فقه العبادات [6]


الحلقة مفرغة

المقدم: في لقاءٍ ماضٍ عرفنا مفهوم الإيمان، وعرفنا أيضاً الركن الأول من أركانه وهو الإيمان بالله، ثم تحدثتم عن الركن الثاني وهو الإيمان بالملائكة، وأنهينا الحلقة ما أدري هل بقي في الركن الثاني شيء أم ننتقل إلى الأركان التي بعدها؟

تابع الإيمان بالملائكة

الشيخ: بقي في الركن الثاني وهو الإيمان بالملائكة: أن الإيمان بالملائكة عليهم الصلاة والسلام يكون إجمالاً ويكون تفصيلاً، فما علمناه بعينه وجب علينا أن نؤمن به بعينه ونخصص، نقول: نؤمن بالله، نؤمن بجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، ومالك خازن النار وما أشبه ذلك، وما لم نعلمه بعينه فإننا نؤمن به إجمالاً، فنؤمن بالملائكة على سبيل العموم.

والملائكة عددٌ كبير لا يحصيهم إلا الله عز وجل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في البيت المعمور الذي في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه )، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه: ( ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملكٌ قائم لله أو راكعٌ أو ساجد)، ولكننا لا نعلم أعيانهم ووظائفهم وأعمالهم إلا ما جاء به الشرع، فما جاء به الشرع على وجه التفصيل من أحوالهم وأعمالهم ووظائفهم وجب علينا أن نؤمن به على سبيل التفصيل، وما لم يأت على سبيل التفصيل فإننا نؤمن به إجمالاً، وهؤلاء الملائكة الذين لهم من القدرة والقوة ما ليس للبشر من آيات الله عز وجل، فيكون الإيمان بهم إيماناً بالله سبحانه وتعالى وبقدرته العظيمة، وعلينا أن نحب هؤلاء الملائكة؛ لأنهم مؤمنون؛ ولأنهم قائمون بأمر الله عز وجل، ومن كان عدواً لأحد منهم فإنه كافر، كما قال الله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، وقال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97].

فالمهم أن هؤلاء الملائكة عليهم الصلاة والسلام علينا أن نحبهم؛ لأنهم عباد لله تعالى قائمون بأمره، وألا نعادي أحداً منهم.

الإيمان بالكتب

المقدم: بقي الركن الثالث من أركان الإيمان؟

الشيخ: الركن الثالث: هو الإيمان بكتب الله عز وجل التي أنزلها على رسله عليهم الصلاة والسلام، فإن ظاهر القرآن يدل على أنه ما من رسول إلا وأنزل الله معه كتاباً، كما قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]، وقال تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة:213] .

هذه الكتب طريق الإيمان بها أن نؤمن بها إجمالاً، وما علمناه بعينه نؤمن به بعينه، فالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن الكريم هذه معلومةٌ لنا بعينها، فنؤمن بها بعينها، وما عدا ذلك نؤمن به إجمالاً؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولكن كيف نؤمن بهذه الكتب؟

نقول: ما صحّ نقله منها إلينا من الأخبار وجب علينا تصديقه بكل حال؛ لأنه من عند الله، وأما ما تضمنته هذه الكتب من الأحكام فلا يلزمنا العمل إلا بما جاء في القرآن الكريم، وأما ما نقل إلينا منها ولم نعلم صحته فإننا نتوقف فيه حتى يتبين لنا صحته؛ لأن هذه الكتب دخلها التحريف والتبديل والتغيير والزيادة والنقص.

الإيمان بالرسل

المقدم: هذا بالنسبة للركن الثالث والركن الرابع..

الشيخ: الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى البشر رسلاً منهم يتلون عليهم آيات الله ويزكونهم، وأن هؤلاء الرسل أولهم نوح عليه الصلاة والسلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأما قبل نوح فلم يُبعث رسول، ولهذا نعلم خطأ المؤرخين الذين قالوا: إن إدريس عليه الصلاة والسلام كان قبل نوح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] ، وفي الحديث الصحيح في قصة الشفاعة: (أن الناس يأتون إلى نوح، فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض)، فلا رسول قبل نوح، ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، فأما نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان فإنه لا ينزل على أنه رسول مجدد بل ينزل على أنه حاكمٌ بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الواجب على عيسى وعلى غيره من الأنبياء الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، وهذا الرسول المصدقٌ لما معهم هو محمد صلى الله عليه وسلم كما صحّ ذلك عن ابن عباس وغيره.

فالمهم أن نؤمن بالرسل على هذا الوجه، بأن أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.

وكيفية الإيمان بهم: أن ما جاء من أخبارهم وصحّ عنهم نؤمن به ونصدق؛ لأنه من عند الله عز وجل.

وأما الأحكام فلا يلزمنا اتباع شيءٍ منها إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وما اقتضته الشريعة.

أما بالنسبة لأعيان هؤلاء الرسل فمن سماه الله لنا أو سماه رسوله صلى الله عليه وسلم وجب علينا الإيمان به بعينه، وما لم يسم فإننا نؤمن به على سبيل الإجمال كما قلنا ذلك في الكتب وفي الملائكة.

الإيمان باليوم الآخر

المقدم: كيف يكون الإيمان بالركن الخامس وهو اليوم الآخر؟

الشيخ: الإيمان باليوم الآخر يعني: الإيمان بقيام الساعة، وسمي يوماً آخراً؛ لأنه ليس بعده يوم، فإن الإنسان كان عدماً، ثم وجد في بطن أمه، ثم وجد في الدنيا، ثم ينتقل إلى البرزخ، ثم يوم القيامة، فهذه أحوالٌ خمسة للإنسان، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] هذه الحالة الأولى: أنه ليس شيئاً مذكوراً، ثم وجد في بطن أمه، ثم خرج وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، ثم يكدح في هذه الدنيا ويعمل، ثم ينتقل إلى الآخرة في برزخٍ بين الدنيا وقيام الساعة.

فالإيمان باليوم الآخر يدخل فيه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمن الإنسان بفتنة القبر، ونعيم القبر وعذابه، وفي قيام الساعة بالنفخ في الصور، وبالحساب، وبالميزان، وبالحوض المورود وغيره، وبكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إما في كتاب الله أو في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، مما يكون بعد الموت.

ويحسن أن نتكلم عن فتنة القبر، وهي أن الميت إذا دفن أتاه ملكان فيسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فأما المؤمن فيثبته الله تعالى بالقول الثابت، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وأما الكافر فإنه يقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذابٌ إلى يوم القيامة، فمن كان من غير المسلمين فهو في عذاب إلى يوم القيامة، ومن كان من عصاة المؤمنين فإنه قد يعذب في قبره مدة يعلمها الله عز وجل ثم يرفع عنه العذاب، وهذا العذاب أو النعيم يكون في الأصل على الروح، ولكن قد يتألم البدن به، كما أن العذاب في الدنيا يكون على البدن وقد تتألم النفس فيه، ففي الدنيا مثلاً الضرب يقع على البدن والألم يقع على البدن، والنفس قد تتأثر بذلك وتحزن وتغتم، أما في القبر فالأمر بالعكس، العذاب أو النعيم يكون على الروح، لكن البدن لا شك أنه يحصل له شيء من هذا العذاب أو النعيم، إما بالفرح والنعيم، وإما بالحزن بالعذاب.

أما إذا قامت الساعة وهي القيامة الكبرى فإن الناس يقومون من قبورهم إلى رب العالمين حفاةً عراةً غرلاً، حفاة ليس عليهم ما يقي أقدامهم من نعالٍ أو حفاة أو غيرها، عراة ليس على أبدانهم ما يكسوها. غرلاً أي: غير مختونين، فتعود الجلدة التي قطعت بالختان في الدنيا ليخرج الإنسان من قبره تاماً لا نقص فيه، كما قال الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104] ، ثم يكون الحساب على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم النهاية إما إلى جنة وإما إلى نار، فمن دخل الجنة فهو مخلدٌ فيها أبد الآبدين، ومن دخل النار فإن كان من العصاة فإنه يخرج منها بعد أن يعذب بما يستحق إن لم تنله الشفاعة أو رحمة الله عز وجل، ولكنه لا يخلد فيها، وأما الكافر فإنه يخلد فيها أبد الآبدين.

المقدم: شكراً، أثابكم الله. الحقيقة بقي الركن السادس، لكن لعله يكون أول لقائنا القادم ونتحدث عنه طويلاً إن شاء الله.

بهذا أيها السادة نأتي على نهاية لقائنا هذا الذي استضفنا فيه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الأستاذ في فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم، وإمام وخطيب الجامع الكبير بمدينة عنيزة، شكراً للشيخ محمد ، وشكراً لكم أيها السادة، وإلى أن نلتقي بحضراتكم نستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.