جلسات رمضانية لعام 1411ه [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

في هذه الليلة؛ ليلة الأحد الموافق للثامن من رمضان عام: (1411هـ) نتكلم على شروط مفسدات الصوم كما تكلمنا في الدرس الماضي عن المفسدات، وبينَّا أنها تسعة؛ لكن هذه المفسدات هي محظورات في الصيام، ولا تُفسد الصومَ إلا بشروط ثلاثة:

1/ العلم.

2/ والذكر.

3/ والقصد.

وذلك لأن المشهور عند أهل العلم أن المحظورات يُعذر فيها الإنسان:

بالجهل.

والنسيان.

والإكراه.

أما المأمورات فإنها لا تسقط بالجهل، والنسيان، والإكراه، بل يفعل الإنسان ما يقدر عليه، ويتدارك ما يمكنه تداركه.

وهذه القاعدة التي أصَّلها أهل العلم لها دلائل من الكتاب والسنة، وهي قاعدة مفيدة لطالب العلم.

فمثلاً: الصلاة من باب فعل المأمور أو من باب ترك المحظور؟

الجواب: من باب فعل المأمور.

والفرق بينهما لئلاَّ يشتبه: أن ما طُلب فعله فهو: مأمور، وما طُلب اجتنابه فهو: محظور.

فالصلاة طُلب فعلها، إذاً: هي من باب فعل المأمور، لم تسقط لا بالنسيان، ولا بالجهل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرها) يعني: إذا ذكرها بعد النسيان، وإذا استيقظ بعد النوم.

النائم تركها بقصد أو بغير قصد؟

بغير قصد، ولم تسقط عنه.

والناسي تركها بغير ذكر، ولم تسقط عنه (فليصلِّها إذا ذكرها).

الجهل: جاء رجل فصلَّى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل لا يطمئن في صلاته، وهو جاهل، لا يعلم أن الطمأنينة ركن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ) ولم يعذره بالجهل، بل كرر ذلك عليه حتى قال الرجل: (والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلِّمني، فعلَّمه).

إذاً: ففعل المأمور لا يسقط بالنسيان، ولا يسقط بعدم القصد، ولا يسقط بالجهل؛ ولكن يجب أن نعلم أنه يسقط الإثم بالنسيان، والجهل، وعدم القصد؛ لكن يقارب الإنسان في إيجاد هذا الشيء الذي طُلب منه فعلُه، واضح يا جماعة؟

فالمحظور إذا فعله الإنسان جاهلاً، أو ناسياً، أو غير قاصد، فإنه لا يلحقه حكمه، يُعفى عنه نهائياً، كأنه لم يفعله.

ولهذه القاعدة أيضاً دلائل، فاجتناب النجاسة في الصلاة من باب ترك المحظور؛ لأنه يُقال: اجتنب النجاسة؛ لكن الطهارة من الحدث من باب فعل المأمور؛ لأنه يقال للمحدِث: تطهَّر، أما النجاسة فالمأمور يعني: يؤمر باجتنابها، فإذا فعلها الإنسان جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه.

دليل هذه القاعدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى ذات يوم وعليه نعلان، وفيهما قذر، وفي أثناء الصلاة جاءه جبريل فأخبره أن فيهما قذراً، فخلعهما، ومضى في صلاته) مضى في صلاته.

إذاً: كان أول صلاته متلبساً بمحظور وهو النجاسة، ولم يبطل أول الصلاة، لماذا؟

لأنه كان جاهلاً، لم يعلم عليه الصلاة والسلام أن في نعليه قذراً، فعُفي عنه؛ لأنه كان جاهلاً.

حسناً! ترك الأكل والشرب للصائم من باب ترك المحظور، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) فأسقط عنه حكم هذا المحظور؛ لأنه كان ناسياً.

وهذه القاعدة تنفعك أيضاً في غير العبادات:

لو أن الإنسان حلف وقال: والله لا أدخل بيت فلان، فدخل بيتاً وهو لا يدري أنه بيت فلان، ثم علم أنه بيت فلان، فهل تلزمه الكفارة؟

لا؛ لأنه كان جاهلاً، لا يعلم أنه بيته.

ولو قال: والله لا ألبس ثوبي هذا اليوم، ثم نسي فلبسه فليس عليه كفارة؛ لأنه ناسٍ، وبالحلف أصبح فعله محظوراً؛ لأنه ممنوع عليه، ممنوع عليه باليمين، فإذا فعله فقد فعل محظوراً.

ولو قال لزوجته: إن كلمتِ فلاناً فأنتِ طالق، فنسيَت وكلمَته، فإنها لا تطلُق، أو كلمت شخصاً لا تعلم أنه فلان، فتبيَّن أنه هو، فإنها لا تطلق؛ لأنها كانت جاهلة.

فالقاعدة هذه مفيدة لطالب العلم، ويدخل فيها من المسائل ما لا حصر له؛ لكن الإنسان إذا طبقها استراح.

وهناك أدلة منصوصة غير المسائل التي بالاستقراء أخذنا منها الحكم؛ لأن القواعد تؤخذ أحياناً من الاستقراء، بمعنى: أن الإنسان يجمع مسائل من السنة أو من القرآن، فتتكون من هذه المسائل قاعدة، وأحياناً تكون منصوصة عليها.

استمع إلى الآية الكريمة: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286].

وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5].

فنقول: بناءً على هذه القاعدة: يُشترط لإفساد الصوم بالمفطِّرات ثلاثة شروط:

أن يكون عالماً، وضده الجاهل.

وذاكراً، وضده: الناسي.

وقاصداً، وضده: من لم يقصد.

العلم وعدم الجهل

فلو أن الإنسان أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه قد طلع، فصومه صحيح؛ لأنه جاهل؛ لكن يجب عليه من حين أن يعلم أن الفجر قد طلع أن يمسك، حتى لو كانت اللقمة في فمه وجب عليه لفظُها، أو كان الماء في فمه وجب عليه مَجُّه، ولا يجوز أن يبلع بعد العلم بأن الفجر قد طلع.

مثال آخر: رجل سمع في (الراديو) أذان الرياض ، فظن أنه أذان عنيزة فأفطر، ثم بعد أن أكل وشرب أذَّن المؤذنون؛ لأن التوقيت بين عنيزة والرياض الفرق عشر دقائق تقريباً، أكل وشرب ثم أذن الناس، نقول لهذا الرجل: صومك صحيح، كيف صومه صحيح وهو أكل قبل أن تغرب الشمس؟ نقول: لأنه كان جاهلاً، لو علم أن هذا الأذان ليس أذان بلده ما أكل، إذاً: هو جاهل.

مثالٌ ثالث: رجل احتجم، يظن أن الحجامة لا تفطِّر، يعني: لم يعلم أن الحجامة تفطِّر، فقيل له: إن الحجامة تفطِّر، بعد أن احتجم، فهل يفطر؟ لا؛ لأنه كان جاهلاً؛ لكن الفرق بين هذا الجهل والجهل في المثالين السابقين أن الجهل في المثالين السابقين جهل بالحال، والجهل في هذا المثال الثالث جهل بالحكم، ولا فرق بين الجهل بالحكم والجهل بالحال، كلاهما يُعذر به، ولا يترتب على الفاعل شيء؛ لأنه جاهل.

مثال رابع: رجل جامع زوجته في نهار رمضان في حال يلزمه الصوم، وهو يدري أن الجماع حرام، وأنه مفطِّر؛ لكن لم يعلم أن فيه كفارة، نعم، نقول: صومه فاسد لا شك، لأن عالم أنه يفطِّر؛ ولكن هل تلزمه الكفارة؟ لو قال: أنا ما علمتُ أن في ذلك كفارة، ولو علمتُ أن في ذلك كفارة ما فعلتُ، نقول: جهلك بالعقوبة لا يمنع العقوبة، أنت قد علمت أنه حرام، وأنك قد ارتكبت إثماً، والعقوبة ليست إليك، إلى الله، ولهذا لم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي جاء إليه وقال: (يا رسول الله! هلكتُ، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان وأنا صائم) ثم أمره بالكفارة، ولم يعذره، مع أن الرجل يعلم عن الكفارة أو لا؟ لا يعلم، جاء يستفتي.

إذاً: فالجهل بالعقوبة ليس بعذر، تلزمه العقوبة؛ لأنه فعل سبب العقوبة وهو عالم، وليس معذوراً، فلزمته العقوبة؛ وهي الكفارة.

الذكر وعدم النسيان

ومن شروط مفسدات الصوم الذكر وعدم النسيان.

ونقول: النسيان أيضاً له أمثلة:

رجل كان صائماً، فعطش، فشرب ناسياً أنه صائم، سواءً في الفريضة أو في النافلة، ثم بعد أن شرب ذكر أنه صائم، فصومه صحيح، وليس عليه شيء.

حسناً! لو رَوِيَ؟

ولو رَوِيَ؛ لكن إذا ذََكََرَ ولو كان الماء في فمه وجب عليه أن يَمُجَّه، ولا يجوز له ابتلاعه بعد الذكر؛ لأن العذر زال.

فإذا قال قائل: ما هو الدليل على ما ذكرتم؟

نقول: الدليل على ما ذكرنا نوعان:

عام.

وخاص.

أما العام: فقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] .

هذا يشمل النسيان في الصوم، والخطأ في الصوم، والجهل من الخطأ.

وأما الخاص: ففي الجهل: ما ثبت في صحيح البخاري : عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس) هكذا قالت.

وجه الدلالة من هذا الحديث: أنه لو كان إفطارهم مفسداً لصيامهم لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بالقضاء، ولو أمرهم بالقضاء لنُقل إلينا؛ لأنه إذا أمرهم بالقضاء صار القضاء من الشرع، وإذا كان القضاء من الشرع فلابد أن يُنقل، وهذه أيضاً من القواعد المهمة لطالب العلم، أنه إذا لم يُنقل عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء فإنه يُعلم أنه ليس من الشرع؛ لأنه لو كان من الشرع لنُقل؛ لأن الشرع محفوظ؛ كما قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ولا يمكن أن يُنسى، ولما لم يُنقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء عُلِم أن القضاء ليس بواجب، إذْ لو كان واجباً لأمرهم، ولَنُقِل، واضح؟

هذا جهل بالحكم وإلاَّ بالحال؟

بالحال.

الجهل بالحكم: عدي بن حاتم رضي الله عنه أصبح صائماً، وتلا قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187].

أتدرون ماذا صنع؟!

أخذ عقالين وهما: الحبلان اللذان تُعقل بهما الإبل، أسود وأبيض، فوضعهما تحت الوسادة، وجعل يأكل وينظر إلى العقالين، فلما تبيَّن الأبيض من الأسود أمسك، ظناً منه أن الآية الكريمة يُراد بها هذا المعنى.

فلما أصبح وأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك قال له: (إن وِسادك لَعَريض أن وَسِع الخيط الأبيض والأسود) عريض يعني: واسع؛ لأن الخيط الأبيض هو: النهار؛ بياض النهار، والأسود: سواد الليل؛ لكن عدياً لم يتبين له ذلك، فجعل يأكل حتى ارتفع الضياء، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، لماذا؟ لأنه كان جاهلاً، ونوع الجهل؟ جهل بالحكم، فلا يجب القضاء.

القصد وعدم الإكراه

بقي الشرط الثالث ما هو؟

القصد، يمكن أن نستدل عليه بقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5] .

وفي قوله تعالى في جزاء الصيد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95] فإن قوله: مُتَعَمِّداً [المائدة:95] يخرج من ليس بمتعمد، فلابد من القصد.

الذي لا يُقصَد له أنواع:

منها: الإكراه:

أن يُكره الإنسان على الشيء، فإذا أكره على الشيء، فإنه لا يلحقه حكم، يعني: يُعفى عنه، والدليل قوله تعالى في أعظم المحرمات، وهو الكفر: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [النحل:106] نعم، فهذا يدل على أن المُكرَه على فعل المحرم معفوٌّ عنه، لا يلزمه شيء.

وبناءًَ على ذلك: لو أن الرجل أكره زوجته الصائمة فجامعها، فإن صومها صحيح، وليس عليها شيء، وتستمر في صيامها؛ لأنها مكرهة.

ولو أن شخصاً أكره صائماً على أن يأكل، وقال: كُلْ وإلا حبستك، وخاف أن ينفذ ما قال، فأكل، فليس عليه شيء؛ لأنه مكره.

ولو أن الإنسان تمضمض وهو صائم، فنزل الماء من فمه إلى معدته بدون قصد، فصومه صحيح؛ لأنه لم يتعمَّد، وقد قال الله تعالى: وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5] صومه صحيح.

ولو أن المريض المغمى عليه صُب في فمه ماء من أجل أن يستيقظ، فهل يُفطر؟

لا.

لماذا؟

لأنه بغير قصد، هو ما قصد؛ لكن صبُّوه عليه، وقال بعض العلماء في هذه المسألة بالذات: إنه يُفطر؛ لأنه لو كان صاحياً لرضي أن يُعالج حتى يزول عنه الإغماء؛ لكن المشهور عند الحنابلة رحمهم الله: أنه لا يفطر بهذا؛ لأنه ليس بقاصد، وإن كان يرضى؛ لكن هو الآن غير قاصد.

فصارت هذه الشروط إذا انتفى واحدٌ منها فإنه لا فطر، والصوم صحيح، ويبقى الإنسان صائماً، لا ينقص من صيامه شيء.

لو أن شخصاً تطيَّب ببخور، وطار شيء من دخان البخور إلى أنفه، ثم إلى جوفه بدون قصد، فليس عليه شيء؛ لأنه غير قاصد.

واختلف العلماء رحمهم الله في مسألة، وهي: إذا أكره الإنسان على فعلٍ محرم:

فإذا فعله لدفع الإكراه لا لقصد الفعل فلا شك أنه معذور، ولا خلاف في ذلك.

لكن إذا فعله لقصد الفعل؛ غاب عن باله أنه يريد دفع الإكراه، فهل يسقط عنه إثم هذا الفعل أو لا؟

قال بعض العلماء: لا يسقط عنه؛ لأنه نوى الفعل.

وقال آخرون: بل يسقط عنه؛ لعموم الأدلة الدالة على أنه يُعفى عن الإنسان في حال الإكراه؛ ولأن العامي لا يفرق بين أن يفعل الشيء لدفع الإكراه أو يفعله بقصد فعله.

مثال ذلك: جاء شخص إلى عامي وأكرهه على أن يُفطر وهو صائم، قال: لازم تفطر وإلا، يهدِّده، فأخذ الماء وشرب، قصَد شُرب الماء؟ نعم قاصد، قصَد شُرب الماء، هذا واحد.

ثانياً: عامي أكرِه على أن يُفطر وهو صائم، فأخذ الماء فشربه دفعاً للإكراه، لا قصداً للشرب.

الثاني: لا يفطر، لا إشكال فيه، قول واحد؛ لأنه ما قصد الفعل، قصد دفع الإكراه.

والأول: فيه خلاف:

فمنهم من قال: إنه يؤاخذ لأنه قصد الفعل.

ومنهم من قال: لا يؤاخذ لأنه وإن قصد الفعل فهو مكره على الفعل.

وهذا الأخير أصحُّ، ما لم يتناسى الإكراه نهائياً، ويعتمد على أنه سيعمل هذا المُكرَه عليه، فإنه حينئذٍ لا شك أنه اختار.

فالأحوال إذاً ثلاثة:

أن يقصد دفع الإكراه دون الفعل، فهذا لا إشكال أنه لا حرج عليه.

الثاني: أن يقصد الفعل؛ لكن من أجل الإكراه؟ ففيه خلاف، والصحيح: أنه لا حرج عليه.

الثالث: أن يقصد الفعل متناسياً للإكراه؛ يعني: كأنه يقول: لما أُكرِهتُ أريد أن أفعل إذاً، ويفعله اختياراً، فهذا لا شك أنه عليه الحرج، وعليه حكم هذا الفعل.

وإلى هنا ينتهي الكلام على المفطِّرات، وقد عرفنا شروطها، ومعرفة الشروط مهمة، وأخذنا من هذا التقرير قاعدتين مهمتين، وهما:

أن فعل المأمور لا يسقط بالجهل، والنسيان، وعدم القصد.

بخلاف ترك المحظور، إذا فعل الإنسان المحظور جاهلاً، أو ناسياً، أو غير قاصد، فلا شيء عليه.

والله الموفق.

فلو أن الإنسان أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه قد طلع، فصومه صحيح؛ لأنه جاهل؛ لكن يجب عليه من حين أن يعلم أن الفجر قد طلع أن يمسك، حتى لو كانت اللقمة في فمه وجب عليه لفظُها، أو كان الماء في فمه وجب عليه مَجُّه، ولا يجوز أن يبلع بعد العلم بأن الفجر قد طلع.

مثال آخر: رجل سمع في (الراديو) أذان الرياض ، فظن أنه أذان عنيزة فأفطر، ثم بعد أن أكل وشرب أذَّن المؤذنون؛ لأن التوقيت بين عنيزة والرياض الفرق عشر دقائق تقريباً، أكل وشرب ثم أذن الناس، نقول لهذا الرجل: صومك صحيح، كيف صومه صحيح وهو أكل قبل أن تغرب الشمس؟ نقول: لأنه كان جاهلاً، لو علم أن هذا الأذان ليس أذان بلده ما أكل، إذاً: هو جاهل.

مثالٌ ثالث: رجل احتجم، يظن أن الحجامة لا تفطِّر، يعني: لم يعلم أن الحجامة تفطِّر، فقيل له: إن الحجامة تفطِّر، بعد أن احتجم، فهل يفطر؟ لا؛ لأنه كان جاهلاً؛ لكن الفرق بين هذا الجهل والجهل في المثالين السابقين أن الجهل في المثالين السابقين جهل بالحال، والجهل في هذا المثال الثالث جهل بالحكم، ولا فرق بين الجهل بالحكم والجهل بالحال، كلاهما يُعذر به، ولا يترتب على الفاعل شيء؛ لأنه جاهل.

مثال رابع: رجل جامع زوجته في نهار رمضان في حال يلزمه الصوم، وهو يدري أن الجماع حرام، وأنه مفطِّر؛ لكن لم يعلم أن فيه كفارة، نعم، نقول: صومه فاسد لا شك، لأن عالم أنه يفطِّر؛ ولكن هل تلزمه الكفارة؟ لو قال: أنا ما علمتُ أن في ذلك كفارة، ولو علمتُ أن في ذلك كفارة ما فعلتُ، نقول: جهلك بالعقوبة لا يمنع العقوبة، أنت قد علمت أنه حرام، وأنك قد ارتكبت إثماً، والعقوبة ليست إليك، إلى الله، ولهذا لم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي جاء إليه وقال: (يا رسول الله! هلكتُ، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان وأنا صائم) ثم أمره بالكفارة، ولم يعذره، مع أن الرجل يعلم عن الكفارة أو لا؟ لا يعلم، جاء يستفتي.

إذاً: فالجهل بالعقوبة ليس بعذر، تلزمه العقوبة؛ لأنه فعل سبب العقوبة وهو عالم، وليس معذوراً، فلزمته العقوبة؛ وهي الكفارة.