دورة الأترجة القرآنية [6]


الحلقة مفرغة

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه ...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37]، نلاحظ أنه ورد في القرآن أكثر من موطن الإشارة إلى اقتراح الآيات كما في هذه السورة، ففي بداية السورة كانوا يقترحون إنزال الآيات، وأخبر الله سبحان وتعالى أنه حتى لو نزلت هذه الآيات فإنهم لا يؤمنون.

وهنا قال: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الأنعام:37]، وهي نفس الفائدة التي سبق أن ذكرناها: أن إنزال الآيات إنما هو حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن المقترح ليس هو الأصل في إنزال الآيات، ولهذا لم يستجب الله سبحانه وتعالى للكفار إلا في آية انشقاق القمر على أن يؤمنوا ولم يؤمنوا، وكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه لم يعذبهم بالاستئصال؛ بسبب عدم إيمانهم بهذه الآية؛ لأن من كان يكفر من السابقين بآية النبي فإن الله سبحانه وتعالى يستأصله، وعذاب الاستئصال لم يقع عليهم من رحمة الله سبحانه وتعالى بهم.

تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ...)

ثم قال في التفسير الميسر في تفسير آية وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ.. [الأنعام:38]: [ليس في الأرض حيوان يدب على الأرض أو طائر يطير في السماء بجناحيه إلا جماعات متجانسة الخلق مثلكم.

ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئاً إلا أثبتناه، ثم إنهم إلى ربهم يحشرون يوم القيامة، فيحاسب الله كلاً بما عمل.

والذين كذبوا بحجج الله تعالى صم لا يسمعون ما ينفعهم، بكم لا يتكلمون بالحق، فهم حائرون في الظلمات، لم يختاروا طريقة الاستقامة.

من يشأ الله إضلاله يضلله، ومن يشأ هدايته يجعله على صراط مستقيم.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: أخبروني إن جاءكم عذاب الله في الدنيا أو جاءتكم الساعة التي تبعثون فيها: أغير الله تدعون هناك لكشف ما نزل بكم من البلاء، إن كنتم محقين في زعمكم أن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله تنفع أو تضر؟

بل تدعون هناك ربكم الذي خلقكم لا غيره، وتستغيثون به، فيفرج عنكم البلاء العظيم، النازل بكم إن شاء; لأنه القادر على كل شيء، وتتركون حينئذٍ أصنامكم وأوثانكم وأولياءكم.

ولقد بعثنا أيها الرسول إلى جماعات من الناس من قبلك رسلاً يدعونهم إلى الله تعالى، فكذبوهم، فابتليناهم في أموالهم بشدة الفقر وضيق المعيشة، وابتليناهم في أجسامهم بالأمراض والآلام; رجاء أن يتذللوا لربهم، ويخضعوا له وحده بالعبادة.

فهلا إذ جاء هذه الأمم المكذبة بلاؤنا تذللوا لنا، ولكن قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون من المعاصي، ويأتون من الشرك.

فلما تركوا العمل بأوامر الله تعالى معرضين عنها، فتحنا عليهم أبواب كل شيء من الرزق، فأبدلناهم بالبأساء رخاءً في العيش، وبالضراء صحة في الأجسام; استدراجاً منا لهم، حتى إذا بطروا، وأعجبوا بما أعطيناهم من الخير والنعمة أخذناهم بالعذاب فجأة، فإذا هم آيسون منقطعون من كل خير].

قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، وهذا خطاب للكفار للتنبيه على قدرة الله سبحانه وتعالى في خلقه، ولهذا لو أردت أن تجمع دواب الأرض على كثرتها وتقسمها على أصناف الأمم، مثلاً: أمة الثعالب، وأمة القطط، وأمة الفئران، وأمة الأسود، وأمة النمور، وأمة.. ستجد أن كل واحدة منها تعد أمة أمثالكم، أي: مثلكم في الأممية، كالفرس، والروم، والعرب، والعرب فيها قبائل، وهكذا بقية التفريعات.

المراد بالكتاب في قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)

قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، الكتاب هنا المراد به كما ذهب إليه أصحاب التفسير الميسر اللوح المحفوظ، ولفظ في الكتاب يدخلها علم الوجوه والنظائر، بمعنى أنه قد يرد الكتاب في القرآن ويراد به القرآن، مثل قوله سبحانه وتعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2].

وفي قوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] المراد به اللوح المحفوظ، وبعضهم يحمله على القرآن، وإن كان قولاً فيه ضعف، إلا أنه يصح بناءً على أن معناه: ما فرطنا في الكتاب من شيء من أصول العلم، وليس من فروعه، بمعنى: أن القرآن يحمل أصول العلم، وأما فروع العلم فإنها تستنبط من هذه الأصول، وهذه قاعدة كلية، نبه عليها الشاطبي رحمه الله تعالى في كتاب الموافقات: أن دلالة القرآن على هذه القضايا دلالة كلية، وليست دلالة تفصيلية، فإذا حمل على هذا المعنى صح، لكن الصواب أنه اللوح المحفوظ.

ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:38]، أي: هذه الأمم تحشر.

قال الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:39]، الأوصاف هنا ثلاثة، (صم) لا يسمعون، (بكم) لا ينطقون، قال: (في الظلمات)، إشارة إلى العمى، يعني: قد صارت الظلمات ظرفاً لهم، فكأنهم وسط الظلمات، فكل مناطق الفهم ومدارك الإحساس قد أغلقت عندهم، فهم لا يسمعون، ولا يتكلمون، ولا يبصرون، هؤلاء الذين كذبوا بآيات الله.

التوسط في القدر بين الجبرية والقدرية

قال تعالى: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، وهذا راجع إلى قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته، وهذا جزء من آيات القدر، من نظر إلى هذه الآية على وجه الإثبات ذهب إلى الجبر، ومن حكّم آية كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، فإنه يذهب إلى الاختيار، وأن العبد يخلق فعله، فيقع التنازع بين أصحاب القدر الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله، وبين أصحاب الجبر، فيكون هناك نزاع؛ بسبب أن هؤلاء أخذوا جزءاً من الآيات، والآخرون أخذوا جزءاً آخر، فيقع هذا التخاصم في معنى الآيات، وهذا يقع فيه كثير من طوائف أهل الإسلام.

قال: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ [الأنعام:40-41]، يعني لم يدع لهم الجواب؛ بل بين الله سبحانه وتعالى بنفسه الجواب؛ في أنه لن ينفع منهم دعاء إلا لله سبحانه وتعالى قال: (يَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) وهذا مصداق لقوله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[العنكبوت:65]، معنى ذلك أنهم إذا جاءتهم الأزمات فإنهم لا يدعون إلا الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء هم كفار مكة، وإذا كانوا في الرخاء فإنهم يشركون بالله غيره، تعالى الله عما يشركون.

سنة من سنن الله في الأمم السابقة

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:42-43]، يخبر الله سبحانه وتعالى عن سنته أيضاً في الأمم السابقة، أنه سبحانه أخذ هذه الأمم بالفقر والشدة حتى وصل بهم الحال إلى مرحلة التضرع، يعني: صاروا إلى مرحلة من الفقر والفاقة والشدة جعلتهم يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى ويطلبونه ويرجونه، لكن قال الله سبحانه وتعالى: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا) يعني أهل مكة وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:43-44]، وهذه المسألة مهمة جداً ويغفل عنها الإنسان: أن فتح أبواب كل شيء لا يدل على الخير، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لفتحنا عليهم بركات [الأعراف:96]، أما هنا فقال فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44].

فإذاً: المقصد أو المهم في قضية ما ينزل من الله سبحانه وتعالى هو البركة، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ [الأعراف:96]، أما أن يفتح من السماء فقط فليس فيه دلالة على الخير، ولهذا قال هنا وهو يختبرهم: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44]، وهذه قاعدة أيضاً في أن الله سبحانه وتعالى لا يبتدئ بالإضلال للعبد، بل إذا فتح الله سبحانه وتعالى للعبد، وأراه النجدين؛ طريق الخير وطريق الشر، فسلك العبد طريق الشر واستمر في هذا الطريق، فإن من عقاب الله له سبحانه وتعالى أن يزيده ضلالاً في هذا الطريق، وهذا مصداق الآية قال: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ [الأنعام:44]، وقع منهم النسيان، فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44]، فظنوا أن هذا من نعم الله، فلما فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة.

وفي قوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، الزيغ بدأ من العبد، فلما لم يرجع ويهتدي ويتوب زاده الله سبحانه وتعالى -والعياذ بالله- زيغاً، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل، فهم لما نسوا الله سبحانه وتعالى فتح عليهم أبواب كل شيء حتى زادوا ضلالاً وزادوا بعداً عن الله سبحانه وتعالى والعياذ بالله، قال: فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44].

تفسير آية: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنعام:45]، قال في التفسير الميسر: [فاستؤصل هؤلاء القوم وأهلكوا؛ إذ كفروا بالله وكذبوا رسله، فلم يبق منهم أحد، والشكر والثناء لله تعالى خالق كل شيء ومالكه على نصرة أوليائه وهلاك أعدائه.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم ...)

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: أخبروني إن أذهب الله سمعكم فأصمكم، وذهب بأبصاركم فأعماكم، وطبع على قلوبكم فأصبحتم لا تفقهون قولاً، أي إلهٍ غير الله جل وعلا يقدر على رد ذلك لكم؟!

انظر أيها الرسول! كيف ننوع لهم الحجج، ثم هم بعد ذلك يعرضون عن التذكر والاعتبار.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: أخبروني إن نزل بكم عقاب الله فجأة وأنتم لا تشعرون به، أو ظاهراً عياناً وأنتم تنظرون إليه: هل يهلك إلا القوم الظالمون الذين تجاوزوا الحد؛ بصرفهم العبادة لغير الله تعالى وبتكذيبهم رسله؟

وما نرسل رسلنا إلا مبشرين أهل طاعتنا بالنعيم المقيم، ومنذرين أهل المعصية بالعذاب الأليم، فمن آمن وصدق الرسل وعمل صالحاً فأولئك لا يخافون عند لقاء ربهم، ولا يحزنون على شيء فاتهم من حظوظ الدنيا.

والذين كذبوا بآياتنا من القرآن والمعجزات، فأولئك يصيبهم العذاب يوم القيامة؛ بسبب كفرهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى].

السبب في ذكر وصف الظالمين في قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا ...)

في قوله تعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، هذه خاتمة لقوله: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45]، قطع دابر القوم الذين ظلموا، الدابر هو آخر شيء، كأنه قد أتى هذا العذاب واستأصل أولهم حتى وصل إلى آخرهم فقطع دابرهم، فلم يبق منهم أحد.

وقال: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنعام:45]، وهو يتكلم عن قومٍ سبق الحديث عنهم في قوله: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ [الأنعام:44]، وما قال: حتى إذا نسي الذين ظلموا ما ذكروا به، فجاء بالضمير، فلما جاء عند هذه الآية قال: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، ولم يقل: فقطع دابرهم، والحمد لله رب العالمين، وهذا نوع من الاستطراد، وهو إظهار في مقام الإضمار، وفيه التنبيه على سبب من أسباب نزول هذا العذاب بهم، وذلك أنهم قوم ظلموا.

فإذاً: ظلمهم كان سبباً من أسباب العذاب، ولا يتأتى فهم هذا السبب لو كانت فقطع دابرهم والحمد لله رب العالمين.

القضية الثانية: أن الله سبحانه وتعالى أثبت حمده بعد قطع دابر الذين ظلموا؛ لأن الحمد هو ذكر المحمود بصفات الكمال، وهؤلاء القوم الذين ظلموا لم يحمدوا الله سبحانه وتعالى، فلم يقع الحمد التام إلا بزوال هؤلاء القوم الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى.

معنى العالمين في القرآن الكريم

ونلاحظ أن المقطع وقيل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، هو نفس المقطع الذي ابتدأت به سورة الفاتحة على قول أنها تبتدئ بالحمد لله رب العالمين، وهو القول الأصح.

و الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] تكررت في القرآن في غير ما موطن، جعل الحمد لله ملكاً، يعني: الحمد لله لا لغيره، الموصوف بأنه رب العالمين؛ لأنها بدل من لفظ الجلالة، والعالمين هنا المراد بهم جميع العوالم، كما قال علي بن أبي طالب: كل ما سوى الله، ووردت في القرآن والمراد بها المكلفون، كقوله سبحانه وتعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف:104]، ولا يكون ذكراً إلا للمكلفين، أي المكلفين من الجن والإنس، فيكون للعالمين أكثر من وجه، يأتي العالمين والمراد بهم الجن والإنس، ويراد بهم جميع كل من سوى الله سبحانه وتعالى، فيدخل فيهم الجن والإنس.

السبب في تصريف الآيات وحال الكافر معها

ثم قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [الأنعام:46]، هذا تهديد.

وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الأنعام:46]، إذا تأملت تصريف الآيات في القرآن التي طلب الله سبحانه وتعالى من الكفار أن يتأملوها؛ ليؤمنوا به سبحانه وتعالى ستجد أنها كثيرة، وأنها متنوعة، فمرة في النبات، ومرة في الحيوان، ومرة في الإنسان، ومرة في الأحوال، وتصريف الآيات بشتى الطرق؛ لأجل أن يؤمنوا ومع ذلك لم يؤمنوا، فالله سبحانه وتعالى يقول هنا: انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الأنعام:46]، فإذا أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم، إذا أخذ السمع أغلقت أحد منافذ العقل، وإذا أخذ البصر أيضاً أخذ المنفذ الثاني للقلب، وإذا ختم على القلب انتهى.

وتصور الآن إنساناً لا يسمع، ولا يبصر، وليس له قلب، هذا هو قلب الكافر، ولذلك قال: وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الأنعام:46].

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:47]، وكلها تذكيرات لهؤلاء الكفار كفار مكة الذين كانوا معادين للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه السورة كما تعرفون سورة مكية، ولعله يأتينا القول بأنها نزلت دفعة واحدة.

السبب في تقديم البشارة في قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ...)

ثم قال سبحانه: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأنعام:48-49]، هذه آية من آيات التبشير، ومن الملاحظ تقديم البشارة، وهذا من باب التصريف أيضاً، مع أن الناظر لأول وهلة يمكن أن يقول: ما دام أن الخطاب مع الكفار، فلمَ لم يقدم الإنذار قبل التبشير؛ لأن الإنذار يتناسب مع حال الكفر؟

والجواب: أن هذا جانب ترغيب لهم بعد ذكر هذه الآيات الشديدة الدالة على أن الله سبحانه وتعالى يقطع دابر الكفار.

قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ [الأنعام:48]، وهذا هو الأصل، ثم قال تعالى: وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأنعام:48-49]، وهذا فيه اللف والنشر المرتب، (فمن آمن وأصلح) يناسبه البشارة، (والذين كذبوا بآياتنا) يناسبه النذارة.

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأنعام:49]، نلاحظ أيضاً أنه أعطانا وصفاً آخر، هناك في الأول قال: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنعام:45]، وهنا قال: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأنعام:49]، ومجيء (كانوا) هنا للدلالة على تأصل الفسق فيهم، والدلالة على التجدد أيضاً من جهة أخرى، ففي الآية تأصل من جهة الفعل الماضي (كان)، وتجدد من جهة (يفسقون) في خاتمة الآية.

تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ...)

تفسير آية قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ [الأنعام:50]، قال في التفسير الميسر: [ قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إني لا أدعي أني أملك خزائن السموات والأرض، فأتصرف فيها، ولا أدعي أني أعلم الغيب، ولا أدعي أني ملك، وإنما أنا رسول من عند الله، أتبع ما يوحى إلي، وأبلغ وحيه إلى الناس.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: هل يستوي الكافر الذي عمي عن آيات الله تعالى فلم يؤمن بها، والمؤمن الذي أبصر آيات الله فآمن بها؟ أفلا تتفكرون في آيات الله; لتبصروا الحق فتؤمنوا به؟

وخوف أيها النبي بالقرآن الذين يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم، فهم مصدقون بوعد الله ووعيده، ليس لهم غير الله ولي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم عنده تعالى، فيخلصهم من عذابه; لعلهم يتقون الله تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي.

ولا تبعد أيها النبي عن مجالستك ضعفاء المسلمين الذين يعبدون ربهم أول النهار وآخره، يريدون بأعمالهم الصالحة وجه الله، ما عليك من حساب هؤلاء الفقراء من شيء، إنما حسابهم على الله، وليس عليهم شيء من حسابك، فإن أبعدتهم فإنك تكون من المتجاوزين حدود الله، الذين يضعون الشيء في غير موضعه ].

مهمة النبي صلى الله عليه وسلم

قوله سبحانه وتعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50]، يعني: قل يا محمد! لهؤلاء القوم المشركين الكفار: إني لا أقول لكم: عندي خزائن الله، يعني: لا يدعي محمد صلى الله عليه وسلم ما ليس له، ومع ذلك نجد بعض الناس انحرف في ادعاء ما نفاه الله سبحانه وتعالى عنه.

وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50]، أي: إلا بما يخبره الله سبحانه وتعالى به.

وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]، يعني لست ملكاً من الملائكة، كل هذه لم يدعِ النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً منها.

قال: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]، إذاً: مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي فقط التبليغ؛ ولهذا قال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام:50]، الأعمى يمثل الكافر، والبصير يمثل المؤمن، هل يستوي المؤمن والكافر؟ الجواب: لا.

دلالة قوله تعالى: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي)

وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]، هذا يدل على أن الأصل فيما يؤتاه أو يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وحي، لكن لو وقع منه صلى الله عليه وسلم اجتهاد يخالف ما أراده الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يخبره به، وهو نوع من العصمة، فإذا وقع منه خطأ يخالف ما أراده الله سبحانه وتعالى فمن عصمة الله سبحانه وتعالى له أنه يخبره، ولا يتأتى ذلك لغير نبي، مثلما قال: في قصة داود عليه الصلاة والسلام: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص:25]، وأيضاً في قصة سليمان، وفي غيرها من القصص كلها يخبر بما حصل من النبي ثم يخبر بتوبة هذا النبي، ثم يخبر بمغفرته سبحانه وتعالى.

فالمقصود إذاً: أن الأصل في النبي أنه يتبع ما يوحى إليه، فإذا وقع منه ما يخالف مراد الله سبحانه وتعالى فإن الله سبحانه وتعالى يخبره، ويصحح له هذا الأمر، فإن لم يخبره فهو دلالة على صحة ما جاء به صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: وَأَنذِرْ بِهِ [الأنعام:51]، أي: أنذر بالقرآن الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، يعني أنذر به المؤمنين، كما قال: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، فهم الذين يخافون أن يحشروا إلى الله، أما الكفار فإنهم لا يؤمنون بالبعث، ولذا لا يخافون أن يحشروا إلى الله.

توجيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة

قال تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52]، هذه نزلت في مكة، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس عنده إلا الضعفاء، وكان يرجو ويترقب إيمان بعض الكبار من مكة، فكانت هناك موازنات فنبه الله سبحانه وتعالى على هذا الأمر، وهو هل يؤخر هؤلاء الضعفاء مثل صهيب الرومي و بلال وغيرهم، ويستدني هؤلاء الكبار رجاء إسلامهم، أو أنه يبقي هؤلاء؟ فجاء الأمر الإلهي (ولا تطرد)، حتى في العبارة ثقل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52]، يعني: لو وقع أنه صلى الله عليه وسلم طردهم لكان من الظالمين، وحاشاه أن يفعل هذا لما أخبره الله سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أن بعض المشركين قال: لو أنك أبعدت هؤلاء لجئنا إلى مجلسك، فكيف نجلس نحن السادة مع هؤلاء وهم في حكم العبيد؟ فالله سبحانه وتعالى نهاه أن يفعل هذا الفعل؛ لأنه قد يرى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤخر هؤلاء ويستثني هؤلاء؛ رجاء إسلامهم، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الأمر حتماً واحداً: أنه لا يفعل هذا الفعل.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم ...)

تفسير آية وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام:53]، قال في التفسير الميسر: [وكذلك ابتلى الله تعالى بعض عباده ببعض؛ بتباين حظوظهم من الأرزاق والأخلاق، فجعل بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً، وبعضهم قوياً وبعضهم ضعيفاً، فأحوج بعضهم إلى بعض اختباراً منه لهم بذلك; ليقول الكافرون الأغنياء: أهؤلاء الضعفاء منّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام من بيننا؟ أليس الله تعالى بأعلم بمن يشكرون نعمته، فيوفقهم إلى الهداية لدينه؟

وإذا جاءك أيها النبي الذين صدقوا بآيات الله الشاهدة على صدقك من القرآن وغيرهم، مستفتين عن التوبة من ذنوبهم السابقة، فأكرمهم برد السلام عليهم، وبشرهم برحمة الله الواسعة; فإنه جل وعلا قد كتب على نفسه الرحمة بعباده تفضلاً أنه من اقترف ذنباً بجهالة منه لعاقبتها وإيجابها لسخط الله، فكل عاصٍ لله مخطئاً أو متعمداً فهو جاهل بهذا الاعتبار، وإن كان عالماً بالتحريم، ثم تاب من بعده وداوم على العمل الصالح، فإنه تعالى يغفر ذنبه، فهو غفور لعباده التائبين، رحيم بهم.

ومثل هذا البيان الذي بيناه لك أيها الرسول نبين الحجج الواضحة على كل حق ينكره أهل الباطل; ليتبين الحق، وليظهر طريق أهل الباطل المخالفين للرسل].

قال سبحانه: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام:53]، يعني: فتنا السادة بالعبيد؛ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53]، أي: ليقول هؤلاء السادة: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا، فما كان الإسلام، ولا كان الإيمان بالله سبحانه وتعالى ليأتي إلا من هؤلاء قبلنا، فهذا لا شك أنه نوع من فتنة، فقال الله سبحانه وتعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53].

سعة رحمة الله وكرمه

قال تعالى: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا [الأنعام:54]، أي: هؤلاء الضعفاء فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام:54]، وانظر إلى لطف هذا التعبير: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54]، هذا اللطف في الخطاب وهم جاءوا ليسألوا عن الذنب إذا وقع منهم ماذا يحصل، فالله سبحانه وتعالى قدم قبل سؤالهم وقبل فتواهم فقال: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، قوله: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) هذا مقدمة للجواب، قال: (أنه من عمل منكم سوءً بجهالة)، وكل من عمل السوء حتى ولو كان عالماً، فإنه حال عمله بهذا السوء يكون جاهلاً كما قال ابن عباس .

قال تعالى: (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ)، يعني عمل السوء ثم تاب، (وأصلح) يعني أضاف إلى توبته زيادة إصلاح، فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54]، يعني: يوقع مغفرته ورحمته على عبده، وهذا من تمام كرم الله سبحانه وتعالى وتحببه إلى عباده أنه ما جعل ذنباً إلا وله توبة.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، وتوبته تكون صادقة، وليست توبة كاذبة أن الله سبحانه وتعالى يقول: ( عبدي افعل ما شئت، فإني قد غفرت لك، وقال: علم أنه له رباً يغفر الذنب، فإني قد غفرت له )، وهذا نوع من توسيع رحمة الله سبحانه وتعالى لعباده، ونحن لو تأملنا هذا الأسلوب الذي ذكر في الآيات، وطبقناه فإذا جاء رجل وهو مذنب، ماذا تقول له؟ كيف تتعامل معه؟ كيف ترشده إلى التوبة؟

الجواب: أن تقول له: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، ثم بعد ذلك تقول: من تاب وأصلح فإن الله غفور رحيم، هل نحن بالفعل حينما يأتينا المذنب نتعامل معه بهذا الأسلوب؟ هذا لا شك نوع من التربية نحتاج أن نتأمله، ونتنبه له؛ لأنه قد يقع منا خلاف ذلك، وليس هو الأسلوب الأنجع، وهذا الذي في الآية هو الأسلوب الأنجع، الأسلوب الذي أنزل الله سبحانه وتعالى في كتابه.

كيفية معرفة سبيل المجرمين

قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، تستبين أي تظهر وتتضح سبيل المجرمين.

أغلب الآيات السابقة كانت مع هؤلاء المجرمين الكفار، فهذا الإيضاح بعد الإيضاح بعد الإيضاح، ويمكن أن نسميه تصريف القول، وهو أنه يذكر الشيء مرة بعد مرة بعد مرة كله؛ لكي تستبين سبيل المجرمين، وتكون ظاهرة وواضحة.

وهنا سؤال يرد: هل نحن من خلال قراءتنا للقرآن تستبين لنا سبل هؤلاء المجرمين؟ حينما نقرأ في الصحف، وحينما نقرأ في الكتب، وحينما نطالع شيئاً ما في تلك الشاشات أو في الإنترنت، هل نحن نعلم أن هذا هو سبيل المجرمين، وأنهم يستخدمون هذا السبيل الإجرامي أو أننا ممن تنطلي عليهم هذه السبل ولا ننتبه لها، المسلم بحاجه إلى أن يكون واعياً من خلال هذا الكتاب، وأنا على ثقة كبيرة جداً لو أن واحداً منا قرأ القرآن وحاول أن يستشهد لهذه الآيات بما يراه من الواقع، وإن أخطأ مرة أو مرتين أو ثلاثاً، فإنه سيكون له دربة بأن يعرف بالفعل ما هو سبيل المجرمين الذي يراه اليوم ظاهراً وماثلاً، فهناك أمثلة كثيرة جداً جداً من أعمال الشر التي نراها.

تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون ...)

تفسير آية: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:56]، قال في التفسير الميسر: [ قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إن الله عز وجل نهاني أن أعبد الأوثان التي تعبدونها من دونه، وقل لهم: لا أتبع أهواءكم قد ضللت عن الصراط المستقيم إن اتبعت أهواءكم، وما أنا من المهتدين.

قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إني على بصيرة واضحة من شريعة الله التي أوحاها إلي، وذلك بإفراده وحده بالعبادة، وقد كذبتم بهذا، وليس في قدرتي إنزال العذاب الذي تستعجلون به، وما الحكم في تأخر ذلك إلا إلى الله تعالى، يقص الحق، وهو خير من يفصل بين الحق والباطل بقضائه وحكمه ].

عاقبة اتباع أهواء الكافرين والمنحرفين

قال تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:56]، وهذه الآية شبيه قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2].

وقوله تعالى: قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام:56]، هذه أيضاً قاعدة في التعامل مع الكفار وهي: أن اتباع أهواء الكفار لا شك أنه يردي المسلمين، ولذا يجب على المسلم أن يكون حذراً من أهواء الكفار، ومعلوم اليوم أهواء بعض الكفار الذين يأتون إلى بلادنا، ويقيمون أحياناً ندوات في سفاراتهم أو غيرها، ويدعون أبناء هذا البلد لأن تعمل المرأة، ويقولون: يجب على المرأة أن تفعل كذا، ويجب عليكم أن تفعلوا كذا، كل هذا من أهواء القوم الذين ضلوا، ولهذا الله سبحانه وتعالى يحذر فيقول: قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام:56].

فإذاً عندنا قاعدة: أن اتباع أهواء الكفار يوصل إلى الضلال بلا ريب، فلا يمكن بحال أن يوصل الكافر المسلم إلى خير؛ لأن الكفر والإسلام نقيضان، فلا يتصور أن يكون الكافر موصلاً الهدى والخير للمسلم ألبتة، وإنما الأمر كما ذكر الله سبحانه وتعالى: إن اتبعت أهواءهم فإنك تضل ولا تكون من المهتدين.

قال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ [الأنعام:57]، وهذه الحقيقة التي سبق أن ذكرناها، وهي وضوح الحق مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووضوح الحق عند أهل الحق، فقوله: (إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) يعني على أمر واضحٍ، ليس فيه أي شك أو ريب.

تفسير قوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به ...)

قال تعالى: مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ