اللقاء الشهري [68]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الشهري الذي يتم في ليلة الأحد الثالث من كل شهر ما لم يوجد مانع، وهذا اللقاء هو الثامن والستون من اللقاءات الشهرية، وهذه الليلة هي ليلة الأحد السادس عشر من شهر جمادى الثانية عام (1420هـ).

وسوف نتكلم في هذا اللقاء عما بقي من آيات آخر سورة الفرقان.

وقد انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77] ولا حرج علينا أن نعيد ما قبلها لما فيه من الفائدة.

يقول الله تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً [الفرقان:75] (أولئك) أي: الذين اتصفوا بتلك الصفات السابقة من قوله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] إلى هذه الآية: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [الفرقان:75] والذي يجزيهم ذلك هو الله عز وجل، لكنه لم يسم للعلم به، والشيء المعلوم إذا لم يسم فلا حرج، أرأيتم قول الله عز وجل: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28] فإن الخالق هو الله، حذف لأنه معلوم.

إذاً: يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [الفرقان:75] الذي يجازي هو الله عز وجل، وحذف لأنه معلوم، لا أحد يمكن أن يدخل أحداً الجنة إلا الله عز وجل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن أهل الجنة إذا مروا على الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار واقتص لبعضهم من بعض الاقتصاص النهائي الذي يزيل الغل والحقد في الصدور، فإذا أتوا إلى باب الجنة وجدوه مغلقاً، يحتاجون إلى أن يشفع لهم أحد في فتحه، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم. هذا بعد أن وصلوا إلى الجنة فكيف إذا لم يصلوا إليها؟! لا يمكن الوصول إلى الجنة ولا يمكن جزاء الغرفة إلا من قبل الله عز وجل، وقولنا: الغرفة، المراد به الجنس، وإلا فهي أكثر من واحدة، كما قال تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37] غرفات: جمع غرفة، فالمراد بقوله: (الغرفة بما صبروا) المراد الغرفات وهي غرفات الجنات، كما قال عز وجل: لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الزمر:20].

وقوله عز وجل: بِمَا صَبَرُوا [الفرقان:75] الباء هنا للسببية، أي: بسبب صبرهم، و(ما) مصدرية؛ لأن ما بعدها يؤول بالمصدر، وتقدير الكلام بعد (ما) المصدرية: بصبرهم، أي: يجزون الغرفة بصبرهم، والصبر: الحبس، ومنه قول العرب: قتل فلانٌ صبراً أي: محبوساً مقيداً. والمراد بالصبر هنا الصبر على ثلاثة أمور:

الأول: الصبر على طاعة الله.

الثاني: الصبر عن معصية الله.

الثالث: الصبر على أقدار الله.

الصبر على الطاعة

فالصبر على طاعة الله: أن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة فيتمها ويتقنها ويجيدها. وهل يحتاج هذا إلى معاناة؟ الجواب: نعم يحتاج إلى معاناة، لا سيما مع ما شق في الطاعة، فإن الإنسان يجد معاناة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرباط من جملة أوصاف المرابطين: (وإسباغ الوضوء على المكاره) وفي رواية: (في السبرات) أي: أيام البرد؛ لأن أيام البرد يشق على الإنسان أن يتوضأ لبرودة الماء. كذلك الصلاة تحتاج إلى معاناة وصبر، وليس الصبر في الصلاة على مجرد الحركات البدنية، فالحركات البدنية قد تكون سهلة مثل: القيام والركوع والسجود، هذا قد يكون سهلاً، لكن هناك صبر شاق متعب، وهو صبر القلب على عدم الوساوس، على عدم السرحان يميناً وشمالاً، وأكثرنا -نسأل الله أن يعاملنا بعفوه- أكثرنا يصلي ولكن قلبه ليس مصلياً، قلبه يجول يميناً وشمالاً، فهل نقول: إن هذا صابر؟ لا، ما صبر، فاحبس القلب، اجعله يتدبر ما تقول ويتأمل ما تفعل، فإذا قرأت الفاتحة فاصبر نفسك على أنك تخاطب رب العالمين جل وعلا، وإذا قلت: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فالله يقول لك: حمدني عبدي، وإذا قلت: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] فالله يقول لك: أثنى عليَّ عبدي، إذا قلت: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فالله يقول: مجدني عبدي، وإذا قلت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فاصبر قلبك على أنك تستحضر هذا المعنى العظيم.

ثم اذكر قول الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق:16] يعلم الوسوسة والذي يوسوس به، وحينئذٍ يكون هذا عوناً على حضور القلب، والشيطان سوف يهجم عليك، وإذا صددت القلب عن الهواجس في هذا الشيء فتح لك باباً ليس له قيمة ولا ينفعك لا في دينك ولا دنياك، فإذا سددته فتح آخر، لم يكن يطرأ على بالك أبداً .. وهلم جرا. فاصبر قلبك واحبسه عن الهواجس، وأحضره معك في صلاتك. هذا صبر على الطاعة.

والإنسان في الحج يجد مشقةً عظيمة في الزحام .. في الطواف .. في السعي .. في رمي الجمرات .. في الطريق، فاصبر نفسك، لا تقل: ليتني ما حججت هذا العام. اصبر نفسك واحبسها على هذه المشقة. وهذا صبر على طاعة الله.

وفي الصيام في أيام الصيف النهار طويل، والجو حار، والبدن يحتاج إلى رطوبة، فتنشف الأعضاء ويتألم الإنسان، ولكن اصبر نفسك، لا تتأسف على صوم تطوع، ولا تمل من صوم واجب.

وكذلك طاعة الوالدين، قد يأمرك الوالد بما لا تريد، لكن ليس عليك فيه ضرر وله فيه مصلحة، فاصبر عليه وإن كنت لا تريده. والأمثلة على هذا كثيرة.

الصبر عن المعصية

والقسم الثاني: الصبر عن المعصية، بمعنى: أن نفسك إذا دعتك إلى معصية فامنعها، ذكرها بالله، خوفها من العقوبة، فلو دعتك نفسك إلى أن تشرب الخمر -والعياذ بالله- وامنعها، وبين لها ما فيه من الضرر. لو دعتك نفسك إلى الزنا بالعين أو بالأذن أو بالفرج فاصبر نفسك، وغض الطرف، وأعرض عن السماع، وحصن فرجك، وربما تجد من ذلك صعوبة لا سيما مع قوة الداعي وقلة المانع؛ فالداعي إلى الزنا في الوقت الحاضر قوي، فإذا نظرت إلى وسائل الإعلام وإلى الشيء الفاضح، سواء كانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة تجده قوياً جداً، كذلك أيضاً الداعي إلى هذا قوة الشباب، والفراغ، والأمن، والنعمة، كل هذه من أسباب تسهيل الزنا والعياذ بالله! وإذا نظرت إلى المانع فإذا هو ضعيف .. الإيمان ضعيف، والرادع السلطاني ضعيف، انظر إلى البلاد يمينك وشمالك تجد أن الرادع هش، لا يقيمون الحدود، وسمعنا والعهدة على الناقل: أن في بعض قوانينهم أنه إذا كان الزنا بين رجل وامرأة باختيارهما ولا زوج للمرأة فإنه لا عقوبة!! نعوذ بالله! هذا تعطيل لحدود الله. وإن كان لها زوج ورضي بذلك فلا عقوبة، وإن طالب فله حق!

وهذا القانون باطل، والإعراض عن حكم الله واتباع هذا قد يؤدي إلى الكفر المحض والعياذ بالله.

فإذا صبر الإنسان نفسه مع قوة الداعي وقلة المانع كان هذا من الصبر المحمود.

أيهما أشد كلفة على الإنسان: الصبر على الطاعة، أو عن المعصية؟

الأصل أن الصبر على الطاعة أشد؛ لأن فيه حمل الناس على الفعل، والفعل أهون من الترك، لكن قد يكون في بعض الناس الصبر عن المعصية أشق عليه، ولكلٍ درجات مما عملوا.

الصبر على أقدار الله

القسم الثالث: الصبر على أقدار الله .. وأقدار الله عز وجل هي ما يقدرها على العباد، وهي دائرة بين أمرين: بين الإحسان والعدل، كل ما يقدره الله على العبد من مصائب دائر بين أمرين: إما إحسان وإما عدل .. الإحسان: أن يقدر الله مصيبة على العبد ولا يعلم لها سبباً، هذه إحسان، وأما التي يعلم أن لها سبباً فهذا عدلٌ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].

وما منا أحد إلا يصاب، والمصيبة مصيبة الدين, ولهذا نقول في دعاء القنوت: اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا. الدنيا مهما كانت مصيبتها فهي هينة، غاية ما فيها الموت، والموت انتقال من أدنى إلى أعلى بالنسبة للمتقين، قال الله عز وجل: وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى [النساء:77] مصيبة الدنيا سهلة بالنسبة لمصيبة الدين، مصيبة الدين -والله- أعظم وأشد على العاقل، أما الدنيا فكما قلت لكم أولاً: الحال لا تدوم وكما قيل: دوام الحال من المحال. والثاني: أنها أنهى ما تكون أن توصل إلى الموت الذي لا بد منه.

والصبر على أقدار الله: ألا يتسخط الإنسان بقلبه ولا بلسانه ولا بجوارحه .. ألا يتسخط بقلبه بأن يسخط على الله عز وجل ويقول: كيف ابتلاني ولم يبتلِ فلاناً؟ يا أخي! من أنت؟ ألست عبداً لله؟! إذا كنت كذلك فالسيد يفعل بعبده ما شاء، ثم اعلم أنك لا تصاب بمصيبة وإن قلَّت إلا كُفَّر بها عنك سيئات أو رُفعت بها درجات، حتى جاء في الحديث: (إن الرجل ليطلب المفتاح من جيبه -يفتح الدار- ولا تقع عليه يده أول مرة يكتب له به أجر) لأنه يفزع، ويقول: لعله ضاع، أين وضعته؟ هذا الفزع يكتب له به أجر، إلى هذا الحد!!

حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الشوكة يشاكها يثاب عليها). أنت مأجور، فكيف تتسخط من قضاء الله وقدره والخير لك؟!

يقال: إن رابعة العدوية وهي من جملة العابدات أصيبت بمصيبة فقطعت أصبعها فلم تتأثر، فقيل لها في ذلك، قالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها. ما شاء الله!

أما التسخط باللسان: كأن يشكو الله عز وجل إلى الخلق، أو يقول: واويلاه! واثبوراه! وما أشبه ذلك.

وأما التسخط بالجوارح: فشق الجيوب، ولطم الخدود، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك، ويوجد أناس يفعلون هذا، وأعظمه وأقبحه وأشده: الانتحار والعياذ بالله! يوجد أناس إذا أصيبوا بالمصائب التي يعجزون عنها ذهبوا يقتلون أنفسهم، ولقد حكى لنا نبينا صلى الله عليه وسلم قصة رجل جُرح فلم يصبر، ففعل ما لا يجوز فعله، فأوجب الله له النار. والذي ينتحر تخلصاً من هذه المصيبة لن يتخلص، هو يظن أنه إذا مات استراح وليس كذلك، بل إذا مات فإنه معذب في نار جهنم بما قتل به نفسه خالداً مخلداً فيها أبداً.

ولهذا ننعى إخواننا الذين يذهبون إلى بلاد فلسطين المحتلة ويفجرون أنفسهم بين جمع اليهود، ويظنون بذلك أنهم يتقربون إلى الله، ولكن هذا لا يزيدهم إلا بعداً؛ لأنهم يقتلون أنفسهم والعياذ بالله! وقتل النفس من كبائر الذنوب، يُعذب في النار بما قتل به نفسه. ولكننا لا نقول لهؤلاء: إنهم من هذا الصنف؛ لأنهم مجتهدون، يظنون أن هذا خير، والمتأول نرجو الله له العفو، لكن هذا العمل محرم شرعاً وليس من الجهاد في سبيل الله، وهو أيضاً خلاف المعقول فإذا قدرنا أنه قتل نفسه كم يقتل من اليهود؟ أكبر شيء اجعله يقتل خمسين أو مائة، فتأخذ اليهود بالثأر وتقتل مئات، وتزداد تعصباً لما ترى من استحلال البلاد، لكن أكثر الناس لا ينظر إلى العواقب ولا ينظر إلى الأمور العميقة.

المهم يا إخواني: أن الصبر على أقدار الله مواضعه ثلاثة، وهي: القلب، واللسان، والجوارح، هذه أنواع الصبر، فقول الله عز وجل هنا: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [الفرقان:75] أي: بصبرهم، والصبر كما سمعتم ثلاثة أنواع. واعلم أن مما يسليك في المصائب أن تنظر إلى من حولك، هل من حولك قد أصيبوا أم لا؟ إنك لن ترى إلا مصاباً مثلك، أو أعلى منك، أو دونك، لكن لا يخلو أحد من مصيبة، إلا من قصر عمره فهلك قبل أن تناله المصائب، هذا إن قدر وجوده. فسلِّ نفسك بأقرانك وأصحابك، وقد كانت الخنساء ترثي أخاها صخراً وتقول:

ولولا كثرة الباكين حولي     على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكـن     أسلي النفس عنه بالتأسي

تفسير قوله تعالى: ((وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً)..)

خَالِدِينَ فِيهَا [الفرقان:76] خلوداً دائماً أبدياً، لا موت، ولا مرض، ولا نوم، ولا هم، ولا غم، ولا نصب، ولا تعب، حتى إن الرجل ليشتهي الثمرة على الغصن فيتدلى له الغصن حتى يأخذ الثمرة، قال الله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54] قال العلماء: إن الإنسان إذا اشتهى الثمرة انهزع الغصن بأمر الله عز وجل حتى يأخذ الثمرة بدون تعب. لا فيها غم ولا خوف، يقول الله تعالى لهم: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) هذا والله النعيم، رضوان الله أبدي لأهل الجنة. اللهم اجعلنا من أهل الجنة.

خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:76] يعني: ما أحسنها! وهذه الجملة تفيد التعجب، أي: ما أحسن مستقرهم! وما أحسن مقامهم! فهم في نعيم ومستقر آمنين .. : لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48].

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77] أي: لولا عبادتكم لم يعبأ الله بكم شيئاً ولأهلككم، ولولا دعاؤكم لأهلككم .. وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45].

فَقَدْ كَذَّبْتُمْ والخطاب للكفار .. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً [الفرقان:77] أي: سوف يكون العذاب لزاماً لكم لأنكم التزمتم الكفر في حياتكم فلزمكم العذاب بعد مماتكم.

اللهم نجنا من النار، اللهم نجنا من النار، اللهم نجنا من النار، وأسكنا دار القرار. وإلى هنا ينتهي الكلام على الآيات الأخيرة من هذه السورة.

أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن تدبر كلامه وعمل به وصار قائده إلى جنات النعيم، إنه على كل شيء قدير.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

فالصبر على طاعة الله: أن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة فيتمها ويتقنها ويجيدها. وهل يحتاج هذا إلى معاناة؟ الجواب: نعم يحتاج إلى معاناة، لا سيما مع ما شق في الطاعة، فإن الإنسان يجد معاناة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرباط من جملة أوصاف المرابطين: (وإسباغ الوضوء على المكاره) وفي رواية: (في السبرات) أي: أيام البرد؛ لأن أيام البرد يشق على الإنسان أن يتوضأ لبرودة الماء. كذلك الصلاة تحتاج إلى معاناة وصبر، وليس الصبر في الصلاة على مجرد الحركات البدنية، فالحركات البدنية قد تكون سهلة مثل: القيام والركوع والسجود، هذا قد يكون سهلاً، لكن هناك صبر شاق متعب، وهو صبر القلب على عدم الوساوس، على عدم السرحان يميناً وشمالاً، وأكثرنا -نسأل الله أن يعاملنا بعفوه- أكثرنا يصلي ولكن قلبه ليس مصلياً، قلبه يجول يميناً وشمالاً، فهل نقول: إن هذا صابر؟ لا، ما صبر، فاحبس القلب، اجعله يتدبر ما تقول ويتأمل ما تفعل، فإذا قرأت الفاتحة فاصبر نفسك على أنك تخاطب رب العالمين جل وعلا، وإذا قلت: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فالله يقول لك: حمدني عبدي، وإذا قلت: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] فالله يقول لك: أثنى عليَّ عبدي، إذا قلت: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] فالله يقول: مجدني عبدي، وإذا قلت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فاصبر قلبك على أنك تستحضر هذا المعنى العظيم.

ثم اذكر قول الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق:16] يعلم الوسوسة والذي يوسوس به، وحينئذٍ يكون هذا عوناً على حضور القلب، والشيطان سوف يهجم عليك، وإذا صددت القلب عن الهواجس في هذا الشيء فتح لك باباً ليس له قيمة ولا ينفعك لا في دينك ولا دنياك، فإذا سددته فتح آخر، لم يكن يطرأ على بالك أبداً .. وهلم جرا. فاصبر قلبك واحبسه عن الهواجس، وأحضره معك في صلاتك. هذا صبر على الطاعة.

والإنسان في الحج يجد مشقةً عظيمة في الزحام .. في الطواف .. في السعي .. في رمي الجمرات .. في الطريق، فاصبر نفسك، لا تقل: ليتني ما حججت هذا العام. اصبر نفسك واحبسها على هذه المشقة. وهذا صبر على طاعة الله.

وفي الصيام في أيام الصيف النهار طويل، والجو حار، والبدن يحتاج إلى رطوبة، فتنشف الأعضاء ويتألم الإنسان، ولكن اصبر نفسك، لا تتأسف على صوم تطوع، ولا تمل من صوم واجب.

وكذلك طاعة الوالدين، قد يأمرك الوالد بما لا تريد، لكن ليس عليك فيه ضرر وله فيه مصلحة، فاصبر عليه وإن كنت لا تريده. والأمثلة على هذا كثيرة.