هذا الحبيب يا محب 58


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فلنقض ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وها نحن مع [سرية محمد بن مسلمة لقتل كعب اليهودي] عليه لعائن الله، ها نحن مع رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك الأيام الزاهرة، وهذا فضل الله علينا أن جمعنا في بيته ووضع بين أيدينا سيرة حبيبه لنعايشه هذه الساعة المباركة، هذا فضل الله، والله ذو الفضل العظيم.

قال: [لما انهزمت قريش في بدر] وبدر غزوة تقدم بيانها وتفصيل ما فيها، تلك الغزوة التي قاتلت فيها الملائكة، ونصر الله رسوله والمؤمنين، وكانت هزيمة مرة للمشركين؛ إذ قتل منهم سبعون صنديداً، وأسر منهم سبعون.

إذاً: قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين [وجاء البشيران من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم] جاءوا من بدر يحملان البشرى لأهل المدينة، وهما [زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ] انفصلا عن المعسكر المحمدي وأسرعا في القدوم إلى المدينة يحملان بشرى النصر للمؤمنين [فبشرا] أي: المؤمنين والمؤمنات [بنصر المسلمين وهزيمة المشركين في بدر] فليس عندهم إذاعة ولا تلفون آنذاك.

[وبلغ ذلك كعب بن الأشرف الطائي الأصل] من قبيلة طيء ولكن تهود فهو يهودي [اليهودي العقيدة ابن النضرية اليهودية] أمه يهودية، لكن هو من قبيلة طيء العربية وتهود [لما بلغه ذلك] أي: التبشير بالنصر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه انتصروا على المشركين في بدر [قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم -يعني: أمية بن خلف وأبا جهل وعتبة بن ربيعة - لبطن الأرض خيرٌ من ظهرها] يعني: نموت أحسن من أن نبقى أحياء؛ لأنه كافر متمرد [وكشر عن نابه كالكلب العقور] يحمل الضغينة في نفسه والانتقام [وأخذ يسب النبي صلى الله عليه وسلم] يهودي خبيث [ويتشبب بنساء المسلمين] والتشبب في النساء: التغزل فيهن بألفاظ وقصائد شعرية، بمعنى: إهانة نساء المؤمنين وعدم احترامهن [ثم ذهب إلى قريش] ما صبر [يستعدي رجالها على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستضافوه] أنزلوه ضيفاً عليهم، وهذا العمل الآن يقوم به اليهود، فليس هذا اليهودي الأول فقط [واجتمعوا عليه] في مكة [وهو يسب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين] بلسانه الطلق العربي [وسألوه عن دينهم فقال: إن دينكم خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم] سألوه هل نحن على حق، وهل ديننا دين حق؟ أو ماذا ترى يا عالم اليهود؟ فقال: إن دينكم خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم [وكذب اللعين] حقاً [وغش] كذب في قوله وغش العرب في مكة وما نصح، وهو يعلم أن دين محمد هو الدين الحق، ولا دين حق سواه، لا اليهودية ولا النصرانية ولا المشركين [فنزل فيه قرآن من سورة النساء] وفضحه [وهو قوله تعالى] بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51]] فمزق الله حيلته، وأبطل كلامه ومسخه.

أَلَمْ تَرَ أي: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ شيئاً من التوراة يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وعبادة الأوثان وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وهم قريش هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا يعني: دينهم أعز وأحسن من دينكم.

قال: [ولما عاد إلى المدينة، وأوحى الله تعالى إلى رسوله بما قاله كعب وما فعله، وما عزم عليه، الأمر الذي استوجب قتله] على هذا المكر، وهذه الخديعة، وهذا الاتصال بالمشركين، والتمدح بدينهم، وتفضيله على الإسلام ورسوله [بنقضه -أولاً- العهد] لأن الرسول لما دخل المدينة عقد مع اليهود عقداً وقد مر بنا بنصوصه. ثانياً: [وتأليبه الأعداء] وتحريضهم وجمعهم [على قتال المسلمين] فاستوجب القتل لنقض العهد أولاً، وثانياً: لتأليبه المشركين على المسلمين[فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: ( من لي بـابن الأشرف )] أي: من لي منكم يأتيني بـكعب بن الأشرف أو يقتله؟ وحرض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه الكلمة [فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل] من الأنصار [أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال ( فافعل إن قدرت على ذلك )] واليهود يتمزقون إلى اليوم، يقولون: كيف يبيح محمد قتل المعاهدين؟ وكعب هو الذي نقض العهد، وألب المشركين، وسب النبي صلى الله عليه وسلم وتغنى بنساء المسلمين فهل يصح بقاؤه بعد ذلك؟ [فقال: يا رسول الله! إنه لابد لنا من أن نقول] أي: غير الصدق والحق، والحرب خدعة، يعني: لابد أن نمدحهم، أو نذم المسلمين، أو لابد من حيلة حتى نتوصل بها إلى قتل هذا الطاغية [قال صلى الله عليه وسلم: ( قولوا ما بدا لكم )] يعني: الثلة الذين تخرج إلى قتل هذا الطاغية [( فأنتم في حل من ذلك )] ما هناك محرم عليكم ولا ممنوع؛ لأنكم تؤدون واجب الإسلام والمسلمين. وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا في حديث: ( الحرب خدعة ).

قال: [فاجتمع على قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة وهو أخو كعب من الرضاعة، وعباد بن بشر ، والحارث بن أوس ، وأبو عبس بن جبر أحد بني حارثة، وساروا نحوه] مجموعة تبرعت بقتله [ولما كانوا بمقرب من قصره] له قصر وراء قباء [قدموا سلكان بن سلامة أبا نائلة أمامهم] قالوا: امش أنت أمامنا [فذهب فأتى كعباً في قصره، فجلس إليه ساعة، وتحدث معه، وتناشدا الشعر، وكان كل منهما يقول الشعر، ثم قال سلكان : ويحك يا ابن الأشرف ! إني قد جئتك لحاجة أُريد ذكرها لك، فاكتم عني] يعني: إني قد جئتك لحاجة عظيمة، أريد ذكرها لك، فاكتم عني ولا تحدث بها أحداً [قال: افعل] أي: حدث وأذكر حاجتك [قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء] يعني: النبي صلى الله عليه وسلم [عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس] يشكو إلى كعب [قال: كعب أنا ابن الأشرف ، أما والله لقد كنت أُخبرك -يا ابن سلامة - أن الأمر يصير إلى ما تقول. قال سلكان : إن أردت أن تبيعنا طعاماً] يعني: أردت في مجيئي هذا أن تبيعنا طعاماً [ونرهنك ونوثق لك] أي: نضع عندك رهناً ووثاقاً [قال: كعب : أترهنوني أبناءكم؟] تضعون أولادكم عندي رهينة [قال سلكان : لقد أردت أن تفضحنا، إن لي أصحاباً على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك، نرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، وأراد سلكان أن يعمي عليه، فلا ينكر السلاح إذا جاءوا به] أراد التعمية عليه؛ حتى إذا شاهد السلاح معهم لا يتأثر [فقال لـكعب : إن في الحلقة -السلاح- لوفاء.

ورجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا، فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا إليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معهم إلى بقيع الغرق، ثم وجههم قائلاً: ( اللهم أعنهم )، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم، ومضوا هم حتى انتهوا إلى حصن كعب ، فهتف به أبو نائلة سلكان فنزل في ملحفته] الملفوف فيها [وهو حديث عهد بعرس] أيام عرسه [فأمسكت به امرأته وهو خارج] من المنزل [فقالت له: إنك امرؤ محارب، فكيف تنزل في هذه الساعة؟] كانت ذات بصيرة [فقال لها: إنه أبو نائلة ] أخي من الرضاعة [لو وجدني نائماً لما أيقظني. فقالت له: والله إني لأعرف في صوته الشر].

قال: [فلم يلتفت كعب إلى قولها. ونزل وتحدث مع أبي نائلة ساعة] من الزمن [ثم قال له أبو نائلة : هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز] مكان يسمى شعب العجوز [فنتحدث بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة ثم إن أبا نائلة أدخل يده في فود رأس كعب ] في شعره [ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيباً أعطر قط] من هذا، بعد أن أدخل يده في شعر رأسه وشمه قال له: ما رأيت اليوم أو كالليلة أعطر قط من هذا [ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن كعب ] إلى أنه -حقيقة- فرح به ويحبه ويشم طيبه [ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها وأخذ بفود رأسه] أي: رأس كعب [وقال: اضربوا عدو الله، فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً، قال أبو نائلة : وذكرت مغولاً في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئاً، فأخذته فوضعته في ثُنيته] وهو موقع ما بين السرة والعانة في الإنسان [وقد صاح عدو الله صيحة ما بقي حصن إلا وقد أوقدت عليه نار] إعلام بالحرب أو بالفتنة [فوقع عدو الله على الأرض هالكاً. فغادرناه صريعاً] على الأرض [ومضينا، وكان قد جرح الحارث أصابته سيوفنا] لما ضربوا بالسيوف تلاقت فأصيب أخوهم.

قال: [فحملناه -ومعه نزيف من جرحه- حتى انتهينا إلى المدينة، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم فسلمنا عليه، فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل صلى الله عليه وسلم على جرح صاحبنا فشفاه الله تعالى] تفاله صلى الله عليه وسلم كان بلسماً شافياً [فعدنا إلى بيوتنا] العملية كانت بالليل [وأصبح كل يهودي خائفاً على نفسه] ما دام طاغيتهم تحطم، أصبح كل يهودي خائفاً على نفسه يرتعد.

هذه هي سرية محمد بن مسلمة خرجت من المدينة إلى قصر كعب بن الأشرف وكانوا حوالي خمسة أنفار حتى قتلوا كعب بن الأشرف اليهودي.

قال: [نتائج وعبر: إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها في الآتي:

أولاً: -اذكر يا عبد الله- مشروعية الاحتيال على قتل من وجب قتله لغدره وخيانته بتأليب الكفار على المؤمنين] ومن يقول: لا يجوز قتله؟! وقد أذن فيه رسول الله وأمر به، والعلل معروفة، فقد ألب على المسلمين العدو، وما عمل بمقتضى المعاهدة التي كانت بين الرسول وبين قومه.

[ثانياً: جواز استعمال المعاريض والتوريات للتوصل إلى إحقاق حق وإبطال باطل] والمعاريض خلاف الكلام الصريح، والتوريات: أي: يوري بكذا وكذا وهو يريد كذا؛ للتوصل إلى إحقاق حق.

[ثالثاً: آية نبوة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ شفا الله الجريح ذا النزيف الخطير بريقته الطيبة الطاهرة] ولو بصقنا الآن كلنا على جريح ينزف لازداد ألمه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تفل -فقط- عليه فشفاه الله، وهي علامة من علامة نبوته صلى الله عليه وسلم.

[رابعاً: فضيلة محمد بن مسلمة رضي الله عنه بقتله كعباً الطاغية عليه لعائن الله] سجل التاريخ له هذه المفخرة، وتمكن بالتورية والحيل من قتل هذا الطاغية الذي ألب على المسلمين وكشر عن نابه وحزن لما بلغه انتصارهم، وخان العهد ونقض الميثاق وحسبه ذلك.

[خامساً: بيان أثر قتل كعب؛ إذ أصبح كل يهودي خائفاً على نفسه لا يطمئن على حياته] معنى هذا أن قتل كعب زعزع قلوب اليهود كلها.

قال: [غزوة أحد] وهي من أشهر الغزوات وأعظمها بعد غزوة بدر، وقد نزل فيها عشرات الآيات من سورة آل عمران.

العوامل التي ساعدت على نشوب غزوة أحد

قال: [عوامل هذه الغزوة القاسية الشديدة] وحقاً كانت غزوة قاسية شديدة؛ لأن المشركين لما انهزموا في بدر ألبوا عامة العرب على غزو محمد في عقر داره انتقاماً منه.

قال: [إن لهذه الغزوة عوامل وأسباب ظاهرة، منها: أن قريشاً وقد أصيبت في صناديدها الذين ألقوا في القليب، قليب بدر العام الماضي سنة اثنتين من الهجرة المباركة، فقد قام رجال منها بالدعوة إلى الحرب للأخذ بالثأر من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن دعاة الحرب] الذين يدعون لها [عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية وغيرهم كثير.

فأتوا أبا سفيان بن حرب وطلبوا إليه أن يُقنع أصحاب أموال العير -التي نجت- أن يجعلوها في حرب تشن على محمد وأصحابه، ولا يأخذوا منها شيئاً] هذه سياسة، أن يُقنع أصحاب العير -تلك العير التي جاءت من الشام، وخرج لها الرسول برجاله ليستقبلوها ويأخذوها، ثم نجت وانتهت إلى مكة، وهي أموال طائلة كثيرة- بأن يجعلوها ويتبرعوا بها في حرب على المسلمين [واستجابوا للطلب] بعد أن أقنعهم [وفيهم نزل قول الله تعالى من سورة الأنفال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]].

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [الأنفال:36] لِم؟ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:36]، فَسَيُنفِقُونَهَا [الأنفال:36]، بالفعل، ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً [الأنفال:36] أنفقوها في حرب أحد وكانت عليهم حسرة، ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36]، وغلبوا وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

قال: [هذا سبب، وآخر: هو أن الذين تخلفوا عن بدر من المهاجرين والأنصار، كانوا يسألون الله تعالى أن يتيح لهم فرصة قتال المشركين كالتي أتيحت لأهل بدر؛ لِيُروا الله تعالى ما يفعلون بالمشركين من القتل لهم والفتك بهم إيماناً واحتساباً؛ ليعوضوا ما فاتهم من الأجر والغنيمة يوم بدر] العامل الأول: هو أن المشركين أرادوا أن ينتقموا من الرسول والمسلمين لما أصابهم في بدر، والعامل الثاني: أن المؤمنين من أهل المدينة الذين ما خرجوا إلى بدر؛ لأن التعبئة لم تكن عامة، وإنما باختيار، فالذين تخلفوا عن غزوة بدر تحسروا وتأسفوا على عدم الخروج، وسألوا الله تعالى أن يرزقهم معركة أخرى، يقاتلون فيها وينتصرون.

قال: [هذان عاملان ظاهران لغزوة أحد] أو سببان قويان في وجود غزوة أحد [وهناك عوامل خفية قوية ذُكرت في قول الله تعالى في سورة آل عمران: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] أيام النصر والهزيمة وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141]] وهذه أعظم من السببين الأولين: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] يوم لنا ويوم علينا وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:140] إعلام ظهور ومشاهدة لا إعلام غيب وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ [آل عمران:140] يا أيها المسلمون شُهَدَاءَ [آل عمران:140] إذ استشهد في أحد سبعون شهيداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141]، هذا بيان الله عز وجل.

قال: [وفي شوال من السنة الثالثة من الهجرة المباركة خرجت قريش برجالها ونسائها وأحابيشها، وبكل من قدرت على تأليبه والإتيان به من بني كنانة وأهل تهامة، وسارت بقيادة أبي سفيان بن حرب زعيمها بعد هلاك أبي جهل ، حتى نزلت على شفير وادي قناة المقابل للمدينة النبوية، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فاستشار أصحابه يوم الجمعة في الخروج إلى المشركين لقتالهم خارج المدينة، أو البقاء فيها وقتالهم داخلها، ورجح لهم القتال داخلها] (ورجح) أي: النبي صلى الله عليه وسلم لهم القتال داخل المدينة [وأراهم أنه أقرب إلى النصر على المشركين من قتالهم خارجها، وقص عليهم رؤيا رآها:

وهي أنه رأى بقرة تذبح، ورأى في ذباب سيفه ثلماً، وأنه رأى أنه أدخل يده في درع حصينة، وأوّلها المدينة، ومع هذا أصر أكابر الأصحاب على القتال خارج المدينة] وخاصة الشبيبة، قالوا: كيف نقاتل بين نسائنا وأولادنا؟! هذا جبن وعار، لابد وأن نخرج لقتالهم خارج المدينة. وهؤلاء أصحاب الحماس. [فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ما رآه إلى ما رأوه ما دام الله تعالى لم يوحِ في ذلك إليه بشيء] نزل عن رأيه لرأيهم؛ لأنهم أكثرية، والوحي ما نزل في هذا بشيء، فهو مخير صلى الله عليه وسلم؛ وجمعاً للقلوب قال: اخرجوا، وكان ذلك بعد صلاة الجمعة في مسجده.

[ودخل صلى الله عليه وسلم بيته فلبس درعه ووضع لأمته على رأسه وخرج إليهم] يمشي بالحديد [فما إن رأوه حتى ندموا، ورأوا أنهم قد أكرهوه على الخروج ظاهر المدينة، فندموا ندماً شديداً، وحاولوا أن يثنوه عن عزمه. وقالوا: يا رسول الله! أقم؛ فالرأي ما رأيت، وكان الذين أصروا على الخروج هم الذين تخلفوا عن بدر فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ( ما ينبغي لنبي أن يضع لأمته بعد ما لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه )].

وهذه استفادت منها بريطانيا والمسلمون لا يستفيدون؛ لأنهم أموات، فبريطانيا لما ثارت بعض الجماعات في السودان أيام كانت حاكمة هناك، ما كان منها إلا أن جهزت جيشاً وأبحر ليؤدب هؤلاء الثائرين هناك، والشيخ: محمد عبده تغمده الله برحمته، أبرق إليها، وقال: ما هناك داعٍ إلى الزحف والقتال، ونحن سنتولى إطفاء هذه الفتنة، وأراد أن يكبح جماحها ويحفظ إخوانه من البلاء، فردت عليه تقول: إن بريطانيا إذا أبحرت ورمت بجيوشها في البحر لا تعود أبداً حتى تنفذ أمرها، وكأنها تأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( ما ينبغي لنبي أن يضع لأمته ثم ينزعها قبل أن يحكم الله بينه وبين عدوه ).

قال: [( وقد دعوتكم إلى هذا -عدم الخروج- فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله به فافعلوا ).

واستخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم ] جعله والياً عاماً [وخرج في ألف مقاتل] ألف بطل [وسلك بمن معه من المؤمنين على البدائع في حرة بني حارثة، ودليله في هذا أبو خيثمة أخو بني حارثة، ومروا بحائط] أي: بستان [ لـمربع بن قيظي ، وكان منافقاً؛ فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين رفع حفنة من تراب، وقال: والله لو أعلم ألا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فبدره سعد بن زيد بضربة شج بها رأسه، وابتدره رجال ليقتلوه، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( دعوه لا تقتلوه؛ فإنه أعمى القلب أعمى البصر )] منافق أخذ حفنة من تراب وأراد أن يضرب بها وجه الرسول صلى الله عليه وسلم.

[وساروا حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخذل عنهم عبد الله بن أبي بثلث الناس] رجع من ضعاف الإيمان والمنافقين ثلاثمائة نفر [وكان -لعنه الله- رأيه عدم الخروج مثل رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم] كان رأيه في عدم الخروج كرأي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه محنّك [فلذا قال هنا: أطاعهم وعصاني؟!] أي أطاع رسول الله الذين قالوا نخرج، وعصاني أنا الذي قلت لا نخرج ونقاتل داخل المدينة.

ثم قال: [ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟! وتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر يقول لهم: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا وأبوا إلا الانصراف قال لهم صلى الله عليه وسلم: ( أبعدكم الله -أعداء الله- فسيغني الله عنكم نبيه )].

نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..