نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

إخواني في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛

وبعد:

فإنها لفرصةٌ طيبةٌ أُعرب لكم فيها عن سروري واغتباطي بلقياكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا جميعاً وهذا البلد الأمين من شر كل ذي شر إنه هو أرحم الراحمين، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً.

أيها الإخوة: إن الهداية نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى لا يملك أحدٌ أن يعطيها إلا الله عز وجل، وهي أثمن نعمة يمكن أن يحصل عليها العبد في دنياه، وإذا اهتدى العبد سار في طريق الاستقامة، فالهداية هي نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة، فإن العبد إذا صار مهتدياً، عمل الخيرات، واشتغل بالطاعات، وابتعد عن المحرمات، فيصبح سالكاً لطريق الاستقامة.

إن الهداية هي نقطة الانطلاق، هي أمرٌ له ما بعده، وينبني عليه كثيرٌ من الأمور، وهذا هو عنوان المحاضرة "نقطة الانطلاق في طريق الاستقامة" ونقطة الانطلاق مهمة جداً؛ لأنها تغير مسار الشخص.

وعندما نستحضر في أذهاننا صوراً من بعض الصحابة الذين دخلوا في الدين وأسلموا، كان إسلامهم وهو نقطة الانطلاق بالنسبة لهم نقطة انطلاقٍ عظيمةٍ؛ لأن الشخص يتغير كيانه واتجاهه، فإذا فكرنا -مثلاً- في حال بعض الصحابة الذين أسلموا بـمكة ، ورجعوا بعد إسلامهم هداةً إلى قومهم، يهدون هداية الدلالة والإرشاد لعل الله أن يزرق أولئك الأقوام والقبائل هداية التوفيق والإلهام، فيكونون سبباً لإدخال الناس في دين الله، فيؤجرون الأجر العظيم. يسلم، ويهديه الله، فينطلق للعلم بالإسلام، ينطلق للتفقه في الدين، بل إنه ينطلق للجهاد في سبيل الله، وينطلق لمفاصلة الكفار وإعلان البراءة منهم.

وما حدث لـثمامة بن أثال رضي الله عنه لما أسلم بعد الثلاثة الأيام التي كان مقيداً فيها في المسجد، يرى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، ويسمع قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن بذلك الصوت الخاشع، وينظر إلى التعامل الذي يتعامل به المسلمون مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، إنه يرى يومياً حياةً عمليةً منبثقةً عن دين الله.

لما أسلم ثمامة انطلق ليفاصل الكفرة، استأذن في عمرة، وذهب إلى كفار قريش ليعلن مقاطعةً اقتصاديةً لهم: ما يأتيكم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه المحاضرة -أيها الإخوة- هي إكمالٌ لمحاضرة سابقة بعنوان "بين الهداية والانتكاس" أذكر في مطلع هذه المحاضرة ببعض النقاط:

الهداية التي هي نقطة الانطلاق -كما قلنا- من الله عز وجل، ولذلك نحن ندعو ربنا يومياً عدة مرات، ونحن نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] نطلب الهداية من الله، فإذا قال إنسانٌ: أنا مستقيم على الدين، فلماذا أطلب الهداية؟ نقول: إن طلب الهداية من قبل المهتدي فيها فوائد، فمن ذلك: تثبيته على الهداية؛ لأن الإنسان قد يهتدي، ثم ينتكس، فيسأل الله أن يثبته على الهداية.

وكذلك أن يستزيد من الهداية، فإن الهداية مراتب، الهداية مثل الإيمان والعلم، فإذا اهتدى العبد، وصار في مرتبة من مراتب الهداية، يسأل ربه المزيد من هذه الهداية، والجنة درجات فمن صار في الإيمان والعلم والتقى في المراتب العليا، صار في الجنة من أهل المراتب العليا.

قالت عائشة رضي الله عنها إنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم مرةً من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد، وهو يقول: (رب آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فهذه التقوى والتزكية هي الهداية من الله سبحانه وتعالى، لا أملكها أنا ولا أنت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] من الذي يهدي إلى الحق؟ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس:35].. وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25] الهداية منة من الله بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات:17].

إذا اغتر الداعية يوماً من الأيام بنفسه، فليتذكر قول الله عز وجل: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94] منَّ عليكم بالهداية، فلا تحتقروا الناس، لا تستصغروا الناس، ولكن تذكر إذا رأيت عاصياً أنك كنت يوماً من الأيام مثله وربما أشد، إن هذه النظرة تسبب الرحمة والشفقة بالمدعو وهو أمرٌ مطلوبٌ لنجاح الدعوة.

اللهم لولا أنت ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفر فداءً لك ما اقتفينا     وثبت الأقدام إن لاقينا

رواه البخاري . هذه كلمات عامر بن الأكوع رضي الله عنه ورحمه التي أسمعها لبعض المسلمين في طريق السفر، إن الأنصار لما عاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما وجدوا في أنفسهم تجاهه عليه الصلاة والسلام، لما أعطى قريشاً والمؤلفة قلوبهم ما أعطاهم، قال لهم: (يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي؟) فإذاً هدى الله أولئك الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي عليه الصلاة والسلام سبباً عظيماً، والهداية من الله، وأعظم منة على النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء في قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى [الضحى:7] بل إن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة، يقولون؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

والهداية ليس لها طرقٌ محددةٌ تأتي من خلالها، بل ربما تأتي بطريقة غير متوقعة، بعض الناس ذهبوا إلى بلاد الكفر ليزدادوا ضلالة، فإذا بهم يرجعون هداةً مهتدين، الهداية شيءٌ من الله، لو اجتمع أهل الدنيا على أن يهدوا شخصاً، ما هدوه، وقد يكون بين الكفار فيهتدي، فالذي هداه هو الله عز وجل.

نعم إن للهداية أسباباً، فالعلم الشرعي سبب للهداية.. الدعاء سبب للهداية.. المجاهدة سبب للهداية وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] والالتقاء بالناس الطيبين الخيرين هو سببٌ للهداية، وهذه الهداية قد تقع بسبب شخص يجعل الله الهداية عن طريقه، وقد تكون من الله سبحانه وتعالى مباشرةً دون أن يكون هناك سبب من شخص موجود، والهداية قد تأتي للشخص تدريجياً يتغير حاله شيئاً بعد شيء حتى يصل إلى الاستقامة، وقد تحصل له فجأة، فيتغير في ثوانٍ، يقذف الله في قلبه نوراً، فيتغير من تلك اللحظة، وينقلب حاله، أو يرجع في الحقيقة للاستواء بعد أن كان منقلباً منكوساً.

من الأمثلة على دخول الهداية تدريجياً ما حصل لـجبير بن مطعم ، وكان من جملة أسارى بدر ، قال: [سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35-37] قال: كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي] أول ما سكن وثبت أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] من العدم: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] لأنفسهم، أم هم الذين خلقوا السماوات والأرض، فهو يناقشهم مناقشة قوية، قال ابن كثير رحمه الله: فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة -يعني: هذا سبب، هذا شيء من الأشياء، عامل من العوامل- ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك. قد تكون الموعظة، أو الخطبة، أو الشريط، أو الكتاب الذي يقرؤه، ونحو ذلك هذا عامل من العوامل، لكن ليس تأثيره قوياً للدرجة الكافية التي تغير الشخص، لكن تجتمع النقاط، فيمتلئ الكأس، كلمة مع خطبة، مع موعظة، مع شريط، يستمع إليه، مع شيء يقرؤه، مع حادثٍ يحصل، مع رؤيا، ونحو ذلك يتغير حال الشخص مع جيرة طيبة، مع تعهد وتفقد من قبل الدعاة إلى الله.

وحصل في عهد السلف رحمهم الله حوادث كانت فيها معالم دعوية للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كيفية التسلل إلى النفوس والتأثير في القلوب.

توبة زاذان

من ذلك ما حصل لـزاذان أبي عمر الكندي أحد العلماء الكبار، تاب على يد ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال زاذان : كنت غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور -وهو من آلات اللهو- فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذٌ وأنا أغنيهم. هذا فتى لاهِ لاعب، لكن الله سبحانه وتعالى قدر أن يكون من كبار العلماء، فلا بد من نقلة، لا بد من نقطة انطلاق لكي يمسك هذا الشخص بدرب الاستقامة، ويصل ويمشي فيه ويسرع الخطى إلى رتبة العلماء الكبار.

فكنت مع صاحبٍ لي وعندنا نبيذٌ وأنا أغنيهم، فمر ابن مسعود ، فدخل وضرب الباطية -يعني: إناء الخمر- فبددها وكسر الطنبور، ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت. لو استعملت صوتك الحسن هذا بالقرآن بدل استعماله بالأغاني لكنت أنت أنت، لكنت أنت الرجل العظيم، وأنت الشخص المبارك، لكنت أنت بالمنزلة الرفيعة، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود ، فألقى الله في نفسي التوبة، فسعيت أبكي وأخذت بثوبه، فأقبل علي فاعتنقني وبكى، وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس، ثم دخل وأخرج تمراً.. إلى آخر القصة.

توبة القعنبي

و القعنبي المحدث المشهور، كانت هدايته على يد شعبة بن الحجاج ، قال أحد أولاده: كان أبي يشرب النبيذ، ويصاحب الأحداث، فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم -ينتظر أصحاب السوء وقرناء السوء- فمر شعبة على حماره، وكان شعبة هو أمير المؤمنين في الحديث في عصره، وطلاب الحديث يسرعون وراء شعبة لكتابة الحديث، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة ، وقال: وأي شيء شعبة ؟ لماذا هذا التجمهر حول هذا الرجل؟ فقالوا: محدث، فقام إليه وعليه إزار أحمر، ومعلوم أن لبس الأحمر الخالص للرجال منهيٌ عنه، لكنه كان شاباً ماجناً، لكن لما سمعهم يقولون محدث، جرى وراءه، فقال له: حدثني، فقال له شعبة وقد رأى هيئته ولباسه: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك.

العلماء كانوا ينتقون الأشخاص الذين يضعون عندهم العلم، ما كانوا يضعون العلم عند فاسق يستغله في معصية الله، أو يخدع به الناس، بل يرتجون الأتقياء لجعل هذه الأحاديث بأسانيدها، يعني: أسانيد الحديث في ذلك الزمن كانت نوع كرامة، أن يتصل اسم الشخص بسندٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يضعونها عند الفسقة، فيكونون كمن يقلد الخنازير عقود الدرر واللآلئ.

فقال له: ما أنت من أصحاب الحديث لأحدثك، فأشهر سكينة -هذا الشاب- وقال: تحدثني، أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) فحدثه ونزل عند رغبته، لكن حدثه بحديث فيه توبيخ وتقريع له (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) وهذا وعيد، مثل قوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] والله سبحانه وتعالى سيجازيكم ويحاسبكم، فرمى سكينته ورجع إلى منزله، وقد أثر فيه هذا الحديث وهذه الموعظة من المحدث، ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب، فأراقه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا، فأخبريهم بما صنعت بالشراب. أخبريهم أن حالي قد تغير.

وهذه مسألة مهمة: ينبغي أن يعرف قرناء السوء أن حال صاحبهم قد تغير، ينبغي أن يعرفوا أن هذا الشخص لا طريق له معهم، ينبغي على التائب أن ييئس قرناء السوء الذين كانوا معه، يجعلهم يصابون باليأس منه؛ لأن بقاء الأمر معلقاً وهو يخفي حاله الجديد خطيرٌ جداً عليه؛ لأنهم سيعاودون الكرة، ويحاولون إعادته مرة أخرى إلى ما كان عليه، لكن إذا كان من البداية صار التصريح بالتغيير، لم يكن هذا مؤثراً فيه، ومضى من وقته إلى المدينة ، فلزم مالك بن أنس ، فأثر عنه، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة ، فما سمع منه غير هذا الحديث.

توبة الفضيل بن عياض

وعدد من السلف رحمهم الله تابوا بمواقف مثل: الفضيل بن عياض الذي تاب عندما سمع رجلاً يقرأ القرآن في الليل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] فلما سمعها، قال: بلى يا رب آن، فرجع، وكان يتسلق جداراً ليصل إلى امرأة يفجر بها، وكان يخوف المسافرين في طريق السفر؛ لأنه كان يقطع عليهم الطريق.

توبة لص على يد مالك بن دينار

وفي سيرة مالك بن دينار ، قيل: دخل عليه لصٌ، فما وجد ما يأخذه، فناداه مالك بن دينار وكان زاهداً ما عنده ممتلكات في البيت، ما عنده كماليات، أطقم من الحلي والمجوهرات، خزينة نقود، ما كان عنده في البيت أشياء يريدها اللصوص، فأحس مالك باللص في الليل، وناداه قائلاً: لم تجد شيئاً من الدنيا، أفترغب في شيء من الآخرة؟ فاستحيا اللص، قال: نعم، فقال: توضأ، وصلِّ ركعتين، ففعل، ثم جلس وخرج إلى المسجد، فسئل مالك بن دينار : من هذا الذي خرج من عندك؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه.

من ذلك ما حصل لـزاذان أبي عمر الكندي أحد العلماء الكبار، تاب على يد ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال زاذان : كنت غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور -وهو من آلات اللهو- فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذٌ وأنا أغنيهم. هذا فتى لاهِ لاعب، لكن الله سبحانه وتعالى قدر أن يكون من كبار العلماء، فلا بد من نقلة، لا بد من نقطة انطلاق لكي يمسك هذا الشخص بدرب الاستقامة، ويصل ويمشي فيه ويسرع الخطى إلى رتبة العلماء الكبار.

فكنت مع صاحبٍ لي وعندنا نبيذٌ وأنا أغنيهم، فمر ابن مسعود ، فدخل وضرب الباطية -يعني: إناء الخمر- فبددها وكسر الطنبور، ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت. لو استعملت صوتك الحسن هذا بالقرآن بدل استعماله بالأغاني لكنت أنت أنت، لكنت أنت الرجل العظيم، وأنت الشخص المبارك، لكنت أنت بالمنزلة الرفيعة، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود ، فألقى الله في نفسي التوبة، فسعيت أبكي وأخذت بثوبه، فأقبل علي فاعتنقني وبكى، وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس، ثم دخل وأخرج تمراً.. إلى آخر القصة.

و القعنبي المحدث المشهور، كانت هدايته على يد شعبة بن الحجاج ، قال أحد أولاده: كان أبي يشرب النبيذ، ويصاحب الأحداث، فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم -ينتظر أصحاب السوء وقرناء السوء- فمر شعبة على حماره، وكان شعبة هو أمير المؤمنين في الحديث في عصره، وطلاب الحديث يسرعون وراء شعبة لكتابة الحديث، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة ، وقال: وأي شيء شعبة ؟ لماذا هذا التجمهر حول هذا الرجل؟ فقالوا: محدث، فقام إليه وعليه إزار أحمر، ومعلوم أن لبس الأحمر الخالص للرجال منهيٌ عنه، لكنه كان شاباً ماجناً، لكن لما سمعهم يقولون محدث، جرى وراءه، فقال له: حدثني، فقال له شعبة وقد رأى هيئته ولباسه: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك.

العلماء كانوا ينتقون الأشخاص الذين يضعون عندهم العلم، ما كانوا يضعون العلم عند فاسق يستغله في معصية الله، أو يخدع به الناس، بل يرتجون الأتقياء لجعل هذه الأحاديث بأسانيدها، يعني: أسانيد الحديث في ذلك الزمن كانت نوع كرامة، أن يتصل اسم الشخص بسندٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يضعونها عند الفسقة، فيكونون كمن يقلد الخنازير عقود الدرر واللآلئ.

فقال له: ما أنت من أصحاب الحديث لأحدثك، فأشهر سكينة -هذا الشاب- وقال: تحدثني، أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) فحدثه ونزل عند رغبته، لكن حدثه بحديث فيه توبيخ وتقريع له (إذا لم تستح، فاصنع ما شئت) وهذا وعيد، مثل قوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] والله سبحانه وتعالى سيجازيكم ويحاسبكم، فرمى سكينته ورجع إلى منزله، وقد أثر فيه هذا الحديث وهذه الموعظة من المحدث، ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب، فأراقه، وقال لأمه: الساعة أصحابي يجيئون، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا، فأخبريهم بما صنعت بالشراب. أخبريهم أن حالي قد تغير.

وهذه مسألة مهمة: ينبغي أن يعرف قرناء السوء أن حال صاحبهم قد تغير، ينبغي أن يعرفوا أن هذا الشخص لا طريق له معهم، ينبغي على التائب أن ييئس قرناء السوء الذين كانوا معه، يجعلهم يصابون باليأس منه؛ لأن بقاء الأمر معلقاً وهو يخفي حاله الجديد خطيرٌ جداً عليه؛ لأنهم سيعاودون الكرة، ويحاولون إعادته مرة أخرى إلى ما كان عليه، لكن إذا كان من البداية صار التصريح بالتغيير، لم يكن هذا مؤثراً فيه، ومضى من وقته إلى المدينة ، فلزم مالك بن أنس ، فأثر عنه، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة ، فما سمع منه غير هذا الحديث.

وعدد من السلف رحمهم الله تابوا بمواقف مثل: الفضيل بن عياض الذي تاب عندما سمع رجلاً يقرأ القرآن في الليل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] فلما سمعها، قال: بلى يا رب آن، فرجع، وكان يتسلق جداراً ليصل إلى امرأة يفجر بها، وكان يخوف المسافرين في طريق السفر؛ لأنه كان يقطع عليهم الطريق.