هذا الحبيب يا محب 12


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

قد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة (طلوع الفجر المحمدي)، بعد أن عرفنا تلك الإرهاصات والبشارات من الكتب السماوية، بل حتى من الجن.

قال: [طلوع الفجر المحمدي أو الميلاد السعيد] ميلاد من هذا؟ إنه ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم! كيف لا يكون سعيداً وقد سعدت الدنيا كلها به.

قال: [من عام الفيل] وقد عرفنا عام الفيل، فـأبرهة -بلغة المعاصرين- عميل الأحباش، بنى كعبة في صنعاء سماها القليس، بغية تحويل تجارة العرب كلها إلى اليمن، ولكي يهجر الناس الكعبة، ولكن الله أذلة وأخزاه، وحسبك أن تقرأ السورة التي نزلت فيه، قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5]، وهذا قبل أن تعرف البشرية القذائف النارية أو الغازية.

[وفي شهر ربيع الأول الذي أصبح يعرف بربيع الأنوار] عند كثير من الناس [ومن ليلة الإثنين الثاني عشر منه] أي: من ربيع الأول [طلع فجر النبوة المحمدية].

قال: [هذا الذي عليه أكثر المؤرخين للميلاد النبوي السعيد] ولا ننظر إلى الخلافات.

قال: [الحمل قبل الميلاد] فالحمل بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل ميلاده [والمصاهرة قبل الحمل] تزوج أبو الرسول بآمنة قبل الحمل [والوالد قبل الوالد] إذاً: علينا نعرف الوالد قبل الولد [ولكل زمان ومكان] هناك زمان للحمل وزمان للميلاد والمكان وهكذا.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [في بطحاء مكة] والبطحاء هي الأرض الواسعة، والأبطح في مكة معروف [وفي بيت عريق في الشرف -بيت شيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي - زوج عبد المطلب ولده عبد الله الذبيح] وستعرفون لِم قيل فيه ذبيح [سليلة الشرف] زوجه بسليلة الشرف [أشرف فتاة وأعفها وأكملها خلقاً وخلقاً؛ وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب الزهرية القرشية ] هذه أم نبيكم.

قال: [أما عبد الله الوالد] عرفنا الأم فمن هو الوالد؟ [فللقبه بالذبيح قصة من أظرف القصص وأطرفها] لِم لقب بالذبيح؟ والذبيح بمعنى المذبوح، فـ(فعيل) في الغالب بمعنى (مفعول) [تتشنف الآذان بسماعها، وتهفو القلوب لذكرها، وهذا عرضها باختصار حتى لا نبعد من ساحة الأنوار] لأننا في الميلاد.

قال: [كانت زمزم قد طمرتها جرهم] بئر زمزم دفنتها جرهم وهدمتها ورمت عليها الصخور والتراب، وفعلت هذا لأنها احتلت مكة والمنطقة وهي يمنية، ثم لما فسق رجالها وخرجوا عن طاعة الله وانتهكوا حرماته؛ سلط الله عليهم أهل مكة فأخرجوهم.

قال: [عند مغادرتها مكة؛ لظلمها فانهزامها، وكان ذلك منها نقمة على أهلها الذين حاربوها وطردوها] لما عرفت أنها انهزمت وسوف تغادر البلاد وأن رايتها قد سقطت دمرت زمزم فطمرتها.

[وظلت زمزم مطمورة إلى عهد شيبة الحمد عبد المطلب ، فأُري في المنام مكانها وحاول إعادة حفرها] رأى رؤيا دُلّ فيها على مكان زمزم [ومنعته قريش] من أن يفعل ذلك، حتى لا يفوز بهذا الشرف ويظفر به وحده. وتعرفون الحسد، وحب الذات والنفس.

[ولم يكن له يومئذ من ولد يعينه على تحقيق مراده إلا الحارث ، فنذر لله تعالى إن رزقه عشرة من الولد -يحمونه ويعينونه- ذبح أحدهم] لمن؟ للآلهة؛ لأنهم كانوا ينذرون أولادهم للآلهة، واقرءوا قول الله تعالى من سورة الأنعام، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ [الأنعام:136-137]، فزينوا لهم قتل أولادهم بنذرهم للآلهة ليتحقق لهم ما يتحقق، كنذر جهال المسلمين للأولياء، سواء بسواء.

[ولما رزقه الله عشرة من الولد وأراد أن يفي بنذره لربه] والحمد لله فقد نذر لله، أما جماعاتكم أيها المسلمون فينذرون لسيدي عبد القادر ، وسيدي مبروك ، وسيدي فلان.. أما لله فلا، ولهذا قال بعض العلماء: كفار قريش أشراف الكفار؛ لأن عندهم ميزات خير من هؤلاء الكفار الهابطين.

[فاقترع على أيهم يكون الذبيح] اقترع على أولاده العشرة من منهم يكون الذبيح، والقرعة معروفة، أقرها الإسلام، وجاءت حتى في القرآن، في سورة الصافات، قال الله عز وجل: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:141-142]، فإذا اختلف أهل المال في قسمته وتنازعوا فالفاصل هو القرعة، فمن خرجت قرعته حمِد الله.

[فكانت القرعة على عبد الله ، وهمَّ أن يذبحه عند الكعبة فمنعته قريش] هم عبد المطلب شيبة الحمد أن يذبح عبد الله عند الكعبة وفاء بالنذر فمنعته قريش [وطلبوا إليه أن يرجع في أمره إلى عرّافة بالمدينة تفتيه في أمر ذبح ولده] والعرافة هي التي تدعي علم الغيب بواسطة الجن، فأرشدوه إلى أن يذهب إلى المدينة النبوية -وكانت تسمى يومئذٍ يثرب- لأن فيها عرافة تفتيه في القضية وتحل مشكلة ذبح ولده.

[فأرشدته] أي: العرافة [إلى أن يضع عشراً من الإبل] وهذه خير من عرافاتنا اليوم بمليون مرة [وهي دية الفرد عندهم] في ذلك الوقت، كانت دية الإنسان عشرة من الإبل [وأن يضرب بالقداح على عبد الله وعلى الإبل] والقداح جمع قدح، وهي الأزلام، وتكون بأن يجعل أحدهم في خريطة أو كيس عيدان أصلها سهام استعملت، مكتوب عليها: ناجح أو خاسر ونحوها من الكلمات التي تبشر أو تنذر، فتأتي أنت وتعطي العراف عشر ريالات ليبحث لك عن المستقبل؛ هل تتزوج فلانة أو لا، هل تدرس في كلية الأدب أم في كلية الشريعة، وهكذا ..ثم يدير هذه الأعواد ويخرج عوداً ويقرأه، فإذا وجد (رابح) قال لك: امش، وامض في طريقك، وإذا وجد خاسر ، قال لك: لا، وأدارها وأعاد الاختيار ثانية، وهكذا تتحكم فيهم الأهواء والشياطين.

[فإن خرجت على عبد الله الذبيح زاد عشراً من الإبل، وإن خرجت على الإبل فانحرها] أي: عن عبد الله وتركه [فقد رضيها ربكم] أي أن هذه الكاهنة العرافة تقول: ضع عشرة من الإبل، وضع عبد الله ثم أقم القرعة، فإن خرجت على عبد الله فافده بعشرة أخرى، وهكذا حتى بلغت مائة -كما سيأتي- [ونجا صاحبكم!!] تعني عبد الله .

[فوصلوا مكة، وجيء بالإبل وصاحب القداح، وقام عبد المطلب عند هبل داخل الكعبة يدعو الله عز وجل، وأخذ صاحب القداح يضربها، وكلما خرجت على عبد الله زادوا عشراً من الإبل] من أجل فداه [حتى بلغت مائة؛ كل ذلك وعبد المطلب قائم يدعو الله عز وجل عند هبل] وجماعتنا يدعون الله عند الأولياء، تجده عاكفاً على الضريح يدعو. وهبل كان أكبر أصنام قريش أو أعظم آلهتهم.

[فقال رجال قريش: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب ] أي: يكفي دعاء [فأبى إلا أن يضرب عنها القداح ثلاث مرات ففعل] كان قوي النية والإرادة، ما اطمأن لأول مرة، بل جعلها تُضرب ثلاث مرات [فكانت في كل مرة تخرج على الإبل، وعندها رضي عبد المطلب ونحر الإبل وتركها لا يصد عنها إنسان ولا حيوان] كل الناس يأكلون من تلك الإبل [ونجّى الله تعالى -والحمد لله لا لسواه- عبد الله والد رسول الله] صلى الله عليه وسلم [فهذا سبب لقب عبد الله بالذبيح، وهو أحب أولاد عبد المطلب العشرة إليه، وزاده حباً فيه هذه الحادثة العجيبة] وقد قال مرة يهودي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن الذبيحين، فاندهش الناس كيف عرف!

فالذبيح الأول هو إسماعيل عليه السلام؛ فقد وُضع على الأرض ليذبحه إبراهيم، والذبيح الثاني هو عبد الله بن عبد المطلب الذي كاد أن يذبح لولا أن الله فداه، فالرسول هو ابن الذبيحين عند أهل الكتاب، يعرفونه بهذا اللقب.

[وأكرم الله عبد المطلب بإعادة حفر زمزم إذ وافقته قريش على حفرها؛ وكانت موافقتها لآية شاهدتها لـعبد المطلب ] وافقت قريش على إعادة حفر زمزم لآية من الآيات شاهدتها، فسلمت وقالت: افعل يا عبد المطلب [وهي أنهم لما منعوه من حفرها وأبى عليهم ذلك، قالوا: نختصم إلى الكاهنة -وهي كاهنة بني سعد وكانت بأعالي الشام-] قالوا: نذهب إلى الكاهنة لنتحاكم إليها، فلم يكن عندهم أمم متحدة، ولكن هذا الموجود [فذهبوا إليها، وأثناء سيرهم في طريقهم إليها عطشوا لنفاد مائهم، فلما ظنوا الهلاك] من شدة العطش؛ لأنهم مسافرون على الجمال [وإذا بعين تنفجر تحت خف ناقة عبد المطلب ] هذه هي الآية، وهي أن ناقة عبد المطلب وضعت بقوة رجلها على الأرض ففار الماء من تحتها [فقاموا وشربوا وسقوا، وعندها أذعنوا لأمر عبد المطلب ورضوا له بحفر بئر زمزم خالصة له دون غيره من أهل مكة].

فـعبد المطلب أراد أن يحفر بئر زمزم بعدما أن طمرتها جرهم من سنين فمنعته قريش، فسأل الله تعالى أن يرزقه عشرة أولاد حتى يشدوا ساعده ويقووا ظهره ويحفر زمزم، فرزق عشرة أولاد بعدما كان له ولد واحد، وهو الحارث ، وإذا بتسعة وعلى رأسهم عبد الله ، فأراد أن ينفذ ما نذره لله، وجاء بـعبد الله وأراد أن يذبحه وفاء بنذره؛ لأنه تحقق له مراده بإذن الله فمنعته قريش، واقترحت عليه الذهاب إلى الكاهنة المدنية، فتولت هي القضية، وقالت له: ائت بعشرة من الإبل واقترع عليها وعلى ولدك، فإن كان الولد زدت عشراً، وإن كانت العشرة ذبحتها، ففعل حتى بلغت الإبل المائة، فقيل فيه الذبيح. هذا هو عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعند أهل الكتاب -كما سمعتم-: الذبيح الأول إسماعيل عليه السلام، والثاني عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال المؤلف: [نتائج وعبر:

إن من نتائج وعبر هذه المقطوعة من السيرة العطرة ما يلي:

أولاً: فزع عبد المطلب إلى الله تعالى يدعوه في كل النوائب دليل على أن مشركي العرب ما كانوا ملاحدة، بل كانوا يؤمنون بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً، والقرآن شاهد بهذا] قال الله عز وجل: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، فلم يكن العرب ملاحدة بلاشفة كالشيوعيين يقولون: لا إله والحياة مادة، بل كانوا يؤمنون بالله رباً، وإنما أشركوا آلهتهم في عبادة الله عز وجل، فيذبحون، وينذرون، ويحلفون، ويتقربون إلى الآلهة، كما أنه يذبح وينذر ويحلف بالله عز وجل.

[ثانياً: دعاء عبد المطلب الله تعالى عند هبل استشفاعاً به وتوسلاً؛ ورثه الشيطان جهال المسلمين] عبد المطلب كان يدعو الله، ولكنه واقف إلى جنب الصنم هبل استشفاعاً به، وهذا ورثه الشيطان جهال المسلمين من إندونيسيا إلى المغرب [فإن أحدهم يأتي قبر الولي ويدعو الله تعالى عنده استشفاعاً بالولي وتوسلاً به على سنة عبد المطلب الجاهلي والعياذ بالله تعالى] وأكثر الذين يأتون إلى البقيع من الجهال يدعون الله تعالى لأنفسهم لا يدعون لأهل البقيع؛ متوسلين إلى الله عز وجل بوقوفهم على أضرحة الأولياء، والشيطان هو الذي ورثنا هذه الجاهلية، و(95%) من الجهلة هكذا يفعلون.

[ثالثاً: كرامات عبد المطلب التي أكرمه الله بها -كرؤيا بئر زمزم وحفرها والماء الذي نبع من تحت خف ناقته، وخروج القداح على الإبل لا على ولده- هي في الظاهر كرامات لـعبد المطلب ، إلا أنها في الحقيقة هي آيات النبوة المحمدية وتباشيرها] في الظاهر هي كرامات لـعبد المطلب ، وفي باطن الأمر هي آيات النبوة المحمدية وتباشيرها.

[رابعاً: مواصلة ضرب القداح -حتى بلغت مائة- كانت مبدأ تقرير دية الرجل وهي مائة من الإبل، وأقرها الإسلام فكانت دية الرجل المؤمن، والمرأة على النصف منها].

والآن [الحمل والميلاد: لقد تزوج عبد الله آمنة ؛ زوجه بها والده عبد المطلب على إثر نجاته من الذبح] ما إن نجح الولد وفاز ونجاه الله زوجه عبد المطلب [وفاء بالنذر، وبنى بها عبد الله ، وحملت منه بالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وواكبت حمله ووضعه آياتُ نبوته التالية].

قال: [أولاً: إنه ولد صلى الله عليه وسلم من نكاح شرعي لا من سفاح جاهلي، وهي عصمة إلهية، لا يقدر عليها إلا الله] وأزيدكم: من عبد الله إلى عدنان كل نكاح تم كان نكاحاً شرعياً بأركانه. إنها عصمة الله! كيف أن أكثر من ألف سنة -عشرة قرون أو أكثر- والتزوج ماض -هذا يتزوج وهذا يطلق وهذا يموت- وتلك النطفة طاهرة شرعية، لا سفاح أبداً ولا زنا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أنا خيار من خيار من خيار من خيار ).

[ثانياً: إن أمه آمنة لم تجد أثناء حملها به صلى الله عليه وسلم ما تجده الحوامل عادة] من الأتعاب وما يسمى بألم الوحم [من الوهن والضعف، فكان هذا آية] آية النبوة المحمدية.

[ثالثاً: إن آمنة لما حملت به صلى الله عليه وسلم ولما وضعته رأت نوراً خرج منها فأضاء لها قصور الشام، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن نفسه قال: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام)] ومع هذا يشكون في نبوته صلى الله عليه وسلم!!

[رابعاً: إن آمنة لما حملت به صلى الله عليه وسلم أتاها آت] هتف بها هاتف في منامها [إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وضع في الأرض] يعني إذا سقط من بطنك [فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد] يا ليت النساء يعرفن هذا! والواحد هو الله الأحد. كان هذا أيام الجاهلية والشرك [وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بُصرى من أرض الشام؛ فإذاً فسميه محمداً، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض] نعم.

واسمه أيضاً في الإنجيل أحمد، قال الله عز وجل: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].

[خامساً: إنه ولد صلى الله عليه وسلم مسروراً، أي: مقطوع السرة على خلاف المواليد في قطع القوابل سِرارهم المتصلة بأمهاتهم] لأن الحبل المتصل من الجنين بالوالدة هو آلة الغذاء التي يتغذى عن طريقها الجنين، والقابلة أو المولدة هي التي تقطع هذا الحبل، فالرسول صلى الله عليه وسلم ولد مسروراً؛ ليفارق العالم في هذه الكمالات.

[سادساً: إنه ولد صلى الله عليه وسلم مختوناً، أي مقطوع غلفة الذكر، فلم يختن كما يُخَتَّن المواليد، ولهذا أُعجب به جده عبد المطلب ، وقال: سيكون لابني هذا شأن عظيم، وحَظيَ عنده بأكرم منزلة] تعجب عبد المطلب كيف أنه ولد مختوناً!

[سابعاً] أي من الآيات- [انكسار البرمة] والبرمة يعرفها الأولون، هي إناء كبير من حجارة أو صخور أو طين [التي وضعت عليه بعد ولادته] عادة يضعونه على برمة عندما يولد [على عادة النساء من قريش؛ إذ وجدت منكسرة على شقين، ولم يَبِت تحتها صلى الله عليه وسلم، فكانت آية نبوته صلى الله عليه وسلم] على خلاف العادات في الحمل والوضع.

[ثامناً: ارتجاج إيوان كسرى فارس، وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته] ماج واضطرب كالزلزال وسقط منه أربع عشرة شرفة، ساعة أن ولد الرسول صلى الله عليه وسلم.

[تاسعاً: خمود نار فارس التي لم تَخمُد منذ ألف سنة] ألف سنة والنار مشتعلة والمجوس يعبدونها، ثم انطفأت في تلك الليلة، واندهش الناس ما هو السبب، إنها آية من آيات النبوة المحمدية: خمود نار فارس التي لم تَخمُد منذ ألف سنة، وقد عرفتم أن سلمان رضي الله عنه كان والده القيم على تلك النار.

[عاشراً: امتلاء البيت -الذي ولد به- نوراً، ورؤية النجوم وهي تدنو منه حتى لتكاد تقع عليه صلى الله عليه وسلم، رأت هذا أمه والقابلة التي كانت معها وحدثتا به، وهو حق لا باطل، وصدق لا كذب] امتلأ البيت نوراً، وإذا بالنجوم تكاد أن تدخل البيت، وأمه آمنة تشاهد والقابلة معها وحدثتا بذلك.

[فهذه عشر آيات واكبت ميلاده صلى الله عليه وسلم؛ إعلاناً عن نبوته، وإعلاماً بعلو شأنه، وإخباراً بما سيئول إليه أمره، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

ولد صلى الله عليه وسلم بدار المولد المعروفة، بدار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف ، وهي الآن مكتبة عامة] ودار المولد هذه أصبحت فيما بعد ملكاً لـمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف الزعيم المعروف عند الأمويين، وهي الآن مكتبة عامة؛ لأن الناس كانوا يأتونها ويزورونها، فحولها المسئولون إلى مكتبة عامة، وهذا أفضل، وخير من أن يعبد فيها غير الله.

[وكان ذلك] أي: الميلاد [عام الفيل كما تقدم، أي: بعد غزو أبرهة الأشرم وهزيمته بقرابة خمسين يوماً، فكانت تلك الهزيمة آية أخرى لمحمد صلى الله عليه وسلم دالة على صدق نبوته وصحة رسالته، وعظم شأنه في العالمين] وهو كذلك.

[ولد بعد وفاة والده عبد الله بكذا شهراً] ولد بعد وفاة والده عبد الله بأشهر لا سنة [إذ تركه حملاً في بطن أمه وسافر للتجارة في أرض غزة من فلسطين، حيث توفي جده هاشم ] وإلى الآن يوجد قبره فيما أذكر، وأهل غزة يعرفونه [إلا أن عبد الله عاد منها، فمرض في طريق عودته، فنزل عند أخواله من بني عدي بن النجار، فمات عندهم بالمدينة النبوية، وقبره] يمكن الآن نحن جالسون عليه، لأنه كان في المنطقة هذه قبل التوسعة، وكان جهال العرب يشركون به ربهم، فتجد الدعاء والصياح وغير ذلك .. والهيئة كانت تبعدهم، فيقولون: كيف يمنعوننا من زيارة والد الرسول! لأنهم يظنون أن التوسل بالأموات لا يغضب الله!! وكيف لا يغضب الجبار؟ أما كفانا؟! هل أحوجنا إلى غيرنا؟ لم نلتفت إلى غيره؟! هذا فيه إهانة لله عز وجل والعياذ بالله.

قال: [وقبره معروف المكان إلى عهد قريب حيث أخفي؛ لزيارة الجهال له والاستشفاع به، وحتى دعائه -والعياذ بالله- وهذا لغلبة الجهل على المسلمين؛ لقلة العلماء وقلة الرغبة في طلب العلم] وإلى الآن قرى في المملكة وفي الهند وفي غيرها -وفي كل مكان- لم يدخلها عالم، فكيف يتعلم المسلمون؟! قرى بكاملها ليس فيها عالم، كيف يعبدون الله؟ بالتقليد. فلهذا تطرأ عليهم الشركيات ولا حرج.

والآن [نتائج وعبر: إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها في الأرقام التالية:

أولاً: بيان شرف أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم وطهارتهما، وفي هذا ما يوجب إكباره صلى الله عليه وسلم ومحبته وتقديره]؛ لأنه من أبوين كريمين طاهرين.

[ثانياً: الآيات العشر -التي واكبت حمله وولادته- تقرر نبوته وسيادته على الناس أجمعين.

ثالثاً: في الآية الثالثة إشارة واضحة إلى عموم رسالته وانتشار دينه في الشرق والغرب] سقوط شرفات قصر كسرى في فارس علامة على أن هذا الدين يعم الأرض، وأنه عام للبشرية وليس خاصاً بالعرب.

[رابعاً: في الآية الثامنة -وهي سقوط أربع عشر شرفة من شرفات القصر- آية نبوته صلى الله عليه وسلم؛ إذ تداول ملكَ الفرس في خلال أربع سنوات عشر ملوك وملكات] في خلال أربع سنوات كان هناك عشرة ملوك في خلال لفارس-يملك الشخص ويقتل أو يموت- [عشرة ملوك وملِكات]؛ لأنهم كان فيهم الملِكات [وتم الأربعة الباقون في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين-].

والشرفات جمع شرفة وهي البلكونة، فالبلكونة مشرفة على الشارع، والذي يكون فيها يشرف على ما أمامه، والجمع شرفات، شرفة وشرفات، من الشَرف وهو العلو والارتفاع، وسميت الشرفة شرفة لعلوها وارتفاعها.

مداخلة: ..... .....

الشيخ: يقول السائل الكريم: لم سمي عبد المطلب بـشيبة الحمد ؟

لأنه شاب، وأصبح شيبة ومحمود من قريش كلها. ومحمود أي: مُثنى عليه مشكور معترف بزعامته في قريش، كالملك، فلهذا قالوا فيه شيبة الحمد ، وهناك شيبة الذم؛ الذي يدعو إلى العهر والباطل والشرك، وشيبة الحمد الذي يدعو إلى الخير والهدى والمعروف.

[رضاع الحبيب ومراضعه صلى الله عليه وآله

إن أول مرضع -تشرفت برضاعه صلى الله عليه وسلم- والدته الشريفة العفيفة الطيبة الأردان آمنة بنت وهب الزهرية التي رأت من آيات النبوة ما رأت] أول من أرضعه أمه [ثم ثويبة مولاة أبي لهب التي أرضعت عمه حمزة كذلك، فكان أخاً للنبي من الرضاعة] عمه وأخوه بفضل الله ثم ثويبة ، فقد أرضعت حمزة وأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم [وهو عمه صنو أبيه].

[ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية من بني سعد بن بكر] إذاً: كم مرضعة الآن؟ أمه، وثويبة وحليمة السعدية ، وهي معروفة عند العامة [رضع مع ابنتها الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى ، وقد رأت في إرضاعه صلى الله عليه وسلم آياتٍ، فلنتركها رضي الله عنها تحدثنا بنفسها عما شاهدت من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم] هذه حليمة السعدية المرضعة الثالثة لنبينا صلى الله عليه وسلم، رأت آيات وشاهدت علامات فلنتركها هي تحدثنا:

[إنها قالت: خرجت من بلدي مع زوجي وابنٍ صغير لنا نرضعه في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء] المرأة إذا كان لها حليب، وزوجها فقير -وإن كان كلهم فقراء- تأتي لترضع أولاد الشرفاء، وكان النساء يأتين إلى مكة ليرضعن أولاد الشرفاء والأغنياء بمقابل؛ للحاجة، وفي الإرضاع خير كبير، فهي تأنس بهذا الولد وتحبه، وقد يكون ولدها في المستقبل ولا ينساها.

فهنا حليمة تقول: خرجت من بلدي -من قريتها- مع زوجي وابنٍ صغير لنا نرضعه في نسوة من بني سعد نلتمس الرضعاء، أي: أولاداً نرضعهم، [وذلك في سنة شهباء] أي: قاحلة، سنة قحط وجدب ليس فيها نبات [لم تبقِ لنا شيئاً] من أموالنا لا إبل ولا غنم [خرجنا على أتان لنا] والأتان هي أنثى الحمار [قمراء] لونها كلون القمر [ومعنا شارف لنا] من النوق [والله ما تَبِض بقطرة] ليس فيها ولا قطرة حليب [وما ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا الذي معنا من الجوع] لا ينامون طوال الليل من بكاء هذا الصبي الذي حملوه معهم وهم يطلبون الرضعاء.

قالت: [إذ ما في ثديي ما يغنيه] ليس في ثديها ما يغني هذا الولد من الحليب [وما في شارفنا ما يغذيه، ولكننا كنا نرجو الغيث والفرج] الله أكبر! هذه موحدة! ترجو الغيث والفرج، من اللات أو العزى؟ لا. بل من الله.

قالت: [خرجنا نلتمس الرضعاء في مكة، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم] أولئك النسوة وعددهن كثير كلما عُرض النبي على واحدة منهم ويقال لها: إن هذا يتيم فهل ترضعينه؟ تقول: لا لا، لا ينفعني [وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أهل الصبي، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري] ما حصلت على ولد [فلما أجمعنا العودة إلى بلدنا، قلت لزوجي: والله! إني لأكره أن أرجع ولم آخذ رضيعاً، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فآخذه، فقال لي: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته] من ساقها؟ إنه الله.

[وما حملني على ذلك إلا أنني لم أجد غيره، فلما رجعت به إلى رحلي ووضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى رُوي وشربَ معه أخوه حتى روي، ثم نام، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل] ثديها مملوء باللبن [فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة، فلما أصبحنا قال لي زوجي: تعلمين -والله- يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة] والنسمة هي الروح أو الإنسان [قلت: والله، إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني] تعني حمارتها [وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي قلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب ، ويحك أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فقلت لهن: بلى والله إنها لهي هي، فقلن: والله إن لها لشأناً. ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي -حين قدمنا به معنا- شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرع راعي بنت أبي ذؤيب ، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعاً لبناً، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه -أي: سنتا الرضاعة- وفَصلتُه].

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم.