للحرية، وأنا أحب التحرر والانطلاق، لا أحب الكبت والتصفيد بالأغلال، فبعض الناس ينظرون أن الالتزام بالإسلام هو تقييد للحريات، وكبت للحرية الشخصية، لكن ما هو حظ هذا الكلام من الصواب؟

نقول: نعم -يا أخي- نحن نعترف معك -ولا بد أن نعترف بهذا- بأن الإسلام فيه تقييد لشهوات النفس، ولنزواتها، وإلا فأخبرني كيف تكون عبداً لله.

إذا سألت أي إنسان تقول له: هل أنت معترف بأنك عبد لله؟

يقول: نعم. لا يقول في العادة: أنا لست عبداً لله.

أليس العبد مكلفاً بأن يطيع أوامر سيده؟

نعم. والعبيد على مستوى البشر تجد أنه إذا أمره سيده بأمر فيه مخالفة لراحته، أو لنومه أو لوقت الطعام عنده -مثلاً- لا بد أن يطيعه وإلا كان عاصياً.

أيها الإخوة! بما أننا عبيدٌ لله، فلا بد أن نتقيد بأوامر الله عز وجل، حتى نكون عبيداً لله حقاً، أما الذي يرفض أن يكون عبداً لله فهذا أمره شيء آخر، أي: هذا إنسان قد ذهب عن الدين بعيداً، ووقع في الكفر والضلال والعياذ بالله.

ماذا تعني هذه المسألة -في الحقيقة- عند هؤلاء الناس؟

يشعر أنه إذا التزم بالإسلام أنه سيقيد بقيود كثيرة، لن يسمع الأغاني، ولن يصافح ابنة عمه، ولن يستطيع أن يفعل ما يحلو له عند وقت الصلوات.. إلخ.

ومن جانبٍ آخر: بعض الضائعين إذا فكروا الالتزام بالإسلام يتخيل نفسه بعد أن يلتزم، وينظر في أحوال الملتزمين، فيقول لنفسه: هؤلاء الملتزمين مساكين يتمنون أن يفعلوا أشياء كثيرة من الحرية، ولكنهم مقيدون لا يستطيعون.

يتخيل واقع الملتزمين أنه واقع كبت وقهر وضغط وصراع نفسي.

يتخيل أن هذا الملتزم يريد أن يزني لكنه ليس قادراً على ذلك، يريد أن يسمع الأغاني لكن لا يستطيع، يريد أن يصافح المرأة الأجنبية وينظر إليها، يريد أن ينظر إلى الأفلام وإلى التمثيليات ولكنه حرم نفسه، فيتخيل هذا الرجل أن هذا الإنسان الملتزم يعيش في صراع نفسي، هو يريد ولكنه لا يستطيع.

إذاً: يقول في نفسه: لماذا أضع نفسي في هذا الأتون من الصراعات التي قد تفضي بي إلى أمراضٍ نفسية وعُقد وأمراض عصبية، وقد يؤدي بي الأمر إلى الجنون، فهل هذا الكلام صحيح؟

هل الآن كل ملتزمٍ بأوامر الله عز وجل يعيش في صراع نفسي وفي شقاء؟

هل هذا حادث أم أن الأمر على النقيض من هذا تماماً؟

أي: أن الملتزم بأوامر الله يشعر بسعادة وبطمأنينة بالغة، وهو يحس بلذة وطعم العبادة والطاعة.

ألم يقل الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] فكيف أن هذا الرجل يعمل صالحاً، وبعد ذلك يعطيه الله عز وجل حياة كلها نغص وتنغيص! وصراعات نفسية! وشقاء ونكد وكبت! كلا، بل أيها الإخوة! إن تعذيب النفس لله، وإلزامها بأوامر الله هي الحرية الحقيقية، لذلك تجد أصحاب الشهوات عبيداً لشهواتهم.. تجد أنه يدفع من جيبه كذا وكذا من الدراهم؛ لكي يحصل ويُرضي نزوةً من النـزوات التي ألقاها في قلبه الشيطان، ويسافر من هنا إلى هناك لكي يرضي هذه النزوة والشهوة، ويتمرغ على أوحال أعتاب من يظن أنهم سيمنحونه أو سيحفظ عن طريقهم السعادة، سواءً كن من النساء الفاجرات أو غيرهن، لكي يصل هذه القضية ويروي شهوته.

أليس هذا عبداً في الحقيقة؟

نعم، إنه عبد لا يكاد يصبر على الشهوات، فهو العبد حقيقةً بالمعنى الخاطئ، أي: الذي عبد الشهوات، وليس عبداً لله، وإلا فثقوا أن كل من عبد الله تعالى فهو يعيش في غاية الارتياح والحرية؛ لأن عبادته لله قد حولته من أسر شهواته، وأسر هذه النفس الأمارة بالسوء، والجري وراء الشهوات ليلاً ونهاراً، ووراء جمع المال من الحلال والحرام، ووراء إرضاء الشهوات الجنسية .. إلخ.

وكذلك يصف القرآن حال من أعرض عن ذكر الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] معيشة ضنكا، أي: شديدة قاسية مؤلمة.

شبهة: التصرفات السيئة لواقع بعض الملتزمين ظاهراً

من العوائق التي تعيق بعض الناس عن الالتزام بالإسلام: أنهم يستدلون بواقع بعض الملتزمين الذين هم في الحقيقة غير ملتزمين بالإسلام. مثلاً: رجل ظاهره الالتزام بالإسلام، لكن عنده تصرفات سيئة، فيأتي هؤلاء الناس الذين لا يريدون أن يلتزموا بالدين وأحكامه، فيقول لك وأنت تناقشه وتجادله بالتي هي أحسن: كيف تريدني أن ألتزم؟ انظر إلى حال فلان الفلاني! طويل اللحية.. قصير الثياب، لكن انظر كيف يأخذ سيارة العمل وسيارته الخاصة إلى الورشة، ويقول لصاحب الورشة: فك كفرات سيارة العمل وغيرها لسيارتي، لأن كفرات سيارة العمل جديدة.

أو رجل ظاهره الالتزام، يعمل بالتجارة في العقارات، فيأتي رجل ليشتري منه، فيلاحظ أنه يتعامل بالربا أو يغش، أو يدلس ويكذب.. إلخ.

أو مثلاً على أقل الأحوال: أحياناً يرى إنساناً أنه ملتزم؛ ولكنه لا يحافظ على نظافته الشخصية.

فيقول: انظر -يا أخي- الالتزام كيف هو وسخ، هذا الذي تريدني أصبح مثلهم؟

انظر كيف شكل فلان؟!

هذا الرجل كلامه بعيد تماماً عن الحجة، ولا يُعتبر حجة أبداً، لأنه يحتج الآن بإنسان غير ملتزم، لأنه للأسف كثيرٌ من الناس المجادلين عندما تتناقش معهم، يفتري على أناس من عباد الله الصالحين، ويقول: يفعل كذا ويفعل كذا، وتريد أن أكون مثله، وعندما تتحقق من الموضوع تجد أن ذلك الشخص الملتزم لا يفعل أياً من هذه الأمور، وأنما اختلق قصة لذلك الرجل وألصقها به، وضخم الأمر، أو أن لها أصلاً، فرآه مرة في حالة لا تعجبه، أو لا ترضيه، فعمم عليه وعلى غيره، فأولاً قد يكون افتراءً، ولو كان صحيحاً؛ فإن هذا الشخص الذي يحتج به ليس ملتزماً، فلا يكون هذا حجة أبداً.

فنقول له: أنا لا أريد أن تكون مثل فلان، أنا أريدك أن تقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، دع فلاناً وفلاناً، أنت قال الله لك: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] أنا أخطئ وغيري يخطئ، لذلك أرسل الله لنا قدوة من البشر كاملاً في صفاته وخصاله لكي نقتدي به، وهذا رحمة من الله لهذه الأمة، أن أرسل إلينا رسولاً قدوةً، فلا نحتاج لأن نقول: انظر يا فلان! لا تنظر إلى فلان، لكن نقول لأي أحد: اقتدِ بالشيخ الفلاني.. اقتدِ بالرجل الفلاني، لكي تقرب له واقع القدوة، وتنتقي له قدوة يعايشها ويراها، لكن ما هي القدوة الأساسية التي نرتبط بها؟

إنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم يقول لك: يا أخي! انظر فلاناً هذا حج ولكنه يشرب الخمر، فتقول له: ماذا تريد؟

أي: نترك الحج لأن فلاناً يحج ويسكر.

يقول لك: هذا فلان الملتحي يفعل كذا وكذا من الغش والتزوير!

تقول له: نترك اللحية سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن فلاناً يزور، ما علاقة التزوير بهذا الحكم الإسلامي؟! حكم اللحية ما علاقته بالموضوع؟!

فهذا الربط والتلازم الذي يزعمه كثيرٌ من الناس في نقاشاتهم، لا حقيقة له؛ ولكنه يريد أن يجادل ويماري -بالأحرى- حتى يخرج من المأزق الذي يحس أنه قد تورط فيه عندما تقام عليه الحجة، ويشعر بأنه مخطئ، ألم يقل الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

ألم يقل الله عز وجل: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] كل إنسان محاسب على عمله، وأنت لماذا تنتظر خطأه، خطأه سيحاسبه الله عز وجل عليه، ولماذا تحتج بخطئه على الإسلام؟ ولماذا تجعل الإسلام هو هذا الشخص؟ فما إن وقع هذا الشخص في خلل؛ فأنا لا أريد أن ألتزم بالإسلام.. ما علاقة هذا الرجل بالإسلام الذي أنت المفترض أنك تتبع وتلتزم به، فلماذا تحتج به؟!

أيها الإخوة! الناس ليسوا حجة على الشريعة، ولكن الشريعة هي الحجة على الناس، ومثل هذا بالنسبة لأخواتنا النساء، فلا شك أنهن يسمعن كثيراً من بنات جنسهن، يقلن: أنا لا أريد أن أتحجب؛ لأن فلانة المتحجبة تفعل أشياء ومصائب من تحت الحجاب.. من خلف الحجاب! أي: كون فلانة ترتكب هذه المنكرات وهي متحجبة أن نترك الحجاب لأجل أنها ترتكب المعاصي، ما علاقة المعصية بالحجاب؟ هل المعصية هي الحجة على شريعة الله في أمر المرأة بالحجاب؟ ولأن هذه المرأة كان فيها نقص ولو أنها متحجبة أخطأت أو عصت أصبحت معصيتها حجة على الشريعة الإسلامية بأمر الحجاب، فانظر كيف يصرفون ويفكرون: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الكهف:56] وأي أحد من أهل الباطل إذا تفكرت في كلامه لا تجد عنده مستنداً شرعياً مطلقاً.

شبهة: تكرار الوقوع في المعصية مع التوبة

كذلك أيها الإخوة! بعضهم يقول: أنا إنسان يتكرر مني وقوع المعصية، مثلاً: أشرب الخمر ثم أتوب وأبتعد عن شربه، ثم أشربه مرة ثانية، وأترك الشرب ثم أشربه مرة ثالثة..

أنا رجل التحيت فترة من الزمن، ثم حلقت لحيتي، ثم تركتها، ثم حلقتها، ثم تركتها، ثم حلقتها...

أنا امرأة تحجبت ثم تركت الحجاب، ثم تحجبت ثم تركت الحجاب، ثم تحجبت... فيأتيه الشيطان يقول له: جعلت الدين لعبة!! لا. أول شيء أن تكون على ما أنت عليه من المعصية، وبعد ذلك إذا تأكدت أنك قد وصلت إلى مستوى أنك إذا التزمت بهذا الحكم لا تتركه؛ فبعد ذلك التزم بالإسلام حتى لا يصبح الدين لعبة.

وكذلك يقول بعضهم: إنسان التزم بالإسلام فترة من الزمن، ثم انتكس وارتد على عقيبيه، ثم خالف أوامر الله عز وجل، فيقول في نفسه: بدل ما أرتقي ثم أهبط من هذا المستوى، فأجلس في الوسط لأني أخاف أن أتردى بعد ذلك إلى أسفل سافلين، دعني على قليل من المعاصي التي عندي وقليل من الطاعات، فهذه بركة وكفاية! فهذا الرجل الذي يقول: أنا أتأكد من نفسي أولاً ثم ألتزم. لا بد أن نعلم أننا نحن البشر مخطئون، وأن من طبيعتنا أن نخطئ، والله خلقنا وفينا قابلية للخطأ والمعصية:

وما سمي الإنسان إلا لنسيه          ولا القلب إلا لأنه يتقلبُ

نحن ننسى ونخطئ ونذنب، ولما علم الله هذا الطبع في نفوسنا أخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون الله تعالى؛ فيغفر لهم) رواه مسلم، وهذا حديث جميل جداً ويريح النفس كثيراً.

الله عز وجل لم يخلقنا إلا وهو يعلم بأننا نذنب ونخطئ، ولكن الخطأ الحقيقي هو الاستمرار على الذنب وعدم التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، ولذلك فتح الله باباً بين المشرق والمغرب لا يُغلق إلا عند قيام الساعة.. لا يُغلق إلا عند طلوع الشمس من مغربها، هذا الباب هو باب التوبة.

فعندما يأتي إنسان، ويقول: أنا أذنب وأتوب، وأذنب وأتوب، فأنا أريد أن أبقى على هذا الذنب؛ لأني لا أريد أن أجعل الدين لعبة، فنقول له: يا أخي! لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: (أذنب عبدٌ ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، وقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب مرة ثالثة، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما يشاء).

إذاً: هل لك بعد أن سمعت هذا الحديث أن تقول: أنا لا أريد أن أجعل من الدين لعبة، ألتزم ثم أنتكس، ثم ألتزم ثم أنتكس، فإذاً أنا أريد أن أكون منتكساً.. هكذا حتى يأذن الله، وحتى أتمكن نفسياً، وحتى أقوى وحتى وحتى ... لقد فتح الله باب التوبة؛ لكي يرجع العاصي، ويئوب هذا المفسد الذي حصل منه الخطأ.

أيها الإخوة! وقوع الذنب منا ليس مسالةً مستغربة، وإنما هو حقيقة من حقائق البشر، لكن يجب أن ننتبه إلى أن باب الذنب مفتوح على مصراعيه، كل إنسان يذنب ويستغفر، ويذنب ويستغفر، ويذنب ويستغفر، هذا فعلاً يكون لعبة، لكن في الحديث أمرٌ لا بد من الانتباه إليه، يقول الله عز وجل في الحديث: (قال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب).

الناس لا ينتبهون لمعنى كلمة (ويأخذ بالذنب) أي: يعاقب عليه، فهذا العبد المؤمن في هذا الحديث يفقه أن الله غفورٌ رحيم، كما يفقه أن الله شديد العقاب، وهذه هي الحقيقة المهمة.

وأيضاً من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا تلازم في التوبة بين الماضي والمستقبل، أي: لو أن إنساناً أذنب ثم تاب إلى الله عز وجل توبة صحيحة، ثم أغواه الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ووقع في الذنب مرة ثانية، هذا لا يعني أن توبته الماضية فاسدة، وأن الذنب الأول ما زال مكتوباً عليه حتى الآن، لا. الذنب الأول قد مسح بالتوبة الأولى الصحيحة بشروطها، ولاحظ شروط التوبة عند السلف، وهي:

1- الإقلاع عن الذنب.

2- الندم على ما فات.

3- العزم على عدم العودة إليه.

لم يقولوا في التعريف: وعدم العودة إليه، وإنما قالوا: والعزم على عدم العودة. أي: العودة شيء، والعزم على عدم العودة شيءٌ آخر، فإذا أذنبت وتبت توبةً صحيحة، ليس توبة المستهزئ واللاعب؛ فإن الله يغفر لك ذنبك حتى لو عدت إلى الذنب مرة أخرى.

إذاً: لا تلازم بين الماضي والمستقبل في قضية التوبة إذا كانت صحيحة، ليس أن يذنب الإنسان وبعد ذلك يستغفر استغفار اللاهي من أجل أن يعود بعد قليل، وهو يعرف أنه بعد قليل سيجعل هذا الاستغفار من باب إكمال الإجراءات.

كذلك نقول لهذا الإنسان: هب أنك ستذنب وتتوب، وتذنب وتتوب، أليس من الأفضل لك أن تصبح (50%) من أفعالك صالحة و(50%) غير صالحة بدلاً من أن تصبح كلها غير صالحة وشقية.

أي: يقول هذا: ما دام أني أذنب وأستغفر، وأذنب وأستغفر، إذاً لا أريد أن ألتزم نهائياً، نقول له: أنت الآن إذا لم تلتزم نهائياً وقعت في مصيبة أعظم من الأولى، على الأقل أن نصف عملك صالح ونصفه فاسد، لكن الآن أصبح كله فاسداً؛ لأنك لست ملتزماً نهائياً.

إذاً الكلام الشائع بين العوام: الذنب بعد توبة أشد من سبعين ذنباً، كلام غير صحيح.

ثم إنه أيها الإخوة! هناك مسألة مهمة وهي: أننا لا نطلب من الناس أن يلتزموا من أجل إرضاء الملتزمين، وحتى لا يتكلم عليهم الملتزمون، وإنما نطلب منهم أن يلتزموا لأجل الله عز وجل، فأنت -يا أخي- المذنب المقصر لم يضرك الناس لو قالوا عنك: أنت تبت ورجعت، وتبت ورجعت، أنت لعّاب، ما عليك منهم، ما دام أنك إنسان صادق في توبتك لله عز وجل ما عليك منهم، دعهم يقولون ما يقولون، أنت لم تلتزم من أجل ألا يتكلم عليك، لا الطيب ولا التعبان، أنت التزمت لله عز وجل، وقمت بهذا العمل لله عز وجل.

شبهة: الاضطهاد الذي يراه على الملتزمين

من العوائق أيضاً: إنسان يشاهد رجلاً ملتزماً قد عظ على الدين بالنواجذ، فسبب هذا اضطهاد من حوله له، فيقول في نفسه: أف! كل هذه الاضطهادات والاستهزاءات والسخريات، فما دام أن المسألة كذا فأنا ليس عندي استعداد أن ألتزم؛ لأنه يرى أحد الملتزمين الآخرين بالدين يُسخر منه، ويُؤذى في الله عز وجل، فيقول في نفسه: أنا إذا التزمت سيحصل لي مثل هذا، أنا لا أستطيع أن أثبت، فإن قلت له: كيف يثبت فلان هذا؟

يقول لك: هذا فلان شخصيته قوية، وأنا والله لا أظلم نفسي، فنقول له: لماذا تفترض أنك لن تستطيع أن تثبت؟

انظر إلى الخطأ الشنيع عندما يقيس الناس أحوال الملتزمين بما يفهمونه هم وهم خارج الالتزام.

أي: أن الإنسان عندما يلتزم؛ يُعطيه الله عز وجل قوة ويُثبته، وتصير عنده شحنة إضافية من الصبر على الأذى لم تكن عنده قبل الالتزام، وهذه مسألة لا يفقهها غير الملتزم بالدين.

تجد الملتزم يقول في نفسه: سأضطهد، وأنا ليس عندي استعداد أن أصبر، وأنا ضعيف الشخصية، لماذا يتصور هذا وهو يعيش خارج الالتزام؟ وما يدريك -يا أخي- عندما تلتزم بأحكام الدين أن الله يثبتك ويؤيدك بقوةٍ وتأييدٍ من عنده، فتصبر أضعاف مضاعفة على البلاء وهذا هو الذي يحصل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [غافر:51]، وقال تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد:35].

الله مع المؤمنين.. مع المتقين.. ولي الذين آمنوا.. الله لا يتخلى عن أوليائه، قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].

ثق يا أخي أنك إذا التزمت بالدين رغم كل الاضطهادات التي ستلقاها، فإن الله لن ينساك، وسيثبتك ويؤيدك، وستصبح شخصيتك قوية أمام المستهزئين، وأمام الذين يؤذونك، فتثبت إن شاء الله تعالى.

بعض الناس يريد التزاماً من غير أذى، فإذا حصل شيء في الالتزام سيؤذيه تركه، فيكون مثل الذي يعبد الله على حرف: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج:11].

هنا قاعدة من المفيد أن تُذكر وهي مذكورة في بعض كتب السلف -ربما في كتاب الورع لـأحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه وأرضاه- تقول القاعدة: "على الإنسان -أي: المسلم- ألا يُعرض نفسه لبلاءٍ لا يطيقه"، ليس ألا يعرض نفسه للبلاء، لا. فهو لا بد أن يتعرض للبلاء؛ لأن سنة الله جرت بأن من يتمسك بالدين يحصل له الأذى والاضطهاد، لكن على الإنسان ألَّا يعرض نفسه لبلاءٍ لا يطيقه؛ فيجعله يرتد على عقبيه.

مثلاً: رجل متفلت، وبعيد عن طريق الله عز وجل، وعن منهج الله، فهداه الله تعالى ودخل الإيمان في قلبه، فتمسك بأحكام الدين، وهو -مثلاً- شابٌ يعيش في أسرة، ومن أحكام الدين وشرائعه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، حسب الاستطاعة، إذا كان هذا الشخص حديث عهد بالالتزام، ولا يضمن أنه إذا قام على أهله في البيت وغيّّر المنكرات التي عندهم أنهم سيقومون عليه قومةً تفتنه عن دينه، وترجعه إلى ما كان عليه في الماضي؛ فعند ذلك لا يقوم هذه القومة، وإنما يؤجلها إلى حين، أو يتدرج بها بالحكمة والموعظة الحسنة.

مثلاً: رجل هداه الله عز وجل، فليس من المصلحة أن يأتي ويكسر التلفزيون, وبعد ذلك يأتي أبوه ويطرده من البيت، ويقطع عنه المصاريف ويقطع عنه.. ويقطع عنه.. ويجلس هذا الرجل من غير مأوى ولا مال، ثم تصبح عنده ضغوط بسبب أنه لا يمتلك المال، فماذا يفعل؟

يعود إلى البيت كئيباً ذليلاً صاغراً، وقد رجع إلى ما يريده أبوه.

إذاً: على الإنسان ألا يُعرض نفسه لبلاء لا يطيقه، إذا قدَّرت أن هذه العملية التي ستفعلها ستعرضك لبلاء لا تطيقه، وقد تفتنك عن دينك، وقد ترجع وتنكس على عقبيك فلا تفعلها، بل تدرج تدرجاً مناسباً.

بعض الناس يعتقد أن الالتزام وسوسة!! ويقول عن الملتزم: إنه موسوس، مثلاً: الإنسان المسلم الملتزم الأصل أن يكثر من ذكر الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42] فيأتي إنسان من هؤلاء المتشردين البعيدين عن منهج الله ويرى إنساناً ملتزماً يمشي في الطريق وهو يحرك شفتيه بدعاء الذهاب إلى المسجد.. دعاء السوق وهذا المتفلت لا يعرف مثلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ولا يعرف أن السوق له ذكر، ولا يعرف أن الذهاب إلى المسجد له ذكر؛ فيقول عن هذا الإنسان الذي يحرك شفتيه ويتمتم: موسوس! يقول: الله المستعان! إذا كان هذه هي حالتهم فهذه مشكلة، ثم يتكلم في المجالس بما يرى، يقول: أنا يا جماعة رأيت فلاناً يمشي، ويفعل كذا وكذا، وكأنه راكبه جني يكلم نفسه في الطريق، ما معه أحد.

وهذا كله بسبب الجهل، وإلا فالمفترض أن الإنسان المسلم عليه أن يَذكر الله تعالى في كل أحيانه؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه عز وجل.

شبهة: حب الملتزمين مع الرضا بالواقع المعاش

من العوائق التي توجد عند بعض الناس: أنهم يرضون بالواقع السيئ الذي يعيشون فيه، لكنهم يمتدحون الملتزمين بالدين، فإذا رأى مثلاً الناس ملتزمين يقول: جزاكم الله خيراً، وكثّر الله من أمثالكم، يُغدق عليهم ألفاظاً ولا يعاديهم.

لكن يعتقد أن الالتزام فرض كفاية، وأن الدعوة إلى الله فرض كفاية، والحمد لله فهؤلاء الناس قد كفونا العملية، فجزاهم الله خيراً، وكثَّر الله من أمثالهم، فهم لم يقصروا، ونحن دعنا في حالنا الذي نحن عليه، وتمشي الأمور.

الواقع أن هؤلاء الناس يظنون أنهم من أهون المتفلتين شراً، وإذا كان قد كف عن غيره، فهذا لا يعني أنه قد كف شره عن نفسه؛ لأن النفس أمارة بالسوء، والله عز وجل عندما أهلك قريةً من القرى قال: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [الأعراف:165].

هذا يعني أن الله ينجي الذين ينهون عن السوء؛ لكن هذا المتفلت الذي رضي بواقعه إذا نزل العذاب؛ فإنه لن ينجو، لأن الله عز وجل لا ينجي إلا الذين ينهون عن السوء، وكذلك حديث السفينة -الذي تعرفونه- فكان فيها طابقين، أناس تحت وأناس فوق، فكان الذين في الأسفل إذا أرادوا أن يشربوا الماء مروا على من فوقهم وأخذوا من فوق، فقالوا: بدل أن نؤذي من فوقنا، لو خرقنا نحن في جانبنا خرقاً ونأخذ الماء مباشرة، ولا داعي أن نؤذي الناس الذين فوقنا (فإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً ) فهذا لا يعني أن المجتمع يجب أن يكون فيه قسمين:

1- قسم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

2- وقسم يسير حسب سير المجتمع.

وهنا نقطة مهمة: وهي أن أكثر أصحاب هذا القول هم من كبار السن في العادة، فهنا قد يسأل الإنسان: لماذا يكون الالتزام في الشباب أسرع وأفضل من الالتزام عند كبار السن؟

الجواب: أن الشباب بطبيعتهم عندهم روح التجديد والتجدد والسرعة في التَغَيُر والتَغْيِير، وتقبل الأفكار أكثر من كبار السن، لأن الكبير في السن قد مشى على حالة معينة، ونمط معين، واستمر عليه، فمن الصعب جداً أن نغير فكره، أما هذا الشاب الناشئ، فمن السهل أن يقبل الأفكار، ويؤمن بها، ويغير ويتغير ويدعو إليها.. وهكذا.

ولذلك كان أكثر المستجيبين لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم شباباً، فكان أكبر رجل منهم في مكة ، تقريباً عمره تسعة وثلاثين سنة تقريباً وهو أبو بكر الصديق.

بعض الناس يقول: الالتزام كلمة كبيرة، فيأتي مثلاً على قضية اللحية، ويقول: أنا عندي منكرات، وعندي مصائب، وعندي... فأنا عندما أترك هذه الأشياء أربي اللحية؛ لأني لا أحب أن أضع شيئاً ليس على مستواي، وإذا وضعت اللحية يمكن أصد عن سبيل الله، ويمكن أن يرى واقعي ويختلف مظهري، فيكون هذا من باب صرفهم عن الحق وصدهم عنه، هذا كلامٌ نسمعه من الكثيرين، هنا نتساءل: لو قال الناس كلهم هذه الكلمة، أنا ليس عندي استعداد، ولست على مستوى هذه المسألة، ماذا يحدث؟

سؤال آخر: هذا الرجل قد يؤدي الصلاة، نقول له: هل حق الصلاة في الإسلام أكبر أم حق اللحية؟ والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أكثر أم اللحية؟

إذاً فالمفروض على كلامك أنك لا تصلي؛ لأنك لست على مستوى الصلاة!

انظر كيف أن الشيطان يمكن أن يتدرج مع هذا الإنسان الظالم لنفسه، فيجعله يتفلت من عرى الإسلام عروة عروة.. وهكذا، ثم نقول له: أما قولك بأنك إذا ربيت اللحية، وفعلت بعض الآثام سوف تصد الناس عن دين الله، فهذا غير صحيح، لأنك عندما أطلقت لحيتك والتزمت بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هل أطلقتها من أجل أن تغرر بالناس أم من أجل امتثال الشرع؟

نعم! من أجل الامتثال بالشرع، فأنت هذه نيتك، فستأجر على هذه النية.

وكذلك نقول أيها الأخوة: هذه قضايا يظن كثير من الناس أنها قضايا شكلية وهامشية، وقشور، وليست من الأمور المهمة في الدين!

وهذا كلام خاطئ، ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ، عقد فصلاً جيداً ومهماً عن موضوع أثر الظاهر على الباطن، وقال في معرض كلامه: إن الإنسان إذا تلبس بشيء في ظاهره لا بد أن يؤثر على تصرفاته.. كيف؟

نضرب مثالاً: الآن نفترض رجلاً لبس لباس العسكرية -لباس الشرطي- كيف تكون تصرفاته وهو يمشي ويقعد، أي: يكون شديداً، ويمشي بشدة وقوة، وعنده حزم ولا يلعب؛ لأنه وهو يلبس ملابس العسكرية يتخيل نفسه عسكرياً، لا بد أن يكون على مستوى هذا اللباس، فيتحمس أن تكون في نفسه صفات تطابق الظاهر الذي هو عليه.

لذلك نجد كثيراً من الذين يدخلون في السلك العسكري تتغير شخصياتهم، أي: قد يكون فيه نوع من اللعب والفوضى؛ فإذا به يتحسن في هذا الجانب، يصبح عنده جدية أكثر.

إذاً: الذي يتشبه بأهل الصلاح ويتصف بصفاتهم -مثلاً- فيعفي لحيته، ويجعل ثوبه على السنة؛ هذا الرجل اتخذ هذه الصفات على ظاهره، فلا بد أن يؤثر على باطنه، ويكفيه فخراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تشبه بقومٍ فهو منهم) فعندما يتشبه بسيماء أهل الصلاح وصفاتهم، ويعفي هذه السنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويلتزم غيرها من السنن والآداب والمظاهر الإسلامية، فإن هذا يؤثر على قلبه وباطنه.

وبعض الناس عندما تدعوه إلى الالتزام يقول: أنا مستعد أن ألتزم ولكن ليس الآن! أي: على فترات، سوف أعمل خطة خمسية وألتزم عليها، بناءً على هذه السنة القادمة لا أسمع الأغاني، والتي بعدها لا أنظر إلى المرأة الأجنبية، والتي بعدها لا أشاهد تمثيليات، والتي بعدها.. وهكذا، إلى أن أصل إلى الالتزام، وفي الأخير لا أدري هل يصل بعد الموت أو قبل الموت أو لا يصل نهائياً.

مسألة أني ألتزم على مراحل، أو ألتزم شيئاً فشيئاً وسوف أؤجل الالتزام بعد فترة من الزمن.. كل هذا من نزغات الشيطان ومداخله، وذلك لأمور: أولاً: ما يدريك أنك ستعيش إلى الوقت الذي ستصبح فيه ملتزماً؟ هل تضمن نفسك؟

ثانياً: هل تضمن أن تهدي نفسك بنفسك؟ أي: أنت حكمت بأنك بعد فترة خمس سنوات ستهتدي، هل فعلاً بعد خمس سنوات سوف تهتدي؟ أو ربما أن الله عز وجل يكتب عليك ألا تهتدي، فهل هداية نفسك بيدك، أنت يجب عليك أن تسلك السبيل المستقيم، فيهديك الله عز وجل بهذه الصفات، وبهذه الأعمال الصالحة.

ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة) بادر الآن لأنك لا تعلم متى تموت! حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا [المؤمنون:99-100] هذا لن يحصل.

ولذلك قال العلماء في قول الله عز وجل: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:13-14] هؤلاء المنافقون الكفرة ينادون المؤمنين: ألم نكن معكم؟

أعطونا من النور الذي معكم؟

فيقول لهم المؤمنون: بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14] بالشهوات والمعاصي واللذات وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد:14]، فقال المفسرون: وَتَرَبَّصْتُمْ [الحديد:14] أي: الانتظار.

ولذلك جاء في آياتٍ عدة: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [البقرة:226] تربص أربعة أشهر أي:التأخير أربعة أشهر، وتربصتم أي: أخرتم التوبة، قال بعض السلف: أخرتم التوبة من وقتٍ إلى آخر، وأنتم جالسون تسوفون وتأخرون التوبة: وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الجاثية:35].. وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14].

ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: "كلما جاء طارق الخير صرفه بواب لعل وعسى".

وهناك مثل جميل يضربه ابن القيم لهؤلاء الناس يقول: الذي يترك الشبهات والشهوات تسري في جسمه ويقول: أنا سأؤخر التوبة، هذا مثله مثل رجلٍ نبتت في داره شجرة مؤذية، وهو شاب قوي، والشجرة صغيرة، فكلما جاء يقطعها، قال: سوف أقطع في القريب، ويؤخر القطع إلى بعد ذلك، حتى مضت فترةٌ طويلة جداً، كبرت فيها الشجرة واشتدت وصارت قوية، وجذورها عميقة، وقد صار شيخاً كبيراً عاجزاً، فلما أتى ليقطعها إذا قواه تخور وتنهار، فالعملية عكسية، فكلما زادت الشهوات والشبهات بالنفس كلما ضعفت قوة التغيير إلى الصلاح.. وهكذا، فعلى الإنسان أن يبادر بالتوبة والتغيير والالتزام ولا يقول: سوف التزم بعد فترة ... ومن الذي يضمن لك أن تعيش حتى تأتي تلك الفترة.

هذه مقولة يقولها البعض: أنا لست شريراً إلى تلك الدرجة أني من جماعة كذا، أي: أنا إنسان طيب، ونيتي صادقة، والله يفرض عليّ أن أكون مطوعاً و.. و.. الخ.

أي: أنا إنسان طيب، ونيتي طيبة، لماذا تقول لي: التزم بهذه وهذه وهذه، أي: أنا لست شريراً إلى هذه الدرجة، فهذا الإنسان يجهل قضية العبادة، ويجهل: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] يجهل أن يكون كل شيء لله، يعتقد أن هناك شيء لله، وشيء لنفسه، شيء للشهوات، ولإرضاء حظوظ النفس.

هذه الشبهات -أيها الإخوة- كثيرة، ونحن نتطرق إلى شيءٍ منها، فمثلاً: يقول بعض الناس أنا أشعر بأن الالتزام بالإسلام فيه تقييدٌ للحرية، وأنا أحب التحرر والانطلاق، لا أحب الكبت والتصفيد بالأغلال، فبعض الناس ينظرون أن الالتزام بالإسلام هو تقييد للحريات، وكبت للحرية الشخصية، لكن ما هو حظ هذا الكلام من الصواب؟

نقول: نعم -يا أخي- نحن نعترف معك -ولا بد أن نعترف بهذا- بأن الإسلام فيه تقييد لشهوات النفس، ولنزواتها، وإلا فأخبرني كيف تكون عبداً لله.

إذا سألت أي إنسان تقول له: هل أنت معترف بأنك عبد لله؟

يقول: نعم. لا يقول في العادة: أنا لست عبداً لله.

أليس العبد مكلفاً بأن يطيع أوامر سيده؟

نعم. والعبيد على مستوى البشر تجد أنه إذا أمره سيده بأمر فيه مخالفة لراحته، أو لنومه أو لوقت الطعام عنده -مثلاً- لا بد أن يطيعه وإلا كان عاصياً.

أيها الإخوة! بما أننا عبيدٌ لله، فلا بد أن نتقيد بأوامر الله عز وجل، حتى نكون عبيداً لله حقاً، أما الذي يرفض أن يكون عبداً لله فهذا أمره شيء آخر، أي: هذا إنسان قد ذهب عن الدين بعيداً، ووقع في الكفر والضلال والعياذ بالله.

ماذا تعني هذه المسألة -في الحقيقة- عند هؤلاء الناس؟

يشعر أنه إذا التزم بالإسلام أنه سيقيد بقيود كثيرة، لن يسمع الأغاني، ولن يصافح ابنة عمه، ولن يستطيع أن يفعل ما يحلو له عند وقت الصلوات.. إلخ.

ومن جانبٍ آخر: بعض الضائعين إذا فكروا الالتزام بالإسلام يتخيل نفسه بعد أن يلتزم، وينظر في أحوال الملتزمين، فيقول لنفسه: هؤلاء الملتزمين مساكين يتمنون أن يفعلوا أشياء كثيرة من الحرية، ولكنهم مقيدون لا يستطيعون.

يتخيل واقع الملتزمين أنه واقع كبت وقهر وضغط وصراع نفسي.

يتخيل أن هذا الملتزم يريد أن يزني لكنه ليس قادراً على ذلك، يريد أن يسمع الأغاني لكن لا يستطيع، يريد أن يصافح المرأة الأجنبية وينظر إليها، يريد أن ينظر إلى الأفلام وإلى التمثيليات ولكنه حرم نفسه، فيتخيل هذا الرجل أن هذا الإنسان الملتزم يعيش في صراع نفسي، هو يريد ولكنه لا يستطيع.

إذاً: يقول في نفسه: لماذا أضع نفسي في هذا الأتون من الصراعات التي قد تفضي بي إلى أمراضٍ نفسية وعُقد وأمراض عصبية، وقد يؤدي بي الأمر إلى الجنون، فهل هذا الكلام صحيح؟

هل الآن كل ملتزمٍ بأوامر الله عز وجل يعيش في صراع نفسي وفي شقاء؟

هل هذا حادث أم أن الأمر على النقيض من هذا تماماً؟

أي: أن الملتزم بأوامر الله يشعر بسعادة وبطمأنينة بالغة، وهو يحس بلذة وطعم العبادة والطاعة.

ألم يقل الله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] فكيف أن هذا الرجل يعمل صالحاً، وبعد ذلك يعطيه الله عز وجل حياة كلها نغص وتنغيص! وصراعات نفسية! وشقاء ونكد وكبت! كلا، بل أيها الإخوة! إن تعذيب النفس لله، وإلزامها بأوامر الله هي الحرية الحقيقية، لذلك تجد أصحاب الشهوات عبيداً لشهواتهم.. تجد أنه يدفع من جيبه كذا وكذا من الدراهم؛ لكي يحصل ويُرضي نزوةً من النـزوات التي ألقاها في قلبه الشيطان، ويسافر من هنا إلى هناك لكي يرضي هذه النزوة والشهوة، ويتمرغ على أوحال أعتاب من يظن أنهم سيمنحونه أو سيحفظ عن طريقهم السعادة، سواءً كن من النساء الفاجرات أو غيرهن، لكي يصل هذه القضية ويروي شهوته.

أليس هذا عبداً في الحقيقة؟

نعم، إنه عبد لا يكاد يصبر على الشهوات، فهو العبد حقيقةً بالمعنى الخاطئ، أي: الذي عبد الشهوات، وليس عبداً لله، وإلا فثقوا أن كل من عبد الله تعالى فهو يعيش في غاية الارتياح والحرية؛ لأن عبادته لله قد حولته من أسر شهواته، وأسر هذه النفس الأمارة بالسوء، والجري وراء الشهوات ليلاً ونهاراً، ووراء جمع المال من الحلال والحرام، ووراء إرضاء الشهوات الجنسية .. إلخ.

وكذلك يصف القرآن حال من أعرض عن ذكر الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] معيشة ضنكا، أي: شديدة قاسية مؤلمة.

من العوائق التي تعيق بعض الناس عن الالتزام بالإسلام: أنهم يستدلون بواقع بعض الملتزمين الذين هم في الحقيقة غير ملتزمين بالإسلام. مثلاً: رجل ظاهره الالتزام بالإسلام، لكن عنده تصرفات سيئة، فيأتي هؤلاء الناس الذين لا يريدون أن يلتزموا بالدين وأحكامه، فيقول لك وأنت تناقشه وتجادله بالتي هي أحسن: كيف تريدني أن ألتزم؟ انظر إلى حال فلان الفلاني! طويل اللحية.. قصير الثياب، لكن انظر كيف يأخذ سيارة العمل وسيارته الخاصة إلى الورشة، ويقول لصاحب الورشة: فك كفرات سيارة العمل وغيرها لسيارتي، لأن كفرات سيارة العمل جديدة.

أو رجل ظاهره الالتزام، يعمل بالتجارة في العقارات، فيأتي رجل ليشتري منه، فيلاحظ أنه يتعامل بالربا أو يغش، أو يدلس ويكذب.. إلخ.

أو مثلاً على أقل الأحوال: أحياناً يرى إنساناً أنه ملتزم؛ ولكنه لا يحافظ على نظافته الشخصية.

فيقول: انظر -يا أخي- الالتزام كيف هو وسخ، هذا الذي تريدني أصبح مثلهم؟

انظر كيف شكل فلان؟!

هذا الرجل كلامه بعيد تماماً عن الحجة، ولا يُعتبر حجة أبداً، لأنه يحتج الآن بإنسان غير ملتزم، لأنه للأسف كثيرٌ من الناس المجادلين عندما تتناقش معهم، يفتري على أناس من عباد الله الصالحين، ويقول: يفعل كذا ويفعل كذا، وتريد أن أكون مثله، وعندما تتحقق من الموضوع تجد أن ذلك الشخص الملتزم لا يفعل أياً من هذه الأمور، وأنما اختلق قصة لذلك الرجل وألصقها به، وضخم الأمر، أو أن لها أصلاً، فرآه مرة في حالة لا تعجبه، أو لا ترضيه، فعمم عليه وعلى غيره، فأولاً قد يكون افتراءً، ولو كان صحيحاً؛ فإن هذا الشخص الذي يحتج به ليس ملتزماً، فلا يكون هذا حجة أبداً.

فنقول له: أنا لا أريد أن تكون مثل فلان، أنا أريدك أن تقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، دع فلاناً وفلاناً، أنت قال الله لك: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] أنا أخطئ وغيري يخطئ، لذلك أرسل الله لنا قدوة من البشر كاملاً في صفاته وخصاله لكي نقتدي به، وهذا رحمة من الله لهذه الأمة، أن أرسل إلينا رسولاً قدوةً، فلا نحتاج لأن نقول: انظر يا فلان! لا تنظر إلى فلان، لكن نقول لأي أحد: اقتدِ بالشيخ الفلاني.. اقتدِ بالرجل الفلاني، لكي تقرب له واقع القدوة، وتنتقي له قدوة يعايشها ويراها، لكن ما هي القدوة الأساسية التي نرتبط بها؟

إنه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم يقول لك: يا أخي! انظر فلاناً هذا حج ولكنه يشرب الخمر، فتقول له: ماذا تريد؟

أي: نترك الحج لأن فلاناً يحج ويسكر.

يقول لك: هذا فلان الملتحي يفعل كذا وكذا من الغش والتزوير!

تقول له: نترك اللحية سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن فلاناً يزور، ما علاقة التزوير بهذا الحكم الإسلامي؟! حكم اللحية ما علاقته بالموضوع؟!

فهذا الربط والتلازم الذي يزعمه كثيرٌ من الناس في نقاشاتهم، لا حقيقة له؛ ولكنه يريد أن يجادل ويماري -بالأحرى- حتى يخرج من المأزق الذي يحس أنه قد تورط فيه عندما تقام عليه الحجة، ويشعر بأنه مخطئ، ألم يقل الله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

ألم يقل الله عز وجل: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] كل إنسان محاسب على عمله، وأنت لماذا تنتظر خطأه، خطأه سيحاسبه الله عز وجل عليه، ولماذا تحتج بخطئه على الإسلام؟ ولماذا تجعل الإسلام هو هذا الشخص؟ فما إن وقع هذا الشخص في خلل؛ فأنا لا أريد أن ألتزم بالإسلام.. ما علاقة هذا الرجل بالإسلام الذي أنت المفترض أنك تتبع وتلتزم به، فلماذا تحتج به؟!

أيها الإخوة! الناس ليسوا حجة على الشريعة، ولكن الشريعة هي الحجة على الناس، ومثل هذا بالنسبة لأخواتنا النساء، فلا شك أنهن يسمعن كثيراً من بنات جنسهن، يقلن: أنا لا أريد أن أتحجب؛ لأن فلانة المتحجبة تفعل أشياء ومصائب من تحت الحجاب.. من خلف الحجاب! أي: كون فلانة ترتكب هذه المنكرات وهي متحجبة أن نترك الحجاب لأجل أنها ترتكب المعاصي، ما علاقة المعصية بالحجاب؟ هل المعصية هي الحجة على شريعة الله في أمر المرأة بالحجاب؟ ولأن هذه المرأة كان فيها نقص ولو أنها متحجبة أخطأت أو عصت أصبحت معصيتها حجة على الشريعة الإسلامية بأمر الحجاب، فانظر كيف يصرفون ويفكرون: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الكهف:56] وأي أحد من أهل الباطل إذا تفكرت في كلامه لا تجد عنده مستنداً شرعياً مطلقاً.

كذلك أيها الإخوة! بعضهم يقول: أنا إنسان يتكرر مني وقوع المعصية، مثلاً: أشرب الخمر ثم أتوب وأبتعد عن شربه، ثم أشربه مرة ثانية، وأترك الشرب ثم أشربه مرة ثالثة..

أنا رجل التحيت فترة من الزمن، ثم حلقت لحيتي، ثم تركتها، ثم حلقتها، ثم تركتها، ثم حلقتها...

أنا امرأة تحجبت ثم تركت الحجاب، ثم تحجبت ثم تركت الحجاب، ثم تحجبت... فيأتيه الشيطان يقول له: جعلت الدين لعبة!! لا. أول شيء أن تكون على ما أنت عليه من المعصية، وبعد ذلك إذا تأكدت أنك قد وصلت إلى مستوى أنك إذا التزمت بهذا الحكم لا تتركه؛ فبعد ذلك التزم بالإسلام حتى لا يصبح الدين لعبة.

وكذلك يقول بعضهم: إنسان التزم بالإسلام فترة من الزمن، ثم انتكس وارتد على عقيبيه، ثم خالف أوامر الله عز وجل، فيقول في نفسه: بدل ما أرتقي ثم أهبط من هذا المستوى، فأجلس في الوسط لأني أخاف أن أتردى بعد ذلك إلى أسفل سافلين، دعني على قليل من المعاصي التي عندي وقليل من الطاعات، فهذه بركة وكفاية! فهذا الرجل الذي يقول: أنا أتأكد من نفسي أولاً ثم ألتزم. لا بد أن نعلم أننا نحن البشر مخطئون، وأن من طبيعتنا أن نخطئ، والله خلقنا وفينا قابلية للخطأ والمعصية:

وما سمي الإنسان إلا لنسيه          ولا القلب إلا لأنه يتقلبُ

نحن ننسى ونخطئ ونذنب، ولما علم الله هذا الطبع في نفوسنا أخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالحديث الصحيح الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون الله تعالى؛ فيغفر لهم) رواه مسلم، وهذا حديث جميل جداً ويريح النفس كثيراً.

الله عز وجل لم يخلقنا إلا وهو يعلم بأننا نذنب ونخطئ، ولكن الخطأ الحقيقي هو الاستمرار على الذنب وعدم التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، ولذلك فتح الله باباً بين المشرق والمغرب لا يُغلق إلا عند قيام الساعة.. لا يُغلق إلا عند طلوع الشمس من مغربها، هذا الباب هو باب التوبة.

فعندما يأتي إنسان، ويقول: أنا أذنب وأتوب، وأذنب وأتوب، فأنا أريد أن أبقى على هذا الذنب؛ لأني لا أريد أن أجعل الدين لعبة، فنقول له: يا أخي! لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: (أذنب عبدٌ ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، وقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب مرة ثالثة، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما يشاء).

إذاً: هل لك بعد أن سمعت هذا الحديث أن تقول: أنا لا أريد أن أجعل من الدين لعبة، ألتزم ثم أنتكس، ثم ألتزم ثم أنتكس، فإذاً أنا أريد أن أكون منتكساً.. هكذا حتى يأذن الله، وحتى أتمكن نفسياً، وحتى أقوى وحتى وحتى ... لقد فتح الله باب التوبة؛ لكي يرجع العاصي، ويئوب هذا المفسد الذي حصل منه الخطأ.

أيها الإخوة! وقوع الذنب منا ليس مسالةً مستغربة، وإنما هو حقيقة من حقائق البشر، لكن يجب أن ننتبه إلى أن باب الذنب مفتوح على مصراعيه، كل إنسان يذنب ويستغفر، ويذنب ويستغفر، ويذنب ويستغفر، هذا فعلاً يكون لعبة، لكن في الحديث أمرٌ لا بد من الانتباه إليه، يقول الله عز وجل في الحديث: (قال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب).

الناس لا ينتبهون لمعنى كلمة (ويأخذ بالذنب) أي: يعاقب عليه، فهذا العبد المؤمن في هذا الحديث يفقه أن الله غفورٌ رحيم، كما يفقه أن الله شديد العقاب، وهذه هي الحقيقة المهمة.

وأيضاً من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا تلازم في التوبة بين الماضي والمستقبل، أي: لو أن إنساناً أذنب ثم تاب إلى الله عز وجل توبة صحيحة، ثم أغواه الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ووقع في الذنب مرة ثانية، هذا لا يعني أن توبته الماضية فاسدة، وأن الذنب الأول ما زال مكتوباً عليه حتى الآن، لا. الذنب الأول قد مسح بالتوبة الأولى الصحيحة بشروطها، ولاحظ شروط التوبة عند السلف، وهي:

1- الإقلاع عن الذنب.

2- الندم على ما فات.

3- العزم على عدم العودة إليه.

لم يقولوا في التعريف: وعدم العودة إليه، وإنما قالوا: والعزم على عدم العودة. أي: العودة شيء، والعزم على عدم العودة شيءٌ آخر، فإذا أذنبت وتبت توبةً صحيحة، ليس توبة المستهزئ واللاعب؛ فإن الله يغفر لك ذنبك حتى لو عدت إلى الذنب مرة أخرى.

إذاً: لا تلازم بين الماضي والمستقبل في قضية التوبة إذا كانت صحيحة، ليس أن يذنب الإنسان وبعد ذلك يستغفر استغفار اللاهي من أجل أن يعود بعد قليل، وهو يعرف أنه بعد قليل سيجعل هذا الاستغفار من باب إكمال الإجراءات.

كذلك نقول لهذا الإنسان: هب أنك ستذنب وتتوب، وتذنب وتتوب، أليس من الأفضل لك أن تصبح (50%) من أفعالك صالحة و(50%) غير صالحة بدلاً من أن تصبح كلها غير صالحة وشقية.

أي: يقول هذا: ما دام أني أذنب وأستغفر، وأذنب وأستغفر، إذاً لا أريد أن ألتزم نهائياً، نقول له: أنت الآن إذا لم تلتزم نهائياً وقعت في مصيبة أعظم من الأولى، على الأقل أن نصف عملك صالح ونصفه فاسد، لكن الآن أصبح كله فاسداً؛ لأنك لست ملتزماً نهائياً.

إذاً الكلام الشائع بين العوام: الذنب بعد توبة أشد من سبعين ذنباً، كلام غير صحيح.

ثم إنه أيها الإخوة! هناك مسألة مهمة وهي: أننا لا نطلب من الناس أن يلتزموا من أجل إرضاء الملتزمين، وحتى لا يتكلم عليهم الملتزمون، وإنما نطلب منهم أن يلتزموا لأجل الله عز وجل، فأنت -يا أخي- المذنب المقصر لم يضرك الناس لو قالوا عنك: أنت تبت ورجعت، وتبت ورجعت، أنت لعّاب، ما عليك منهم، ما دام أنك إنسان صادق في توبتك لله عز وجل ما عليك منهم، دعهم يقولون ما يقولون، أنت لم تلتزم من أجل ألا يتكلم عليك، لا الطيب ولا التعبان، أنت التزمت لله عز وجل، وقمت بهذا العمل لله عز وجل.