دورة الأترجة القرآنية [2]


الحلقة مفرغة

تفسير قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس ...)

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

قال في التفسير الميسر: [ جعل الله الكعبة جميع الحرم وهو المراد بالكعبة، قياماً لمصالحهم ديناً ودنيا، والأشهر الحرم الأربعة، وما يهدى من الأنعام إلى الكعبة، وما يقلد به الهدي علامةً له، ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97] ].

الآن سنمازج بين الآية في الغريب والآية في التفسير الميسر، وكما ذكرت الغريب هذا من كتاب كلمات القرآن لـحسنين محمد مخلوف رحمه الله تعالى.

قوله: جعل الله الكعبة قياماً للناس، هو الآن بين لنا أن الكعبة ليس المراد بها الكعبة فقط، بل المراد بها الحرم، وهذا فيه خلاف، ثم قال: (قياماً) أي: قواماً، (لمصالحهم)، يعني: مصالح الناس، (ديناً ودنيا) يعني: إن القيام هذا أو القوام في مصالح الدين والدنيا، ثم ذكر (والشهر الحرام) أي: أنه جنس الشهر الحرام، وليس شهراً واحداً؛ لأن الأشهر الحرم هي أربعة، و(أل) في الشهر الحرام للجنس، أي: جنس الشهر الحرام. (والهدي)، أي: ما يهدى من الأنعام إلى الكعبة، (وما يقلد به الهدي علامةً له) التي هي القلائد، إلى آخر الآية، فهذا لو تأملناه يعطينا نسبة ثمانين بالمائة من وضوح المعنى، أو قد يكون أكثر، والآن نأخذ التفسير الإجمالي لها، وننظر تمام المعنى بعد ذلك.

[ امتن الله على عباده بأن جعل الكعبة البيت الحرام صلاحاً لدينهم، وأمناً لحياتهم; وذلك حيث آمنوا بالله ورسوله، وأقاموا فرائضه، وحرم العدوان والقتال في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، فلا يعتدي فيها أحد على أحد، وحرم تعالى الاعتداء على ما يهدى إلى الحرم من بهيمة الأنعام، وحرم كذلك الاعتداء على القلائد، وهي ما قلد إشعاراً بأنه يقصد به النسك; ذلك لتعلموا أن الله يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض، ومن ذلك ما شرعه لحماية خلقه بعضهم من بعض، وأن الله بكل شيء عليم، فلا تخفى عليه خافية ].

أضيف عندنا هنا الأشهر الحرم فذكروا أنها ذو العقدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، ثلاثة متتابعة وواحد فرد وهو رجب، أيضاً ما ذكروه في الأنواع الثانية كلها مذكورة عند المؤلف، بهذا نلاحظ أن البيان بالنسبة لنا تم، وليس هناك ما يحتاج إلى بيان أو إضافة، لكن لو قال قائل: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، كيف يكون البيت الحرام قياماً للناس، وأن الله سبحانه وتعالى ربط حياة الناس ودينهم بهذا البيت، مع ما يشاهد من ضعف المسلمين وكذا، فهذا يكون شيئاً داخلاً في باب الاستنباطات والفوائد، وليس في بيان المعنى مباشرةً.

تفسير قوله تعالى: (ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ...)

[ اعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفور رحيم، مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:99-100] ].

اقرأ من الميسر.

[ اعلموا أيها الناس أن الله جل وعلا شديد العقاب لمن عصاه، وأن الله غفور رحيم لمن تاب وأناب.

يبين الله تعالى أن مهمة رسوله صلى الله عليه وسلم هداية الدلالة والتبليغ، وبيد الله وحده هداية التوفيق، وأن ما تنطوي عليه نفوس الناس مما يسرون أو يعلنون من الهداية أو الضلال يعلمه الله.

قل أيها الرسول: لا يستوي الخبيث والطيب من كل شيء، فالكافر لا يساوي المؤمن، والعاصي لا يساوي المطيع، والجاهل لا يساوي العالم، والمبتدع لا يساوي المتبع، والمال الحرام لا يساوي الحلال، ولو أعجبك أيها الإنسان كثرة الخبيث وعدد أهله. فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة باجتناب الخبائث، وفعل الطيبات; لتفلحوا بنيل المقصود الأعظم، وهو رضا الله تعالى والفوز بالجنة ].

نعم. الآن المعنى بالنسبة لنا اتضح، لكن يبقى كما قلت مسائل مثلاً: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ [المائدة:99]، هذه القاعدة والنبراس للمؤمن في حياته وخاصة من ينصب نفسه داعيةً إلى الله، سواء كان داعية إلى الله بالعلم يعني العالم، أو كان من يصلح بين الناس اجتماعياً، أو من اصطلح عليه اليوم باسم الداعية يعني من الوعاظ وغيرهم ممن يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، هذه القضية مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ [المائدة:99] هي قضية مهمة جداً؛ لأن فيها مسائل كثيرة جداً، وخلفها معاني لبعض من يتعاطى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فمهمتك أنت في الدعوة أن توصل هذه الدعوة إلى المدعو، لكن إدخال هذه الدعوة في قلب المدعو ليست من خصائصك أصلاً، إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف من وطئ الأرض، وكل يتمنى رؤياه ولقياه، رآه من رآه وكفر به، فما بالك بغيرهم من الكفار الذين لم يروه، فبعض الناس من شدة حرصه تجد أنه يلزم المدعو، ويثقل عليه بدعوى أنه يدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وهو في الحقيقة يستخدم أسلوباً من أساليب التنفير وهو لا يشعر؛ لأنه إذا عرف أن (ما عليك إلا البلاغ) وأوصل الرسالة فقال: يا فلان! هذا حكم الله، وانتهى؛ لأنه رجل كامل العقل، له كامل التصرف، إن أطاع فله الجنة، وإن عصى فالله سبحانه وتعالى حسيبه، فأنت لست مطالباً بما وراء ذلك، فإننا نستطيع أن نبين للدعاة ما هو العمل الذي يقومون به، وهو قضية البلاغ فقط، ما عدا البلاغ وهو إدخال الإيمان للقلب، أو أن يضغط على المدعو في أنه يلتزم أن يفعل هذا، فهذا ليس من واجبات الداعية، بل قد يكون من الصد عن دين الله، كما نعلم من خلال الوقائع، فكون الحق معك لا يلزمك أن تكون قاسياً، وأن تكون شديداً، وأن تكون عنيفاً، بحيث تقول: والله لأن معي الحق رغماً عنك لا بد أن تتبعني؛ لأن بعض الناس هكذا طريقته في الدعوة فيقول لك: أنت تخالف سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت مبتدع، فيلقي عليك هذه التهم، وهو لا يدري أنه أصلاً قد أخطأ في تصور المسألة، وهذا يقع عند بعض من يدعون إلى الله سبحانه وتعالى.

أيضاً قوله: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]، كيف نوعوا لنا أنواعاً من الأعمال التي هي من الخبيث والطيب، فلا يستوي الجاهل والعالم، ولا يستوي المبتدع والمتبع، ولا يستوي المال الحلال والمال الحرام فإذاً: عندنا جانب من الخبيث، وجانب من الطيب لا يمكن أن يستويان، وهذا قد نص الله سبحانه وتعالى عليه في غير ما آية لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]، والواقع الذي نعيشه اليوم هو واقع كثرة الخبيث وكثرة أهله، ولهذا التمسك بالقرآن وقراءة القرآن بتدبر ومحاولة معرفة تأثيره على القلب، وتطبيقه في الواقع يريح الإنسان كثيراً، يريح المسلم؛ لأن عنده نبراس، عنده شيء يهديه، عنده منارة يستنير بها، غير المسلمين من الكفار ليس عنده أي شيء، إن لم يعطه الله سبحانه وتعالى عقلاً يحكمه ويمنعه من بعض الأشياء وإلا فهو في ضلال، والعقل لا يعطي كل شيء كما نعلم، فالمؤمن أمامه نبراس واضح جداً جداً، تقرأ الآية وتعرف أنها تنطبق على مئات الوقائع الموجودة اليوم، وأنت مرتاح وتعرف نتائج هذه الأمور، وتستطيع أن تجزم يقيناً أن هذا مؤداه كذا؛ لأن هذه سنة الله سبحانه وتعالى أثبتها في القرآن، فالباغي سيجد جزاؤه وعقابه، ونجزم يقيناً أن من تعرض للمسلمين في هذه السنوات الماضية، وأهلك ديار المسلمين بالقتل والتشريد والدمار والضياع أن الله سبحانه وتعالى لن يتركه، ونعلم يقيناً أننا سنرى شيئاً من ذلك فيه وفي أهله، بل وفي دولته، جئنا بهذا اليقين من كتاب الله سبحانه وتعالى، فحينما نقرأ القرآن بهذا المنهج سنجد عندنا ولله الحمد والمنة نبراساً واضحاً جداً ليس فيه أي مجال للشك إطلاقاً، بل هو تمام الثقة؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، نعم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ...)

[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ * مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ [المائدة:101-103] الناقة تشق أذنها، وتخلى للطواغيت، إذا ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر، ولا الناقة تسيب للأصنام؛ لنحو برئ من مرض أو نجاة في حرب، ولا الناقة تترك للطواغيت إذا بكرت بأنثى، ثم ثنت بأنثى، ولا الفحل لا يركب ولا يؤمن عليه إذا لقح ولد ولده، وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:103].

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا [المائدة:104] كافينا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة:104] اقرأ من الميسر.

[ يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بشرعه لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين لم تؤمروا فيها بشيء، كالسؤال عن الأمور غير الواقعة، أو التي يترتب عليها تشديدات في الشرع، ولو كلفتموها لشقت عليكم، وإن تسألوا عنها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين نزول القرآن عليه تبين لكم، وقد تكلفونها فتعجزون عنها، تركها الله معافياً لعباده منها. والله غفور لعباده إذا تابوا، حليم عليهم فلا يعاقبهم وقد أنابوا إليه.

إن مثل تلك الأسئلة قد سألها قوم من قبلكم رسلهم، فلما أمروا بها جحدوها، ولم ينفذوها، فاحذروا أن تكونوا مثلهم.

ما شرع الله للمشركين ما ابتدعوه في بهيمة الأنعام من ترك الانتفاع ببعضها وجعلها للأصنام، وهي: البحيرة التي تقطع أذنها إذا ولدت عدداً من البطون، والسائبة وهي: التي تترك للأصنام، والوصيلة وهي: التي تتصل ولادتها بأنثى بعد أنثى، والحامي وهو: الذكر من الإبل إذا ولد من صلبه عدد من الإبل، ولكن الكفار نسبوا ذلك إلى الله تعالى افتراءً عليه، وأكثر الكافرين لا يميزون الحق من الباطل.

وإذا قيل لهؤلاء الكفار المحرمين ما أحل الله: تعالوا إلى تنزيل الله وإلى رسوله؛ ليتبين لكم الحلال والحرام، قالوا: يكفينا ما ورثناه عن آبائنا من قول وعمل، أيقولون ذلك؟! ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً أي: لا يفهمون حقاً ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم، والحالة هذه؟ فإنه لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً ].

أيضاً عندنا من الفوائد في هذا المقطع نأخذه سريعاً، في قول الله سبحانه وتعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ [المائدة:103]، هذه قضية مرتبطة بما يمكن أن نسميه بعادات العرب، وقضية تاريخ العرب لو عملنا استقراء بين المتشرعين يعني ممن لهم علاقة بالعلم الشرعي؛ لمعرفة مدى ثقافة الشخص في قضية ما، ستجد أن عندنا ضعفاً شديداً في معرفة أحوال العرب، وهذا اعتبره من النقص الذي يجب أن يتمم، بيانه مثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )، فكيف أعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمم مكارم الأخلاق، وأنا لا أعرف ما هي الأخلاق التي كان عليها العرب من الأخلاق الحسنة والأخلاق غير الحسنة، فالعرب كانت عندهم أخلاق حسنة وهي كثيرة جداً، وكانت عندهم أخلاق رديئة، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليتمم مكارم الأخلاق، وليس كما يصور أحياناً بعض الكتاب أن العرب كانوا أهل جاهلية جهلاء، وكان الواحد منهم يأتي إلى التمر فيصنع منه إلهاً ثم يأكله، هذا نعم كان يفعل عندهم، وكان يفعله أفراد منهم، ولا ننكر هذا، لكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة لهم، فتصوير أن العرب كانوا كذلك فقط هذا تقصير في فهم تاريخ العرب، وتقصير في فهم ما يرتبط به من الآيات؛ لأننا نحن الآن أمام آيات تحكي لنا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولو رجعتم إلى علماء اللغة الذين يتوقع منهم أن يكون عندهم معرفة بهذه الأمور ستجدون خلافاً في تفسير هذه الكلمات ما هي، على العلم أن ما ذكروه فيه تقارب في المعنى، لكن هناك خلاف لبعض هذه المفردات، لا يمكن أن تعرف هذه إلا من خلال معرفة عادات العرب، ومعرفة تاريخ العرب، فهذا ملحظ مهم جداً ننتبه له.

قضية أخرى أيضاً مرتبطة بالآيات ونأخذ مقاطع فقط في قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة:101].

الآن لما جاءوا في التفسير الميسر يبينون المعنى هذا في هذه الآية قالوا: (وإن تسألوا عنها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، معنى ذلك أن السؤال الآن عن القضية من جهة الشرع لا تنطبق عليه هذه الآية، يعني: لا يأتي أحد مثلاً يسأل عن حكم الله في قضية ما مستدلاً بهذه الآية يقول: وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ [المائدة:101]؛ لأن الوحي انقطع، فسؤال السائل عن القضية الشرعية حق، ولا يدخل تحت هذه الآية، لكن أحياناً قد يستشهد شخص بحالة ما بهذه الآية من باب مشابهة هذه الحالة لمعنى هذه الآية، مثلاً مدرس يسأل مديره: يا فلان! يوم الأربعاء نحضر أو لا نحضر؟ وهو آخر يوم في الدوام وسلمنا الشهادات وكل شيء، والمدير مسئول فيقول له: احضر، ولو سكت المدرس لسكت عنه المدير مثلاً، فيأتي مدرس آخر فيقول لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101]، هذا الاستشهاد بهذا الأسلوب صحيح بشرط انطباق هذه الحادثة على المعنى الذي جاء في الآية، وبشرط أيضاً ألا يكون في أمر فيه سخرية أو هزل، وهذا استخدمه السلف في غير ما موطن من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وغيرهم، كأن جملة هذه الآية مثل مطلق المثل الذي يمثل به على شيء ما، وطبعاً هذا يطول فيه الموضوع، لكن أشرت إليه من باب الفائدة ونحن نستدل بعمل الصحابة على جوازه، فكون الصحابة فعلوه يدل على الجواز، والمقصود من هذا فقط طبعاً الإشارة لفائدة علمية؛ لأن الوقت ضيق، فلعلنا نكتفي بالفائدتين ونكمل.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ...)

[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:105] الزموها احفظوها من المعاصي، لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ [المائدة:106] سافرتم بها، فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا [المائدة:106] لا نأخذ بقسمنا كذباً عرضاً دنيوياً، وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ [المائدة:106].

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ [المائدة:107] الأقربان إلى الميت الوارثان له، فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:107-108] ].

نعم اقرأ الآن التفسير الميسر.

[ يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه الزموا أنفسكم بالعمل بطاعة الله، واجتناب معصيته، وداوموا على ذلك وإن لم يستجب الناس لكم، فإذا فعلتم ذلك فلا يضركم ضلال من ضل إذا لزمتم طريق الاستقامة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، إلى الله مرجعكم جميعاً في الآخرة، فيخبركم بأعمالكم، ويجازيكم عليها.

يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا قرب الموت من أحدكم، فليشهد على وصيته اثنين أمينين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين عند الحاجة، وعدم وجود غيرهما من المسلمين، تشهدونهما إن أنتم سافرتم في الأرض فحل بكم الموت، وإن ارتبتم في شهادتهما فقفوهما من بعد الصلاة، أي: صلاة المسلمين وبخاصة صلاة العصر، فيقسمان بالله قسماً خالصاً لا يأخذان به عوضاً من الدنيا، ولا يحابيان به ذا قرابة منهما، ولا يكتمان به شهادةً لله عندهما، وأنهما إن فعلا ذلك فهما من المذنبين.

فإن اطلع أولياء الميت على أن الشاهدين المذكورين قد أثما بالخيانة في الشهادة أو الوصية فليقم مقامهما في الشهادة اثنان من أولياء الميت فيقسمان بالله: لشهادتنا الصادقة أولى بالقبول من شهادتهما الكاذبة، وما تجاوزنا الحق في شهادتنا، إنا إن اعتدينا وشهدنا بغير الحق لمن الظالمين المتجاوزين حدود الله.

ذلك الحكم عند الارتياب في الشاهدين من الحلف بعد الصلاة، وعدم قبول شهادتهما أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها خوفاً من عذاب الآخرة، أو خشيةً من أن ترد اليمين الكاذبة من قبل أصحاب الحق بعد حلفهم، فيفتضح الكاذب الذي ردت يمينه في الدنيا وقت ظهور خيانته.

وخافوا الله أيها الناس، وراقبوه أن تحلفوا كذباً، أو تقتطعوا بأيمانكم مالاً حراماً، واسمعوا ما توعظون به، والله لا يهدي القوم الفاسقين الخارجين عن طاعته ].

نعم. في الآية الأولى عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، هذه الآية أيضاً وقع خلاف في معناها بين السلف يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، ومعلوم كلام أبي بكر الصديق ، وهو من أشرف ما قيل في الآية، لكن هو أحد معاني الآية الواردة في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ [المائدة:105]، وأنا اعتبرها من الآيات المشكلة، يعني من كان عنده حلقة في التفسير، وأراد أن يدرب الطلاب على استكشاف المعنى من خلال الخلاف، فهذه الآية من الآيات التي تصلح لذلك؛ لأنها آية مشكلة في الفهم، وعبد الله بن مسعود يقول: لم يأت تأويلها بعد، وليس قصده أن معناها لا يعلم، بل معناها معروف، لكن عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] لم يأت بعد؛ لأن الإسلام كان منتشراً، فكأنه يقول: وقت تطبيق هذه الآية ليس هو الوقت الذي كان يعيشه عبد الله بن مسعود، إنما سيأتي فيما بعد بناءً على ظاهر الآية أن الإنسان يلزم نفسه إذا كثر الخبث، وهذه أحد معاني الآية، المعنى الآخر الذي ذكروه هو المعنى الوارد عن أبي بكر الصديق وهو معنىً آخر، وإذا كان للآية أكثر من دلالة صحيحة، وليس بينهما تعارض، فالآية تحمل عليها، فتنزل على هذا المعنى تارة، وعلى ذلك المعنى تارة على حسب مناسبة تنزيل الآية على هذه المعاني، لكن من باب الفائدة هذه الآية تعتبر مشكلة.

أشكل آية في القرآن

أيضاً الآية التي بعدها وهي قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ [المائدة:106]، هذه أيضاً يعدها العلماء من أشكل الآيات، فبعضهم عدها أشكل آية في القرآن، وهي هذه الآيات التي هي آيات الشهادة عند حضور الموت، جعلوها من أشكل الآيات وهي صعبة، ولكن عند من تحررت عنده من العلماء لا تعتبر من المشكل، وهذا يردنا أيضاً إلى قضية النسبية التي ذكرناها في قضية غريب القرآن، فبعض العلماء يعد آية من الآيات على أنها من المشكل، وبعض العلماء ينفي أن تكون من المشكل، فمن أعدها من المشكل فهو نظر إلى نفسه، ومن نفاها عن هذا الإشكال فهو نظر أيضاً إلى نفسه، إذاً هذه قضية نسبية، فمثلاً مكي بن أبي طالب يعد هذه من الآيات المشكلة، وتجد أن ابن عطية يعترض عليه في أنها ليست من الآيات المشكلة، فنقول: هي مشكلة بالنسبة لـمكي ، وليست مشكلة بالنسبة لـابن عطية ، فإذاً صارت القضية فيها بهذا الشكل، وعندنا في هذه الآيات قضية ربط الوعظ بالحكم الفقهي، وهذه الآية نازلة على سبب، ولهذا ذكروا بالأخص صلاة العصر؛ لأنها سبب النزول الوارد أن هؤلاء وقفوا بعد صلاة العصر عند النبي صلى الله عليه وسلم، وشهدوا بهذه الشهادة، فاختاروا صلاة العصر بناءً على الواقعة التي حدثت، وليس هذا بلازم، لكن لموافقته لما حصل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

هذا تقريباً ما يتعلق ببعض الفوائد المتعلقة بهذه الآيات، وهذه الآيات كما هو الملاحظ آيات أحكام، ويستنبط منها أحكام كثيرة متعلقة بقضية الوصية والشهادة، خصوصاً إذا كان الموصي قد أوصى، ثم مات ولم يشهد وصيته إلا اثنان، فكيف يعالج هذا الموضوع خصوصاً إذا ظهر كذب هذين الاثنين ماذا يعمل؟ سيبدل هذان الشاهدان بشاهدين آخرين، ثم أيضاً إذا كان الشهود كفاراً فما الحكم؟ كل هذا عالجه العلماء من خلال هذه الآيات لما وقع من خلاف بين العلماء في هذا الموضوع المتعلق بهذه الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

قال في التفسير الميسر: [ جعل الله الكعبة جميع الحرم وهو المراد بالكعبة، قياماً لمصالحهم ديناً ودنيا، والأشهر الحرم الأربعة، وما يهدى من الأنعام إلى الكعبة، وما يقلد به الهدي علامةً له، ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97] ].

الآن سنمازج بين الآية في الغريب والآية في التفسير الميسر، وكما ذكرت الغريب هذا من كتاب كلمات القرآن لـحسنين محمد مخلوف رحمه الله تعالى.

قوله: جعل الله الكعبة قياماً للناس، هو الآن بين لنا أن الكعبة ليس المراد بها الكعبة فقط، بل المراد بها الحرم، وهذا فيه خلاف، ثم قال: (قياماً) أي: قواماً، (لمصالحهم)، يعني: مصالح الناس، (ديناً ودنيا) يعني: إن القيام هذا أو القوام في مصالح الدين والدنيا، ثم ذكر (والشهر الحرام) أي: أنه جنس الشهر الحرام، وليس شهراً واحداً؛ لأن الأشهر الحرم هي أربعة، و(أل) في الشهر الحرام للجنس، أي: جنس الشهر الحرام. (والهدي)، أي: ما يهدى من الأنعام إلى الكعبة، (وما يقلد به الهدي علامةً له) التي هي القلائد، إلى آخر الآية، فهذا لو تأملناه يعطينا نسبة ثمانين بالمائة من وضوح المعنى، أو قد يكون أكثر، والآن نأخذ التفسير الإجمالي لها، وننظر تمام المعنى بعد ذلك.

[ امتن الله على عباده بأن جعل الكعبة البيت الحرام صلاحاً لدينهم، وأمناً لحياتهم; وذلك حيث آمنوا بالله ورسوله، وأقاموا فرائضه، وحرم العدوان والقتال في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، فلا يعتدي فيها أحد على أحد، وحرم تعالى الاعتداء على ما يهدى إلى الحرم من بهيمة الأنعام، وحرم كذلك الاعتداء على القلائد، وهي ما قلد إشعاراً بأنه يقصد به النسك; ذلك لتعلموا أن الله يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض، ومن ذلك ما شرعه لحماية خلقه بعضهم من بعض، وأن الله بكل شيء عليم، فلا تخفى عليه خافية ].

أضيف عندنا هنا الأشهر الحرم فذكروا أنها ذو العقدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، ثلاثة متتابعة وواحد فرد وهو رجب، أيضاً ما ذكروه في الأنواع الثانية كلها مذكورة عند المؤلف، بهذا نلاحظ أن البيان بالنسبة لنا تم، وليس هناك ما يحتاج إلى بيان أو إضافة، لكن لو قال قائل: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، كيف يكون البيت الحرام قياماً للناس، وأن الله سبحانه وتعالى ربط حياة الناس ودينهم بهذا البيت، مع ما يشاهد من ضعف المسلمين وكذا، فهذا يكون شيئاً داخلاً في باب الاستنباطات والفوائد، وليس في بيان المعنى مباشرةً.


استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
دورة الأترجة القرآنية [7] 3102 استماع
دورة الأترجة القرآنية [5] 3099 استماع
دورة الأترجة القرآنية [6] 3066 استماع
دورة الأترجة القرآنية [1] 2336 استماع
دورة الأترجة القرآنية [4] 2054 استماع
دورة الأترجة القرآنية [3] 1724 استماع