خطب ومحاضرات
قواعد في توحيد الكلمة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله عليه صلواته وسلامه.
أما بعــد:
فيا أيها الإخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنت وعدتكم في المجلس السابق أن يكون موضوع الحديث في هذه الليلة حول: توحيد كلمة المسلمين، أو الدعاة على وجه الخصوص، وأرجو أن أفي بما وعدت الآن بحسب ما يتسع له الوقت، فسوف تكون كلمتي بعنوان (قواعد في توحيد الكلمة).
وحقيقة.. لا أكتمكم حديثاً أني ما أجهدت نفسي في بحث هذا الموضوع وإعداده، كما نوهت بذلك مراراً، وأنا حين أقول ذلك أريد أن يكون هذا عذراً لديكم ولدى من قد يسمع هذا الحديث، فيما قد يراه من نقص أو خلل أو عدم اكتمال أو استطراد أحياناً؛ لأن الجلسات نريد أن تكون فيها نوع من الأخوة والمؤانسة والاسترسال في الحديث، بعيداً عن روتين الدرس أو المحاضرة وما فيه -أحياناً- من استمرارية معينة ورتابة في بعض الموضوعات.
مساوئ الفرقة
فعلى سبيل المثال: إذا ألَّفت أنت كتاباً، وألَّفت أنا كتاباً في الرد على ذلك الكتاب، وأنت طبعت من كتابك عشرين ألف نسخة، وأنا لكي أضمن لكتابي أن يكون انتشاره أوسع طبعت أربعين ألف نسخة، وبذلت جاهي لدى المحسنين والمصلحين وفي دور النشر وغيرها من أجل تسهيل مهمة طباعة الكتاب وبيعه بأرخص الأثمان أو حتى توزيعه بالمجان.
إذاً: ستون ألف نسخة من كتاب كان يمكن أن يكون كتاباً مفيداً نافعاً يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين، فنتيجة ستين ألف نسخة من هذه الكتب، وما ترتب عليها من ضياع أموال، وأخطر من قضية ضياع الأموال ضياع الأوقات، لا يمكن أن يقول قائل: إن النتيجة صفر! بل أقل من الصفر وتحت الصفر! لماذا؟ لأن الثمرة التي يخرج بها معظم الناس؛ أن هؤلاء المتدينين دائماً يتهارشون فيما بينهم، وعندهم شهوة المخاصمة، فإذا لم يجد أحداً يخاصمه فإنه يخاصم نفسه في المرآة، لماذا؟ لأنه لابد أن يجادل أحداً، ولا بد -أيضاً- أن يخرج هو المنتصر والغالب والفائز.
مشكلة ضيق الأفق
فنتيجة لذلك لم يعد لدينا إمكانية أن نتحمل وجهة نظر أخرى، فعندنا شيء من الأحادية في الرأي وضيق الفهم، والمشكل أيها الأحبة -وأقولها بمرارة وصراحة- أننا -أحياناً- نظرياً قد نقول خلاف ذلك! وطالما سمعت من بعضهم وهو يقول: من خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه أقرب إليك ممن وافقك بغير دليل؛ لأن هذا الذي خالفك إنما خالفك للدليل، ويجب أن تكون العلاقة بينكم أمتن.
وهذا كلام نظري جميل، لكن دعنا ننظر في واقعنا العملي، وفي تعاملنا مع من خالفونا، فتجدني أنا ذلك الذي أردد دائماً وأبداً قضية الحوار والنقد البناء، وتقبل وجهات النظر المختلفة، وعدم إلزام الناس بالرأي الواحد، وجعل الناس يعيشون في بحبوحة الشريعة التي فتحها الله سبحانه وتعالى لهم، فأنا لا أحجر واسعاً، وأنا لا أفرض رأيي بثقله وبشريته وخصوصيته على النص الشرعي، أنا ذلك الذي يقول هذا الكلام تجدني أغظب بمجرد أن أرى شخصاً اختلف معي، وترتفع درجة الحرارة عندي، وتختلف نبرة الكلام، ويتغير مجرى الحديث، وتحتد اللهجة، ويبدأ القصف والقصف المضاد.
فهذا -أحياناً- يرجع إلى نوع من التربية الخاطئة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الحلقة العلمية أو الارتباط بالعالم وعلى مستوى الدعوة أو الارتباط بمجموعة من مجموعات الدعوة وحتى على مستوى الأسرة والأب، نوع من التربية التي جعلت الثمرة -حقيقة- ثمرة مرة.
وأنا أقول: إن هذا الأمر عام في طلبة العلم وغيرهم، ولكنني رأيت في بعض طلبة العلم حاجة إلى التنبيه على مثل هذا الأمر أكثر من غيرهم، فهم الأليق بأن يكونوا أوسع الناس أفقاً، وأبعد الناس نظراً، وأكبر الناس عقولاً، وأصبغ الناس، وأحلمهم، وأرحم الناس بالناس، والمنتظر منهم ومن غيرهم أن من أساء إليك أن تحسن إليه، ومن أخطأ في حقك أن تصيب في حقه، وألا تقابل الإساءة بالإساءة، بل تقابل الإساءة بالإحسان، وتعفو وتصفح وتلتزم بالأفق الأوسع الأمثل الذي ذكره الله عز وجل ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].
أقول أيها الأحبة: طالما سمعت من كثير من الإخوة الأحباب كلاماً قد يكون له تأثير في القلب، أقله تحزين النفس وانقباض الضمير وشيء من التوتر والقلق، ولكن العبد يحاول أن يلجم نفسه بلجام الإعراض والصبر، لماذا؟ لأن أقل ما نضحي به هو أن نضحي بشيء من أعصابنا، من أجل ألا يرانا الناس وقد تماسكنا بالتلابيب مع رجل من أهل الإسلام، ومن أجل ألا يقول قائل: لماذا أنت مختلف مع فلان؟
نعم، قد يختلف معي أي إنسان، وذلك من حقه، لكن لن تجدني -إن شاء الله- مختلفاً مع أحد، بمعنى أن لي منه موقفاً مبدئياً في كل ما يصدر منه، بل أحاول -أو يجب أن أحاول- أن يكون موقفي من الجميع، ماداموا إخوة في الإسلام والعقيدة الواحدة والمنهج الواحد والكتاب الواحد والسنة الواحدة والطريق الواحد في الجملة، أن يكون الأمر كما قال القائل:
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا |
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا |
وما أسهل وأجمل أن نتلفظ بهذه الكلمات الجميلة المعسولة الحلوة! وما أمر وأقسى أن نجرب ولو موقفاً واحداً فقط، تخلينا فيه عن انتصار لأنفسنا أو ثأر لشخوصنا أو غضب لذواتنا في سبيل الله عز وجل، وحرصاً على وحدة كلمة المسلمين!
فبمجرد ما يواجه الواحد منا موقفاً عملياً تقع القضية التي طالما تكلمت عنها أمامكم، وهي قضية أن الواحد يقول: ليس المقصود أنا، بل المقصود المنهج، والمقصود الدعوة، والمقصود الدين، ولذلك يجب ألا أسكت، ويحب أن أرد؛ لأن القضية لا تستهدف فلاناً، وإنما القضية قضية دين الله.
وهكذا ألبسنا أنفسنا لبوس أننا نمثل دين الله تبارك وتعالى، وأن من تناولنا فكأنما أساء إلى الدين، والواقع أن ذلك ليس بصحيح فيمكن أن يختلف معك شخص في قضية أو قضايا قليلة أو كثيرة من منطلقات شرعية أو عقلية، وما زال الناس يختلفون، ويرد بعضهم على بعض دون أن يفضي الأمر إلى تشاتم أو تراشق بالسباب أو تبادل تهم أو طعون.
فالمقصود أن جزءاً كبيراً جداً من المجهود الإسلامي يضيع في مهارشات بين الدعاة، ولا أقول: لا ثمرة لها، بل نتيجتها عكسية؛ لأن الشرخ الذي يحدثه اختلاف الدعاة فيما بينهم عند العامة والخاصة، وعند خصوم الإسلام من العلمانيين وغيرهم، هذا الشرخ ليس من السهل أن ينمحي أو يزال والناس إذا رأوا رجلاً خارجاً من الصف وآخر داخلاً فيه فإنهم لا يقولون: هذا خرج وهذا دخل، بل يقولون: الصف معوج، وخاصة إذا كانوا أهل غرض وأهل هوى، وما بالك بإنسان حديث عهد باستقامة والتزام، فوجد أن هذا الإنسان -مثلاً- يمثل رمزاً للخير والدعوة والاستقامة والصلاح، وقد يكون هو سبباً في هدايته ولو كان عنده خطأ أو تقصير أو مخالفات، لكنه فتح عيونه على الخير بواسطة فلان، ثم وجد أن فلاناً تتناوشه السهام والطعون والكلام، فهو بين أمرين: إما أن يدخل في هذه المعمعة، فهذه مشكلة؛ لأنه حديث عهد وطري العود، وإما أن يسمع هذا الكلام ولا يرد عليه، فقد يورث هذا الكلام عنده شيئاً من الشك في الرمز الذي فتح عيونه على الخير عن طريقة، فيكون ذلك سبباً في فساده وانحرافه وبعده عن الدين، وهكذا أصبحنا والعياذ بالله نخرب بيوتنا بأيدينا في بعض الأحيان، وأعيذ بالله كل مؤمن أن يكون هذا حاله، كما أني لا أحب أن يفهم من كلامي التعميم أو أن هذا حال كثيرين، بل هذا حال مجموعة قليلة بلا شك، ولكن مع ذلك أرى أنه ينبغي ألا نفرِّط حتى في القليل، حتى جهد الواحد منا يجب ألا يضيع.
إذاً: من أجل إنتاجية أكبر، ومن أجل فائدة أعظم للأمة، ومن أجل أن تكون جهود الدعاة كلها تتجه في الاتجاه الصحيح صوب التغيير للأفضل والأسلم، أطرح عشر قواعد لن يكون الوقت مسعفاً بالكلام عنها تفصيلاً، لكني سأذكرها إجمالاً إن شاء الله، أرجو أن يتسع الوقت لها، وكما ذكرت لكم فهذه القواعد كل ما فعلته فيها أنني دونتها من طرف الذهن ليس على سبيل الاستيعاب ولا على سبيل الاستقراء لكل القواعد، بل هناك مئات القواعد التي يمكن أن تذكر في هذا لكن هذه من طرف الذهن.
أقول بكل تأكيد: لو نظرنا في أولياء الإسلام وأنصاره، من دعاة أو مصلحين أو فقهاء أو علماء أو عامة، لوجدنا أنهم يشكلون نسبة عالية جداً في كل المجتمعات الإسلامية، وأجزم -دون تردد- أنه لا يوجد أي دين أو نحلة أو مذهب يملك من حيث الطاقة البشرية ما يملكه الإسلام، ليس في هذه البلاد فحسب، بل في بلاد المسلمين في كل مكان، ومع ذلك أكاد أجزم -إن لم يكن في كل البلاد ففي معظم بلاد العالم الإسلامي- أن المنتسبين إلى الدعوة والعلم، وأن أولياء الإسلام هم من أقل الناس إنتاجية وثمرة في ميدان الواقع، ولعل أهم سبب يعزى إليه هذا الخلل الكبير في العطاء والإنتاج والبذل هو التشرذم والتشتت وتفكك الجهود، الذي يجعل جزءاً غير قليل من الطاقة الإسلامية -أحياناً- يضيع في تدمير بعضه بعضاً.
فعلى سبيل المثال: إذا ألَّفت أنت كتاباً، وألَّفت أنا كتاباً في الرد على ذلك الكتاب، وأنت طبعت من كتابك عشرين ألف نسخة، وأنا لكي أضمن لكتابي أن يكون انتشاره أوسع طبعت أربعين ألف نسخة، وبذلت جاهي لدى المحسنين والمصلحين وفي دور النشر وغيرها من أجل تسهيل مهمة طباعة الكتاب وبيعه بأرخص الأثمان أو حتى توزيعه بالمجان.
إذاً: ستون ألف نسخة من كتاب كان يمكن أن يكون كتاباً مفيداً نافعاً يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين، فنتيجة ستين ألف نسخة من هذه الكتب، وما ترتب عليها من ضياع أموال، وأخطر من قضية ضياع الأموال ضياع الأوقات، لا يمكن أن يقول قائل: إن النتيجة صفر! بل أقل من الصفر وتحت الصفر! لماذا؟ لأن الثمرة التي يخرج بها معظم الناس؛ أن هؤلاء المتدينين دائماً يتهارشون فيما بينهم، وعندهم شهوة المخاصمة، فإذا لم يجد أحداً يخاصمه فإنه يخاصم نفسه في المرآة، لماذا؟ لأنه لابد أن يجادل أحداً، ولا بد -أيضاً- أن يخرج هو المنتصر والغالب والفائز.
ليست القضية قضية جدل ومناظرة فقط، بل نحن نتكلم باسم الله وباسم الدين وباسم القرآن وباسم السنة وباسم الحديث، ولذلك لا نريد من أحد أن يخالفنا لأننا نـزعم أننا نمثل الكلمة المقدسة، وهذا يقع في أذهان الكثيرين نتيجة ضيق الأفق وتحجير المفاهيم وإعجابهم بما عندهم من العلم، كما قال تعالى: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] وكما قال صلى الله عليه وسلم: {وإعجاب كل ذي رأي برأيه}.
فنتيجة لذلك لم يعد لدينا إمكانية أن نتحمل وجهة نظر أخرى، فعندنا شيء من الأحادية في الرأي وضيق الفهم، والمشكل أيها الأحبة -وأقولها بمرارة وصراحة- أننا -أحياناً- نظرياً قد نقول خلاف ذلك! وطالما سمعت من بعضهم وهو يقول: من خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه أقرب إليك ممن وافقك بغير دليل؛ لأن هذا الذي خالفك إنما خالفك للدليل، ويجب أن تكون العلاقة بينكم أمتن.
وهذا كلام نظري جميل، لكن دعنا ننظر في واقعنا العملي، وفي تعاملنا مع من خالفونا، فتجدني أنا ذلك الذي أردد دائماً وأبداً قضية الحوار والنقد البناء، وتقبل وجهات النظر المختلفة، وعدم إلزام الناس بالرأي الواحد، وجعل الناس يعيشون في بحبوحة الشريعة التي فتحها الله سبحانه وتعالى لهم، فأنا لا أحجر واسعاً، وأنا لا أفرض رأيي بثقله وبشريته وخصوصيته على النص الشرعي، أنا ذلك الذي يقول هذا الكلام تجدني أغظب بمجرد أن أرى شخصاً اختلف معي، وترتفع درجة الحرارة عندي، وتختلف نبرة الكلام، ويتغير مجرى الحديث، وتحتد اللهجة، ويبدأ القصف والقصف المضاد.
فهذا -أحياناً- يرجع إلى نوع من التربية الخاطئة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الحلقة العلمية أو الارتباط بالعالم وعلى مستوى الدعوة أو الارتباط بمجموعة من مجموعات الدعوة وحتى على مستوى الأسرة والأب، نوع من التربية التي جعلت الثمرة -حقيقة- ثمرة مرة.
وأنا أقول: إن هذا الأمر عام في طلبة العلم وغيرهم، ولكنني رأيت في بعض طلبة العلم حاجة إلى التنبيه على مثل هذا الأمر أكثر من غيرهم، فهم الأليق بأن يكونوا أوسع الناس أفقاً، وأبعد الناس نظراً، وأكبر الناس عقولاً، وأصبغ الناس، وأحلمهم، وأرحم الناس بالناس، والمنتظر منهم ومن غيرهم أن من أساء إليك أن تحسن إليه، ومن أخطأ في حقك أن تصيب في حقه، وألا تقابل الإساءة بالإساءة، بل تقابل الإساءة بالإحسان، وتعفو وتصفح وتلتزم بالأفق الأوسع الأمثل الذي ذكره الله عز وجل ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35].
أقول أيها الأحبة: طالما سمعت من كثير من الإخوة الأحباب كلاماً قد يكون له تأثير في القلب، أقله تحزين النفس وانقباض الضمير وشيء من التوتر والقلق، ولكن العبد يحاول أن يلجم نفسه بلجام الإعراض والصبر، لماذا؟ لأن أقل ما نضحي به هو أن نضحي بشيء من أعصابنا، من أجل ألا يرانا الناس وقد تماسكنا بالتلابيب مع رجل من أهل الإسلام، ومن أجل ألا يقول قائل: لماذا أنت مختلف مع فلان؟
نعم، قد يختلف معي أي إنسان، وذلك من حقه، لكن لن تجدني -إن شاء الله- مختلفاً مع أحد، بمعنى أن لي منه موقفاً مبدئياً في كل ما يصدر منه، بل أحاول -أو يجب أن أحاول- أن يكون موقفي من الجميع، ماداموا إخوة في الإسلام والعقيدة الواحدة والمنهج الواحد والكتاب الواحد والسنة الواحدة والطريق الواحد في الجملة، أن يكون الأمر كما قال القائل:
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا |
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا |
وما أسهل وأجمل أن نتلفظ بهذه الكلمات الجميلة المعسولة الحلوة! وما أمر وأقسى أن نجرب ولو موقفاً واحداً فقط، تخلينا فيه عن انتصار لأنفسنا أو ثأر لشخوصنا أو غضب لذواتنا في سبيل الله عز وجل، وحرصاً على وحدة كلمة المسلمين!
فبمجرد ما يواجه الواحد منا موقفاً عملياً تقع القضية التي طالما تكلمت عنها أمامكم، وهي قضية أن الواحد يقول: ليس المقصود أنا، بل المقصود المنهج، والمقصود الدعوة، والمقصود الدين، ولذلك يجب ألا أسكت، ويحب أن أرد؛ لأن القضية لا تستهدف فلاناً، وإنما القضية قضية دين الله.
وهكذا ألبسنا أنفسنا لبوس أننا نمثل دين الله تبارك وتعالى، وأن من تناولنا فكأنما أساء إلى الدين، والواقع أن ذلك ليس بصحيح فيمكن أن يختلف معك شخص في قضية أو قضايا قليلة أو كثيرة من منطلقات شرعية أو عقلية، وما زال الناس يختلفون، ويرد بعضهم على بعض دون أن يفضي الأمر إلى تشاتم أو تراشق بالسباب أو تبادل تهم أو طعون.
فالمقصود أن جزءاً كبيراً جداً من المجهود الإسلامي يضيع في مهارشات بين الدعاة، ولا أقول: لا ثمرة لها، بل نتيجتها عكسية؛ لأن الشرخ الذي يحدثه اختلاف الدعاة فيما بينهم عند العامة والخاصة، وعند خصوم الإسلام من العلمانيين وغيرهم، هذا الشرخ ليس من السهل أن ينمحي أو يزال والناس إذا رأوا رجلاً خارجاً من الصف وآخر داخلاً فيه فإنهم لا يقولون: هذا خرج وهذا دخل، بل يقولون: الصف معوج، وخاصة إذا كانوا أهل غرض وأهل هوى، وما بالك بإنسان حديث عهد باستقامة والتزام، فوجد أن هذا الإنسان -مثلاً- يمثل رمزاً للخير والدعوة والاستقامة والصلاح، وقد يكون هو سبباً في هدايته ولو كان عنده خطأ أو تقصير أو مخالفات، لكنه فتح عيونه على الخير بواسطة فلان، ثم وجد أن فلاناً تتناوشه السهام والطعون والكلام، فهو بين أمرين: إما أن يدخل في هذه المعمعة، فهذه مشكلة؛ لأنه حديث عهد وطري العود، وإما أن يسمع هذا الكلام ولا يرد عليه، فقد يورث هذا الكلام عنده شيئاً من الشك في الرمز الذي فتح عيونه على الخير عن طريقة، فيكون ذلك سبباً في فساده وانحرافه وبعده عن الدين، وهكذا أصبحنا والعياذ بالله نخرب بيوتنا بأيدينا في بعض الأحيان، وأعيذ بالله كل مؤمن أن يكون هذا حاله، كما أني لا أحب أن يفهم من كلامي التعميم أو أن هذا حال كثيرين، بل هذا حال مجموعة قليلة بلا شك، ولكن مع ذلك أرى أنه ينبغي ألا نفرِّط حتى في القليل، حتى جهد الواحد منا يجب ألا يضيع.
إذاً: من أجل إنتاجية أكبر، ومن أجل فائدة أعظم للأمة، ومن أجل أن تكون جهود الدعاة كلها تتجه في الاتجاه الصحيح صوب التغيير للأفضل والأسلم، أطرح عشر قواعد لن يكون الوقت مسعفاً بالكلام عنها تفصيلاً، لكني سأذكرها إجمالاً إن شاء الله، أرجو أن يتسع الوقت لها، وكما ذكرت لكم فهذه القواعد كل ما فعلته فيها أنني دونتها من طرف الذهن ليس على سبيل الاستيعاب ولا على سبيل الاستقراء لكل القواعد، بل هناك مئات القواعد التي يمكن أن تذكر في هذا لكن هذه من طرف الذهن.
القاعدة الأولى: ما يمكن أن نسميها بقاعدة الخطوط المتوازية.
أي: ليس بالضرورة أن يكون الدعاة كلهم على قلب رجل واحد، أو يكون اجتهادهم متطابقاً، أو يكونوا قوالب مصبوبة متساوية في الطول والعرض والارتفاع، فهذا ليس لازماً، بل يمكن أن نفهم بعض جهود الدعاة تشكل خطوطاً متوازية لا تلتقي، ولكنها لا تتعارض ولا يطأ بعضها بعضاً، فإذا افتراضنا مثلاً أنك تقوم أنت بمجهود وأنا أقوم بمجهود آخر، أنت تقوم بفرض كفاية، وأنا أقوم بفرض كفاية آخر، والناس يحتاجون إلى كل ألوان الخير في المجتمع، حتى أمور الدنيا فإن الناس يحتاجون إلى ألوان من الخير، يحتاجون إلى النجار، ويحتاجون إلى الطبيب، ويحتاجون إلى المهندس، ويحتاجون إلى البقال، ويحتاجون إلى البائع، كما يحتاجون إلى البلدي الذي يقوم بتنظيف الشارع، وكل مهمة لا تقضي على المهمة الأخرى، فمهمة المسئول الكبير -على أهميتها- لا تغني عن مهمة الموظف الصغير، ولو بقيت القاذورات في الشوارع أسبوعاً لضاق الناس بها ذرعاً ولما استطاعوا أن يهنئوا بحياتهم.
إذاً: ضع في اعتبارك أنك قائم بجهد الدعوة مهم أو أهم أو أقل أهمية، وأن غيرك يقوم بجهد آخر، فاجعل ما تقوم به أنت موازياً لما يقوم به هو، وليس شرطاً أن تقر كل ما قام به أو توافقه على مجهوده، لكن اعتبر أنه يسد فراغاً ضعيفاً، وأنت تسد فراغاً قوياً مثلاً، فدع هذا الإنسان وما اختطه لنفسه، وقد يتبين أن الخير والبركة في شيء آخر خلاف ما كنت تظن.
كل يعمل في مجاله
وإذا لم اقتنع بشيء فعلي ألا أعمله، لكن ليس شرطاً للعمل المثمر أن يمر عبر قناعتي العقلية، فيمكن أن يكون عملاً مثمراً وأنا لم أقتنع به، وقد أكتشف بعد حين أن قناعتي كانت في غير محلها، أو حتى قد أموت بقناعتي غير عابئ بهذا الموضوع، لكن الناس المنصفين يعلمون أن هذا الأمر له ثمرة وله إيجابية، والعدل قد يدل على ذلك، وقد تكلم الإمام ابن تيمية كثيراً عن جهود بعض المتصوفة في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
ولأن يدخل الإنسان الإسلام على يد صوفي، ويصبح مسلماً مبتدعاً أحب إلينا من أن يبقى كافراً، وإلا فما هو رأيكم؟ إنها ولا شك معادلة لا تحتاج إلى تأمل، أي: إن استطعنا أن ندعوه ونهديه إلى الإسلام الصحيح السليم البعيد عن الشوائب والمخالفات والمغالطات والانحرافات فهذا هو المتعين، لكن أحياناً لا تستطيع ذلك ولا تملك الكفاءات له، بل قد تجد الجهل يعم حتى في أوساط المتعلمين في دول ومدن وأوضاع كثيرة، فتأتي القضية أن الجود من الموجود، ولأن يذهب داعية مسلم ولكن عنده تخليط وشوائب، فيهدي الله على يده يهوداً أو نصارى ويصبحوا مسلمين ولو على شاكلته وطريقته خير من أن يبقوا على كفرهم، وهذا لا يشك فيه عاقل.
فأنت مثلاً متحمس لقضية قد ملأت عليك عقلك وجوارحك، واستولت على اهتمامك؛ لأنك ولدت معها، وعشت معها، ونشأت عليها، وسمعت شيوخك يؤكدون عليها، ولذلك أعطيتها اهتمامك، وبارك الله فيك وفي مجهودك، لكن قد يكون غيرك يبذل مجهوداً آخر لا يستغني عنه الناس، فالناس محتاجون إلى العلم الشرعي، لكن وجود العلم الشرعي، ووجود طلبة مختصين فيه لا يغنينا عن وجود واعظين في المساجد يرققون قلوب الناس، ووجود هؤلاء لا يغني عن وجود معنيين بالإحسان إلى الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والراغبين في الزواج وغيرهم، وهؤلاء وأولئك لا يغنون أبداً عن وجود الصحفي أو السياسي المسلم الذي يعرف الأحوال والأحداث والأخبار ويتابعها ويحللها، ويربط بعضها ببعض، ويربي الناس على إدراكها ومعرفة مقاصدها، وهؤلاء كلهم جميعاً لا يغني أحد منهم عن وجود المعلمين في المدارس، أو وجود الموجهين، أو وجود حلق تحفيظ القرآن الكريم، أو وجود المراكز الصيفية، أو وجود الدورات العلمية، أو وجود الجولات الوعظية... إلى آلاف الأمثلة في المجالات الدعوية المختلفة، فلماذا لا يكمل بعضها بعضاً؟!
وإذا لم اقتنع بشيء فعلي ألا أعمله، لكن ليس شرطاً للعمل المثمر أن يمر عبر قناعتي العقلية، فيمكن أن يكون عملاً مثمراً وأنا لم أقتنع به، وقد أكتشف بعد حين أن قناعتي كانت في غير محلها، أو حتى قد أموت بقناعتي غير عابئ بهذا الموضوع، لكن الناس المنصفين يعلمون أن هذا الأمر له ثمرة وله إيجابية، والعدل قد يدل على ذلك، وقد تكلم الإمام ابن تيمية كثيراً عن جهود بعض المتصوفة في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
ولأن يدخل الإنسان الإسلام على يد صوفي، ويصبح مسلماً مبتدعاً أحب إلينا من أن يبقى كافراً، وإلا فما هو رأيكم؟ إنها ولا شك معادلة لا تحتاج إلى تأمل، أي: إن استطعنا أن ندعوه ونهديه إلى الإسلام الصحيح السليم البعيد عن الشوائب والمخالفات والمغالطات والانحرافات فهذا هو المتعين، لكن أحياناً لا تستطيع ذلك ولا تملك الكفاءات له، بل قد تجد الجهل يعم حتى في أوساط المتعلمين في دول ومدن وأوضاع كثيرة، فتأتي القضية أن الجود من الموجود، ولأن يذهب داعية مسلم ولكن عنده تخليط وشوائب، فيهدي الله على يده يهوداً أو نصارى ويصبحوا مسلمين ولو على شاكلته وطريقته خير من أن يبقوا على كفرهم، وهذا لا يشك فيه عاقل.
القاعدة الثانية: (التفريق بين الدعوة وبين الحكم على الناس).
بمعنى أنك فيما يتعلق ببيان الحق إذا سئلت عنه، سواء شفوياً أو كتابياً، في كتاب أو مقالة أو مناسبة أو أخرى؛ فإن الإنسان ينبغي أن يذكر الحق بأحسن ما يجد من العبارات وبأفضل ما يجد من الأساليب، ويسوق الأدلة ويحشد ما لديه من الوسائل للإقناع بهذا الحق الذي يعتقده هو، واضعاً في اعتباره أنه قد يوجد من يخالفه في هذه المسألة، إن كانت مسألة قابلة للاجتهاد، ويكون عنده أدلة وتأويلات فيما ذَكَر، فهذا شيء، لكن هذا غير الانشغال بالحكم على الناس، فليس كل من وقع في خطأ يكون قاصداً الوقوع في هذا الخطأ أو متعمداً أن ينسب إليه، حتى إن الإنسان قد يقع في الكفر ولا يقال له كافر، وقد يقع في البدعة ولا يقال له مبتدع، وقد يقع في المعصية ولا يقال له فاسق، ففرق بين الوقوع في الشيء وبين نسبة الإنسان لهذا الشيء، فقد يقع الإنسان في البدعة متأولاً مجتهداً.
الاختلاف في مسألة لا يكون سبيلاً إلى العداوة
حتى لو فرض جدلاً أني رجحت أحد الأمرين، فهذا لا يعني وصم الآخر بأنه مبتدع، بل حتى لا نوافق أصلاً على وصف العمل بأنه بدعة، لكن من باب التسليم والتوضيح بهذا المثال فقط، وقد يقع الإنسان في شيء نقر بأن هذا العمل بدعة أو مخالف للسنة، لكن لا يوصف الشخص بأنه مبتدع، بل قد يقع في الكفر ولا يوصف بأنه كافر إلا بعد وجود الشروط وزوال الموانع من هذا الإنسان، فقد يكون جاهلاً ومثله يُجْهل، وقد يكون متأولاً، أو قد يكون قاصداً شيئاً آخر غير ما ظننت؛ أنا ظننت أنه يسخر بالدين، ولما سألته تبين أنه يقصد معنى آخر لا علاقة له بهذا الباب إطلاقاً.
وقد يكون يسخر ولكن في حالة غياب عقله وإدراكه عنه، أو غلبه نوع من المواجيد عنده جعلته يقول ذلك.
حتى إني رأيت أن الإمام الذهبي رحمة الله عليه في مواضع كثيرة، يتأول لكلمات واضحة وضوح الشمس، أنها نقض لأصول الشريعة، حتى إنه -أحياناً- يتأول أنه ربما أن الإنسان قال هذه الكلمة في حالة غياب عقله، من أجل ألاَّ يصفه -مثلاً- بالكفر، لماذا؟ لأن أهل السنة هم أرحم الناس بالناس.
درء التهمة عن العلماء أمر مطلوب شرعاً
وبدون شك أنه يسرنا جميعاً أن يكون الناس أخياراً، ويسرنا أن يكون الناس صالحين وأهل تقوى وأهل سنة، فأي ضرر عليك وعليه إذا صار الناس على الخير؟! هل من جيبـي أعطيتهم شيئاً؟! وإذا دخل الناس الجنة هل هم سيأخذون مالي أو مال أبي أو جدي؟! كلا، بل كما قال الله تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].
إذاً: ينبغي أن يكون عندي هذه البحبوحة وهذه السعة وهذه الرحمة للناس، وهذه الفرحة بكل خير يصيبونه، والحزن لكل شر يقعون فيه، والحدب على إصلاحهم والتحري لهم؛ وفرق بين أن تكون مهمتي كأنني مقاتل في ميدان، أريد ألا يدخله أحد غيري أنا ومن يقع عليهم الاختيار، وبين كوني إنساناً يهمه أن يدعو الناس بكل ما أوتي من قوة إلى هذا الباب، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25].
فعلى الإنسان أن يحرص -فيما يتعلق بالحكم على الناس- ألا يتسرع بالحكم، وألا يعمم الأحكام، وألا يتكلم على الأشخاص بقدر المستطاع.
التدرج في المجال الدعوي
وعلى سبيل المثال: يوجد من المشايخ في هذا العصر من يعتبر أن وضع اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع بدعة، ويوجد من العلماء في هذا العصر ومن قبل من يرى أن وضع اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع أنه هو السنة، ويستدلون بحديث سهل بن سعد في البخاري: {كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة} ويقول: من المعروف أن هذا في القيام، سواء قبل الركوع أو بعده، فهل أستطيع أن أصف من فعل هذا أو ذاك بأنه مبتدع؛ لأنه خالف السنة في نظري؟ لا يمكن؛ لأن هذه مسألة فيها اختلاف.
حتى لو فرض جدلاً أني رجحت أحد الأمرين، فهذا لا يعني وصم الآخر بأنه مبتدع، بل حتى لا نوافق أصلاً على وصف العمل بأنه بدعة، لكن من باب التسليم والتوضيح بهذا المثال فقط، وقد يقع الإنسان في شيء نقر بأن هذا العمل بدعة أو مخالف للسنة، لكن لا يوصف الشخص بأنه مبتدع، بل قد يقع في الكفر ولا يوصف بأنه كافر إلا بعد وجود الشروط وزوال الموانع من هذا الإنسان، فقد يكون جاهلاً ومثله يُجْهل، وقد يكون متأولاً، أو قد يكون قاصداً شيئاً آخر غير ما ظننت؛ أنا ظننت أنه يسخر بالدين، ولما سألته تبين أنه يقصد معنى آخر لا علاقة له بهذا الباب إطلاقاً.
وقد يكون يسخر ولكن في حالة غياب عقله وإدراكه عنه، أو غلبه نوع من المواجيد عنده جعلته يقول ذلك.
حتى إني رأيت أن الإمام الذهبي رحمة الله عليه في مواضع كثيرة، يتأول لكلمات واضحة وضوح الشمس، أنها نقض لأصول الشريعة، حتى إنه -أحياناً- يتأول أنه ربما أن الإنسان قال هذه الكلمة في حالة غياب عقله، من أجل ألاَّ يصفه -مثلاً- بالكفر، لماذا؟ لأن أهل السنة هم أرحم الناس بالناس.
إذاً: هناك فرق بين الدعوة وبين الحكم على الآخرين، فأنت عندما تصير إلى موضوع الحكم لا يضرك أبداً أن تحتاط، فأنت تعتبر نفسك كالقاضي، والقاضي يجب أن ينظر في الأدلة والقرائن والدعوى ونقض الدعوى، ويتأمل ويجتهد ويتحرى حتى لا يصدر حكماً خاطئاً، وإذا وجدت مندوحة عن وصف الشخص -مثلاً- بالكفر أو بالفسق أو بالبدعة وهي شرعية بلا تكلف، تعين عليك سلوكها، لأن مهمتي ومهمتك ليست هي نبز الناس بالألقاب وتوزيع المعايير عليهم واتهامهم بشتى التهم، وكأني أريد أن أثبت لنفسي البراءة من خلال الطعن في الآخرين، فهذا من أخطر ما يمكن أن يكون.
وبدون شك أنه يسرنا جميعاً أن يكون الناس أخياراً، ويسرنا أن يكون الناس صالحين وأهل تقوى وأهل سنة، فأي ضرر عليك وعليه إذا صار الناس على الخير؟! هل من جيبـي أعطيتهم شيئاً؟! وإذا دخل الناس الجنة هل هم سيأخذون مالي أو مال أبي أو جدي؟! كلا، بل كما قال الله تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].
إذاً: ينبغي أن يكون عندي هذه البحبوحة وهذه السعة وهذه الرحمة للناس، وهذه الفرحة بكل خير يصيبونه، والحزن لكل شر يقعون فيه، والحدب على إصلاحهم والتحري لهم؛ وفرق بين أن تكون مهمتي كأنني مقاتل في ميدان، أريد ألا يدخله أحد غيري أنا ومن يقع عليهم الاختيار، وبين كوني إنساناً يهمه أن يدعو الناس بكل ما أوتي من قوة إلى هذا الباب، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25].
فعلى الإنسان أن يحرص -فيما يتعلق بالحكم على الناس- ألا يتسرع بالحكم، وألا يعمم الأحكام، وألا يتكلم على الأشخاص بقدر المستطاع.
أما إذا كان المجال مجال دعوة، فعليك حينئذ بالوضوح وبالصراحة وبوضع النقاط على الحروف وبيان الحق، مع ملاحظة أن التدرج مطلوب حتى في ميدان الدعوة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ بن جبل، كما في حديث ابن عباس في الصحيحين: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم...} إلى آخر الحديث.
القاعدة الثالثة: يمكن أن نعبر عنها بقاعدة: (لك الغنم وليس عليك الغرم).
فإذا قام شخص بمجهود في الدعوة، أنت لك رأي غير موافق في هذا المجهود، فلماذا لا تتذرع بالصمت؟ هل هناك نص شرعي يلزمك بأن تعطي رأيك في كل مسألة وأن تعلن موقفك، وهل أنت جهة رسمية لا بد أن تعلن موقفك في كل قضية؟! لا، إذا اقتنعت بهذا الجهد فحبذا وساعد وأعن وأيد، وإذا لم تقنع فإنه يسعك الصمت، فإن كان هذا الجهد خيراً ونافعاً أصابك منه شيء، وإن كانت الأخرى فليس عليك غرم؛ لأنك لست مسئولاً عن هذا العمل، ولن ينسب إليك بحال من الأحوال، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى نوع من هذا المعنى أو هذه الحكمة قال: {يا ويح قريش! لقد حمشتهم الحرب، ماذا لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟! فإن انتصرت فعزي عزهم، وإن كانت الأخرى فقد كفوني بغيرهم} بمعني اترك المعركة يديرها غيرك، وأنت لست ملزماً بأن تتخذ موقفاً من كل قضية.
مثال للتعامل مع المخالفين في مسألة اجتهادية
لكن افرض أن عندك تردداً في هذا الموضوع، ولست متأكداً من استخدامهم للوسائل الشرعية، ولست متأكداً أن تكون النتيجة النصر، فحينئذ ربما يأتي شخص ليشن هجوماً حرب بيانات ويقول: هؤلاء طائشون، خوارج، متسرعون، جهلة، أغبياء، حمقى... إلى آخر العبارات.
فهذا نتيجته -وهي أقل نتيجة- إيغار الصدور والطعن في الظهور.
فدع هؤلاء القوم ما داموا لم يستشيروك، والحمد لله أنت قد كفيت، دع هؤلاء وما اجتهدوا فيه، فإن وفقهم الله تعالى وحقق النصر على أيديهم فنصرهم نصر لك؛ لأنه لا تعنيك قضيتك الشخصية بقدر ما يعنيك أمر الإسلام، وإن كانت الأخرى فأنت لست مسئولاً عن هذا العمل، ولن تكون محاسباً عليه، ولن تكون مسئولاً عنه بحال من الأحوال ما دمت لم تشارك فيه برأي أو قول أو فعل.
من محاسن الوفاق بين الدعاة
وليس شرطاً كما يتوقع البعض أن العدو دائماً خلف ما يقع بين المسلمين!
فالآن -مع الأسف- إذا وقع شيء، قال بعض الشباب: هذه مؤامرة من العدو! وهذه خطة دولية مثل الذي يجري في أفغانستان مثلاً أو غيرها، وقد يكون هناك أصابع خفية دولية أحياناً، لكن في أحيان كثيرة بسبب غفلة المسلمين وسطحية تفكيرهم وضيق أفقهم وعدم قدرتهم على تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم قدرتهم على أخذ زمام المبادرة، وعدم قدرتهم على الحوار الموضوعي يجعلهم هذا أحياناً يتصرفون بالنيابة عن عدوهم وخصمهم من حيث لا يريدون ولا يشعرون، والعدو يؤيد هذا العمل ويشجعه.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5118 استماع |
حديث الهجرة | 5007 استماع |
تلك الرسل | 4155 استماع |
الصومال الجريح | 4146 استماع |
مصير المترفين | 4123 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4052 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3976 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3929 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3872 استماع |
التخريج بواسطة المعجم المفهرس | 3833 استماع |