هذا الحبيب يا محب 42


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس في السيرة النبوية العطرة من كتاب هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب إلى مقطوعة [ظهور العداء الشديد وبدء الصراع الداخلي] أي: بدء الصراع في داخل المدينة.

فهيا نراجع تلك الحياة التي مضى عليها ألف وأربعمائة من السنين وزيادة، ونعيش هذه الساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنين.

قال: [إنه ما إن انقضت السنة الأولى من سني الهجرة المباركة للحبيب صلى الله عليه وسلم ولاح في الأفق ظهور الإسلام، وعزةُ أهله حتى نجم النفاق من اليهود والمشركين معاً، وأخذ التحزبُ والتكتل ضد الإسلام والمسلمين يلوح في الأفق، وأصبحت المدينة ميداناً للصراع الداخلي. وها هي ذي قائمة بأسماء منافقي اليهود مقرونة بسوء أفعالهم، وأخرى بأسماء منافقي المشركين مشفوعة كذلك بقبح أعمالهم وسوء سلوكهم].

تعريف النفاق وذكر علامات المنافق

لعل بعض السامعين والسامعات لا يعرفون معنى المنافق والنفاق.

النفاق هو: إظهار الإسلام باللسان والجوارح، وإبطان الكفر في القلب والنفس. الظروف أجبرتهم على أن يسلموا ظاهراً، وأن يخفوا كفرهم باطناً، والمنافق من الرجال والمنافقة من النساء.

والنفاق: مأخوذ من نافقة اليربوع، والعامة تسميه: الجربوع، وهذا يوجد في الصحارى وهو حيوان يسمى باليربوع، يبني داره وسكناه تحت الأرض، يجعلها مخازن يختبئ فيها، ويدخر فيها طعامه، ويجعل هناك نافقة.. أي: يحفر الأرض حتى لا يبقى إلا قشرة قليلة من التراب وتلك هي النافقة، فإذا جاء من يتابعه ويبحث عنه خرج من تلك النافقة التي أعدها، وهي قشرة رقيقة يفتحها برأسه ويهرب، وإذا جرى لا يمكنك أن تدركه. وسبحان الله! رجلاه طويلتان ويداه قصيرتان.

فالمنافق يظهر لك الإيمان والإسلام ويجاملك ويداريك وهو عنده اتصال بالمشركين والكافرين، فإذا ضاقت به الأرض خرج من أحد الطريقين. ومن هذا اشتق لفظ النفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي رجاله علامات النفاق، كما يعطى الآن في العالم البوليس أو رجال الأمن صفات خاصة بأهل الإجرام والظلم والشر والفساد ليتابعونهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده رجال أمن ولا جيش خاص، ولكن كل مؤمن جندي من جنود الله، ورجل من رجالات الأمن والمباحث، إذا شعر بأنه وجدت جريمة -قريبة أو بعيدة- بحث عنها وكشفها ووضع الحد لها، وإذا رأى منكراً أوقفه، وإذا رأى ظلماً أبعده، وكل مؤمن إذا قال إمام المسلمين الجهاد، حمل السلاح وخرج. وهذه الوضعية أسلم مليون مرة من الوضعية العصرية التي عرفها العالم.

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في وصف المنافقين: ( آية المنافق ثلاث ) ثلاث خصال دالة على أنه منافق: ( إذا وعد أخلف )، فإذا جربت من جارك أو من يعمل معك من مواطنيك ووجدته كلما وعدك أخلف فاعلم أن فيه أية من آيات النفاق، وقد يعجز المؤمن ويأتي ويعتذر، فيقول: وعدتك ولكن ما استطعت أو نسيت، ولكن أن يتكرر ذلك منه في المرة الأولى والثانية والثالثة، فهذا يتلذذ بإشقائك وتعذيبك يا مؤمن!!

على سبيل المثال: في الحر الشديد يقول لك: موعدنا إن شاء الله الساعة الواحدة بعد صلاة الظهر في المكان الفلاني، فيمشي المؤمن ويقف في الشمس وينتظر قائلاً: الآن يأتي.. والآن سيأتي، وذاك مع أسرته يضحك، ويقول: اتركوا الشمس تأكله، ويتلذذ بذلك!

أو قد يعد مؤمناً نصف الليل لأجل سفر خارج البلاد، والمؤمن يأتي بزاده وينتظر في مفترق الطرق قائلاً: الآن يأتي.. الآن سيأتي، وذاك نائم غير مبال به، يتلذذ بتعذيبه.

قال: ( وإذا حدث كذب ) كلما يحدثك يكذب عليك، في المرة الأولى والثانية والثالثة. إذاً: يريد أن يعذبك ويفسد عليك عقلك ودينك، فإذا جربت عليه الكذب مرة وثانية وثالثة، فهذا هو، ضع يديك عليه.

( وإذا اؤتمن خان ) إذا وضعت عنده أمانة قرشاً أو دجاجة -فضلاً عن كبش أو ناقة- احتال كيف يقول: مع الأسف! أنت واهم فلم تضع عندي شيئاً، وراجع نفسك يا فلان، لعلك أعطيتها غيري! ويأخذ الأمانة ويأكلها ويتلذذ بها، وليس عندك شاهدان ولا كتابة، فلمن تشتكي؟!

ومن الأمانات ذات القيمة: السر. فإذا أسررت له بخبر ينبغي أن لا يبرز ويظهر، أفشاه. المهم: خيانة الأمانة من صفات المنافقين.

ورابعة في حديث آخر: يقول صلى الله عليه وسلم ( أربع من كنّ فيه كان منافقاً تام النفاق، ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق وزاد: وإذا خاصم فجر )، إذا خاصمك أمام القاضي أو الأمير أو الحاكم لا يلتزم بالآداب والصدق، ويأتي بالكلام الباطل؛ ليشوش على القاضي، أما المؤمن في الخصومة كغيرها يقول الصدق، وما عرف وما علم.

فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضبطون المنافقين بهذه الصفات، ولكن لا يستطيعون ضربهم ولا قتلهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( أخشى أن يقال: محمد يقتل أصحابه ). وها نحن نمر الآن بهذه الحال.

فإياي وإياكم والكذب! وإياي وإياكم وخلف الوعد! وإياي وإياكم وخيانة الأمانات! وإياي وإياكم الفجور والخروج عن الآداب حال الخصومات! لأن النفاق العملي موجود، بينما النفاق العقدي مات أهله، وقد يوجدون الآن، ولا مانع من وجودهم؛ ولكن بلاد العرب ذليلة مهانة -بلاد المسلمين- فلو كنا سادة نحكم العالم الغربي -مثلاً- فلعل بعضهم ينافق ليعيش، لكن الآن ما في داعي للنفاق! ينافق لأجل ماذا؟ الآن يفرحون بمن لا يصلي، فكيف ينافق إذاً؟

إذاً: نحذر هذا حتى لا يكون فينا وصف من أوصاف المنافقين، فإذا حدثنا لا نكذب، وإذا اؤتمنا أمانة لا نخونها، وتبقى عندما مدى ما نحن أحياء، إذا واعدنا لا نخلف، وقد نخلف الوعد لكن لا عن قصد وإرادة، وإنما للضعف والنسيان، فقد تعد وتنسى، أو يأتي طارئ يمنعك من المقابلة، والله يعلم ما في ضمائرنا ونياتنا، أما أن نتعمد، فنعد مؤمناً لنعذبه وهو ينتظر فهذا لن يكون من مؤمن أبداً ولا مؤمنة.

ذكر من عرف بالنفاق من اليهود بالمدينة

قال: [إن من بين من عرفوا بالنفاق من اليهود بالمدينة، حيث أظهروا الإسلام كيداً للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ومكراً بهم، وهم مصرون على كفرهم ويهوديتهم -عليهم لعائن الله-.

أولاً: زيد بن اللصيت ، وهو القائل لما ضلت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم] في غزوة تبوك، وطلبوها فما وجدوها؛ لأنهم خيموا ونزلوا في الطريق [يزعم محمد أنه نبي، يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته] انكشفت عورته! فالمنافقون لا يصبرون، ولو كان بين يدي لصفعته على خده [ولما بلغ هذا القول النبي صلى الله عليه وسلم قال:] اسمعوا الرد الكريم؛ لتعرفوا مقام محمد صلى الله عليه وسلم في العالمين [( والله لا أعلم إلا ما علمني الله )] يعني: إذا لم يعلمني فلا أعلم أبداً [( وقد دلني الله عليها، فهي في هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها )] تعلق زمامها بغصن شجرة فربطها، وما استطاعت أن تخلص [فذهب رجال من المسلمين فوجدوها كذلك] ولعنة الله على ابن اللصيت .

[ثانياً: رافع بن حريملة ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات -عليه لعائن الله- ( مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين )] يعني: من كبارهم وأقويائهم.

[والثالث والرابع] من منافقي اليهود [ رفاعة بن زيد بن التابوت ، وسويد بن الحارث : أظهرا الإسلام نفاقاً ومكراً وخديعة] هذان اليهوديان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث أظهرا الإسلام وأعلناه نفاقاً ومكراً وخديعة [فوادَّهما بعض المسلمين] ومعنى (وادهما) يعني: صادقهما وأحبهما، لما أظهرا من الإسلام [اغتراراً بهم] من باب الاغترار بالصورة والمنطق والبيان [فأنزل الله تعالى قوله ينهى المسلمين عن موادتهم] أي: محبتهم وصحبتهم [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:57]] يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً [ لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ [المائدة:57]] أي: لا تتخذوهم أولياء، توالونهم بالعون والمودة واللقاء وما إلى ذلك [ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57]] اتقوا الله! لا تغضبوه عليكم بموادة أعدائه من المنافقين اليهود؛ لأن الله إذا صاحبت وواددت عدوه فأنت ضده، وإذا عاديت ولي الله، وحاربته ووقفت ضده، وقفت ضد الله، لا تفهم إلا هذا: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).

فالذي يوالي منافقاً ضد الإسلام والمسلمين ويوادّه معناه: أنه وقف ضد الله عز وجل، فليستعد، ويكفي هذان اليهوديان أنهما أظهرا الإسلام وتملقا وبرزا في صور الكمال الإسلامي، فانخدع بعض المؤمنين بهم وصاحبوهم وأحبوهم، وما رضي الله بهذا، فأنزل آية خالدة تتلى إلى يوم الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أيضاً أَوْلِيَاءَ لكم توالوهم بالحب والعون وما إلى ذلك .. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57]، احذروا غضبه ونقمته وعذابه.

هل يبقى بعد هذا مؤمن يواد كافراً منافقاً يريد ضرب الإسلام وتحطيمه؟!

قال: [وكان رفاعة هذا إذا كلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوّى لسانه ويقول: أرعنا سمعك يا محمد حتى نُفهمك] أي: حتى نُفهمك كلامنا [ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله تعالى فيه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:44-46].

الخامس، والسادس، والسابع: سعد بن حنيف ونعمان بن أوفى بن عمرو وأخوه عثمان بن أوفى ] ثلاثة من اليهود المنافقين؛ أظهروا الإسلام وهم على يهوديتهم.

و[الثامن والتاسع: سلسلة بن برهام ، وكنانة بن صوريا كل هؤلاء كانوا من أحبار يهود] أي: علماء اليهود [فأسلموا نفاقاً للدس والفتنة والوقيعة بين المسلمين، فلعنة الله عليهم أجمعين].

وتذكرون أن الإسلام على عهد عيسى وحوارييه لم يتجاوز سبعين سنة، ثم تحول إلى وثنية، فما عُبد الله سبحانه وتعالى برسالة عيسى وحوارييه والمؤمنين إلا سبعين سنة، ثم حُول إلى وثنية وتثليث، والذي قام بهذه المهمة هو بولس اليهودي، بعد أن دخل في المسيحية واعتنقها وأدخل الناس فيها تضليلاً وإيهاماً، ثم أخذ يتصرف فجعل عيسى ابن الله، وهم الذين بالأمس قتلوه وصلبوه -أي: الذي شبه لهم-.

والشاهد عندنا في مكرهم وإفساد العقائد والأديان واضح، فقد أفسدوا الديانة الإسلامية التي جاء بها عيسى عليه السلام بعد سبعين سنة فقط، وإن تبحث عما أصاب العالم الإسلامي في عقائده تجد أصابعهم، ودائماً نقول: الثالوث! واليهود هم العمدة في ذلك، وإلى الآن ما زالوا يفعلون، وقد تجد هذا في مناهج التربية والتعليم، لكن هل عرف المسلمون هذا؟ لا. وكأنهم ما سمعوا ولا قرءوا هذه الآية أبداً.

[فهؤلاء تسعة من أحبار اليهود أسلموا ظاهراً وهم كفار باطناً] برسول الله وبكتابه وبالإسلام [وكان غرضهم من إسلامهم الدس والوقيعة بين المسلمين، والفتنة لضعفاء الإيمان، والتعرف على أحوال المسلمين الخفية؛ ليقفوا في طريق دعوة الإسلام حتى لا تظهر ولا تنتشر حفاظاً على كيانهم المزعزع، وتشبثاً بحلمهم الباطل، وهو إعادة مجد ومملكة بني إسرائيل التي تحكم من النيل إلى الفرات].

وقد بينا للسامعين والسامعات أن اليهود ما كفروا عن جهل، فلم يعرفوا أن الإسلام هو دين الله، ولكن -فقط- منعهم أنهم إذا دخلوا في الإسلام وذابوا فيه، فمن يعيد مجد بني إسرائيل! ومن يعيد مملكتهم التي سادت في الشرق والغرب على عهد سليمان ، فقالوا: كيف نضحي بهذه الأحلام والآمال؟! وقد عملوا لها من قرون، فكانوا ينتظرون الإسلام ظناً منهم أنه سيماشيهم، ويسير معهم ويتحول إلى دعوة يهودية، فلما وصل الإسلام إلى المدينة، وقبل وصوله إلى المدينة كانوا متحفظين، فما استطاعوا أن يقولوا شيئاً ينتظرون الأحداث، وما إن نزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وانكشفت عورتهم حتى صمموا على أن لا يعرفوا الإسلام.

والدليل دولتهم في فلسطين، أعطوهم ملء الأرض ذهباً هل يتنازلون عنها؟ لو قالت أمريكا تعالي يا حفنة اليهود نعطيكم قارة بكاملها في أمريكا الشمالية هل يرضون بذلك؟ لا يرضون، حتى يقتلوا تقتيلاً، لِم؟ لأنهم يعملون منذ قرون على إيجاد مجدهم ومملكتهم، وبهذا يتواصون، ويدرسون ويتعلمون نساء ورجالاً، ولهذا لا يسمحون لغير اليهودي الأصيل أن يدخل معهم أو يكون في جملتهم، أبداً؛ وإذا غرروا بشخص وخدعوه أعطوه يهودية يتزوجها لتكون جاسوسة لصالحهم.

دور اليهود في نفاق العرب المشركين

قال: [منافقو المشركين] وهم من العرب الذين أشركوا في عبادة الله الأوثان والأصنام فعبدوها معه، فكانوا بذلك مشركين، فالمشرك هو من أشرك الشيء بالشيء، فإذا أشركت فلاناً في بيتك جعلته شريكاً. فالذين عرفوا مع الله غيره من مخلوقاته، ودانوا له بالحب والولاء والطاعة والإذعان، والتقرب إليه بأنواع العبادات أولئك هم المشركون.

والموحدون ضدهم، يقولون: لا إله إلا الله، فلا يدعى إلا هو، ولا يستغاث ويحلف إلا به، ولا يركع ويسجد إلا له، ولا يطاع إلا هو. هذا هو الموحد.

[لقد كان لمنافقي اليهود أثر كبير على المشركين؛ إذ جلّ المنافقين من المشركين، كان نفاقهم بسبب منافقي اليهود] فالعرب كانوا لا يعرفون النفاق أبداً، أصرح الخلق هم، إذا قال الكلمة لا يمكن أن يتردد فيها، الصدق شعار العرب، لكن أثر فيهم اليهود بالتعاليم الخاصة، فجعلوا من العربي الذي لا يمكن أن يكذب طول حياته منافقاً.

وأعطيكم حكاية حدثناكم بها مئات المرات عن الشيخ الطيب العقبي ، خريج المسجد النبوي، صاحب جريدة القبلة بمكة، ثم جريدة أم القرى، توفي في الديار الجزائرية، ونشر فيها دعوة التوحيد رحمة الله عليه، فقد ذكر صدق العرب في أحد دروسه فقال: كنا حجاجاً نركب الإبل وصاحب الحملة هو الذي يقودنا. إذ ليس سيارات يومئذٍ، فوكل صاحب الحملة بالشيخ شاب عربي، ليلتزم الشيخ لينيخ الناقة وغير ذلك .. خدمة له، فهذا الشاب انجذب للشيخ، وأخذ يسمع منه ويقبل ما يقول، وفي هذا الوقت بالذات العرب انتكسوا، كان الجهل والظلم والشر والفساد، قبل سطوع الأنوار المحمدية على يد عبد العزيز .

قال: فلما كنا في عرفة وقد مشينا من المدينة عشرة أيام أو أكثر، قلت للشاب: ألا تتوب يا بني! وتترك السلب والنهب وغصب الناس؟ فقال الشاب: أستشير عمي! فإذا قبل مني أن أتوب تبت. فلما فحضر عمه أو أبوه قال له: يا عم! إن هذا الشيخ يقول لي لو تركت الظلم والفساد وتبت إلى الله كان خيراً لك؟! فقال: ويحك! ومن للعائلة ومن للأسرة إذا أنت تبت!.

والشاهد عندنا هو: الصدق؛ إذ لو قال: تبت لتاب إلى الأبد، ومعناه: أنه لن يعود إلى الظلم بحال من الأحوال، عرفتم الآن أن نفاق اليهود هو الذي بلبل أفكار العرب وجعلهم يهبطون وينافقون، وهل كان منافقون بمكة؟ والله ما كان. لكن لما عاشروا اليهود، وجاءت دعوة الإسلام أخذ اليهود يصبون في آذان العرب وفي فهومهم الباطل، فوجد منهم المنافقون كما سنسمع.

ذكر من عرف بالنفاق من المشركين بالمدينة

قال: [إذ حسّنوا لهم ذلك تحت عنوان النصيحة لهم، وإرشادهم إلى السلوك اللائق بهم حفاظاً على وجودهم ومكانتهم بين الناس، ومن بين من عُرف من منافقي المشركين هم:

أولاً: زوي بن الحارث من بني عمرو بن عوف.

ثانيهم: جلاس بن سويد من بني حبيب، وكان ممن تخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو القائل: لئن كان هذا الرجل -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- صادقاً لنحن شرّ من الحمر] يعني: إذا كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحمير -وهو كذلك- [وسمع هذه المقالة الخبيثة ربيبه عمير بن سعد ] والربيب هو ابن الزوجة [فقال له: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إليّ] وأحسنهم عندي يداً، وأعزهم عليّ أن يصيبه شيء أكرهه [ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك، ولئن صمتُّ] يعني: سكت [عليها ليهلكن ديني، ولإحداهما أيسرُ عليّ من الأخرى] يقول لزوج أمه: لقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك -يعني: إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه- لأفضحنك، ولئن صمتّ عليها ليهلكن ديني، ولإحداهما أيسر عليّ من الأخرى، أي: نقلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال جلاس ] لأنه قال: لئن صمتّ فمعناه أني أهلكت ديني، فهو مضطر، لابد أن ينقلها وإن كان جلاس زوج أمه [فحلف جلاس بالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كذب عليّ عمير ] يعني: أنه لم يقل هذه الكلمة [وما قلت ما قال عمير بن سعد ، فأنزل الله تعالى فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:74]] والقرآن يشفي الصدور، فما من حادثة تحدث إلا وينزل قرآن يبينها [وقد رُوي أن جلاساً قد تاب، وحسنت توبته حتى عرف منه الخير والإسلام] ولا تعجب، فما مات رسول صلى الله عليه وسلم وما زال منافق في المدينة، كلهم ماتوا أو دخلوا في الإسلام، وهذا جلاس نجا.

[ثالثاً: الحارث بن سويد أخو جلاس بن سويد ] عائلة واحدة [كان منافقاً، فخرج مع المسلمين يوم أحد فقتل المجذر البلوي وقيس بن زيد أحد بني ضبيعة] قتلهما في المعركة لا من أجل الله والإسلام ولكن [أخذاً بثأر له منهما إذ قتلا أباه في الجاهلية] هو دخل يقاتل مع المسلمين، لكن لما رأى الرجلين الذين قتلا أباه فيما مضى تبعهما وقتلهما [ثم التحق بقريش بمكة] لما انتهت المعركة التحق بدار الكفر يومئذ في مكة [ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه بالمدينة] أي: ندم، واتصل بأخيه ليشفع له في العودة [فأنزل الله تعالى فيه قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران:86]] فحرم هداية الله له وهلك.

[رابعاً: نبتل بن الحارث من بني لوذان بن عمرو بن عوف، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أحب أن ينظر إلى شيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث )، وكان رجلاً جسيماً أذلم] والأذلم هو: الأسود الطويل مسترخي الشفتين [ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع الخدين، وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث إليه فيسمع منه، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين] واسطة شر [وهو القائل: إنما محمد أُذُنٌ] بمعنى: كل من يأتيه يقبل كلامه [من حدثه شيئاً صدّق] ولهذا أصبح هو واسطة، ينقل الأخبار [فأنزل الله تعالى فيه من سورة التوبة: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة:61]] سبحان الله! كيف رد الله هذا بقول: نعم (أُذُن) ولكن أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة:61].

والآن البشرية تقول أبشع من هذا الكلام مع العلماء وغير العلماء؛ لأنه جهل ومرض، عدم علم ومرض نفس، وليس ثم علاج إلا بالإيمان وصالح الأعمال.

[خامساً: مربع بن قيظي ، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه] أي: في بستانه [ورسول الله صلى الله عليه وسلم عامد إلى أُحد] برجاله. لما كانت غزوة أحد جاء المشركون من الجنوب والغرب فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الشمال بجيشه، فمروا من بستان؛ لأنه ليس هناك طريق، فهذا المنافق الأعمى لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم برجاله مارين من البستان قال: [لا أحل لك يا محمد -إن كنت نبياً- أن تمر في حائطي] أي: في بستاني [وأخذ حفنة من تراب ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به] وهذا يحتاج إلى صفعة [ولما ابتدره الصحابة أن يقتلوه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دعوه )] أي: اتركوه. وهذه الرحمة المحمدية [( فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصيرة )] أي: ماذا ترجون منه؟ [وضربه سعد بن زيد بالقوس فشجه] ما طاق سعد كلامه وضربه بقوسه فشج رأسه.

[سادس المنافقين: أوس بن قيظي أخو مربع، وهو الذي قال يوم الخندق: يا رسول الله: إن بيوتنا عورة فأذن لنا فلنرجع إليها، فأنزل الله تعالى فيه قوله: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13]]؛ لأن في غزوة الخندق خرج المؤمنون كلهم إلى سلع وتركوا النساء والأطفال والذراري في المدينة. فهذا المنافق قال: يا رسول الله! ائذن لنا أن نعود إلى بيوتنا، فإنها مكشوفة، وقد يأتينا العدو من جهة أخرى، فرد الله تعالى عليه بقوله: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13] أي: من المعركة، حتى لا يواجهوا المشركين؛ لأن الأحزاب الذين جاءوا من كل حدب وصوب، ما جاءوا لأجل النساء والأولاد والذراري والأموال، ولكن جاءوا لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فلا حاجة لهم في أن يدخلوا المدينة. فهؤلاء المنافقون فضحهم الله: يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13] يعني: مكشوفة وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13] من القتال والجهاد؛ لأنهم لا يريدون نصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

[سابعاً: حاطب بن أمية بن رافع الخزرجي ، وكان شيخاً كبيراً في الجاهلية له ابن من خيرة المسلمين، يقال له: يزيد بن حاطب ، أصيب يوم أحد، فنُقل مثخناً بجراحاته] هذا الشاب الطيب، جرح جراحات في غزوة أحد فنقل بجراحاته [إلى دار بني ظفر، فاجتمع إليه من رجال المسلمين ونسائهم] قبل نزول الحجاب [وهو يموت] يلفظ في أنفاسه وجاء المؤمنون والمؤمنات يشاهدون أخاهم وهو يموت [فقالوا له: أبشر يا ابن حاطب بالجنة، فنطق أبوه حاطب المنافق، فقال: أجل] أي: نعم [جنة ولكن من حرمل] وشجر الحرمل شجر مر يابس، ثم قال: [غررتم والله هذا المسكين من نفسه] أي: خدعتموه وغششتموه.

[ثامناً: بشير بن أبيرق أبو طعمة سارق الدرعين الذي أنزل الله تعالى فيه: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]] كان هذا الرجل قد سرق درعاً، ولما خرج المسلمون يتبعونه وضعه في بيت يهودي، وقال اليهودي هو الذي سرقه، واليهودي لم يسرق، ثم جاء إخوانه المنافقون وشهدوا.. فانغر الرسول صلى الله عليه وسلم بهم ووقف إلى جانبهم؛ حتى أنقذه الله بقوله: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ [النساء:107] الآيات من سورة النساء ..

وقد هرب إلى مكة، وجاء ليلة من الليالي يسرق البيوت، فحفر في جدار بالفأس، لعله كان يريد الوصول إلى غرفة فيها طعام أو مال أو كذا.. ولما دخل نصفه وقع عليه الجدار، فأمسكوه وهو كذلك ..

[تاسعاً: قزمان حليف لبني أبيرق، والذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه من أهل النار )، وذلك أنه قاتل يوم أحد قتالاً شديداً، وقتل بضعة نفر من المشركين] ولم يكن يقاتل لوجه الله، بل حمية عن بلاده ووطنه المدينة [فأثبتته الجراحات، فحمل إلى دار بني ظفر، فقال له رجال من المسلمين: أبشر يا قزمان فقد أبليتَ اليوم، وقد أصابك ما ترى، قال: بِمَ أبشر؟ فوالله ما قاتلت إلا حمية عن قومي، فلما اشتدت به جراحاته أخذ سهماً من كنانته فقتل به نفسه، فصدق عليه قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( إنه من أهل النار ).

عاشر المنافقين: عبد الله بن أبي ابن سلول الخزرجي ، وهو رأس المنافقين وإليه يجتمعون، وهو القائل: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل] في غزوة خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حصل خلاف على ماء فقال هذه الكلمة: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، والله يقول: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].

قال: [وذلك في غزوة بني المصطلق، وفيه -وفيه رهطه- نزلت سورة المنافقون بأسرها، وهم الذين كانوا يدسون إلى بني النضير حين حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون لهم: أثبتوا فوالله: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11]] وأجلي بنو النضير وما خرج معهم منافق، وهذه لغة المنافقين وهذه أحوالهم.

وأخيراً قال: [هؤلاء عشرة من منافقي المشركين، الذين كانوا يمالئون اليهود وغيرهم على الإسلام، وقد أسلم من أسلم منهم وحسن إسلامه، ومات على النفاق من مات منهم؛ بحيث لم يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبقَ منهم منافق، لا من اليهود ولا من المشركين؛ إذ اليهود قد أنهي وجودهم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنهم كانوا ثلاث طوائف: بنو قينقاع وبنو النضير، وبنو قريظة، أما بنو قينقاع وبنو النضير فقد أخرجوا من المدينة، وأما بنو قريظة فقد أعدموا فيها لخيانتهم وغدرهم].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ..