الولاية بين المؤمنين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

a= 6000394>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران:102].

a= 6000493>يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً[النساء:1].

a= 6003602>يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة: تكلمنا في الخطبة الماضية عن ولاية المؤمن لربه عز وجل، وأنه ينبغي لكل مسلم أن يتخذ الله سبحانه وتعالى ولياً لا شريك له، ونحن اليوم نذكر ولاية المؤمنين لبعضهم بعضاً.

إن الله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين والمؤمنات بقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وحصر الله الولاية فيه عز وجل وفي رسوله وفي المؤمنين، فقال: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55]، وأخبر عن عاقبة الولاية بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، ونهى عن اتخاذ الكفار أولياء، وأمر بجهادهم وقتالهم، فقال: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:89]، وكما أن بضدها تتميز الأشياء، فإنه لا يكفي معرفة التوحيد، بل يجب معرفة الشرك، وكما أنه لا يكفي موالاة المؤمنين فإنه يجب معاداة الكافرين، وعندما يأمر الله باتخاذ المؤمنين أولياء ويأمر بمناصرتهم فإنه ينهى عن اتخاذ الكفار أولياء: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28] قال ابن جرير رحمه الله: "من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء". أي: قد برئ من الله، وقد برئ الله منه.

وعندما يأمر الله بالتعاون مع المؤمنين، وأن يكون المؤمنون إخوة يشد بعضهم من أزر بعضٍ، ويركن بعضهم إلى بعض، فإنه ينهى عن الركون إلى الكفار، يقول سبحانه وتعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [هود:113]، والركون هو الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، لا توادوهم ولا تطيعوهم ولا تميلوا إليهم، وهذه الآية دليلٌ على وجوب هجر أهل الكفر والمعصية والبدعة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23] لو كان الأب أو الأخ أو القريب عدواً لله فإنه يجب عليك أن تتبرأ منه، وأن تعاديه في الله سبحانه وتعالى، والذي لا يفعل هذا الفعل فإنه ظالم لنفسه.

وموالاة الكفار وأعداء الدين من صفات المنافقين، قال الله سبحانه وتعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [النساء:138-139] يعز من يشاء ويذل من يشاء، وبماذا ذم الله الكفار من بني إسرائيل؟ لما قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ [المائدة:78] قال بعدها: تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:80-81] قال ابن تيمية رحمه الله: "فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب أبداً".

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51] (ومن يتولهم) يدخل فيها من دخل في دينهم بعد التزام الإسلام، فعندما نقول: من دخل في دينهم، قد يستبعد البعض اليوم أن يدخل مسلمٌ في دين النصارى، ولكن الواقع المؤسف أن كثيراً من المسلمين قد دخلوا في دين النصارى، وقد حدثني بعض الإخوان أن بعض النشرات التبشيرية التي تصل إلى بعض المسلمين عن طريق صناديق البريد قد حرفت بعض المسلمين من أصحاب أسماء الأسر الإسلامية إلى دين النصارى والعياذ بالله!

ويدخل في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، أي: ولاية التحالف والتناصر مثلما كان واقعاً قبل الهجرة بـالمدينة ، فإنه كان بين بعض الأنصار الذين أسلموا بعد ذلك، وبين جماعاتٍ من اليهود أحلافٌ ومناصرات نتيجةً لتشابك المصالح والأواصر، فنهى الله عن ذلك، وفك جميع هذه الأحلاف والمناصرات، فقال: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].

لقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه على تحقيق مبدأ الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، وكانت هذه التربية تسير بخطىً ثابتة متشابكة، يأخذ بعضها برقاب بعضٍ حتى تؤدي إلى تكوين الشخصية الإسلامية النقية، القائمة على موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ومعاداة الكافرين.

ومن الأمثلة على ذلك في الواقع المكي: إنشاء دار الأرقم التي كانت محط المسلمين ومقرهم، يتعارفون فيما بينهم، ويتناصرون ويتآخون، ويأخذ بعضهم بيد بعضٍ، حتى تحقق تكوين القاعدة الصلبة التي قام عليها المجتمع الإسلامي الكبير فيما بعد، وأما في المدينة فإن أمثلة موالاة المؤمنين لبعضهم كثيرة، منها: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعضهم يقول لأخيه: اختر أي زوجتيَّ أحب إليك لأطلقها فتتزوجها أنت، وأشاطرك مالي، وكان بعضهم ممن لا يملك المواساة يترك داره وأهله في المدينة وهو من الأنصار، ويأتي ليقيم بين أهل الصفة؛ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل الصفة هم: الفقراء القادمون ممن لا أهل لهم ولا عشيرة- فيقيم بينهم، ومنهم الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه.

اعلموا أيها الإخوة: أن ولاء المؤمنين له مقتضيات كثيرة:

محبة المؤمنين الجالبة لمحبة الله والذل لهم ونصرتهم

فمنها: محبتهم الجالبة لمحبة الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقال: (المرء مع من أحب).

ومنها: الذلة لهم المقتضية لين الجانب، وتوطئة الأكناف، قال الله في وصف المؤمنين: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

ومنها: نصرة المؤمنين بعضهم بعضاً في حضورهم وفي غيبتهم، ولقد كان هذا المبدأ مستقراً في النفوس لدرجةٍ عظيمة في الصدر الأول من الإسلام، حتى أن أهل العقبة لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من ضمن أركان البيعة: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ومقاتلتهم، حتى لو وصل الأمر إلى التضحية بالنفس والمال، فقال الله ممتدحاً الأنصار: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:74] هؤلاء المهاجرين: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً [الأنفال:74] آووا المهاجرين ونصروهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) رواهما البخاري في صحيحه.

وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا الأمر وأهميته -أعني: الذب عن عرض أخيك المسلم- (ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه، وتنتهك فيه حرمته، إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته -يكون محتاجاً للنصرة هذا الخاذل ويحب أن يُنصر فيخذله الله؛ لأنه خذل أخاه المسلم- وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته) حديث حسن، رواه الإمام أحمد وغيره عن جابر رضي الله عنه.

فالولاء للمؤمنين وحبهم ومناصرتهم من أي جنسٍ كانوا، وبأي لغةٍ تكلموا ونطقوا، وفي أي مكانٍ حلوا وأقاموا.

من مقتضيات ولاية المؤمنين: أن يكون المؤمن مع إخوانه قلباً وقالباً، يفديهم بنفسه وماله، ويذب عنهم بلسانه وسنانه، يألم لألمهم، ويفرح لفرحهم، وقس على ذلك سائر حقوق الأخوة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.

عدم تولية غير المسلمين على المسلمين

ومن مقتضيات الأخوة والولاية للمؤمنين: عدم تولية غير المسلمين على المسلمين، قال ابن تيمية رحمه الله: روى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لـعمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً -وجدت رجلاً يجيد الكتابة والحساب جعلته عندي كاتباً يحسب في أمور المسلمين، ويكتب شئونهم- قال: مالك قاتلك الله -كان عمر شديداً في دين الله- أما سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً؟ -أي: موحداً مسلماً، جعلته في هذه الوظيفة- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه -أنا آخذ منه كتابته وعمله وله دينه، كفره عليه- فقال عمر رضي الله عنه: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. لا يمكن.

وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة العادل إلى بعض عماله يقول: أما بعد.. فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح المسلمين، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -هذا الكاتب النصراني اسمه حسان بن زيد - إلى الإسلام، فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيءٍ من مصالح المسلمين، فأسلم حسان وحسن إسلامه.

ولقد لعب هؤلاء الكتبة أدواراً في هدم الإسلام عبر التاريخ الإسلامي، فلعب ابن العلقمي الرافضي الخبيث دوراً مهماً في تسليم بغداد للتتر الكفار، ومن الأمثلة الأخرى على ذلك ما حدث في بعض العهود الإسلامية الماضية أن سلطاناً من سلاطين المسلمين اتخذ كاتباً من النصارى، وكان هذا الكاتب يسمى محاضر الدولة أبو الفضل بن دخان ، ولم يكن في المباشرين أمثاله، كان من أقرب الناس إلى السلطان، كان قذىً في عين الإسلام، وبثرةً في وجه الدين، بلغ من أمره أنه حكم على رجل نصراني أسلم برده إلى النصرانية ، وخروجه عن الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الإفرنج -النصارى الكفار- بأخبار المسلمين، يرسل إليهم بالأخبار التي يطلع عليها بحكم موقعه، وأعمالهم وأمر الدولة، وتفاصيل أحوالها، وكان مجلس هذا النصراني معموراً برسل الإفرنج النصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم عنده مقضية، ويحمل لهم الضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عند الباب لا يؤذن لهم بالدخول، وإذا دخلوا لا يلطفون في التحية ولا في الكلام، حتى صار بعد ذلك أن اجتمع لدى السلطان جماعة من الكتاب والقضاة والعلماء، فبسط بعضهم لسانه في ذكر مخازي النصارى، وكان مما قاله للسلطان: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً، والله تعالى يقول: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] ثم قال: كيف تأمن أن يصنع في معاملة السلطان كما صنع في أصل اعتقاده؟ ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة، وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين.

ثم اتفق بعد ذلك أن ظهرت خيانته فأهريق دمه واستراح المسلمون من شره.

ومن مقتضيات موالاة المؤمنين: أن تكون النصرة والحلف مع المؤمنين لا مع الكفار، حتى لو وقع الإنسان في الأزمات وأحاطت به الأخطار، وفي التاريخ الإسلامي في الأندلس عبرة لكل معتبر، ففي نهاية حكم الإسلام لبلاد الأندلس تفرق المسلمون إلى دويلات كثيرة في بلاد الأندلس حتى صار أمرهم كما يصف الشاعر:

وتفرقوا شيعاً فكل مدينةٍ     فيها أمير المؤمنين ومنبر

وصار بعضهم يستعين بالنصارى من الأسبان على إخوانه المسلمين من الدويلات الأخرى، ويذهب بعضهم إلى ملوك النصارى ليعقد معهم الأحلاف ضد إخوانهم المسلمين.

وهنا أيها الإخوة: حدثت حادثة مثيرة كتبها التاريخ، كانت ذات أثرٍ عظيم، أخرت سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس مئات من السنين، عندما تحققت في هذه الحادثة الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، وهذه الحادثة أنه كان على مملكة إشبيليا المعتمد بن عبَّاد كان يحكمها آل عبَّاد، وكان المعتمد على الله ابن عبَّاد من أفاضل حكام تلك الدويلة، فلما سقطت طليطلة في يد الفرس واستالس ملك النصارى، تنبه المسلمون للخطر العظيم، ولاحت طوالع المصير المروع، فبرزت فكرة إلى الأذهان، وهي فكرة استعانة المسلمين في بلاد الأندلس بإخوانهم المسلمين المرابطين في دولة المغرب القريبة منهم، وكان أمير المرابطين في دولة المغرب في ذلك الوقت من أهل السنة والجماعة ممن نصروا مذهب أهل السنة والجماعة في بلاد المغرب ، وهو يوسف بن تاشفين رحمه الله، فعقد في قرطبة اجتماعاً حضره الزعماء والفقهاء وكثير من الناس، وعلى رأسهم المعتمد بن عبَّاد ، وطرحت فكرة استدعاء المرابطين إلى الأندلس للنصرة ضد الكفار النصارى، واتخذ القرار بذلك، وهنا أشار بعضهم إلى مخاوف، ما هي هذه المخاوف؟ قالوا للمعتمد بن عبَّاد : إذا جاء يوسف بن تاشفين وانتصرنا على النصارى فقد يأخذ هو الدولة منك، وينصب نفسه أميراً على الدويلة التي أنت فيها، فيسلب منك ملكك، فقال ابن عبَّاد كلمة مشهورة سارت بين الناس حتى وصلت إلينا، قال كلمة تدل فعلاً على استقرار عقيدة الولاء للمؤمنين في قلبه، قال: إن رعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازير. أي: لئن أكون مملوكاً لـابن تاشفين أرعى جماله في الصحراء خيرٌ من أن أكون ممزقاً عند فرتلند وهو الفرس السادس أرعى خنازيره في قشتالة ، وكان قد احتلها، وفعلاً جاء يوسف بن تاشفين وانتصر المسلمون في معركة مشهورة وهي معركة الزلاقة .

والتاريخ الإسلامي فيه عبرة يجب أن يدرس، ومقتضيات موالاة المؤمنين كثيرة، ونحن إذا انتقلنا إلى واقعنا فإننا سنجد أن ولاية المؤمنين ضاعت مقتضياتها بين المسلمين، فبالله عليكم هل يكون موالياً للمؤمنين من ظلم إخوانه المسلمين وخذلهم، ثم أقبل على الكفار يعاونهم وينصرهم؟

فمنها: محبتهم الجالبة لمحبة الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقال: (المرء مع من أحب).

ومنها: الذلة لهم المقتضية لين الجانب، وتوطئة الأكناف، قال الله في وصف المؤمنين: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

ومنها: نصرة المؤمنين بعضهم بعضاً في حضورهم وفي غيبتهم، ولقد كان هذا المبدأ مستقراً في النفوس لدرجةٍ عظيمة في الصدر الأول من الإسلام، حتى أن أهل العقبة لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من ضمن أركان البيعة: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ومقاتلتهم، حتى لو وصل الأمر إلى التضحية بالنفس والمال، فقال الله ممتدحاً الأنصار: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:74] هؤلاء المهاجرين: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً [الأنفال:74] آووا المهاجرين ونصروهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) رواهما البخاري في صحيحه.

وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا الأمر وأهميته -أعني: الذب عن عرض أخيك المسلم- (ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه، وتنتهك فيه حرمته، إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته -يكون محتاجاً للنصرة هذا الخاذل ويحب أن يُنصر فيخذله الله؛ لأنه خذل أخاه المسلم- وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته) حديث حسن، رواه الإمام أحمد وغيره عن جابر رضي الله عنه.

فالولاء للمؤمنين وحبهم ومناصرتهم من أي جنسٍ كانوا، وبأي لغةٍ تكلموا ونطقوا، وفي أي مكانٍ حلوا وأقاموا.

من مقتضيات ولاية المؤمنين: أن يكون المؤمن مع إخوانه قلباً وقالباً، يفديهم بنفسه وماله، ويذب عنهم بلسانه وسنانه، يألم لألمهم، ويفرح لفرحهم، وقس على ذلك سائر حقوق الأخوة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.