اللقاء الشهري [45]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الأول من اللقاءات الشهرية التي تتم في الجامع الكبير بـعنيزة ليلة الأحد الثالث من كل شهر، وهذا هو الشهر الأول من عام (1418هـ).

أيها الإخوة! إننا حين نتأمل ونتفكر في الليالي والأيام والساعات واللحظات نجد أنها تمر مراً سريعاً كأنما تخطف من بين أيدينا، ولكننا مع ذلك لا نحاسب أنفسنا ماذا عملنا في هذه الأيام التي تمضي بهذه السرعة، هل منا من يحاسب نفسه كل يوم: ماذا عمل؟ ماذا فعل من طاعة الله؟ ماذا تجنب من محارم الله حتى يصلح ما فسد، ويزيد على ما بنى؟ وذلك لأن الإنسان يقطع هذه الدنيا مرحلة مرحلة، ساعة بعد ساعة، بل لحظة بعد لحظة وإذا به قد انتهى مساره، وانقطعت أخباره، وكما قال الشاعر:

بينا يُرى الإنسان فيها مخبراً     حتى يُرى خبراً من الأخبار

ولكن المؤمن إذا فكر في نفسه وفي خلوته ازداد حماساً وقوة في طاعة الله تبارك وتعالى، أسأل الله أن يرزقني وإياكم اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات.

معنى: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) ودلائل القسم بهما

موضوعنا الليلة أن نتكلم عما سمعنا بل على ما تلوته وسمعتموه من قول الله تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ [الطارق:1-2] إلى آخره.

فقوله جل وعلا: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1] الواو: للقسم، أقسم الله تعالى بالسماء وذلك لعظمها وارتفاعها وسعتها وقوتها، قال الله تعالى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً [النبأ:12]أي: قوية، وقال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] أي: بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47] فأقسم الله بالسماء لعظمها.

(والطارق) هل هو الذي يطرق أهله ليلاً أم الضيف الذي يطرق مضيفه ليلاً؟

الطارق قال الله تعالى فيه مفخماً إياه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ [الطارق:2] أي: أيُّ شيء أعلمك عن هذا الطارق؟ وما هو؟ وماذا يطرق؟ فبينه عز وجل، فبين الله عز وجل أنه: النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق:3] وهل هو نجم واحد أم المراد جنس النجم؟ الظاهر الثاني، أي: أن المراد جنس النجم، وليس نجماً واحداً معيناً؛ لأن كل نجم وإن دق فهو ثاقب، أي: يثقب الظلام بنوره، أحياناً يصل نور الكواكب إلى الأرض، ونحن شاهدنا ذلك، ويشاهده أهل البر الذين ليس عندهم إضاءة بالكهرباء فتجدهم يجدون نور الكواكب ساطعاً في الأرض لا سيما الكواكب المضيئة الكبيرة.

إذاً النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق:3] المراد به ماذا؟

هل هو نجم واحد معين أم كل النجوم؟

الجواب: المراد كل النجوم فهي ثاقبة تثقب الظلام بضيائها، وهي -أيضاً- ثاقبة تثقب الشياطين الذين يستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهان، كما قال الله تبارك وتعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر:18] يثقب الشيطان -يخرقه- حتى يحرقه.

هذه الشياطين التي تسترق السمع تنزل بما تسمع من السماء على الكهان، والكهان هم الذين يحدثون الناس بما يكون في المستقبل سواء كان عاماً أو خاصاً، فالكاهن يقول: سيحدث مثلاً في هذا العام المقبل كذا وكذا من البلاء والمصائب، أو يقول لشخص معين: يا فلان سينالك في هذا العام المقبل كذا وكذا.

فالكاهن إذاً: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل سواء كانت هذه المغيبات عامة أو خاصة.

تنزل الشياطين بما سمعت من السماء على الكهان فيأخذ الكاهن ما سمع ثم يضيف إليه كلمات أخرى، كما قال بعض السلف: يكذب معها مائة كذبة، فيتحدث الناس بهذا الخبر، ثم إذا وقع شيء مما أخبر به ادعى أنه يعلم الغيب، وقال: إنه يعلم ما سيكون، وسلب عقول الناس، ولقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أن من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) أي إنسان يأتي إلى كاهن ويقول: يا فلان أخبرني كيف سيكون مستقبلي؟ قال: مستقبلك طيب، أو قال: مستقبلك رديء، فإذا صدق فقد كفر بما أنزل على محمد، لماذا؟ لأن الله تعالى قال: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] فمن صدق أحداً بعلم الغيب فقد كذب هذه الآية، وتكذيب جزء من القرآن أو آية من القرآن أو حرف من القرآن كفر وردة عن الإسلام.

وإننا في هذا الزمن ابتلينا بمثل هؤلاء أو قريب منهم، وابتلي الناس -أيضاً- في الأوهام والتخيلات التي لا أصل لها، فتجد الواحد إذا أصيب بأدنى شيء ولو بضيق صدر طارئ يضيق صدره بحادث طارئ ثم يقول: إنه قد أصيب بجن أو سحر أو عين، ثم لا تزال هذه التخيلات في ذهنه حتى تنعقد، وتكون حقيقة أو قريبة من الحقيقة، ولهذا يجب علينا ألا نصدق هذه الأوهام وأن نعرض عنها، ومتى أعرضنا عنها فإنها ستزول بإذن الله، لأن جميع الوساوس الرديئة التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان، إذا امتثل الإنسان أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها، نجا منها.

ألم تعلموا أن الشيطان يأتي إلى الإنسان ويقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق الله؟! نسأل الله العافية! وحينئذ يجب أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي ويعرض ولا يلتفت.

أسباب التخيلات الشيطانية التي يقع فيها الناس

هذه التخيلات التي تقع لكثير من الناس سببها والله أعلم: أن كثيراً من الناس أعرض عن الأوراد الشرعية التي تحمي الإنسان من الشياطين مثل: آية الكرسي، فآية الكرسي إذا قرأها الإنسان في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، ولهذا ينبغي لنا أن نعلمها أطفالنا البنين والبنات، نحفظهم إياها ونقرؤهم إياها كلما حل الليل بظلامه ليكون ذلك حارساً لهم.

أنت لو استأجرت شخصاً يحرس أولادك في ليلة واحدة وأعطيته ألف ريال لسهل عليك، لكن حراسة الرب عز وجل لأولادك إذا قرءوا هذه الآية أعظم وأعظم: (من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح).

السبب الثاني: الفراغ، والفراغ قتال، وما أكثر الفراغ عندنا! الفراغ في شبابنا وفي فتياتنا وفي كبارنا، فراغ قاتل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) والإنسان إذا فرغ ولم يكن عنده عمل يحرك به جسمه، ويحرك به عقله، ويحرك به فكره توالت عليه الهموم، وجرب تجد، اشتغل في علم، في مال، في صنعة، فلن ترى هذه الوساوس، اترك الشغل تتوال عليك وتتوارد عليك الوساوس.

ومن الأسباب: ضعف التوكل على الله عز وجل، التوكل على الله عند كثير من الناس ضعيف، لا يعتمدون إلا على الأسباب المادية وينسون الرب عز وجل، ينسون الذي يقول للشيء كن فيكون، ويعتمدون على الأمور المادية.

الإنسان لو أصابه زكام -والزكام من أخف ما يكون من الأمراض- هل يوطن نفسه ويصبر ويعلق قلبه بالله وينتظر الفرج من الله والعافية من الله، ويقول: هذه الأذية التي حصلت لي هي أجر وتكفير سيئات، أم من حين أن يصاب يذهب إلى المستشفى؟ غالب الناس يفعلون الثاني، ولذلك لما ضعف التوكل عندهم صاروا يعتمدون على الأسباب المادية البحتة، لكن لو اعتمدوا على الله وقالوا: الجن أذل من أن يكونوا مسلطين على الإنس إلا أن الإنس إذا فرطوا في التحصن غلبتهم الجن، لكن إذا قاموا بالتحصن على الوجه المطلوب حماهم الله عز وجل.

ومن الأسباب أيضاً: أن الله عز وجل يري عباده أن هذه الدنيا ليست دار ترف ونعيم لا يمس الإنسان فيها نصب، بل لا بد من كدر .. لا بد من تنغيص، لا يمكن للدنيا أن تكون صفواً للإنسان من كل وجه؛ حتى أغنى الناس وأقواهم سلطة وأكثرهم جنوداً لا بد أن تنغص عليهم الحياة، حتى أعبد الناس لا بد أن تصيبه المصائب، لكن المؤمن وإن أصابته المصائب فهي خير له: (المؤمن إن أصابته الضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته السراء شكر فكان خيراً له) لكن غير المؤمن إذا أصابته الضراء تضجر وجزع، وربما يفعل الأفعال المحرمة أو يقول الأقوال المحرمة مع ما انطوى عليه قلبه من التسخط من قضاء الله، هذا غير المؤمن؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية) فتبرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هؤلاء.

شق الجيب من الحزن والتسخط وعدم الصبر.

ضرب الخد: لأنهم كانوا في الجاهلية إذا حزنوا من الشيء قام الواحد يضرب خده.

ودعا بدعوى الجاهلية: ما هي دعوى الجاهلية؟ الويل والثبور يقول: يا ويلاه .. يا ثبوراه .. كيف أصاب بهذه المصيبة؟ وما أشبه ذلك.

نعود إلى الآية الكريمة النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق:3] ما معنى الثاقب؟

الجواب: الثاقب الذي يثقب الظلام بضيائه وينفذ من أعلى ما يكون إلى الأرض، الثاقب: الذي يثقب الشياطين التي تستمع ما يكون في السماء.

المراد بالحافظ على كل نفس

قال تعالى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [الطارق:4] أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، فكل نفس عليها حافظ من الله، قال الله عز وجل: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] وقال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] قال العلماء: انظر إلى فضل الله، انظر إلى نعم الله يحفظ الإنسان حياً وميتاً وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام:61] في الحياة، وبعد الممات تقبضه الرسل (الملائكة الكرام) وهم لا يفرطون في هذه النفس التي توفوها، بل يحفظونها أتم حفظ، فالإنسان محفوظ حياً وميتاً: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [الطارق:4].

ومن الحفظة: الكرام الكاتبون، كما في سورة الانفطار: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] هؤلاء الحفظة الكاتبون يحفظون كل ما يصدر من الإنسان من قول أو فعل، قال الله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17] يعني: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] كل قول ما تلفظه إلا عندك رقيب عتيد، مراقب حاضر، الرقيب: هو المراقب، والعتيد: هو الحاضر الملازم. كم تكلمت من كلمات؟ لا تحصى، الإنسان لا يحصي ما تكلم به، كل كلمة فإنها مكتوبة، ومتى نطلع على ما كتب؟ قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14] يطلع عليه الإنسان يوم القيامة تاماً، أي قول كان.

دعوة إلى النظر في أصل الخلق

قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5] اللام في قوله: فَلْيَنْظُرِ [الطارق:5] لام الأمر، أمر الله أن ننظر مما خلقنا، وأجاب: خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:6-7] وهو ماء الرجل، فالإنسان مخلوق من ماء الرجل الذي يخرج من بين الصلب والترائب، أما كيف يخرج؟ فهذا إلى الله عز وجل، لكن نعلم ونؤمن بأن هذا الماء يخرج من بين الصلب والترائب.

ولقد توهم بعض العلماء وقالوا: المراد من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهذا خطأ؛ لأن الذي يخرج من الرجل غير الذي يخرج من المرأة، الذي يخرج من الرجل ماء دافق، وأما من المرأة فلا، والله تعالى إنما ذكر ماءً واحداً وهو ماء الرجل لأنه هو الماء الدافق، فتكوين الإنسان من ماء الرجل، لكن الله تعالى جعل لهذا الماء محلاً: فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المرسلات:21] هذا المحل هو رحم المرأة الذي فيه البويضات التي تحتضن ماء الرجل حتى يصبح جنيناً بإذن الله.

إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق:8] (إنه) أي: الرب عز وجل عَلَى رَجْعِهِ [الطارق:8 ] أي: على رجع الإنسان وذلك يوم القيامة لَقَادِرٌ [الطارق:8] لأن القادر على أول الخلق قادر على إعادته، كما قال الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27].

إذاً إِنَّهُ [الطارق:8] الضمير يعود على الله عَلَى رَجْعِهِ [الطارق:8] الضمير في رجعه يعود على الإنسان، أي: إن الله على رجع الإنسان لقادر، وتأمل قول الله تبارك وتعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:51-52] فيقال لهم: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:52-53] سبحان الله! صيحة واحدة يأمرهم الله بها أن يخرجوا من القبور أحياءً فيخرجون أحياء فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:53].

معنى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)

ثم قال عز وجل: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9] يعني: إن الله قادر على رجعه يوم تبلى السرائر وذلك يوم القيامة، والسرائر: جمع سريرة وهو ما يكنه الإنسان في نفسه، والإنسان يوم القيامة يختبر عن هذا، لا يختبر على الظاهر يختبر على الباطن، انتبهوا -بارك الله فيكم- فيوم القيامة الأساس والعمدة: الباطن .. السريرة، وفي الدنيا: الظاهر، فنحن نحكم على الناس في الدنيا بالظاهر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما أقضي بنحو ما أسمع) رأينا هذا الرجل يأتي المسجد ويتصدق ويصوم ويصلي، فنحكم عليه بأنه مسلم، وقد يكون في باطن أمره والعياذ بالله منافقاً، لأن الله تعالى قال في المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] وهو منافق، أعاذني الله وإياكم من النفاق.

المدار يوم القيامة ليس على الأعمال الظاهرة، المدار على ما في القلوب: يَوْمَ تُبْلَى [الطارق:9] أي: تختبر السَّرَائِرُ [الطارق:9] جمع سريرة، وهو ما يسره الإنسان في نفسه، ومثل هذا قوله تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10].

ثم قال عز وجل: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:10] فيوم القيامة لا ينتصر الإنسان لنفسه لأنه ليس عنده قوة، ولا بغيره لأنه ليس له ناصر، ويوم القيامة لا ينفع إلا العمل الصالح، لا أب ولا أم ولا أخ ولا ابن ولا حارس في الدنيا ولا جندي، ولا أي أحد، لا أحد ينصره، ليس له قوة بنفسه ولا قوة بغيره، لأنه ما له قوة ولا ناصر.

القسم بالسماء والأرض على أن القرآن قول فصل

ثم قال عز وجل: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق:11-12] الواو هنا للقسم مثل ما قال في أول السورة: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1] أقسم الله بالسماء مرة ثانية ووصفها بأنها ذات رجع أي: ذات مطر، لأن المطر ترجع به الأرض حية بعد موتها، فالسماء تنزل منها الأمطار وترجع به الأرض حية بعد أن كانت ميتة.

وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [الطارق:12] الأرض ذات الصدع: أي صاحبة الصدع، والصدع هو التشقق؛ لأن الأرض إذا نزل عليها المطر تشققت بالنبات، مطر ينزل وأرض تخرج (تتشقق).

وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق:12-13] إنه: أي القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق:13] أي: يفصل بين الحق والباطل، وبين المؤمن والكافر، وبين المقاتلين المسلمين وأعدائهم، فإنه فصل يفصل وليس فيه هزل ولا فيه تهكم، هو ليس بالهزل بل إنه قول فصل، ولهذا قال: وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:14] خلافاً للكفار الذين قالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال:31].

كيد الكافرين وكيد الله

ثم قال تعالى: إِنَّهُمْ [الطارق:15] أي: الكفار يَكِيدُونَ كَيْداً [الطارق:15] أي: يكيدون كيداً عظيماً، والكيد: هو أن يتوصل الإنسان إلى الإضرار بخصمه على وجه خفي، ومثله المكر والخداع، فكفار قريش كادوا كيداً عظيماً للرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أعظم كيدهم له ما ذكره الله عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30] ثلاثة آراء: لِيُثْبِتُوكَ [الأنفال:30] يعني: ليحبسوك حتى تبقى ثابتاً في الحبس لا تستطيع أن تخرج أَوْ يَقْتُلُوكَ [الأنفال:30] أي: الإعدام أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30]فقال الله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

وهنا قال: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق:15-16] يعني: أنا أكيد كيداً، وتأمل لما ذكر كيدهم ذكره بالجمع إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ [الطارق:15] ولما ذكر كيده هو عز وجل ذكره بالإفراد ولم يقل: ونكيد كيداً، فكيد الله تعالى وهو واحد عز وجل يغلب كيد جميع من كادوا.

وفي قوله: يَكِيدُونَ كَيْداً [الطارق:15] تعظيم لكيدهم لأنه جاء بصفة النكرة أي: يكيدون كيداً عظيماً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق:16] كذلك تعظيم كيده سبحانه، يعني: وأكيد كيداً أعظم من كيدهم، وهذا هو الذي حصل، كاد الله لنبيه عليه الصلاة والسلام حتى خرج من مكة سالماً وعاد إليها فاتحاً بعد سُنّّيات قليلة.

معنى إمهال الكافرين

ثم قال: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:17] مهلهم يعني: أخرهم، انتظر فالعذاب واقع بهم لا محالة.

وقوله: أَمْهِلْهُمْ [الطارق:17] ليس معناه: أمهلهم أنا.. بل مهلهم أمهل، قال العلماء: الجملة الثانية توكيد للأولى لكن اختلف التعبير، فالمعنى: مهل الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:17] أي: قليلاً فسوف يجدون مكرهم وكيدهم، وهذا هو الذي وقع، ألم تعلموا أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج من مكة مهاجراً خائفاً مختفياً، وبعد ثمان سنوات رجع ظافراً منصوراً غالباً حتى إنه وقف على باب الكعبة بعد أن تم الفتح وقريش تحته تنتظر ماذا يفعل فقال: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. قال: أقول كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء) فكانت العاقبة -ولله الحمد- للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهكذا كل إنسان يقوم بأمر الله فإن العاقبة ستكون له، ولكن لينتظر حتى يلحق بدرجة الصابرين والعاقبة للمتقين.

أسأل الله أن يرزقني وإياكم فهماً في كتابه وعملاً به إنه على كل شيء قدير، والآن إلى دور الأسئلة نسأل الله أن يوفقنا للصواب.

موضوعنا الليلة أن نتكلم عما سمعنا بل على ما تلوته وسمعتموه من قول الله تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ [الطارق:1-2] إلى آخره.

فقوله جل وعلا: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق:1] الواو: للقسم، أقسم الله تعالى بالسماء وذلك لعظمها وارتفاعها وسعتها وقوتها، قال الله تعالى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً [النبأ:12]أي: قوية، وقال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47] أي: بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47] فأقسم الله بالسماء لعظمها.

(والطارق) هل هو الذي يطرق أهله ليلاً أم الضيف الذي يطرق مضيفه ليلاً؟

الطارق قال الله تعالى فيه مفخماً إياه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ [الطارق:2] أي: أيُّ شيء أعلمك عن هذا الطارق؟ وما هو؟ وماذا يطرق؟ فبينه عز وجل، فبين الله عز وجل أنه: النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق:3] وهل هو نجم واحد أم المراد جنس النجم؟ الظاهر الثاني، أي: أن المراد جنس النجم، وليس نجماً واحداً معيناً؛ لأن كل نجم وإن دق فهو ثاقب، أي: يثقب الظلام بنوره، أحياناً يصل نور الكواكب إلى الأرض، ونحن شاهدنا ذلك، ويشاهده أهل البر الذين ليس عندهم إضاءة بالكهرباء فتجدهم يجدون نور الكواكب ساطعاً في الأرض لا سيما الكواكب المضيئة الكبيرة.

إذاً النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق:3] المراد به ماذا؟

هل هو نجم واحد معين أم كل النجوم؟

الجواب: المراد كل النجوم فهي ثاقبة تثقب الظلام بضيائها، وهي -أيضاً- ثاقبة تثقب الشياطين الذين يستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهان، كما قال الله تبارك وتعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر:18] يثقب الشيطان -يخرقه- حتى يحرقه.

هذه الشياطين التي تسترق السمع تنزل بما تسمع من السماء على الكهان، والكهان هم الذين يحدثون الناس بما يكون في المستقبل سواء كان عاماً أو خاصاً، فالكاهن يقول: سيحدث مثلاً في هذا العام المقبل كذا وكذا من البلاء والمصائب، أو يقول لشخص معين: يا فلان سينالك في هذا العام المقبل كذا وكذا.

فالكاهن إذاً: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل سواء كانت هذه المغيبات عامة أو خاصة.

تنزل الشياطين بما سمعت من السماء على الكهان فيأخذ الكاهن ما سمع ثم يضيف إليه كلمات أخرى، كما قال بعض السلف: يكذب معها مائة كذبة، فيتحدث الناس بهذا الخبر، ثم إذا وقع شيء مما أخبر به ادعى أنه يعلم الغيب، وقال: إنه يعلم ما سيكون، وسلب عقول الناس، ولقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أن من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) أي إنسان يأتي إلى كاهن ويقول: يا فلان أخبرني كيف سيكون مستقبلي؟ قال: مستقبلك طيب، أو قال: مستقبلك رديء، فإذا صدق فقد كفر بما أنزل على محمد، لماذا؟ لأن الله تعالى قال: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] فمن صدق أحداً بعلم الغيب فقد كذب هذه الآية، وتكذيب جزء من القرآن أو آية من القرآن أو حرف من القرآن كفر وردة عن الإسلام.

وإننا في هذا الزمن ابتلينا بمثل هؤلاء أو قريب منهم، وابتلي الناس -أيضاً- في الأوهام والتخيلات التي لا أصل لها، فتجد الواحد إذا أصيب بأدنى شيء ولو بضيق صدر طارئ يضيق صدره بحادث طارئ ثم يقول: إنه قد أصيب بجن أو سحر أو عين، ثم لا تزال هذه التخيلات في ذهنه حتى تنعقد، وتكون حقيقة أو قريبة من الحقيقة، ولهذا يجب علينا ألا نصدق هذه الأوهام وأن نعرض عنها، ومتى أعرضنا عنها فإنها ستزول بإذن الله، لأن جميع الوساوس الرديئة التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان، إذا امتثل الإنسان أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها، نجا منها.

ألم تعلموا أن الشيطان يأتي إلى الإنسان ويقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق الله؟! نسأل الله العافية! وحينئذ يجب أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي ويعرض ولا يلتفت.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
اللقاء الشهري [24] 3292 استماع
اللقاء الشهري [34] 3026 استماع
اللقاء الشهري [41]رقم2 3002 استماع
اللقاء الشهري [25] 2941 استماع
اللقاء الشهري [29] 2937 استماع
اللقاء الشهري [58] 2837 استماع
اللقاء الشهري [33] 2805 استماع
اللقاء الشهري [60] 2786 استماع
اللقاء الشهري [7]1،2 2672 استماع
اللقاء الشهري [50] 2646 استماع