اللقاء الشهري [73] رقم1؛2


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإننا نشكر الله عز وجل على إنعامه وإفضاله حيث شرع مواسم الخيرات لعباده ليستكثروا من الخير، فمن قضى شهر الصيام حتى دخلت شهور حج بيت الله عز وجل، فإن أول شهور الحج شهر شوال، فالعباد ينتقلون من موسم إلى موسم، وما شرع الله الحج لأهل مكة وذبح الهدايا إلا وشرع لغيرهم من البلدان التقرب إليه بالأضاحي، فلله الحمد والمنة على هذه النعم.

أيها الإخوة: إن هذا اللقاء هو اللقاء الشهري الذي يتم في مساء السبت الثالث من كل شهر؛ نسأل الله أن ينفع به وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه.

اخترنا أن يكون بعد المغرب ليتسع الوقت للكلام والجواب على السؤال، نبدأ أولاً بالحج فنتكلم عن أهميته في دين الإسلام.

الحج هو في منزلة عالية من دين الإسلام؛ وذلك لأنه أحد أركانه التي بني عليها لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (بني الإسلام على خمس) أي: على خمس دعائم: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله هذه واحدة، وهي مفتاح العمل فلا يصح عمل إلا بها، حتى لو صام الإنسان وزكى وحج وصلى ولكن لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنه لا يقبل حجه ولا يقبل صومه، ولا تقبل صدقته ولا تقبل صلاته.

فإن قال قائل: أليس الإنسان يقول في الصلاة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ نقول: بلى يقول هذا، لكن أرأيت لو كان يقول هذا ولكنه يعبد الأموات أيكون صادقاً في هذه الشهادة؟ لا. إذاً لا تقبل منه الصلاة، وشهادته أن لا إله إلا الله شهادة كذب؛ لأن من شهد أن لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله، فلا يمكن أن يعبد أحداً سوى فاطر السماوات والأرض.

الركن الثاني: إقام الصلاة، أي: الإتيان بها مستقيمة حسب ما صلاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي قال لأمته: (صلوا كما رأيتموني أصلي).

الثالث: إيتاء الزكاة، أي: إعطاء المال الواجب في الأموال لمستحقيه، ولهذا نقول: إيتاء الزكاة حذف منها المفعول الثاني، والتقدير: إيتاء الزكاة مستحقها.

الرابع: صوم رمضان.

الخامس: حج بيت الله الحرام.

إذاً الحج في مرتبة عالية من هذا الدين الإسلامي؛ لأنه أحد أركانه ومبانيه العظام، وقد تأخر فرض الحج، فلم يفرضه الله عز وجل على عباده إلا متأخراً في السنة التاسعة أو العاشرة؛ وذلك لأن مكة كانت قبل ذلك تحت قبضة قريش يمنعون من شاءوا ويأذنون لمن شاءوا، ولهذا منع المشركون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد جاء معتمراً معه الهدي يلبي الله عز وجل، ولما أقبل على الحرم منعوه، في أي مكان؟ في الحديبية، قالوا: لا يمكن أن تدخل مكة فيتحدث الناس: أنا أخذنا ضغطاً، وجرى بينهم وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الصلح الذي ظاهره هضم المسلمين حقهم، ولكنه فتح كما سماه الله عز وجل، فقال في كتابه: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] المراد بالفتح هنا صلح الحديبية ، لذلك كان من حكمة الله عز وجل أن يتأخر فرض الحج إلى بيت الله إما في السنة التاسعة أو في السنة العاشرة.

فرض الحج وحج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد هجرته مرةً واحدة في الاتفاق، وجعل الله تعالى في هذه الحجة على كثرة ما فيها من الأفعال وكثرت ما فيها من الأقوال بركة عظيمة، تلقاها سلفنا الصالح (الصحابة رضي الله عنهم) ونقلوها إلينا -والحمد لله- محفوظة متقنة محررة من قبل جهابذة العلماء في الحديث، حتى كأنما نشاهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو لم يحج إلا مرة واحدة، ولكن بركة الله لا نهاية ولا حصر لها.

في السنة التاسعة أعلن أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حاج العام المقبل، فاجتمع المسلمون من جميع الجهات من الجزيرة العربية من أجل أن يشاهدوا حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقتدوا به وينقلوه إلى الأمة، فاجتمع خلق كثير كانوا من بين يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن خلفه وعن يمينه وشماله مد البصر، أمم عظيمة لتقتدي برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأتم به وتنقل حجه إلى أمته من بعدهم، وهكذا حصل.

خرج صلى الله عليه وسلم في الخامس والعشرين من ذي القعدة يوم السبت، ونزل في ذي الحليفة وأحرم منها وسار إلى مكة، ولما وصل البيت طاف طواف القدوم، وسعى سعي الحج والعمرة؛ لأنه كان قارناً وبقي على إحرامه، فلم يتحلل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه كان قد ساق الهدي، طاف بالبيت وبقي على إحرامه وأمر أصحابه أن يحلوا، ثم خرج ظاهر مكة ونزل الأبطح وكان قدومه يوم الأحد الرابع من شهر ذي الحجة وبقي هناك يصلي ركعتين ولم ينزل إلى المسجد الحرام لا لطواف ولا لصلاة.

وفي اليوم الثامن توجه صلوات الله وسلامه عليه بأصحابه إلى منى ، فنـزل هناك وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمع، ولما طلعت الشمس سار إلى عرفة ونزل بـنمرة وهي: قرية تقع جنوب غرب عرفة من أجل أن يستريح ويريح رواحلهم.

فلما زالت الشمس أمر أن ترحل ناقته، فرحلت وركبها ونزل في بطن الوادي وادي عرنة في المكان الذي بني فيه المسجد الآن، نزل هناك وأمر المؤذن فأذن للظهر، فصلى الظهر ركعتين، ثم العصر ركعتين، ثم خطب الناس خطبةً عظيمةً بليغةً تناولها أهل العلم بالشرح واستنباط الفوائد، ومن أحسن ما رأيت رسالة للشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله في شرح هذه الخطبة وهي مطبوعة ومنشورة، ويقال: إنه ما من أحد في عرفة إلا سمع الخطبة، أي: أن الله عز وجل سهل للمسلمين أن يسمعوا هذه الخطبة في أي مكان من عرفة.

ثم ارتحل ناقته إلى المكان الذي اختار أن يقف فيه، وهو عند جبل عرفات الذي يسمى: جبل الرحمة، وهي تسمية حادثة وإلا فاسمه إلال على وزن هلال أو جبل عرفة وهو معروف الآن، نزل هناك، لماذا نزل هناك؟

أظن والله أعلم أنه اختار النزول هناك ليكون خلف أصحابه؛ لأن من عادته في السير أن يكون آخر قومه ليتفقد المتخلف صلوات الله وسلامه عليه، وقف على بعيره يدعو الله عز وجل رافعاً يديه اليمنى واليسرى حتى إن خطام ناقته لما سقط أخذه بإحدى يديه وهو رافع الأخرى إلى أن غابت الشمس، ثم دفع متجهاً إلى مزدلفة ، وفي أثناء الطريق احتاج صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبول فخرج إلى الشعب عن يسار الذاهب إلى مزدلفة ، ونزل وبال وتوضأ، ولكنه توضأ وضوءاً خفيفاً ولم يسبغ، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أردف خلفه على ناقته أسامة بن زيد بن حارثة، فقال له أسامة: (الصلاة يا رسول الله! قال: الصلاة أمامك).

ثم ركب حتى أتى مزدلفة بعد دخول وقت العشاء فتوضأ فأسبغ وأمر فنودي للصلاة، ثم صلى المغرب والعشاء ثم بات هناك، ولما طلع الفجر أمر بالأذان للفجر ثم صلى الفجر في غلس مبكراً على خلاف العادة، وبعد ذلك ركب حتى أتى المشعر الحرام مكان المسجد اليوم، ووقف على بعيره يدعو الله ويستغفر الله حتى أسفر جداً، وكان يقول في عرفة : (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) وفي مزدلفة يقول: (وقفت هاهنا وجمع -يعني: مزدلفة- كلها موقف) كأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشير إلى أن يبقى كل أناس بمكانهم حتى لا يزدحموا على مكان مخصوص، والحكم واحد والأجر واحد.

ولما أسفر جداً سار من مزدلفة إلى منى وكانت منى في ذلك الوقت لها ثلاث طرق: طريق على اليمين، وطريق على اليسار، وطريق في الوسط، فسلك الطريق الوسطى؛ لأنها تخرج رأساً على جمرة العقبة، وهو يريد أن يبدأ قبل كل شيء برمي الجمرة، حتى أتى الجمرة ووقف وأمر عبد الله بن عباس أن يلقط الحصى -حصى الجمرات- فلقط سبع حصيات فقط فوق الحمص ودون البندق، وجعل يقلبها بين يديه ويقول: (بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين) رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

ومن المعلوم أنه لن يصل إلى الجمرة إلا بعد طلوع الشمس؛ لأنه وقف في مزدلفة حتى أسفر جداً، ثم سار على بعيره، فرمى الجمرات ثم نحر هديه، أهدى مائة بعير عليه الصلاة والسلام (مائة بعير عن سبعمائة شاة) نحر بيده الكريمة ثلاثاً وستين بعيراً، وأعطى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الباقي فينحر، ثم حلق رأسه وبدأ بالشق الأيمن وقسم الشعر على الناس.

فهو إلى الآن رمى ثم نحر ثم حلق وحل، تحلل صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نزل إلى مكة فطاف بالبيت وشرب من ماء زمزم وصلى الظهر هناك، ثم خرج إلى منى ، خرج إلى منى ووجد أناساً لم يصلوا، فصلى مرةً أخرى؛ لأنه ثبت أنه صلى في منى الظهر وصلى في مكة ، والجمع بينهما أن نقول: صلى في مكة ولما خرج وجد بعض أصحابه لم يصلوا فصلى بهم صلى الله عليه وسلم.

وبات في منى ليلة الحادية عشرة، ولما زالت الشمس من اليوم الحادي عشر ذهب ليرمي الجمرات قبل أن يصلي الظهر بعد الزوال وقبل الصلاة، رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات، ثم تقدم واستقبل القبلة ورفع يديه وجعل يدعو دعاءً طويلاً، ثم الوسطى بسبع حصيات، ثم تقدم واستقبل القبلة ورفع يديه وجعل يدعو دعاءً طويلاً، ثم جمرة العقبة ولم يقف، ثم عاد إلى رحله، وبات في منى ليلة الثاني عشر، وفي اليوم الثاني عشر فعل كما فعل في اليوم الحادي عشر، ثم بات في منى ليلة الثالث عشر، ورمى الجمرات في اليوم الثالث عشر كما رماها في اليوم الثاني عشر، ثم نزل إلى مكة وصلى الظهر في مكة -ظهر يوم الثالث عشر- وبات في مكان يقال له: المحصَّب لكثرة حصبائه، وفي آخر الليل أمر بالرحيل فارتحل الناس، وأتى البيت فطاف فيه طواف الوداع، ثم صلى صلاة الفجر، ثم غادر إلى مهاجره طيبة المدينة، فبقي في مكة عشرة أيام (من الرابع إلى الرابع عشر) ولهذا سئل أنس بن مالك : كم أقمتم في مكة؟ قال: أقمنا فيها عشراً.

هذه صفة حج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أتينا بها على وجه الإجمال ليكون ذلك أسهل وأقرب للفهم، ولكن لنا فيها وقفات.

كيفية إحرامه عليه الصلاة والسلام

أولاً: كيف أحرم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟

أحرم بأن اغتسل كغسل الجنابة أي: غسلاً كاملاً، وتطيب في لحيته وبدنه بطيب من أطيب ما يكون، وبطيب غادق (كثير) حتى كان يُرى وبيص المسك من مفارقه وهو محرم عليه الصلاة والسلام، ثم لبس الإزار والرداء ثم أحرم فقال: (لبيك حجة، وجاءه الملك قال له: قل عمرةً وحجاً، فقال: عمرةً وحجاً) فصار بذلك قارناً، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله وهو إمام أهل السنة وإمام أهل الحديث، قال: لا أشك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان قارناً والمتعة أحب إليَّ، وسيأتي معنى قوله رحمه الله: المتعة أحب إليَّ؛ لأن الرسول أمر به، فكان يقول: لبيك عمرةً وحجاً، هذه واحدة.

وقفة مع الطواف وبعض ما يتعلق به

الوقفة الثانية: لما أتى المسجد ماذا صنع؟

صنع عند دخول المسجد كما يصنع عند دخول المساجد الأخرى لعموم الأدلة بدون تفصيل، ثم اتجه إلى الكعبة -زادها الله شرفاً وعظمة- اتجه إليها فاستلم الركن أي: الحجر الأسود وقبله، وفي الأشواط الثلاثة الأولى كان يرمل أي: يسرع دون أن يمد الخطى، أي: يسرع والخطى على ما هي عليه متقاربة في الأشواط الثلاثة فقط، وفي الأربعة الباقية كان يمشي على عادته، لكن الاضطباع في جميع الطواف؛ والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه الأيسر، وهو سنة في الطواف فقط.

إذاً حصل أنه استلم الركن وقبله واضطبع في جميع طوافه، ورمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، وماذا يقول عند استلامه؟ كان يكبر، كلما استلم الركن قال: الله أكبر، وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

ولم ينقل ماذا يقول في بقية الأشواط، ولكن قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبـالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) وعلى هذا ففي طوافك ادع الله بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، اذكر الله، اقرأ القرآن، سبح؛ لأن المقام مقام ذكر الله عز وجل، وأما ما يوجد في الكتيبات هذه لكل شوط دعاء مخصوص فهذا بدعة لا تستعمله، وانصح من رأيته يستعمله، قل: يا أخي! ادع الله بما تحب، لا تقرأ شيئاً ربما لا تعرف معناه.

مسألة: إذا قال قائل: كيف يقبِّل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجراً؟ أيفعل ذلك تبركاً بالحجر أم ماذا؟ فالجواب: ليس تبركاً بالحجر، فالحجر لا ينفع ولا يضر، ولهذا لما طاف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبَّل الحجر، قال: [إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك] إذاً نحن نقبل الحجر تأسياً برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتعبداً لله عز وجل وتذللاً له حيث نقبل حجراً من الأحجار، ولولا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبله ما قبلناه، ولذلك لا نقبل الركن اليماني؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقبله، ولا نقبل الركنين الشامي والغربي، ولا نستلمهما أيضاً؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، فصارت أركان البيت ثلاثة أقسام:

الأول: ما يسن استلامه وتقبيله وهو الحجر الأسود.

والثاني: ما يسن استلامه دون تقبيله ودون الإشارة إليه وهو الركن اليماني.

والثالث: ما لا يسن تقبيله ولا استلامه وهما الركنان الشامي والغربي.

مسألة: فلو قال قائل: أرأيتم لو لم يتمكن من استلام الحجر ولا تقبيله ماذا يصنع؟

نقول: يشير إليه بيده ويقول: الله أكبر. أما الركن اليماني إذا لم يستطع استلامه فإنه لا يشير إليه؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والعبادات توقيفية، إن لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يحل لنا أن نتعبد إلى الله بها. انتهى الكلام على موقف الطواف.

الوقفة الثالثة: موقف ركعتين خلف المقام؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما انتهى من طوافه تقدم إلى مقام إبراهيم وقال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] وصلى ركعتين خلف المقام، هاتان الركعتان هل هما واجبتان أم هما سنة؟ وهل يتعين أن يكونا خلف المقام، أو يجوز أن يكونا في أي مكان من المسجد، أو إذا لم يمكن في المسجد فخارج المسجد؟

الجواب: اختلف العلماء في وجوب هاتين الركعتين.

فقال بعض العلماء بالوجوب، وقال بعض العلماء بالاستحباب، والأقرب: أنهما للاستحباب، أنهما مستحبتان لا واجبتان، ولا يشترط أن يكونا خلف المقام، بل لو كانا في أي مكان في المسجد كفى، بل لو كانا خارج المسجد كما لو كان المسجد ضيقاً وصلى في الساحات الخارجية فلا بأس، والسنة تخفيفهما، وأن يقرأ فيهما في الأولى: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد.

سعيه عليه الصلاة والسلام ونزوله بالأبطح والدفع إلى منى

الوقفة الرابعة: عند السعي، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] -أي: لما دنا قل أن يصعد- (أبدأ بما بدأ الله به) فبدأ بـالصفا.

صعد الصفا ، وماذا صنع حين صعوده؟ رفع يديه حين رأى البيت وكبر ثلاثاً، وقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) كرر هذا ثلاث مرات يدعو فيما بين المرة الأولى والثانية، وفيما بين المرة الثانية والثالثة، وبعد الثالثة نزل متجهاً إلى المروة، في أثناء السعي مر بالوادي، الوادي (مجرى السيل) وكان في ذلك الوقت بيناً واضحاً، بطن الوادي عادة يكون منخفضاً، فلما انخفض سعى سعياً شديداً أي: ركض حتى إن إزاره لتدور به من شدة السعي، ولما صعد الوادي مشى عادةً وفعل على المروة كما فعل على الصفا ، ولم يكرر الآية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] لأنها ليست من ذكر المسعى، إنما قالها حينما دنا من الصفا قبل أن يدخل في السعي.

مسألة: الوقوف عند السعي ليس بكثير؛ لأن ما لا شيء يستلم ولا يقبل ولا يشار إليه، إنما هو أشواط معروفة يبتدئها بـالصفا ويختمها بـالمروة.

ماذا صنع بعد السعي؟ أمر من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة ويحل، قالوا: (يا رسول الله! نحل وقد سمينا الحج -أي: لبينا بالحج كيف نجعلها عمرة؟- قال: افعلوا ما آمركم به) حتم عليهم وغضب حتى حل من لم يكن معه هدي، قالوا: (يا رسول الله! الحل كله؟ قال: الحل كله).

مسألة: وقفة بعد أن سعى قلنا: إنه نزل في الأبطح ظاهر مكة بقي فيه أربعة أيام من يوم الأحد إلى يوم الخميس، وهو في هذا المكان يقصر الصلاة، وربما جمع بين الصلاتين، هل البقاء في الأبطح من الأمور المشروعة، أو إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نزله من أجل الراحة؟

الجواب: الثاني، في ذلك الوقت لا يوجد بناء، الآن يوجد بناء ولا يمكن للمرء أن ينـزل إلا أن يستأجر من العمائر التي فيه، ومع ذلك لا نقول: إن من السنة أن يكون مكانك في مكة في هذه العمائر؛ لأن نزول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الأبطح أيسر له من أجل الدفع إلى منى.

مسألة: دفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى منى في اليوم الثامن، نقف هنا: هل البقاء في منى في اليوم التاسع هل هو واجب أو سنة؟

الجواب: هو سنة وليس بواجب، فلو دفع الإنسان من مكة إلى عرفة فلا حرج، لكن فاته أجر المبيت في منى، ولو لم يحرم في الحج إلا يوم عرفة وذهب إلى عرفة فلا حرج، الدليل: أن عروة بن مضرس رضي الله عنه أدرك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صباح يوم العيد في مزدلفة وصلى معه، وأخبره أنه أتعب ناقته وأتعب نفسه وما ترك جبلاً إلا وقف عنده، فهل له من حج؟ فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من شهد صلاتنا هذه -يعني: الفجر- ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بـعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) وعلى هذا فإذا ذهب الناس من أوطانهم ووصلوا إلى مكة يوم الثامن وخرجوا فوراً إلى منى دون أن يطوفوا بالبيت ويسعوا فلا حرج.

الوقوف بعرفات

مسألة: نقف على الوقوف بـعرفات، هل الذهاب إلى نمرة والمكث فيها إلى الزوال هل هو واجب أو سنة؟

الجواب: هو سنة وليس بواجب، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الحج عرفة) ونمرة ليست من عرفة .

مسألة: الوقوف بـعرفة إلى غروب الشمس، ولا يحل لأحد أن يخرج من حدود عرفة قبل غروب الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقف حتى غابت الشمس وقال: (خذوا عني مناسككم) ولو دفع الإنسان قبل غروب الشمس لشابه هدي المشركين دون هدي سيد المرسلين، وذلك لأن المشركين إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كالعمائم على رءوس الرجال دفعوا من عرفة، فخالفهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأخر حتى غابت الشمس.

مسألة: الناس في عرفة هل يستقبلون القبلة عند الدعاء، أو يستقبلون الجبل؟

الجواب: يستقبلون القبلة، الجبل ليس له حرمة في ذاته، ولهذا لا يشرع صعوده ولا التمسح به ولا الوقوف على رأسه، هو جبل عادي فالاتجاه عند الدعاء إلى القبلة، وهل يقف الإنسان قائماً، أو يدعو وهو جالس؟ نقول: يدعو وهو جالس، وإن رأى مللاً وقام ليستريح ودعا وهو قائم فلا حرج.

مسألة: وهل الأفضل أن يدعو وهو راكب في السيارة، أو أن يدعو في مكان خالٍ يناجي ربه فيه؟

الجواب: الثاني؛ لأنه إذا ركب الناس ربما يشوش بعضهم على بعض ويشتغل بعضهم ببعض، فإذا انحاز الإنسان إلى مكان خالٍ ودعا الله كان ذلك أخشع له، ولكن بماذا يدعو يا إخواني؟

الجواب: إن علم شيئاً من السنة في هذا فليدع به وإلا دعا بما أحب، ومن المعلوم أنه إذا طال الزمن في الدعاء فسيحصل الملل، ولكن الحمد لله الأمر واسع خذ كتاب الله العزيز واقرأ فيه بتدبر، وكلما مرت بك آية رحمة فاسأل، أو آية وعيد فتعوذ، أو آية تسبيح فسبح، وإذا تابعت القرآن على هذا الوجه لن تمل إلى أن تغرب الشمس.

وهنا أنبه إخواننا على تحري حدود عرفة ؛ لأن بعض الحجاج -الله يهدينا وإياهم- ينزلون قبل الوصول إلى عرفة ويبقون فيها، فإذا غابت الشمس انصرفوا، ألم تعلموا أن هؤلاء لا حج لهم؟ الجواب: بلى. لا حج لهم؛ لأنهم لم يقفوا بـعرفة ، نعم لو فرض أن عرفة كانت ضيقاً ونزلوا هناك خارج الحدود، فإذا زالت الشمس ذهبوا إلى عرفة وبقوا فيها إلى الغروب، أو ذهبوا إلى عرفة بعد العصر وبقوا إلى الغروب فهذا لا بأس به.

المبيت بمزدلفة

ننتقل إلى مزدلفة، إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير، فإذا وصل الناس إلى مزدلفة قبل دخول وقت العشاء فهل يصلون جمعاً، أو نقول: صلوا المغرب في وقتها والعشاء إذا دخل وقتها؟

بعض العلماء قال بالثاني: إذا وصلت إلى مزدلفة قبل دخول وقت العشاء فصل المغرب، ثم إذا دخل وقت العشاء فصل العشاء بأذان وإقامة، والمغرب بأذان وإقامة.

ولكني أقول: في الوقت الحاضر لا شك أن الأيسر على الحجاج أن يجمعوا بين المغرب والعشاء من حين أن يصلوا، وإذا كان كذلك فالأفضل فعل الأيسر، فليصلوا المغرب والعشاء من حين أن يصلوا ولو قبل دخول وقت العشاء؛ لأنه -كما تعلمون- يتعب الإنسان في الحصول على الماء، وربما إذا أبعد عن مكان إخوانه يضيع، فليصل المغرب والعشاء جمع تقديم وذلك أفضل؛ لأنه مسافر، والمسافر الأفضل له فعل الأيسر من الجمع وعدم الجمع.

من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقف حتى صلى الفجر، ووقف عند المشعر الحرام حتى أسفر جداً، فهل هذا واجب، أو يجوز أن يدفع الإنسان في آخر الليل؟

الجواب: هذا ليس بواجب، ولكنه أفضل لا سيما في الزحام الشديد، وقد أذن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للنساء والضعفة أن يدفعوا من مزدلفة قبل الفجر، وأن يرموا الجمرة إذا وصلوا ويصلوا الفجر في منى .

مسألة: إذا بقي الإنسان إلى الفجر وصلى الفجر وبقي للدعاء فهل نقول: اذهب إلى المشعر الحرام، أو يجوز أن تدعو الله في مكانك؟

الجواب: يجوز أن تدعو الله في مكانك؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف).

أعمال اليوم العاشر

في منى وقفات:

أولاً: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رمى جمرة العقبة أول ما وصل إلى منى ، أرأيتم لو أن الإنسان عدل إلى رحله، وأنزل متاعه، واستراح قليلاً، ثم ذهب للرمي أيجوز أو لا يجوز؟ الجواب: يجوز.

في منى يوم النحر يفعل الحاج خمسة أشياء:

أولاً: رمي جمرة العقبة.

والثاني: النحر.

والثالث: الحلق أو التقصير.

والرابع: الطواف.

والخامس: السعي، إن كان متمتعاً أو كان قارناً أو مفرداً ولم يكن سعى بعد طواف القدوم.

لو قدم هذه الأشياء بعضها على بعض فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يسأل في التقديم والتأخير في هذه الأشياء، فيقول: (لا حرج) ومن سأله عند تقديم الحلق على النحر قال: (لا حرج) ولم يقل: ولا تعد، فكونه يقول لا حرج دون أن يقول: ولا تعد يدل على أن الأمر واسع والحمد لله، وهذا من رحمة الله أن الحجاج رخص لهم، من الناس من يحب أن يبدأ بالطواف والسعي قبل كل شيء، ومنهم من يحب الرمي ثم الحلق حتى لا يجتمع الناس في مكان واحد، ولهذا تجد أمماً عظيمة يطوفون ويسعون، وتجد آخرين يرمون، وآخرين يذهبون إلى المنحر، كل هذا من التيسير اللهم لك الحمد.

إذاً لو قدر أنك لو ذهبت من مزدلفة إلى مكة وطفت وسعيت، ثم خرجت ورميت ونحرت وحلقت، ما الحكم؟

لا حرج، وهكذا لو أتيت إلى مكة للطواف والسعي ووجدت المطاف مزدحماً، ووجدت السعي أوسع فبدأت بالسعي؛ أيجوز أو لا يجوز؟

يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل عن هذه المسألة نفسها، فقيل له: (سعيت قبل أن أطوف؟ قال: لا حرج) فالأمر والحمد لله واسع.

الرمي وطواف الوداع

وقفة في الرمي: من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرم إلا بعد الزوال في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فهل يجوز الرمي قبل الزوال؟

لا يجوز؛ لأنه لو جاز الرمي قبل الزوال لرخص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للضعفة كما رخص لهم في يوم العيد أن يرموا قبل الفجر، والموجب قائم وهو الزحام، بل إنه في رمي الجمرات في أيام التشريق أشد إلحاحاً؛ لأن الجو حار، ومع ذلك لم يأذن لأحد أن يتقدم فيرمي قبل الزوال.

حتى في اليوم الثاني عشر وهو يوم التعجل لا يجوز لأحد أن يرمي قبل الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرم إلا بعد الزوال وقال: (خذوا عني مناسككم) ولكن لو أن الإنسان في اليوم الثاني عشر تعجل ولم متاعه، وحمله على السيارة ثم ذهب متجهاً إلى مكة على أنه سيرمي وينزل، فحدث زحام في الخطوط وزحام عند الجمرات، فهل ينتظر إلى الليل ثم يرمي ويمشي، أو نقول: انتظر إلى الليل وتبقى إلى اليوم الثالث؟ الجواب بالأول، ما دمت قد نويت التعجل وارتحلت وحبسك الزحام، فلا حرج أن تستمر في تعجلك ولو بعد غروب الشمس، حتى لو لم ترم إلى منتصف الليل، ثم امش ولا حرج؛ لأنه يصدق عليك أنك تعجلت في يومين لكن حبسك العذر.

في آخر شيء طواف الوداع، إذا انتهى الإنسان من الحج وأراد الرجوع إلى بلده؛ فإنه لا ينصرف حتى يطوف بالوداع، ويسقط الوداع عن المرأة الحائض والنفساء، أسأل الله تعالى أن يهيئ للمسلمين حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً.

أولاً: كيف أحرم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟

أحرم بأن اغتسل كغسل الجنابة أي: غسلاً كاملاً، وتطيب في لحيته وبدنه بطيب من أطيب ما يكون، وبطيب غادق (كثير) حتى كان يُرى وبيص المسك من مفارقه وهو محرم عليه الصلاة والسلام، ثم لبس الإزار والرداء ثم أحرم فقال: (لبيك حجة، وجاءه الملك قال له: قل عمرةً وحجاً، فقال: عمرةً وحجاً) فصار بذلك قارناً، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله وهو إمام أهل السنة وإمام أهل الحديث، قال: لا أشك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان قارناً والمتعة أحب إليَّ، وسيأتي معنى قوله رحمه الله: المتعة أحب إليَّ؛ لأن الرسول أمر به، فكان يقول: لبيك عمرةً وحجاً، هذه واحدة.

الوقفة الثانية: لما أتى المسجد ماذا صنع؟

صنع عند دخول المسجد كما يصنع عند دخول المساجد الأخرى لعموم الأدلة بدون تفصيل، ثم اتجه إلى الكعبة -زادها الله شرفاً وعظمة- اتجه إليها فاستلم الركن أي: الحجر الأسود وقبله، وفي الأشواط الثلاثة الأولى كان يرمل أي: يسرع دون أن يمد الخطى، أي: يسرع والخطى على ما هي عليه متقاربة في الأشواط الثلاثة فقط، وفي الأربعة الباقية كان يمشي على عادته، لكن الاضطباع في جميع الطواف؛ والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه الأيسر، وهو سنة في الطواف فقط.

إذاً حصل أنه استلم الركن وقبله واضطبع في جميع طوافه، ورمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، وماذا يقول عند استلامه؟ كان يكبر، كلما استلم الركن قال: الله أكبر، وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

ولم ينقل ماذا يقول في بقية الأشواط، ولكن قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما جعل الطواف بالبيت وبـالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) وعلى هذا ففي طوافك ادع الله بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، اذكر الله، اقرأ القرآن، سبح؛ لأن المقام مقام ذكر الله عز وجل، وأما ما يوجد في الكتيبات هذه لكل شوط دعاء مخصوص فهذا بدعة لا تستعمله، وانصح من رأيته يستعمله، قل: يا أخي! ادع الله بما تحب، لا تقرأ شيئاً ربما لا تعرف معناه.

مسألة: إذا قال قائل: كيف يقبِّل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجراً؟ أيفعل ذلك تبركاً بالحجر أم ماذا؟ فالجواب: ليس تبركاً بالحجر، فالحجر لا ينفع ولا يضر، ولهذا لما طاف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبَّل الحجر، قال: [إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك] إذاً نحن نقبل الحجر تأسياً برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتعبداً لله عز وجل وتذللاً له حيث نقبل حجراً من الأحجار، ولولا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبله ما قبلناه، ولذلك لا نقبل الركن اليماني؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقبله، ولا نقبل الركنين الشامي والغربي، ولا نستلمهما أيضاً؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، فصارت أركان البيت ثلاثة أقسام:

الأول: ما يسن استلامه وتقبيله وهو الحجر الأسود.

والثاني: ما يسن استلامه دون تقبيله ودون الإشارة إليه وهو الركن اليماني.

والثالث: ما لا يسن تقبيله ولا استلامه وهما الركنان الشامي والغربي.

مسألة: فلو قال قائل: أرأيتم لو لم يتمكن من استلام الحجر ولا تقبيله ماذا يصنع؟

نقول: يشير إليه بيده ويقول: الله أكبر. أما الركن اليماني إذا لم يستطع استلامه فإنه لا يشير إليه؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والعبادات توقيفية، إن لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يحل لنا أن نتعبد إلى الله بها. انتهى الكلام على موقف الطواف.

الوقفة الثالثة: موقف ركعتين خلف المقام؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما انتهى من طوافه تقدم إلى مقام إبراهيم وقال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] وصلى ركعتين خلف المقام، هاتان الركعتان هل هما واجبتان أم هما سنة؟ وهل يتعين أن يكونا خلف المقام، أو يجوز أن يكونا في أي مكان من المسجد، أو إذا لم يمكن في المسجد فخارج المسجد؟

الجواب: اختلف العلماء في وجوب هاتين الركعتين.

فقال بعض العلماء بالوجوب، وقال بعض العلماء بالاستحباب، والأقرب: أنهما للاستحباب، أنهما مستحبتان لا واجبتان، ولا يشترط أن يكونا خلف المقام، بل لو كانا في أي مكان في المسجد كفى، بل لو كانا خارج المسجد كما لو كان المسجد ضيقاً وصلى في الساحات الخارجية فلا بأس، والسنة تخفيفهما، وأن يقرأ فيهما في الأولى: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد.

الوقفة الرابعة: عند السعي، إن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] -أي: لما دنا قل أن يصعد- (أبدأ بما بدأ الله به) فبدأ بـالصفا.

صعد الصفا ، وماذا صنع حين صعوده؟ رفع يديه حين رأى البيت وكبر ثلاثاً، وقال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) كرر هذا ثلاث مرات يدعو فيما بين المرة الأولى والثانية، وفيما بين المرة الثانية والثالثة، وبعد الثالثة نزل متجهاً إلى المروة، في أثناء السعي مر بالوادي، الوادي (مجرى السيل) وكان في ذلك الوقت بيناً واضحاً، بطن الوادي عادة يكون منخفضاً، فلما انخفض سعى سعياً شديداً أي: ركض حتى إن إزاره لتدور به من شدة السعي، ولما صعد الوادي مشى عادةً وفعل على المروة كما فعل على الصفا ، ولم يكرر الآية: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] لأنها ليست من ذكر المسعى، إنما قالها حينما دنا من الصفا قبل أن يدخل في السعي.

مسألة: الوقوف عند السعي ليس بكثير؛ لأن ما لا شيء يستلم ولا يقبل ولا يشار إليه، إنما هو أشواط معروفة يبتدئها بـالصفا ويختمها بـالمروة.

ماذا صنع بعد السعي؟ أمر من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة ويحل، قالوا: (يا رسول الله! نحل وقد سمينا الحج -أي: لبينا بالحج كيف نجعلها عمرة؟- قال: افعلوا ما آمركم به) حتم عليهم وغضب حتى حل من لم يكن معه هدي، قالوا: (يا رسول الله! الحل كله؟ قال: الحل كله).

مسألة: وقفة بعد أن سعى قلنا: إنه نزل في الأبطح ظاهر مكة بقي فيه أربعة أيام من يوم الأحد إلى يوم الخميس، وهو في هذا المكان يقصر الصلاة، وربما جمع بين الصلاتين، هل البقاء في الأبطح من الأمور المشروعة، أو إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نزله من أجل الراحة؟

الجواب: الثاني، في ذلك الوقت لا يوجد بناء، الآن يوجد بناء ولا يمكن للمرء أن ينـزل إلا أن يستأجر من العمائر التي فيه، ومع ذلك لا نقول: إن من السنة أن يكون مكانك في مكة في هذه العمائر؛ لأن نزول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الأبطح أيسر له من أجل الدفع إلى منى.

مسألة: دفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى منى في اليوم الثامن، نقف هنا: هل البقاء في منى في اليوم التاسع هل هو واجب أو سنة؟

الجواب: هو سنة وليس بواجب، فلو دفع الإنسان من مكة إلى عرفة فلا حرج، لكن فاته أجر المبيت في منى، ولو لم يحرم في الحج إلا يوم عرفة وذهب إلى عرفة فلا حرج، الدليل: أن عروة بن مضرس رضي الله عنه أدرك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صباح يوم العيد في مزدلفة وصلى معه، وأخبره أنه أتعب ناقته وأتعب نفسه وما ترك جبلاً إلا وقف عنده، فهل له من حج؟ فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من شهد صلاتنا هذه -يعني: الفجر- ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بـعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) وعلى هذا فإذا ذهب الناس من أوطانهم ووصلوا إلى مكة يوم الثامن وخرجوا فوراً إلى منى دون أن يطوفوا بالبيت ويسعوا فلا حرج.