اللقاء الشهري [40]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الأربعون من اللقاءات الشهرية التي تتم ليلة الأحد الثالث من كل شهر، وهذه الليلة ليلة الأحد الحادي والعشرين من شهر رجب عام (1417هـ)، أحمد الله سبحانه وتعالى أن يسر مثل هذه اللقاءات، وأسأله تبارك وتعالى أن يثيبنا جميعاً، وأبشر الإخوة الذين يحضرون إلى هذه اللقاءات أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وأن مجالس الذكر هي رياض الجنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر).

إنني أحمد الله سبحانه وتعالى على تيسير مثل هذه اللقاءات، وأسأله تعالى أن يجعلها لقاءات نافعة مباركة.

لدينا اليوم موضوع وهو أننا الآن في شهر رجب، وشهر رجب هو أحد الأشهر الأربعة الحرم، والأشهر الأربعة الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. كما قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] وقد ورد في هذا الشهر صلوات وصيام وأذكار لكنها كلها ضعيفة، لا تثبت بها حجة، ولا تُثبت بها سنة، وإذا ثبت ذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يقول: هذا شهر محرم، سأزيد فيه من صلاتي، أو أزيد فيه من ذكري، أو أزيد فيه من صيامي، أو ما أشبه ذلك، لماذا لا يجوز؟

لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أدرك هذا الشهر، فهل زاد فيه على غيره؟ لا، إذا لم يزد فيه على غيره فليس من حقنا أن نقول: إنه شهر محرم نزيد فيه على غيره؛ لأننا نحن متبعون ولسنا مبتدعين، ولو أن الإنسان فيما يتقرب به إلى الله اتبع ذوقه أو اتبع رأيه لأصبح بلا دين؛ لأنه إنما يتبع هواه، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].

إذاً.. علينا ألا نخص شهر رجب إلا بما خصه الله به ورسوله، أنه شهر محرم يتأكد فيه اجتناب المحرمات، وأنه لا يحل فيه القتال مع الكفار فإنه شهر محرم، والأشهر الحرم لا قتال فيها إلا إذا بدءونا بالقتال أو إذا كان ذلك سلسلةً قتالية امتدت إلى الشهر المحرم.

كذلك أيضاً نحن الآن في النصف الأخير من شهر رجب، مقبلون على شهر شعبان فهل لشهر شعبان مزية على غيره؟ الجواب: نعم، له مزية على غيره في الصيام فقط، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يكثر من صيامه حتى كان يصومه كله إلا قليلاً منه، فإكثار الصيام في شعبان من السنة أما في رجب فلا.

هناك بدعة تحدث على مستوىً عالمي في شهر رجب، ألا وهي بدعة ليلة المعراج، ليلة المعراج: هي الليلة التي عرج فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى، أسري به أولاً من مكة إلى بيت المقدس : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1] والتقى بالرسل هناك، وصلى بهم إماماً، ثم عرج به جبريل بصحبته إلى السماوات فاستفتحها سماءً بعد سماء حتى وصل إلى السماء السابعة، بل وصل إلى موضع سمع فيه صريف الأقلام وهي تكتب أقضية الله وأقداره، ووصل إلى سدرة المنتهى، وخاطب الله عز وجل، وفرض الله عليه الصلوات الخمس خمسين صلاةً ثم خففت إلى خمس.

هذه الليلة أي ليلة كانت؟ وفي أي شهر؟

لا يستطيع أحد أن يعينها، ولهذا اختلف المؤرخون فيها على أقوال متعددة، لم يتفقوا على شيء.. لماذا؟

لا لأنه حدث سهل يسير بل هو والله حدث عظيم، لكن تعرفون أن العرب كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون ولا يؤرخون إلا بسنة الفيل وما أشبه ذلك، فهم لم يحددوا تلك الليلة بليلة معينة، وما اشتهر من أنها ليلة سبع وعشرين من رجب فإنه لا أصل له في التاريخ.

ثم على فرض أنه ثبت أنه أسري به في تلك الليلة -أعني: ليلة سبعٍ وعشرين- هل لنا أن نحدث فيها شيئاً من العبادات والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدث ذلك، ولا الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة، ولا الأئمة؟

هل لنا أن نجعلها عيداً؟

ليس لنا أن نجعلها عيداً نعطل فيها المدارس، نعطل فيها الدوائر، نعتبرها عيداً يتكرر، ليس لنا ذلك، لنا سلف في دين الله.. من هم؟

الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن فعلوا ذلك فعلى العين والرأس، وإذا لم يفعلوا ذلك فتركه سنة؛ لأنهم تركوه، ولهذا نقول: السنة إما إيجاد وإما ترك، فما وجد سببه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن تركه هو السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقم لهذه الليلة صلوات ولا أدعية ولا جعلها عيداً.

وللأسف الشديد أن كثيراً من المسلمين يتمسكون في هذه الأشياء البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان وتجدهم في أمور ثبتت فيها السنة غير نشطاء فيها بل متهاونون بها، بل لو فعلها الإنسان لقالوا: هذا مبتدع، وهذا هو الذي أوجب للمسلمين التأخر والنكوص على الوراء؛ لأنهم ما نظروا إلى أسلافهم نظرةً قاصرة لا تتجاوز القرن الذي هم فيه إلى المدى البعيد إلى زمن السلف الصالح، وهذا والله ضرر عظيم.

إذاً: ما موقفنا من ليلة سبع وعشرين من رجب إذا مرت علينا؟

الجواب: أن تمر كغيرها من الليالي، ويومها كغيره من الأيام، ولا نرفع بها رأسا،ً ولا نرى في عدم إقامة الاحتفالات بها بأساً؛ لأنها ليست بسنة، وخير الهدي هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا يا إخواني كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر في كل خطبة يوم الجمعة يقول: (أما بعد.. فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها) لماذا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) اختلف الناس وابتدعوا في دين الله ما ليس منه حتى حصل هذا التأخر الذي نشاهده اليوم، نسأل الله أن يعيد للأمة الإسلامية مجدها وعزها.

بعد هذا نريد أن نتكلم على ما قرأناه في هذه الليلة من آخر سورة الفرقان، على آية منها، من صفات عباد الرحمن أنهم يقولون: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] ثلاث دعوات: قرة أعين للأزواج، قرة أعين من الذرية، والجملة الثالثة: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] أي: أسوة حسنة يقتدي بنا المتقون، ويكون لنا مثل أجورهم؛ لأننا أسوتهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] يدعون بها عباد الرحمن، لكن هل يقتصرون على الدعاء أم يفعلون الأسباب التي يحصل بها مطلوبهم؟ الثاني.

لو أن الإنسان قال: اللهم ارزقني ذريةً صالحة وبقي لم يتزوج. أيكون مصيباً، أم مخطئاً؟ مخطئاً.

تفسير قوله تعالى: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا ..)

قال تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] أي: ارزقنا أزواجاً يكنَّ لنا قرة أعين، وهذا في غير المتزوجين، أو هب لنا من أزواجنا اللاتي بين أيدينا قرة أعين، يشمل هذا وهذا، لكن لا بد من فعل الأسباب، متى تكون الزوجة قرة عين لزوجها؟

تكون الزوجة قرة عين لزوجها والزوج قرة عين لزوجته إذا قاما بما يجب عليهما في دين الله، قال الله عز وجل: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] لو قام كل زوج بما يجب عليه لزوجته من حقوق، فأنفق الإنفاق الواجب من كسوة وطعام وشراب ومسكن، وقام بما يجب عليه من العشرة بالمعروف من طلاقة الوجه، ومساعدة الزوجة فيما ينبغي مساعدتها فيه، وكذلك هي قامت بما يجب عليها من حقٍ لزوجها لدامت العشرة بينهما، ولسعدا في حياتهما، ولاستقامت الأحوال بينهما، لكن مع الأسف الشديد أن بعض الأزواج -وأعني بهم الرجال- لا يقومون بالواجب عليهم بالنسبة لحق الزوجات، بل كأن الزوجة خادم، ليس له هم إلا أن يقضي وطره منها أو يستخدمها في مصالح البيت، ولا يسفر وجهه أمامها يوماً من الأيام، ولا يتكلم عليها إلا بطرف أنفه، ويحتقرها، ثم مع ذلك يريد أن تقوم بواجب حقه.. فهذا من الظلم (عاشروهن) معاشرة من الجانبين (بالمعروف).

لكن لو أنه بذل الواجب عليه، وصار كما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله، يحلب الشاة لأهله عليه الصلاة والسلام، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وهي كذلك أيضاً لو أنها صبرت واحتسبت الأجر، وانتظرت الفرج، وقامت بحق زوجها وإن قصر في حقها كانت العاقبة لها، وهذه قاعدة اعتبرها في كل من بينك وبينه حقوق: إذا قمت أنت بالواجب وقصر هو نصرك الله عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي كان يصل رحمه ويحسن إليهم ويحلم عليهم وهم بالعكس، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملَّ، ولا يزال لك من الله ظهير عليهم) (ظهير) أي: معين عليهم، لأن ظهير بمعنى: معين، كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4].

انظر كيف قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لك من الله ظهير عليهم) كذلك الزوجة إذا قامت بحق زوجها وصبرت على تفريطه وعلى عدم قيامه بالواجب ستكون العاقبة لها، والزوج كذلك، أي: أنه يوجد من الأزواج الذكور والإناث من يُخل بالواجب عليه فعلى كُلٌّ منا أن يصبر.

ولكن أسألكم أيها الرجال: من الذي يخاطب بالصبر والتحمل الذكر أم الأنثى؟

الذكر، والدليل: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة) قال العلماء: أي: لا يكرهها (إن سخط منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) فبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن الرجل يجب أن يكون رجلاً يتحمل أكثر؛ لأنه رجل عاقل يملك نفسه ويعرف المنافع فينظر إلى المستقبل، والمرأة -كما تعلمون- تنظر إلى ما بين قدميها فقط، لا يمتد طرفها إلى بعيد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: (إن استمتعت بها استمتعت بها على عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها) وكسرها: طلاقها. لذلك على الأزواج أن يتحملوا ما يجدون من تقصير بالنسبة لزوجاتهم، وأن يلاطفوهن.

ثم اعلم أن المرأة قريبة بعيدة، لو سمعت منك كلمة لينة لزال كل ما في قلبها من الغل؛ لأنها قريبة، ولو سمعت منك كلمةً سهلة وتصورتها صعبة انتفخت وغضبت؛ لأنها قريبة، فيجب على الرجال أن يداروا النساء حتى يتحقق دعاؤهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].

ومن المهم في هذا الباب: أن يكون الإنسان حريصاً على استقامة أهله، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويتحدث إليهم في الترغيب والترهيب، ولا يقول: أنا لست بشاق عليهم، أخشى أن يملوا مني.. لا، والله متى فعل الإنسان شيئاً لله أو قال قولاً لله ولو كان يعتقد أن الناس سيستثقلونه فإن العاقبة ستكون له مهما كان.

تفسير قوله تعالى: (وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ...)

ثانياً: قال تعالى: (وهب لنا من ذرياتنا قرة أعين) من الذرية؟ الأولاد من بنين وبنات، لكن الأولاد صغار، البنين والبنات يحتاجون إلى تربية وإلى تهذيب أخلاق، وما أحسن أن يلقاك صبي صغير في سن التمييز تقول: أحفظت شيئاً من القرآن؟ يقول: نعم، اقرأ الفاتحة، يقرؤها عليك، الإنسان يمتلئ قلبه سروراً، وهذا والحمد لله يوجد الآن، يوجد أناس إذا جلس مع أولادهم الصغار درسوهم القرآن، وعلموهم شيئاً من أصول الدين ولو كانوا صغاراً، الصغير لا ينسى، لا ينسى ما سمع ولا ما رأى، علِّم ولدك الذكر أو الأنثى، إذا جلست معه على القهوة .. على الغداء .. على العشاء .. على مجلس سهر علمه أدبه، قل له: يا بني كذا، يا بنتي كذا.

كذلك أيضاً علمه الصدق، لا تعده موعداً فتخلفه، إذا وعدته موعداً فأخلفته استسهل الكذب، واستسهل إخلاف الوعد، لو قلت: تعال يا ولد، أريد أن أعطيك حلوى، وأدخلت يدك في جيبك على أنك تريد أن تعطيه حلوى، ثم إذا جاء أمسكته إما تريد أن تضربه أو ما تعطيه شيئاً، ماذا يكون رد الفعل في نفسه؟ سيكون شديداً، وسيتعود الكذب، ولذلك يخطئ بعض الناس إذا صاح الصبي قال: اسكت، اسكت، تريد حلوى؟ الصبي يسكت مباشرة؛ لأن الحلوى عنده من أغلى شيء، إذا سكت قال: لا يوجد حلوى وهذه الحلوى عنده.. هل هذا صواب؟ لا، لكن إذا لم يكن معك حلوى تفي بوعدك تقول: اسكت يا ولد، الصياح ليس طيباً، وقل له كلاماً يكون حقاً.

وكذلك أيضاً أمرهم بالصلاة: متى نأمرهم بالصلاة؟ لسبع، قبل السبع لا تأمرهم، إن صلوا فمن أنفسهم فذاك المطلوب، ولا تمنعهم، لكن لا تأمرهم لأنك لست أحكم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يأمرنا أن نأمرهم إلا لسبع إلى العشر، فإذا أتموا عشراً فحينئذٍ يُضربون لكن ليس ضرباً مبرحاً، وليس كضرب البالغ منهم، بل ضرباً يحسون باهتمامك بالصلاة، ولكل مقام مقال، والصبيان يختلفون، فبعضهم عنده شعور قوي بمجرد ما تنهره أو تأمره يمتثل، وبعضهم عنيد لا يزداد بمثل ذلك إلا نفوراً منك، فلكل مقام مقال.

تفسير قوله تعالى: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)

أما الجملة الثلاثة وهي: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] هذه تتطلب أشياء:

أولاً: العلم، أن الإنسان يسأل الله أن يكون عالماً.. لماذا؟ يقول: لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] متى يكون إماماً في التقوى؟ إذا كان عالماً بما يتقي.

إذاً .. هذه الجملة تتضمن أنك تسأل الله أن تكون طالب علم؛ لأن من لازم التقوى أن يكون عالماً بما يتقي.

ثانياً: تتضمن أيضاً: أن يكون الإنسان عاملاً بما علم؛ لأن الإنسان لا يكون إماماً إلا إذا كان قدوةً صالحة، ولذلك تجد العلماء يقتدون بأسلافهم .. يقتدون بأئمة المسلمين كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإخوانه من الأئمة؛ لأنهم علموا وعملوا, ولو جاء رجل عالم فصيح بليغ وتكلم ولكن الناس لا يعرفون منه عملاً فإن قبولهم إياه سيكون ضعيفاً..

إذاً: أنت تسأل الله بقولك: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] أن يرزقك عملاً بما علمت.

ثالثاً: مما يدخل في هذه الجملة: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] أن تسأل الله أن تكون لك حجة قوية؛ لأن الإنسان إذا لم يكن عنده حجة قوية يمكن يصلح بنفسه لكن لا يستطيع أن يصلح غيره؛ لأن كل إنسان يناظره يمكن أن يغلبه وينهزم أمامه، وحينئذٍ لا يكون إماماً للمتقين، فأنت بهذا تسأل الله أن يجعل لديك بلاغةً وفصاحةً وإقناعاً، والناس يختلفون، كم من إنسان واسع العلم لكنه لا يستطيع أن يقنع، وكم من إنسان أقلَّ ولكنه يستطيع أن يقنع غيره.

رابعاً: ومما تتضمن هذه الجملة: حسن الأخلاق، وما أعظم حسن الأخلاق وما أقله في كثيرٍ من الناس، الإنسان لا يمكن أن يكون محبوباً ولا مقبولاً إلا إذا وفِّق لذلك بكونه محباً لله فيحبه الله عز وجل ويتبع سبيل المؤمنين، ومن أهم شيء في ذلك أن يكون حسن الأخلاق، يتحمل ويصبر على أذى الناس، ويعلم أن الدنيا لم تفرش وروداً له، ويعلم أنه كلما نجح في أمره فإنه سوف يحاول عدوه الذي ليس على منهجه أن يعرقل سعيه، وكلما كثر تأثيره ظهر له أضداد، ولا بد، وإن شئتم فتابعوا سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، هل ظهر له أضداد؟ نعم، ظهر له أضداد وأرادوا أن يقتلوه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30] كم هذه؟ ثلاثة: (ليثبتوك) الحبس، (أو يقتلوك) الإعدام، (أو يخرجوك) الطرد، كل هذا أرادوه ولكنهم َيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوذي وقد كان ساجداً لله تحت بيت الله، آمن ما يكون في أرض الله وتوضع سلى الناقة على ظهره وهو ساجد، وهو صابر محتسب، ذهب إلى أهل الطائف وماذا فعلوا به؟ اصطفوا صفين من سفهائهم وخدمهم وعبيدهم، وكل واحد معه حجر، وجعلوا يرمون النبي صلى الله عليه وسلم حتى أدموا عقِبه، ولم يفق، فرَّ على وجهه، ولم يفق إلا في قرن الثعالب عليه الصلاة والسلام، من يتحمل هذا؟

وأعظم من ذلك أنه جاءه ملك الجبال واستأذنه أن يطبق الأخشبين عليهم ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أستأني بهم -أؤخر عقوبتهم- لعلَّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله) انظر إلى بعد النظر! قوم حاربوه، أخرجوه من مكة وطردوه من الطائف، ومع ذلك يقول: (أستأني بهم لعلَّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله) كان الأمر متوقعاً، فأخرج الله تعالى من أصلابهم من عبد الله وكان إماماً في دين الله، وكان من الفرسان في دين الله عز وجل، فحسن الخلق يجعل الإنسان إماماً للمتقين.

فعليك يا أخي بحسن الخلق، واصبر واحتسب، واجعل هذه الآية الكريمة أمامك إماماً لك، وهي: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] يا لها من آية، والله لو سرنا عليها لسلمنا من قلق كثير: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] ما معنى العفو؟ ما عفا من أخلاق الناس، وما يعاملك به، واترك ما وراء ذلك، لا تريد من الناس أن يعاملوك بما تريد أبداً إلا إن يشاء الله.

ثانياً: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف:199] لا تصمت، وإذا أصابك شيء فاصبر واحتسب.

ثالثاً: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] ستجد جاهلاً يشتمك، يغتابك، ربما يضربك، يقول الله عز وجل: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وكن كما قال النبي عليه الصلاة والسلام حين أدميت أصبعه قال: (هل أنت إلا أصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت).

واعلم يا أخي أن ما أصابك في دين الله فهو رفعة لك وخير وأجر، وتذكر أنه لن ينفعك حينما تكون ممدوداً على نعشك إلا هذا وأمثاله، لن ينفعك حينما تنفرد في قبرك إلا هذا وأمثاله، لن ينفعك حين تقوم لرب العالمين حافياً عارياً أغرل إلا هذا، هذا هو الذي ينفعك حقيقة، وما سوى ذلك من مُتع الدنيا فهو زائل: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعـات:46] فأنت يا أخي عندما تقوم تصلي تجد عراكاً مع نفسك، مصارعة، نفسك تقول: عجل، عجل، عجل.. لكن لا تطعها، قل: أنا أعلم أني لا أنتفع من دنياي إلا في هذه اللحظة وبهذا العمل، وإذا شعرت هذا الشعور وأنك لن تنتفع من حياتك إلا بهذا وأمثاله هل تفر منه فرارك من الأسد أم تطمئن؟

الجواب: تطمئن، يا أخي فكر في هذا، عندما تقول: الله أكبر. تجد شيئاً في نفسك يقول: يا الله (مشي مشي). قل: يا أخي.. هوناً هوناً هوناً.. ما لي من حياتي إلا هذا، ما ينفعني في قبري ولا عند موتي ولا يوم القيامة إلا هذا، اطمئن يا أخي، ثم اذكر وأنت في صلاتك من تناجي يا أخي؟

تناجي أحب شيء إليك وهو الله عز وجل، ألم تعلم أنك إذا قلت: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله تعالى من فوق سبع سماوات: حمدني عبدي؟

ألم تعلم أنك إذا قلت: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله: أثنى عليَّ عبدي؟

ألم تعلم أنك إذا قلت: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي.. كل هذا حق.

ألم تعلم أنك إذا قلت: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال الله: هذا بيني وبين عبدي نصفين؟

ألم تعلم أنك إذا قلت: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل؟

هل تجد خيراً أكثر من هذا؟!! كيف تفر من أن تقف بين يدي من يناجيك وهو على كل شيء قدير؟!!

يا أخي! اعرف نفسك، ولماذا خلقت، والله لو كنا نشعر هذا الشعور لهانت علينا العبادات، ولرخصت علينا الدنيا كلها:

لو ساوت الدنيا جناح بعوضة      لم يسق منها الرب ذا الكفران

لكنها والله أحقر عنده           من ذا الجناح القاصر الطيران

هكذا يقول ابن القيم رحمه الله وصدق.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من دعاة الخير، وأنصار الحق، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.

وإلى ما تيسر من الأسئلة نجيب عليها، ونسأل الله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا للصواب إنه على كل شيء قدير.

قال تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] أي: ارزقنا أزواجاً يكنَّ لنا قرة أعين، وهذا في غير المتزوجين، أو هب لنا من أزواجنا اللاتي بين أيدينا قرة أعين، يشمل هذا وهذا، لكن لا بد من فعل الأسباب، متى تكون الزوجة قرة عين لزوجها؟

تكون الزوجة قرة عين لزوجها والزوج قرة عين لزوجته إذا قاما بما يجب عليهما في دين الله، قال الله عز وجل: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228] لو قام كل زوج بما يجب عليه لزوجته من حقوق، فأنفق الإنفاق الواجب من كسوة وطعام وشراب ومسكن، وقام بما يجب عليه من العشرة بالمعروف من طلاقة الوجه، ومساعدة الزوجة فيما ينبغي مساعدتها فيه، وكذلك هي قامت بما يجب عليها من حقٍ لزوجها لدامت العشرة بينهما، ولسعدا في حياتهما، ولاستقامت الأحوال بينهما، لكن مع الأسف الشديد أن بعض الأزواج -وأعني بهم الرجال- لا يقومون بالواجب عليهم بالنسبة لحق الزوجات، بل كأن الزوجة خادم، ليس له هم إلا أن يقضي وطره منها أو يستخدمها في مصالح البيت، ولا يسفر وجهه أمامها يوماً من الأيام، ولا يتكلم عليها إلا بطرف أنفه، ويحتقرها، ثم مع ذلك يريد أن تقوم بواجب حقه.. فهذا من الظلم (عاشروهن) معاشرة من الجانبين (بالمعروف).

لكن لو أنه بذل الواجب عليه، وصار كما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله، يحلب الشاة لأهله عليه الصلاة والسلام، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وهي كذلك أيضاً لو أنها صبرت واحتسبت الأجر، وانتظرت الفرج، وقامت بحق زوجها وإن قصر في حقها كانت العاقبة لها، وهذه قاعدة اعتبرها في كل من بينك وبينه حقوق: إذا قمت أنت بالواجب وقصر هو نصرك الله عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي كان يصل رحمه ويحسن إليهم ويحلم عليهم وهم بالعكس، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملَّ، ولا يزال لك من الله ظهير عليهم) (ظهير) أي: معين عليهم، لأن ظهير بمعنى: معين، كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4].

انظر كيف قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لك من الله ظهير عليهم) كذلك الزوجة إذا قامت بحق زوجها وصبرت على تفريطه وعلى عدم قيامه بالواجب ستكون العاقبة لها، والزوج كذلك، أي: أنه يوجد من الأزواج الذكور والإناث من يُخل بالواجب عليه فعلى كُلٌّ منا أن يصبر.

ولكن أسألكم أيها الرجال: من الذي يخاطب بالصبر والتحمل الذكر أم الأنثى؟

الذكر، والدليل: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة) قال العلماء: أي: لا يكرهها (إن سخط منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) فبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن الرجل يجب أن يكون رجلاً يتحمل أكثر؛ لأنه رجل عاقل يملك نفسه ويعرف المنافع فينظر إلى المستقبل، والمرأة -كما تعلمون- تنظر إلى ما بين قدميها فقط، لا يمتد طرفها إلى بعيد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: (إن استمتعت بها استمتعت بها على عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها) وكسرها: طلاقها. لذلك على الأزواج أن يتحملوا ما يجدون من تقصير بالنسبة لزوجاتهم، وأن يلاطفوهن.

ثم اعلم أن المرأة قريبة بعيدة، لو سمعت منك كلمة لينة لزال كل ما في قلبها من الغل؛ لأنها قريبة، ولو سمعت منك كلمةً سهلة وتصورتها صعبة انتفخت وغضبت؛ لأنها قريبة، فيجب على الرجال أن يداروا النساء حتى يتحقق دعاؤهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].

ومن المهم في هذا الباب: أن يكون الإنسان حريصاً على استقامة أهله، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويتحدث إليهم في الترغيب والترهيب، ولا يقول: أنا لست بشاق عليهم، أخشى أن يملوا مني.. لا، والله متى فعل الإنسان شيئاً لله أو قال قولاً لله ولو كان يعتقد أن الناس سيستثقلونه فإن العاقبة ستكون له مهما كان.