هذا الحبيب يا محب 45


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة تحت عنوان [الحالة الصحية بدار الهجرة] ودار الهجرة هي المدينة النبوية التي كانت تعرف سابقاً بيثرب، وجاء هذا الاسم في سورة الأحزاب، قال الله عز وجل: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13] ولكن تقرر بعد ذلك أن اسمها طيبة، ومن قال يثرب فليكفر عن هذه الكلمة بأن يقول: طيبة.. طيبة؛ حتى يتأدب.

فهي المدينة النبوية، والعامة يقولون: المدينة المنورة، وقلدهم أيضاً الناس، ولا ينبغي أن يترك لفظ المدينة النبوية مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله! الآن لا توجد مدينة فيها الأنوار الكهربائية أكثر من المدينة، فهي منورة، ولكن التنوير الحقيقي بالوحي الإلهي والنور الرباني والنور المحمدي.

قال: [ولما قدم الحبيب صلى الله عليه وسلم] الحبيب هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يحبه فهو كافر، وفي إيمانه كاذب، والحبيب بمعنى المحبوب لا بمعنى المحب، والعجب أن كل صفاته الذاتية والخلقية تفرض حبه بالفطرة؛ فلهذا لا أحسب أن يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً يكره ذاك الرسول أبداً، فلا يوجد عامل من عوامل الكره أو البغض التي تستدعي ذلك، والله فرض على المؤمنين حبه ليطيعوه، فالذي لا تحبه لا تطيعه، وتكذب علي إذا قلت: إني أطيعه، إلا إذا خفت من هراوته. ففرض حبه صلى الله عليه وسلم؛ ليتمكن المؤمنون من طاعته، والذي لا يطيعه -والله- ما أحبه، كيف تدعي حب رسول الله وأنت تعاكسه وتخالفه وتمشي بعيداً عنه؟ أنى لك أن تحب؟!

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أحبوا الله لما يغدوكم من النعم، وأحبوني بحب الله ) ومن أحب الله هل يكره رسوله؟ لا. بل يحبه، ومن أحب الله هل يكره أولياءه؟ لا. لا يكره أولياءه.

إذاً: لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم [وأصحابه المدينة، وجدوها أسوأ البلاد مناخاً وصحة] وسبحان الله! عشنا في قرية كأنها المدينة في أول أمرها، تجد البعوض، ومستنقعات الماء، والحمى، والمثلوثة -كما يقولون- والوجوه مصفرة، ولا دواء ولا علاج، حتى الإسبرين ما جاء إلا بعد حين، ولنتصور المدينة كذلك، وها هي أم المؤمنين رضي الله عنها تصفها لنا.

قال: [كما قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى] عافاكم الله من الحمى، وقد قضينا حوالي خمس عشرة سنة بالمثلوثة يومين راحة والثالث حمى، والحمى الحمى النافض، التي تبدأ بالبرد الشديد وتتحول إلى حرارة يفيض بعدها العرق، ويهدأ الجسم، فاحمدوا الله على ما أنتم فيه ..

قالت: [فعانى الأصحاب المهاجرون] أي: قاسوا وتحملوا [من حماها ما عانوا، إلا أن الله تعالى وقى رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يمرض بها] وهذه آية من آيات الله؛ لأنه حامل رسالة، فإذا مرض كيف يقوم بالدعوة؟ إنه تدبير الله عز وجل، وعند وفاته مرض صلى الله عليه وسلم بالحمى النافض، وكان يقول: ( أهريقوا علي سبع قرب ) وتوفي صلى الله عليه وسلم، وإنا به لاحقون.

[ولنستمع إليها رضي الله عنها، وهي تصف الحالة الصحية المتردية بالمدينة فتقول: قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر ] عامر بن فهيرة وبلال كانا عبدين وسيدهما أبو بكر [مع أبي بكر في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم] هذه الصديقة عائشة تقول: فدخلت عليهم أعودهم في مرضهم، فليس هناك مستشفى، أما الآن فالحمد لله المشافي حوالينا يميناً وشمالاً في كل منعطف، وقلّ حمدنا لله، فأعوذ بالله من حالنا!!

قالت: [وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب] أي: ذلك قبل أن تنزل آيات الحجاب، حيث يحتجب النساء عن الرجال، إلا المحارم من الآباء والأبناء والإخوان [وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر ] والدها [فقلت له: كيف أجدك يا أبت؟ فقال] البيت الآتي:

[كل امرئ مصبح في أهلـه والموت أدنى من شراك نعله]

فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول] أي: يهذر من آلام الحمى [ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة ] مولى الصديق [فقلت له: كيف تجدك يا عامر ؟] أي كيف تجد نفسك [فقال:

لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه

كل امرئ مجاهد بطوقه كالثور يحمي جلده بروقه] أي: بقرنه .. أنشد شعراً بعد أن سألته.

[فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول].

هذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولعن الله من كرهها من الإنس والجن. لقد رأيتها في منامي وأنا طفل أتعلم القرآن، فوقع في قلبي حبها. والله إني رأيتها في منامي في بستاننا وأنا طفل [وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت] وبلال كان عبداً لـأبي جهل أو لأحد طغاة المشركين، فاشتراه أبو بكر ليخلصه من عذاب المشركين له؛ لأنه لما أسلم سحبوه على الرمضاء وعذبوه العذاب الذي لا نظير له، طالبين منه كلمة الكفر، وهو يقول: أحد أحد! فاشتراه أبو بكر وأعتقه فصار مولى له، وهاجر معه.

قال: [ثم رفع عقيرته] أي: صوته قائلاً:

[ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بفخ وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل] وهذا من شوقه إلى مكة، فشامة وطفيل جبلان فيها.

[والمقصود من إيراد الحالة الصحية بالمدينة -أيام الهجرة إليها- أن نعلم أن الحبيب صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يجدوها مفروشة بالرياحين، ولا سليمة من المنغصات والكدورات، بل فيها المخاوف والشدائد. إنها كيد اليهود ومكرهم، وخبث المنافقين وكفرهم، وعداء المشركين وحربهم، وحتى المناخ مفعم بحمى الملاريا والبلديزم] هذه المدينة في أول أمرها، ونحن قد دخلناها مهاجرين كغيرنا، فالحمد لله، كنا نأتي بالماء على ظهورنا، وليس ضوء ولا كهرباء، لكن الأمن والطهر حسبنا، فبابنا كان لا يغلق بالليل، فالحمد لله؛ لأن البلد الذي تحكمه آيات الله يطهر ويأمن والله العظيم، ولا يأمن بلد ولا يطهر إلا إذا حكمه القرآن الكريم.

[في هذا الجو القاتم يضطلع الحبيب صلى الله عليه وسلم بأعباء دعوته ومهام رسالته، فلا يترك فرصة تضيع بدون إبلاغ دعوته ونشر رسالته، وها هو ذا الآن وقد قضى سنة في دار هجرته، وقد مرت بنا أحداثها، وجلّها مؤلمة يستقبل السنة الثانية من سني هجرته] انتهت سنة، والآن يستقبل السنة الثانية من هجرته وذلك [بالإعداد للجهاد، والتحرك لقتال من يليه من المشركين عملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:123]، وذلك بعد أمره تعالى بالجهاد في قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73].

وبعد الإذن العام بقتال المشركين الظالمين في قوله تعالى] من سورة الحج [ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]] أما في مكة فقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة ما ضرب أحداً فيها بحجر، ولا سمح لأحد من أبطاله أن يضرب أحداً أو يغتاله أو يقتله، ثلاث عشرة سنة وهو كذلك، والكفار جبابرة والمؤمنون مضطهدون يرحلون إلى الحبشة فراراً بدينهم، وما أذن لـعمر ولا حمزة ولا لأولئك الأبطال أن ينتقموا من عمرو بن هشام أو غيره من الكفار.

ونحن نسوق هذا؛ لأننا اليوم ينتقم بعضنا من بعض، ويكفر بعضنا بعضاً، فمن أي دين هذا وردنا؟ ومن أذن لنا بذلك؟

لقد قلنا وكتبنا منذ أكثر من ثلاثين سنة: كفوا ألسنتكم عن تكفير حكامكم، ما أنتم والله بمسئولين عن تكفيرهم، ولا تعبدكم الله بذلك، ولا أذن لكم فيه. وهيا نضع القضية على بساط البحث، فهذا الحاكم يصوم ويصلي ويقول: أنا مؤمن مسلم، فيقولون: لا لا. بل أنت كافر كافر، والرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: ( اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ). وبعد ذلك هل معنى هذا أنكم إذا رأيتم الكفر البواح تقولون: كافر كافر! لا ليس هذا المقصود، ولكن بايعوا إماماً وخوضوا معركة واعزلوا هذا الحاكم الكافر. وإياكم أن تفهموا غير ما أقول، والذي لم يفهم فليراجعني بعد ذلك، فهذه مسئولية نسأل عنها يوم القيامة.

و(إلا أن تروا كفراً بواحاً) معناه: واضحاً صريحاً (لكم فيه من الله برهان)، وحينئذ اعزلوا هذا الحاكم وأبعدوه ونصبوا آخر بدله، لكن الآن الحاكم ليس وحده فهناك الجيوش والمدرعات والصواريخ، وإذا مات الحاكم لا نستطيع أن نُجلس مكانه آخر، فالوقت غير الوقت.

إذاً الحاكم معه الجيش، ولو حاول أحد أن يتكلم أسكته، لكن مع هذا إذا كانت الأمة حية، وقالت: الله أكبر ترددت في الكون كله، وحينئذ تقول: يا حاكمنا! إما أن تتوب وإما أن تنتقل عن إدارة حكمنا، فإن قال: لا، اسكتوا ولوح بالجيش، ففي هذه الحال نسأل أنفسنا: هل نحن مستعدون لأن نقاتل هذا الحاكم بجيشه وحكومته ورجاله؟ فإن كنا غير مستعدين لقلتنا واضطرابنا واختلاف شعبنا فلم نقول له: يا كافر؟! لأن هذا يزيد في بغضه لنا وحربه علينا، وسيقول: وبعد أنا كافر فماذا تريدون؟ فمن الخير ألا يُكفّر، ولكن نربت على كتفيه ونقبل يديه ونروضه رياضة كاملة عسى أن يتوب إلى الله ويقود أمته بكتاب الله وسنة رسوله، فليس القضية فقط أن نقول: الكافر الكافر! وإذا رفع السلاح هربنا، هذا حرام! ما هذه السياسة العمياء؟! والحمد لله شاهدنا أحداثاً مريرة، وفي بلاد كان فيها نور انطمس، ولسنا في حاجة إلى تعدادها أو ذكرها.

لقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة ورب العالمين مؤيد له، وهذا جبريل أو ملك الجبال يقول له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، أي الجبلين، وهذا لما رجع من الطائف يبكي مجروحاً مما وقع، فقال صلى الله عليه وسلم: ( عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً ).

لكن لما جاء المدينة وأصبحت دار هجرة وأصبح المنافقون فيها والكافرون خائفين، حينئذ أذن الله تعالى له في القتال، قال عز وجل: أُذِنَ [الحج:39] والآذن هو الله لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]. وسوف نعيش في دروسنا هذه تسع غزوات غزاها أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ورجاله.

قال: [وبعد الإذن العام بقتال المشركين الظالمين في قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، بعد أن كان محظوراً عليهم قتال الناس مطلقاً وذلك قبل الهجرة، ففي السنة الأولى بعث صلى الله عليه وسلم ثلاث سرايا تقدم الحديث عنها في أحداث السنة الأولى وقد ولّت.

وفي هذه السنة الثانية بلغت غزواته فيها تسع غزوات] وعندنا في الكتاب خطأ وهي أنها: ثماني عشرة غزوة، فيصحح، وهذه المطابع وهذا شأنها.

قال: [وأولاها] أي: أولى الغزوات في السنة الثانية [غزوة الأبواء: كانت هذه الغزاة المسماة بالأبواء أو (ودَّان) لقرب ما بين الأبواء وودَّان؛ إذ ما بينهما من مسافة قد لا تزيد على ستة أميال] وهي شرق رابغ، والأبواء فيها قبر أم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد زارها لما كان عائداً من مكة أو ذاهباً إليها فقال: ( استأذنت ربي في زيارة أمي فأذن لي )، واسم أمه: آمنة بنت وهب ( واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي )، وبكى وهو واقف على قبرها، ومصداق هذا كلام الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، وهذه السورة لا تقرأ على الموتى؛ والعرب والمسلمون لا يعرفون هذا الحكم، يقولون لك: آمنة في الجنة وأبو طالب عم الرسول في الجنة، ويكذبون على الله والرسول بلا علم، ولو قرءوا هذه لما تجرءوا على الكلام، يقول الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:113-114].

أصناف من يمتحنون يوم القيامة

عندنا لطيفة قد لا تعثرون عليها، فإن وُفقت فيها فبها ونعمت ومنه الفضل عز وجل، وإلا فإني أستغفر الله وأتوب إليه، ولكنها تفيد الأبناء.

أقول: عندنا أربعة أصناف من الناس يمتحنون يوم القيامة:

الصنف الأول: أولاد الكفار الذين ماتوا في صباهم، أين مصيرهم وهم لم يشركوا بالله، ولم يذبحوا الناس، ولم يسلبوا الأموال؟

الصنف الثاني: الذين ولدوا وكبروا وهم معاتيه مجانين، لا يفرقون بين الشحم واللحم، أو النار والفحم، واستمر بهم ذلك حتى ماتوا؟

الصنف الثالث: من ولدوا وفي السنة الأولى أو الثانية من عمرهم أصابهم صمم في آذانهم وعمى في أعينهم، فلا يسمعون ولا يبصرون، فكيف يعلّمون؟

لو كان يبصر لعلّم بالإشارة، ولو كان ينطق لعلّم بالسماع، لكن إذا كان لا يسمع ولا يبصر فكيف يعبد الله ويعرفه؟ ولهذا دائماً يقول تعالى في عدة آيات: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، والأفئدة هي العقول، فمن جُن لا يخاطب، والسمع والبصر لا بد منهما مع بعضهم البعض، ومن فقدهما لا يُكلف.

الصنف الرابع: هم أهل الفترة، وهي الفترة التي يفتر فيها الوحي وينقطع، فما هو مصير من ولد من زمن آدم وإلى الآن في بلاد ما وجد فيها من يعلمه؟ أو وُجد في بلاد كلها ضلال وشرك وكفر ولم يصله خبر النبوة؟ هؤلاء كلهم يسمون أهل الفترة، ومنهم آمنة وعبد الله وعبد المطلب ، وغيرهم؛ لأن آمنة ما عاشت حتى استنار الكون بالإسلام، وعبد المطلب كذلك.

أما أبو طالب فالذين يشهدون له بالجنة يكذبون رسول الله في ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول له وهو مريض على سرير الموت -والشياطين حوله أمثال أبي جهل وفلان وفلان-: ( يا عم قل لا اله الا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) فينظر أبو طالب إلى الشياطين فيقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! وفي آخر لحظة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو على ملة عبد المطلب)، وأخذت روحه، فإلى جهنم.

وأخبر عنه الرسول الكريم بعد ذلك فقال: ( إنه في ضحضاح من النار إلى كعبيه يغلي منه دماغه )، ثم يأتي المغرورون والمخدوعون والمقلدون ليقولوا: كيف يدخل عم الرسول النار؟ نعم، قدم للنبي صلى الله عليه وسلم خدمات عظيمة، وكان كالأسد يحميه، وما أوذي الرسول إلا بعد وفاة أبي طالب ، ولكنه مات على الشرك والكفر.

هؤلاء الأصناف الأربعة أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالهم، وأنهم يمتحنون، يقول الله تعالى لهم بواسطة ملك من الملائكة: إن ربكم يقول لكم: ادخلوا النار. وأبوابها مفتوحة، فمن كان مستعداً متهيئاً لو جاءه الرسول وبلغته دعوته أن يؤمن به، يقول: سمعاً وطاعة ويمشي إلى جهنم فيخالف به إلى الجنة، ومن كان مستعداً للكفر وحرب الإيمان وحامليه ودعاته يقول: كيف ندخل النار؟ لا نستطيع أن ندخلها، فيلجئون إليها إلجاءً ويدعون إليها دعاً، هذا هو الحكم.

ونحن نرجو أن يكون عبد الله أو عبد المطلب أو آمنة ممن هم مستعدون لدخول الإسلام وقبول التوحيد، ومن ثم يستجيبون لأمر الله ويخالف بهم إلى دار السلام، ما عندنا إلا هذا.

عندنا لطيفة قد لا تعثرون عليها، فإن وُفقت فيها فبها ونعمت ومنه الفضل عز وجل، وإلا فإني أستغفر الله وأتوب إليه، ولكنها تفيد الأبناء.

أقول: عندنا أربعة أصناف من الناس يمتحنون يوم القيامة:

الصنف الأول: أولاد الكفار الذين ماتوا في صباهم، أين مصيرهم وهم لم يشركوا بالله، ولم يذبحوا الناس، ولم يسلبوا الأموال؟

الصنف الثاني: الذين ولدوا وكبروا وهم معاتيه مجانين، لا يفرقون بين الشحم واللحم، أو النار والفحم، واستمر بهم ذلك حتى ماتوا؟

الصنف الثالث: من ولدوا وفي السنة الأولى أو الثانية من عمرهم أصابهم صمم في آذانهم وعمى في أعينهم، فلا يسمعون ولا يبصرون، فكيف يعلّمون؟

لو كان يبصر لعلّم بالإشارة، ولو كان ينطق لعلّم بالسماع، لكن إذا كان لا يسمع ولا يبصر فكيف يعبد الله ويعرفه؟ ولهذا دائماً يقول تعالى في عدة آيات: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، والأفئدة هي العقول، فمن جُن لا يخاطب، والسمع والبصر لا بد منهما مع بعضهم البعض، ومن فقدهما لا يُكلف.

الصنف الرابع: هم أهل الفترة، وهي الفترة التي يفتر فيها الوحي وينقطع، فما هو مصير من ولد من زمن آدم وإلى الآن في بلاد ما وجد فيها من يعلمه؟ أو وُجد في بلاد كلها ضلال وشرك وكفر ولم يصله خبر النبوة؟ هؤلاء كلهم يسمون أهل الفترة، ومنهم آمنة وعبد الله وعبد المطلب ، وغيرهم؛ لأن آمنة ما عاشت حتى استنار الكون بالإسلام، وعبد المطلب كذلك.

أما أبو طالب فالذين يشهدون له بالجنة يكذبون رسول الله في ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول له وهو مريض على سرير الموت -والشياطين حوله أمثال أبي جهل وفلان وفلان-: ( يا عم قل لا اله الا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) فينظر أبو طالب إلى الشياطين فيقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! وفي آخر لحظة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (هو على ملة عبد المطلب)، وأخذت روحه، فإلى جهنم.

وأخبر عنه الرسول الكريم بعد ذلك فقال: ( إنه في ضحضاح من النار إلى كعبيه يغلي منه دماغه )، ثم يأتي المغرورون والمخدوعون والمقلدون ليقولوا: كيف يدخل عم الرسول النار؟ نعم، قدم للنبي صلى الله عليه وسلم خدمات عظيمة، وكان كالأسد يحميه، وما أوذي الرسول إلا بعد وفاة أبي طالب ، ولكنه مات على الشرك والكفر.

هؤلاء الأصناف الأربعة أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالهم، وأنهم يمتحنون، يقول الله تعالى لهم بواسطة ملك من الملائكة: إن ربكم يقول لكم: ادخلوا النار. وأبوابها مفتوحة، فمن كان مستعداً متهيئاً لو جاءه الرسول وبلغته دعوته أن يؤمن به، يقول: سمعاً وطاعة ويمشي إلى جهنم فيخالف به إلى الجنة، ومن كان مستعداً للكفر وحرب الإيمان وحامليه ودعاته يقول: كيف ندخل النار؟ لا نستطيع أن ندخلها، فيلجئون إليها إلجاءً ويدعون إليها دعاً، هذا هو الحكم.

ونحن نرجو أن يكون عبد الله أو عبد المطلب أو آمنة ممن هم مستعدون لدخول الإسلام وقبول التوحيد، ومن ثم يستجيبون لأمر الله ويخالف بهم إلى دار السلام، ما عندنا إلا هذا.

قال: [كانت هذه الغزاة المسماة بالأبواء أو ودان لقرب ما بين الأبواء وودان، إذ ما بينهما من مسافة قد لا تزيد على ستة أميال، وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت في صفر] محرم هو بداية السنة الثانية، وكان ذلك في صفر [وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه مرور عير لقريش بالأبواء] بلغه عن طريق الأخبار من أناس يمشون يذهبون ويجيئون أو تجار أو مسافرين أن عيراً لقريش سوف تمر بالأبواء آتية من الشام تحمل البر والشعير والزبيب والأطعمة؛ إذ ليس هناك بواخر ولا سيارات ولكن الإبل، وهذا بناء على أنهم أخرجوه من داره واضطروه للخروج وحاربوه، ثم إن أموال أصحابه كلها في مكة، فمن الخير والحكمة والمنطق والعدالة أن يعترض عيرهم ويأخذها أو يأخذ بعضها؛ ليطعم المؤمنين في المدينة [ووجود بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة في المنطقة] ممكن يستعين بهم بعد الله [فخرج لذلك، بعد أن استخلف على المدينة سعد بن عبادة رضي الله عنه] الرسول سياسي حكيم، ما ذهب مسافة بضعة كيلو مترات حتى استخلف على المدينة والياً عاماً وهو سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه [ولما وصل إلى ديار بني ضمرة وادعته هذه القبيلة بواسطة سيدهم وصاحب الأمر فيهم] ووادعته. يعني: سالمته على ألا تؤذيه ولا يؤذيها، فكانت مصالحة مع قبيلة كافرة مشركة.

ونعود للسياسة: فقد بلغني الآن في المجلس أن سماحة المفتي الذي هو -والله- أعلم أهل الأرض اليوم وأصفاهم وأطهرهم وأزكاهم الشيخ عبد العزيز بن باز -أسأل الله أن يأخذ من أيامي ويزيد في أيامه، وأقول ذلك وأدعو بهذا الدعاء؛ لأني أخاف إذا مات أن تصاب المملكة بظلمة، فمن يخلفه بعد ذلك؟ إلا أن يشاء الله- أفتى بجواز المصالحة مع اليهود، وغضب من غضب، والحمد لله نحن قلنا هذا من أربعين سنة، ووالله لو كان العرب رشداء حكماء متأهلين للسيادة والكمال لكانوا من يوم أن قهرتهم إسرائيل في الحرب الأولى أو الثانية وطالبت المصالحة يصالحونها. ولكن يقولون: إذا تم الصلح انتشر الزنا والخمر والباطل، وهاهم اليوم ينشرونه بدون مصالحة، وكيف ينشرونه؟ ألسنا المؤمنين فكيف نقبل الهبوط؟ كانوا خائفين لو تم الصلح أن تنقلب البلاد كلها إلى فسق وفجور، وها هي ذا منقلبة بدون مصالحة، وهل هذا تعليل؟!

والله لو تم الصلح وكنا عازمين لكانت الآن فلسطين دولة إسلامية؛ لأن اليهود معروفون: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]، تقووا أنتم يا عرب وأدخلوا نور الله في دياركم، وسالموهم عاماً أو عامين وبعد عشرة أعوام لعلهم ينقضون هم المعاهدة، فهذه طبيعتهم، فإذا نقضوها اصفعوهم وكلوهم كما فعل سيدكم صلى الله عليه وسلم. ولا يفهمون هذا؛ لأنهم ما تخرجوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

النبي صلى الله عليه وسلم ما خرج من المدينة إلا ووضع عليها سعد بن عبادة رضي الله عنه والياً، والأحزاب اليوم في البلاد العربية والإسلامية ليس فيها حزب عنده رئيس، ولكن فوضى عامة وهيجان ثائر لا معنى له؛ ولهذا لا يستطيعون أن يقيموا حتى شعيرة دينية، فلو أن لهم رئيساً يصيح فيهم قائلاً: حجبوا نساءكم ما بقي -والله- امرأة تخرج إلا متحجبة، وبعد عام يقول: امنعوا وضع أموالكم في بنوك المرابين. فلا تجد من يُدخل ماله في بنك ربوي، وبذلك يرتقي بهم حالاً بعد حال، وإذا بالبلاد كلها نور. ولكن هيجان أعمى بلا بصيرة، والضربات كلها تنصب على الإسلام وعقيدته.

إذاً: كانت هذه الموادعة [بواسطة سيدهم وصاحب الأمر فيهم مخشي بن عمرو الضمري ، وفاتت عير قريش] ما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى مضت [فعاد صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيداً] أي: شقاء وعذاب [غير أنه أقام بالأبواء بقية صفر وعاد في ربيع الأول، وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة أبيض يحمله عمه حمزة رضي الله عنه].

معاشر المستمعين والمستمعات إخوانكم يتوسلون بكم إلى الله عز وجل؛ لأنكم مؤمنون أحياء تدعونه وأنتم في بيته وتدرسون كتابه وهدي نبيه، إن لهم مرضى في المستشفيات وفي البيوت، وقد استجاب الله لكم غير ما مرة، فهيا ندعو لهم بالشفاء:

يا حي يا قيوم! يا حي يا قيوم! يا بديع السموات والأرض! يا مالك الملك! يا ذا الجلال والإكرام! هذه أكفنا قد رفعناها إليك سائلين ضارعين أن تشفي مرضانا ومرضى المؤمنين، اللهم إن لنا مرضى في بيوت وآخرين في المشافي وبيننا فاشفهم يا رب العالمين، إنه لا يشفي إلا أنت، اللهم اشفهم، اللهم اشفهم وعافهم ولا تبتلينا يا ربنا إنك ولينا وولي المؤمنين.

وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.