Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

إطلالة على السيرة العمرية


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: إن هذا الدين لما نزل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وربى عليه من ربى من الناس، أخرج لنا أفذاذاً ورجالاً عرفهم التاريخ، وتكلم عنهم الناس مسلمهم وكافرهم، خلف هذا الدين رجالاً حملوا لواءه وحكموه في العالمين، وصاروا قدوات ومنارات يهتدي بهم من بعدهم، وإن من حق هؤلاء علينا أن نعرف سيرهم، ونبلو أخبارهم، أولاً لنعرف عظمة هذا الدين الذي أخرج هؤلاء الرجال، وثانياً: لأننا نقتدي بسلفنا، ونقتدي بأئمتنا، وهؤلاء الأئمة الأعلام منارات يهتدى بها في دجى الظلمات، ونعلم -أيضاً- بأن هذه النماذج يمكن أن تتكرر بدرجات أقل ولا شك إذا ما وجدت البيئة الإسلامية والتربية التي تصقل النفوس وتهذبها، فتغرس العقيدة وتصقل النفوس وتخلقها بأخلاق النبوة.

ولا شك أن شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية مثالية من الشخصيات العظيمة التي مرت في تاريخنا الغني الذي غفل عنه الكثيرون، وإن استرجاع سير مثل هذه الشخصية، يذكر الغافلين منا الذين خدعهم الغرب والشرق بسير عظماء عندهم؛ لو نظر الناظر لعرف أن واحدهم لا يخلو من انتهازيةٍ أو فسقٍ أو شرب خمرٍ، أو ظلمٍ أو بغيٍ وجور، ويبقى أعلام الإسلام لا يوجد لهم مثيل.

إن عمر رضي الله عنه كان في الجاهلية يعبد الأصنام، وكان يئد ابنته، ويفعل الأفاعيل، ويظلم الناس، وظلم المسلمين حتى قال سعيد بن زيد : [لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام] ولكنه أسلم وشاء الله أن ينتقل عمر من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، فتغيرت الشخصية وانقلبت تمام الانقلاب، وكان لذلك بادرة، وما سيأتي من الأحاديث الصحيحة والحسنة في سيرة هذا الرجل تدل على جوانب من عظمته، لقد كان المسلمون يستبعدون إسلام عمر ، حتى قالت أم عبد الله بنت أبي حثمة : [والله إنه لنرتحل إلى أرض الحبشة إذ أقبل عمر حتى وقف علي، وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه أذىً لنا وشراً علينا، فقالت: فقال عمر لما رآهم يتأهبون للجلاء عن مكة : إنه الانطلاق يا أبا عبد الله ! قالت: قلت: نعم. والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً، قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقةً لم أكن أراها، ثم انصرف، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، قالت: فجاء عامر بن ربيعة فقلت له: يا أبو عبد الله ! لو رأيت عمر آنفاً ورقته، وحزنه علينا، قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم. قال: لا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب ] هل يسلم الحمار؟ قالها يأساً لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام، ولكن الله إذا أراد أن يهدي هدى، ولو كان الرجل أقسى الناس قلباً وأبعدهم عن الله، وهذا درسٌ للدعاة إلى الله عز وجل، ألا ييأسوا من الناس، ولو كان من يرون أمامهم من أغلظ الناس قلباً، لكن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً هيأه له ووفقه له، ويسر الأسباب إليه، وهكذا حصل.

فلما أسلم عمر ونطق بالشهادتين كان إسلامه فتحاً ولم يكن إسلامه سراً، بل إنه قد جاء في الحديث الحسن بطرقه أنه لما أسلم قال: [أي قريشٍ أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي ، قال: فغدا عليه عمر ، قال عبد الله : وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام، أعقل كل ما رأيت حتى جاءه، فقال: أما علمت يا جميل ! أني قد أسلمت ودخلت في دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رجليه فتبعه عمر وتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد - جميل المشرك الإذاعة- وقف على باب المسجد وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر قد صبأ، قال: يقول عمر من خلفه: كذبت ولكن قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فأعلنها صراحةً أمامهم، هذه العزة التي دخلت قلبه فأورثته هذه الصراحة وهذه الجرأة على الكفرة، إعلان المبادئ، قال: وثاروا عليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، قال: وتعب وأرهق، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا، قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخٌ من قريش وهو العاص بن وائل ، فصرفهم عنه وإلا كانوا قتلوه].

لما أسلم عمر أعز الله به المسلمين وأذل الله به المشركين، وطاف المسلمون حول الكعبة لما أسلم عمر علانيةً جماعةً فأعز الله به الدين، أراد الله بـعمر خيراً ففقه في دينه وعلمه وهو العليم سبحانه وتعالى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في علم عمر وفقهه وفضله أحاديث جمعها العلماء، فمن ذلك أربعة ساقها الزهري في نسقٍ واحد، قد وردت في سياقات صحيحة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت لـعمر أربعة رؤيا: رأيت كأني أُتيت بإناءٍ فيه لبن فشربت حتى رأيت الري يخرج من أناملي، ثم ناولت فضلي -ما بقي في الإناء- عمر ، قالوا: يا رسول الله! فما أولت ذلك؟ قال: العلم، ورأيت كأن أمتي عليهم القمص إلى الثدي وإلى الركب وإلى الكعبين ومرَّ عمر يسحب قميصاً سابغاً من طوله، قالوا: يا رسول الله! ما أولت ذلك؟ قال: الدين، قال: ودخلت الجنة، فرأيت فيها قصراً أو داراً، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لرجلٍ من قريش، فرجوت أن أكون أنا هو، فقيل: لـعمر بن الخطاب ، فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك يا أبا حفص ! فبكى عمر ، وقال: يا رسول الله! أويغار عليك؟ ورأيت كأني وردت بئراً، فورد ابن أبي قحافة فنـزع ذنوباً أو ذنوبين ونزعه فيه ضعف والله يغفر له، ثم وردها عمر ، فاستحالت غرباً فاستقى، فأروى الظمأة وضرب الناس بعطن، فلم أر عبقرياً نزع كنزعه) قال العلماء: هذا تأويل خلافة الشيخين، فإن أبا بكر استخلف سنة أو سنتين، فكانت خلافته قصيرة، وكان منشغلاً عن الفتوحات بحروب الردة، فلما جاء عمر صارت خلافته أطول، ففتح الله في عهده من الفتوحات، وأدخل الله من الناس في عهده في الإسلام ما لا يحصى من الخلق كثرةً، فنشر العدل في تلكم البلاد بعد أن أسس الصديق قاعدتها، فأعاد القاعدة وأبلى بلاءً حسناً، فمهد الطريق لـعمر ، فجاء عمر فولى الولاة وفتح الفتوحات، وأتى للمسلمين بالخير من عند الله.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل جعل الحق على قلب عمر ولسانه) هذا الهادي المهدي، الذي علمه الله، وهداه، وبالعلم يهتدي الإنسان للحق والصواب، فلابد من الاعتناء بالعلم والبحث عنه -يا أيها المسلمون!- وإن في اكتساب العلم هدىً، وإن العلم يهدي صاحبه في الظلمات، ويكشف له عندما يحتار، ويوقظه من المحرمات، ويجنبه الشبهات، فتعلموا هذا الدين يهديكم به الله.

فلما جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه، وافق ربه في آياتٍ نزلت من القرآن على ما قال عمر، فيما ثبت في الصحيحين: [وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى -نصلي وراءه- فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] وقلت: يا رسول الله! يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، حصل منهن كلام اشتدت وطأته على النبي صلى الله عليه وسلم، -يقول عمر - فقلت وهو يعظ أمهات المؤمنين ويزجرهن: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم:5] فنزلت كذلك].

تأملوا يا عباد الله: آية تنـزل على كلام عمر ، يلهم الله عمر أن يقول كلاماً، فتنـزل الآية بألفاظ عمر وتصبح قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وافق عمر ربه بأمور أخرى كذلك كما ورد في أسارى بدر وهكذا.

كان عمر رضي الله عنه مهيباً، هيبة تفتقدها كثير من شخصيات المسلمين اليوم، لأن الله نزع منهم الهيبة، فلا يُهابون، ونزع الله من قلوبهم خوفه، فصاروا يخافون من الناس، كان عمر شخصية رفيعة يهابه الناس فيرتعدون منه، ومن ذلك ما حصل لما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جواري قد علت أصواتهن على صوته، فأذن له عليه الصلاة والسلام، فبادرن الحجاب -هربن فذهبن- فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال: (أضحك الله سنك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، ما الخبر، علام تضحك؟ قال: عجبت لجوارٍ كن عندي، فلما سمعن حسك بادرن فذهبن، فأقبل عمر عليهن من وراء حجاب فقال: أي عدوات أنفسهن، والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تهبن منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن عنك يا عمر ! فوالله ما لقيك الشيطان بفجٍ قط إلا أخذ فجاً غير فجك).

هذا الرجل المهيب، هذا الرجل العظيم الشديد في دين الله، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن أصحابه: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم بأمر الله عمر) هذا الرجل الشديد المهيب لما تولى الخلافة ظهرت المعاني التي كانت مخبوءة في نفسه، معاني الشفقة والعفو والإحسان والرحمة، لقد كان رحيماً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لما ولي الخلافة ظهرت رحمته أكثر، هذا الرجل الذي جمع في شخصيته بين الهيبة والرحمة، وبين الشدة في دين الله والرقة حتى كان يبكي عندما يتلو القرآن، ويمرض من قراءة القرآن الكريم أحياناً، فيعاد من مرضه الذي حصل بسبب تأثره بالقرآن.

ليست الهيبة -يا أيها الناس!- أن يكون الإنسان صلفاً فظاً غليظ القلب، ليست الهيبة أن يكون متعجرفاً قاسياً، وإنما الهيبة في مكانها محمودة، هذا الرجل الذي شهد التاريخ بفضله ورحمته لرعيته، هذه هي القيادة المثلى التي خلفها النبي صلى الله عليه وسلم من بعده من أصحابه.

عندما يرى الإنسان حاله ويرى المسلمون واقعهم يشتاقون لخلافة مثل خلافة عمر ، ويتوقون لقيادةٍ مثل قيادة عمر ، الذي كان يخرج ليتفقد رعيته، قال أسلم : [خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين! هلك زوجي وترك صبيةً صغاراً، والله ما يجدون كراعاً، ولا لهم زرعٌ ولا ضرعٌ، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إماء الغفاري -صحابي جليل- وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسبٍ قريب، ثم انصرف إلى بعيرٍ ظهيرٍ كان مربطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً وحمل بينهما نفقةً وثياباً، ثم ناولها البعير وما عليه، ثم قال: اقتاديه فلن يغني حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! أكثرت لها، قال عمر : ثكلتك أمك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصناً زماناً فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهمانهما فيه.

لا ينسى لأصحاب الفضل فضلهم، هذه امرأة أبوها وأخوها من كبار المجاهدين، بسبب قتالهم غنم المسلمون وأكلوا، هذا الرجل هو الذي كان يخرج في الليل يعس على رعيته، قال أسلم : خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم (وهي الحرة الشرقية من المدينة) حتى إذا كنا بصرارٍ -مرتفع من الأرض- إذا نارٌ، فقال: يا أسلم ! إني لأرى هاهنا ركباً قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدرٌ منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون -يصيحون ويبكون- فقال عمر : السلام عليكم يا أصحاب الضوء! -وكره أن يقول: يا أصحاب النار! هم يوقدون ناراً، وعمر ينتقي الألفاظ- قال: السلام عليكم يا أهل الضوء! فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادن بخيرٍ أو دع، فدنى، فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيءٍ في هذه القدر؟ قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -تقول المرأة: والله بيننا وبين عمر - فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ -المرأة تقول: الله بيننا وبين عمر ، نحن في الصحراء لوحدنا لا نجد طعاماً، وعمر يقول وهي لا تدري من هو: أي رحمكِ الله وما يدري عمر بكم وأنتم في هذه البقعة النائية؟- قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا؟ قال: فأقبل عليَّ، فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق -دار اتخذها عمر خاصة لتخزين الدقيق- فأخرج عدلاً من دقيق وكبةً من شحم، فقال: احمله عليَّ، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أأنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه، -الخليفة يحمل على ظهره، ويمشي والطعام على ظهره من المدينة إلى الحرة الشرقية، إلى المكان النائي الذي فيه المرأة، ويهرول من أجل الأولاد- فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول لها: ذُري عليَّ وأنا أحرك لكِ، وجعل ينفخ تحت القدر -الخليفة منبطح على الأرض صدره في التراب ينفخ على الحطب حتى يشتعل- ثم أنزلها فقال: أبغيني شيئاً أسكب فيه، فأتته بصحفةٍ فأفرغها فيه، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أطبخ لهم، فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك -بقية الكيس- وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها -ابتعد ثم استقبلها ينظر إلى مكانها من بعيد- فربض مربضاً فقلنا له: إن لنا شأناً غير هذا، ولا يكلمني -يقول: لابد أن تكون الوقفة لهدف، وعمر لا يتكلم- حتى رأى الصبية يضطجعون، ثم ناموا وهدءوا، فقال: يا أسلم ! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما أرى] إسناده حسن.

هذا عمر في الرعية، هذا عمر في تفقده للمساكين وعطفه، هذا عمر ورحمته وإشفاقه بالرغم مما عنده من الشدة في دين الله، والهيبة التي كان يهابه بها الأقرباء والبعداء.

اللهم ارحم عمر واغفر له، وأعل شأنه وارفع درجته في المهديين.

اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وممن يقتدي بنبيك صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واغفر لنا أجمعين وتب علينا يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً.

لقد كانت وفاة عمر فاجعة، فُجع بها القريب والبعيد، كان عمر هو الباب الذي يدرأ عن المسلمين الفتن، فلما كسر الباب باغتيال عمر دخلت الفتن على المسلمين من كل جانب.

عن عوف بن مالك الأشجعي أنه قال: رأيت في المنام كأن الناس جُمعوا، فكأني برجلٍ قد صرعهم سوطهم بثلاثة أذرع -أطول من الجميع- قال: قلت من هذا؟ قالوا: عمر بن الخطاب ، قال: قلت لِمَ؟ قال: إنه لا تلومه في الله لومة لائم، وإنه خليفةٌ مستخلف وشهيدٌ مستشهد، قال: فأتيت أبا بكر فقصصتها عليه، قال: فأرسل إلى عمر يبشره، فقال لي: اقصص رؤياك، فلما بلغ إلى خليفةٍ قال: زجرني وانتهرني، قال: تقول هذا وأبو بكر حي، قال: فسكت، فلما ولي عمر كان بعد بـالشام مررت به وهو على المنبر فدعاني فقال لي: اقصص رؤياك، قال: فلما بلغت لا يخاف في الله لومة لائم، قال: إني لأرجو أن يجعلني الله منهم، وأما خليفةٌ مستخلف فقد والله استخلفني فأسأله أن يعينني على ما ولاني، قال: فلما بلغت وشهيداً مستشهد، وأنى الشهادة وأنا في جزيرة العرب ، ثم قال عمر مستدركاً: يأتي الله بها أنى شاء، يأتي الله بها أنى يشاء.

ورأى عمر في منامه أن ديكاً ينقره نقرات، وكان لا يُدخل الأعاجم إلى جزيرة العرب ، فدخل بعضهم متسترين بالإسلام، وكان من سياسة عمر ، ألا يدخلهم، دخلوا فأقاموا، فكان منهم الحاقد الفارسي المجوسي أبو لؤلؤة الذي قال لـعمر متوعداً: لأصنعن لك رحىً يتحدث بها الناس، فقال عمر : توعدني العبد، وبعد أيام اختبأ له وراء باب المسجد في الظلام في صلاة الفجر، فلما سجد عمر قفز عليه فطعنه في كتفه وخاصرته، فقال عمر : قتلني الكلب، ثم صمت، ثم سمع الناس قراءة ابن عوف وطار العلج في الناس -في صفوف المصلين- ينحر يميناً وشمالاً، فقتل ستة من الصحابة، وحمل عمر مطعوناً، وجعلوا يشربونه اللبن فيخرج من الجرح، فعلموا أن الأمر قد انتهى، فأوصى عمر ووعظ الناس وذكرهم بالله وانتقل إلى الرفيق الأعلى، في قصة مشهودة عظيمة جداً أخرجها الإمام البخاري في صحيحه.

كانت وفاة عمر شديدة الوطأة على القريب والبعيد، قال المسيب بن رافع : سار إلينا عبد الله بن مسعود سبعاً من المدينة ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن غلام المغيرة أبا لؤلؤة قتل أمير المؤمنين عمر ، قال: فضج الناس وصاحوا واشتد بكاؤهم، قال: ثم قال ابن مسعود : إنا اجتمعنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمرنا علينا عثمان بن عفان ، فأخبرهم الخبر والمكيدة، قال عبد الله بن مسعود : لقد أحببت عمر حباً حتى لقد خفت الله -من شدة حب عمر خفت الله- ولو أني أعلم أن كلباً يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادماً لـعمر حتى أموت، ولقد وجد فقده كل شيءٍ حتى العضاة -شجرة الشوك-.

إن إسلامه كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن سلطانه كان رحمة، ذلكم عمر ومناقبه كثيرة جداً وهذا شيءٌ قليل منها، والمقصود: أن لهؤلاء حقاً علينا في معرفة سيرهم، وإن هؤلاء منارات نقتدي بهم، وإن في تذكر هؤلاء سبباً لحنين المسلم إلى أيام الخلافة ورغبته في عدلٍ كعدل عمر ، وقد طبق الأرض اليوم الظلم والجور، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد للإسلام عزه، وأن يقيم الخلافة في أرجاء الأرض.

اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم اجعلنا ممن أقاموا الشريعة وعملوا بها، اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين في تحكيم شرعك يا رب العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر من نصر الدين.