فقه العبادات [42]


الحلقة مفرغة

المقدم: تحدثتم لنا في اللقاء الماضي عن النيابة في الحج من حيث الأحكام والضوابط في النيابة الكلية، وبقي علينا النيابة الجزئية في الحج؟

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

النيابة الجزئية في الحج: معناها أن يوكل الإنسان عنه من يقوم ببعض أفعال الحج، مثل أن: يوكل من يطوف عنه أو يسعى عنه أو يقف عنه أو يبيت عنه أو يرمي عنه أو ما أشبه ذلك من جزئيات الحج، والراجح أنه لا يجوز للإنسان أن يستنيب من يقوم عنه بشيء من أعمال الحج أو العمرة، سواء كان ذلك فرضاً أو نفلاً؛ وذلك لأن من خصائص الحج والعمرة أن الإنسان إذا أحرم بهما صار فرضاً ولو كان ذلك نفلاً، أي: ولو كان الحج أو العمرة نفلاً؛ لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، وهذه الآية نزلت قبل نزول فرض الحج، أي: قبل نزول قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وهذا يدل على أن تلبس الإنسان بالحج أو العمرة يجعله فرضاً عليه، وكذلك يدل على أنه فرض إذا شرع فيه قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، وهذا يدل على أن الشروع في الحج يجعله كالمنذور.

وبناء على ذلك فإنه لا يجوز لأحد أن يوكل أحداً في شيء من جزئيات الحج، ولا أعلم في السنة أن الاستنابة في شيء من أجزاء الحج قد وقعت إلا فيما يروى من فعل الصحابة -رضي الله عنهم- يرمون عن الصبيان، ويدل لهذا: أن أم سلمة رضي الله عنها لما أرادت الخروج، قالت: ( يا رسول الله! إني أريد الخروج وأجدني شاكية، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة )، وهذا يدل على أنه لا يجوز التوكيل في جزيئات الحج.

المقدم: لكن أنتم ذكرتم أن التوكيل في الجزئية يكون مثلاً في الطواف أو الرمي أو الوقوف أو كذا وكذا هذا إذا رأيتم أنه يجوز، لكن هل إذا زاد مثلاً في الرمي يزيد في البقية..؟

الشيخ: لا، نحن قلنا: هذا تمثيل لو كان في جزئية، وليس حكماً بأن ذلك مباح، ولهذا قلنا: لا نعلم في السنة أنه ورد التوكيل في شيء من الجزئيات أو أن أحداً يقوم عن أحد إلا في الرمي، وقلنا: إن الإنسان إذا تلبس بالحج أو العمرة صار فرضاً عليه، ويلزمه هو بنفسه، وعلى هذا فلا يجوز التوكيل في أي شيء من أجزاء الحج أو العمرة فرضاً كانت أم نفلاً إلا في الرمي؛ لوروده في حق الصغار، وكذلك يلزم من لم يستطع الرمي بنفسه من الكبار.

المقدم: لكن إذا جاء التوكيل في الرمي، فهل هناك شروط للنائب والمنيب؟

الشيخ: أما المنيب فيشترط أن لا يستطيع الرمي بنفسه لا ليلاً ولا نهاراً، أما النائب فقال الفقهاء رحمهم الله: إنه لابد أن يكون ممن حج تلك السنة، وأن يكون قد رمى عن نفسه.

المقدم: إذا عجز الحاج عن إكمال النسك فماذا يصنع؟

الشيخ: إذا عجز الحاج عن إكمال النسك فلا يخلو من حالين:

إما أن يكون عجزه لصد عدو صده عن البيت، كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عام الحديبية، ففي هذه الحالة يحلق بعد أن ينحر هديه ويحل بالإحرام؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عام الحديبية أن يحلقوا، ولما تأخروا رجاء أن ينسخ الحكم أو لسبب آخر غضب عليه الصلاة والسلام في ذلك، حتى أشارت عليه إحدى أمهات المؤمنين أن يخرج إليهم فيحلق رأسه ففعل، وحينئذ تتابع الناس على حلق رءوسهم والإحلال من إحرامهم، وفي هذه الحال لا يلزمه أن يقضي ما أحصر عنه، إلا إذا كان لم يؤد الفريضة فإنه يلزمه أداء الفريضة للأمر الأول، لا قضاء عما أحصر فيه، هذا إذا كان الحصر بعدو.

أما إذا كان الحصر بغير عدو، كما لو أحصر بذهاب نفقة أو بمرض امتد به، فإنه في هذه الحال يحل من إحرامه بعد أن ينحر هدياً ويحلق، إما قياساً على حصر العدو، وإما إدخالاً له في العموم، وهو قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، فإن هذا الإحصار الشامل، وكون الإحصار للعدو هو الذي وقع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لا يمنع أن تتناول الآية غيره.

وعلى كل حال إذا حصر بغير العدو من مرض أو ذهاب نفقة أو ما أشبه ذلك، فالقول الراجح: أنه يحل بهذا الإحصار بعد أن ينحر هديه ويحلق رأسه، ولا يلزمه قضاء -أي: قضاء ما أحصر فيه- إلا إذا كان واجباً بأصل الشرع، مثل أن يكون لم يؤد فريضة من قبل، فيلزمه فعل الفريضة بالخطاب الأول، أي: بالأمر الأول، لا من حيث أنه قضاء، هذا إذا لم يكن اشترط في ارتداء إحرامه: أنه إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإنه يحل من إحرامه ولا شيء عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـضباعة بنت الزبير وقد أرادت الحج وهي شاكية: ( حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ).

المقدم: هذا بالنسبة إذا عجز الحاج عن إكمال النسك، لكن لو توفي الحاج أثناء تلبسه بالنسك فما الحكم؟

الشيخ: إذا توفي الحاج أثناء تلبسه بالنسك فإن من أهل العلم من يقول: إذا كان حجه فريضة فإنه يقضى عنه ما بقي، ومنهم من يقول: إنه لا يقضى ما بقي، وهذا القول هو القول الراجح، ودليله حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته ناقته وهو واقف بعرفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( غسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً )، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي أحد عنه ما بقي من نسكه، ولأننا لو قضينا ما بقي من نسكه لكان هذا النائب الذي قام مقامه يحل من إحرامه، وحينئذ لا يبعث الرجل يوم القيامة ملبياً؛ لأن نائبه قد حل من الإحرام الذي تلبس به بدلاً عنه.

وعلى كل حال: فالقول الراجح بلا شك أن الإنسان إذا مات أثناء تلبسه في نسك، فإنه لا يقضى عنه، سواء كان ذلك فريضة أم نافلة.

المقدم: لكن هذا أيضاً هل يشمل الوقت الذي يلبى فيه، يعني: قبل رمي جمرة العقبة، أم يشمل جميع الحج؟

الشيخ: يشمل جميع الحج، يعني: سواء كان ذلك قبل التحلل الأول أو بعد التحلل الأول، فإنه لا يقضى عنه ما بقي.

المقدم: ذكرتم الاشتراط في عجز الحاج عن إكمال النسك، فنود أيضاً أن نعرف حكم الاشتراط؟

الشيخ: نذكر صفة الاشتراط قبل كل شيء؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وصفة الاشتراط: أن الإنسان إذا أراد الإحرام يقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، يعني: فإنني أحل إذا حبسني حابس، أي: منعني مانع عن إكمال النسك، وهذا يشمل أي مانع كان؛ لأن كلمة (حابس): نكرة في سياق الشرط، فتعم أي حابس كان، وفائدة هذا الاشتراط: أنه لو حصل له حابس يمنعه من إتمام النسك فإنه يحل من نسكه ولا شيء عليه، وقد اختلف أهل العلم في الاشتراط، فمنهم من قال: إنه سنة مطلقاً، أو أن المسلم ينبغي له أن يشترط سواء كان في حال خوف أو في حال أمن لما يترتب عليه من الفائدة، والإنسان لا يدري ما يعرض له، ومنهم من قال: إنه لا يسن إلا عند الخوف، أما إذا كان الإنسان آمناً فإنه لا يشترط، ومنهم من أنكر الاشتراط مطلقاً.

والصواب القول الوسط: وهو أنه إذا كان الإنسان خائفاً من عائق يمنعه من إتمام نسكه، سواء كان هذا العائق عاماً أم خاصاً فإنه يشترط، وإن لم يكن خائفاً فإنه لا يشترط، ولهذا تجتمع الأدلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم ولم يشترط، وأرشد ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها إلى أن تشترط حيث كانت شاكية، والشاكي -أي: المريض- خائف من عدم إتمام نسكه، وعلى هذا فنقول: إذا كان الإنسان خائفاً من طارئ يطرأ يمنعه من إكمال النسك فالاشتراط أفضل؛ لإرشاد النبي صلى الله عليه وسلمضباعة بنت الزبير، وإن لم يكن خائفاً فالأفضل أن لا يشترط اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أحرم بدون شرط.

المقدم: لكن بالنسبة للمشترط هل يلزمه أن يأتي بالصيغة التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أم يشترط بأي كلام يعبر به عن نفسه؟

الشيخ: لا يلزمه أن يأتي بالصيغة الواردة؛ لأن هذا مما لا يتعبد بلفظه، والشيء الذي لا يتعبد بلفظه يكتفى فيه بالمعنى.