وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
في إشراقة آية
[وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً] [*]
بقلم: عبد الكريم بكار
تشعر أمة الإسلام اليوم بغربة حقيقية بين الأمم المعاصرة، وتجد نفسها فريدة
ومتميزة على مستوى المبادئ والمفاهيم والأهداف؛ وهذا التميز والتأبي على السير
في ركاب القوى العظمى جرّ عليها ضغوطاً أدبية ومادية، هي أكبر مما نظن بكثير.
إن أدبياتنا تعلمنا أن الأسلوب الصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته
لايكمن في التشاغل بالرد عليها؛ مما قد يجرنا إلى معارك خاسرة، وإنما يتمثل في
الانكفاء على الداخل بالإصلاح والتنقية والتدعيم ... ولا ريب أن ذلك شاق على النفس؛ لأن المرء آنذاك ينقد نفسه، ويجعل من ذاته الحجر والنحّات في آن واحد! والآية الكريمة التي نحن بصددها معْلم بارز في التأصيل لهذا الانكفاء، ولعلنا نقتبس من الدوران في فلكها الأنوار التالية: 1- إن كثيراً من النصوص يوجهنا نحو الانكفاء على الداخل في مواجهة الخارج بالنقد والإصلاح والتقويم والتحسين، وإن المتتبع للمنهج القرآني في قصِّه أحوال الأمم السابقة يجد أن ما ذكره القرآن الكريم من أسباب انقراضها واندثار حضاراتها لا يعود أبداً إلى قصور عمراني، أو سوء في إدارة الموارد واستغلالها؛ وإنما يعود إلى قصور داخلي، يتمثل في الإعراض عن منهج الله (جلّ وعلا) واستدبار رسالات الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وهذه الحقيقة بارزة في جميع أخبار الأمم السابقة؛ حتى يتأصل في حسِّ القارئ للكتاب العزيز إعطاء الأولوية لصواب المنهج قبل أي شيء آخر. وحين حلّت الهزيمة بالمسلمين في أحد، وقال بعض الصحابة (رضوان الله عليهم (: كيف نُهزَم ونحن جند الله؟ ! جاء الجواب: [قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] [آل عمران: 165] فالهزيمة وقعت بسبب خلل داخلي، وليس بسبب شراسة الأعداء، وكثرة عددهم وعتادهم؛ إذ لا ينبغي تضخيم العدو إلى الحد الذي يجعل تصور هزيمته شيئاً بعيداً؛ فالعدو بَشَر له أحاسيسه، وله موازناته ومشكلاته، وبالتالي إمكاناته أيضاً، وفي هذا يقول (سبحانه) : [إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ] [النساء: 104] . 2- ترمي الآية الكريمة إلى تدعيم (الذاتي) في مقابل (الموضوعي) ؛ إذ تعلِّم المسلم أنه إذا ساءت الظروف فإن عليه أن يُحسِّن من ذاته؛ لأن من المعروف أنه حين تسوء الظروف، فإن الغالب أن يسوء الإنسان نفسه، ولذلك: فإنه يحدث في حالات الفقر الشديد نوع من التحلل الخلقي من نحو: السرقة، والرشوة، وسؤال الناس، والذل، والتحايل، والغش، والبخل، وقطيعة الرحم ...
والمطلوب من المسلم آنذاك: أن يقف (وقفة رجل) فيضغط على نفسه، ويضبط سلوكه ويُلغي أو يؤجل بعض رغائبه، ويقتصد في نفقاته، حتى تمر العاصفة، وينتهي الظرف الاستثنائي. ومن النصوص الواضحة في تدعيم الشخصية عند صعوبة الظروف قوله: (يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة، فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [1] . لم نكن على مدار التاريخ نمتلك الوعي الكافي بهذه الحقيقة، فبدل أن نلجأ إلى التربية والتوجيه والتعاضد والتراحم، واكتساب عادات جديدة، واقتلاع المشكلات من جذورها..
كنا نواجه التفسخ الاجتماعي والانحراف السلوكي بأمرين: القوة، ومزيد من القوانين، حيث كانا أقرب الأشياء إلينا تناولاً، وأقلها تكلفة حسب ما يبدو وقد عبّر عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) عن هذه الحقيقة حيث قال: (يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور) . ونحن نقول: إن شيئاً من التوسع في الأنظمة والتشريعات الرادعة يحدث عند جميع الأمم، حين يقع تهديد خطير لأمن الناس وحقوقهم، لكن الجزاءات والعقوبات هي أشبه شيء بالتدخل الجراحي في العلاج الطبي، فهو آخر الحلول، وعند اللجوء إليه ينبغي أن يتم في أضيق الحدود! . إن العقوبات الرادعة إنما وجدت لمن فاتتهم التنشئة الاجتماعية القويمة؛ والعقوبات لا تنشيء مجتمعاً لكنها تحميه.
وهذه رؤية إسلامية جلية، فآيات الأحكام والعقوبات جزء منها لا تشكل أكثر من عُشْر آيات القرآن الكريم، أما الباقي فكان يستهدف البناء الإيجابي للإنسان من الداخل.
إن التجربة علمتنا أن كثرة القوانين وتعقيدها تصب دائماً في مصلحة الأقوياء، وتزيد في قيود الضعفاء! ، وأن البطش لا يحل المشكلات، لكن يؤجلها، فيكون حال المجتمع كمن يأكل عن طريق الدّين، فهو ينتقل من سيء إلى أسوأ! ! . إن الدولة الفاضلة هي التي تدير مجتمعها بأقل قدر ممكن من العنف واستخدام القوة؛ لأنها ترتكز أساساً على استخدام الأساليب والأدوات السلمية في الضبط والإدارة. إن الآية الكريمة تعلمنا مرة أخرى: أن النصر الخاص يسبق النصر العام، وأن الأمة المنتصرة على أعدائها هي أمة حققت نصراً داخليّاً أولاً، وحقق كل واحد من أفرادها نصراً خاصّاً على صعيده الشخصي قبل كل ذلك. 3- لا ينبغي لنا أن نفهم نصّاً من النصوص بمعزل عن المنظومة التي ينتمي إليها، ويعالج معها مشكلة واحدة؛ والنص الكريم هنا يوجهنا إلى أمرين: الصبر، والتقوى. ويعني الصبر: احتمال المشاق والديمومة في تأدية التكاليف الربانية، مهما كانت الظروف قاسية؛ لأن ذلك نصف النصر، إذ إن نصف الفوز يأتي من جهودنا، وقبله من توفيق الله (تعالى) لنا، والنصف الثاني يأتي من أخطاء أعدائنا. إن الصبر لا يعني الاستسلام للأحوال السيئة كما هو مفهوم العوام لكنه يعني عدم اللجوء إلى الحلول السريعة، وقد جرت العادة أن الناس حين يرون إنساناً متفوقاً: يطلبون منه حلولاً سريعة لمشكلاتهم المتخمرة والمتأسنة؛ والحلول السريعة تفضي في كثير من الأحيان إلى اليأس والإحباط، أو إلى الاندفاع والتهور؛ مما يعقِّد المشكلة أكثر مما يحلها! . إن من المهم أن ندرك أن ثمة أوضاعاً كثيرة لا نستطيع أن نفعل حيالها الآن شيئاً، لكن إذا قلنا: ماذا نستطيع أن نفعل تجاهها خلال عشرين عاماً، فسوف نرى أننا نستطيع أن نفعل أشياء كثيرة جدّاً، فكأن الصبر استخدام للوقت في الخلاص من أوضاع لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها. حقيقةُ ضرورة اقتران الصبر بالعمل والحركة للخلاص من الأوضاع الصعبة حقيقة قرآنية لامعة، نطقت بها الكثير من الآيات القرآنية، مثل قوله (سبحانه) : ...
[ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] [النحل: 110] ، وقوله (سبحانه) : [يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] [البقرة: 153] ، وقوله (تعالى) : ...
[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً] [الإنسان: 24] . إن احتمال المعاناة دون حركة للخلاص من مسبِّباتها قد يكون ضرباً من اليأس والاستسلام، وقد يكون ضرباً من العجز أو قصر النظر أو ضيق الأفق ...
وهذا ما لا يرضى الله (جل وعلا) لعباده المؤمنين منه شيئاً. أما التقوى فتعني هنا بصورة أساسية: نوعاً من الحصانة الداخلية من التأثر بالظروف السيئة المحيطة؛ إذ إن الهزائم العسكرية والظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية..
كل ذلك محدود الضرر ما لم يغير من المبادئ والأخلاق والنفوس والسلوك، بل إنها تصلّب روح المقاومة، وتُكسب الخبرة، وتكشف عن الأجزاء الرخوة في البناء الداخلي، وتحطِّم هيبة العدو في النفوس. وقد مرّت أمم كثيرة بأقصى مما نمر به، لكنها استطاعت عن طريق الانتفاضة النفسية والشعورية، أن تتجاوز المحن، وتنبعث من جديد! . 4- إن المفهوم الأساسي للصبر والتقوى هنا هو: تهذيب الذات وتحسينها، وتدعيمها، والرقي بها؛ وهذا التدعيم يأخذ أشكالاً كثيرة، منها: المزيد من الالتزام الصارم، ومقاومة الشهوات، والتعاون، والمفاتحة، والمراجعة، والتضحية، والمواساة لبعضنا بعضاً، والحفاظ على رأس المال الوطني، والاقتصاد في الاستهلاك..
إنه يعني اكتساب عادات جديدة، من نحو تكثيف القراءة الجيدة، والنظر دائماً إلى المستقبل بعقل مفتوح، وتحسين العلاقات مع الآخرين، والإكثار من المعروف والنوافل، إلى جانب التخلص من أكبر قدر ممكن من العادات السيئة، مثل عدم الدقة وخلف الوعد، وتأجيل أعمال اليوم إلى أوقات أخرى ... 5- يركز الخطاب الإسلامي بصورة عامة على تدعيم الذاتي في كل الأحوال، وقلما يتطرق إلى علاج الظروف العامة التي يعيش فيها المسلم، ومن ثم: فإننا نجده يؤكد على الصلاح واستقامة السلوك والانتهاء عن المناهي ... أما تناول الشروط الموضوعية الضرورية لاستجابة المسلم للدعوة فإنه ضعيف، وعلى بعض الأصعدة معدوم، وهو على كل حال فقير، وتنقصه الخبرة والدربة. إن بين الإنسان والظروف والأوضاع الحياتية العامة التي يعيشها علاقة جدلية ...
فهو يؤثر فيها ويتأثر بها، ولا بد للدعاة من أن يدركوا أن الفرد المسلم لا يستطيع أن يبتعد مسافات كبيرة عن الوضعية العامة للمجتمع، وذلك التباعد مرهق ومكلف؛ فحين يكون كسب القوت الضروري لا يتأتى للسواد الأعظم من الناس إلا عن طرق محرمة أو ملتوية مثلاً فإن الذين سوف يستجيبون لنداء (اللقمة الحلال) سيكونون قلة، وسوف تظل مبادئهم في حالة اختبار دائم، وربما أدخلهم ذلك في مشكلات مع أقرب الناس إليهم. ولهذا: فكما أن محاولات تحسين المستوى الشخصي للمسلم يظل ضروريًّا وحيويّاً، فإن تحسين المناخ العام ينبغي أن يظل موضع عناية واهتمام؛ إذ ليس المطلوب تحقيق شروط الدعوة الجيدة، وإنما تحقيق شروط الاستجابة ...
...
الناجحة أيضاً. ولله الأمر من قبل ومن بعد. __________ (*) الآية: 120 من سورة آل عمران. (1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح.