دورة الأترجة القرآنية [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين. أما بعد:

سورة الأنعام الآية الأولى قال في كلمات الغريب: [ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1] وأنشأ وأبدع، الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنعام:1] يسوون به غيره في العبادة.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ [الأنعام:2] كتب وقدر زماناً معيناً للموت، وزمن معين للبعث مستأثراً بعلمه، ثُمَّ أَنْتُمْ [الأنعام:2] تشكون في البعث أو تجحدونه، أي: المعبود أو المتوحد بالألوهية.

وهو الله فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3] ].

قال في التفسير الميسر: [ هو الذي خلق أباكم آدم من طين وأنتم سلالة منه، ثم كتب مدة بقائكم في هذه الحياة الدنيا، وكتب أجلاً آخر محدداً لا يعلمه إلا هو جل وعلا وهو يوم القيامة، ثم أنتم بعد هذا تشكون في قدرة الله تعالى على البعث بعد الموت.

والله سبحانه هو الإله المعبود في السموات والأرض، ومن دلائل ألوهيته: أنه يعلم جميع ما تخفونه أيها الناس وما تعلنونه، ويعلم جميع أعمالكم من خير أو شر; ولهذا فإنه جل وعلا وحده هو الإله المستحق للعبادة.

فهؤلاء الكفار الذين يشركون مع الله تعالى غيره قد جاءتهم الحجج الواضحة والدلالات البينة على وحدانية الله جل وعلا، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في نبوته، وما جاء به، ولكن ما إن جاءتهم حتى أعرضوا عن قبولها، ولم يؤمنوا بها ].

الفرق بين خلق وجعل في قوله: (خلق السموات والأرض وجعل ...)

قوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، من باب الفائدة إذا جئنا إلى ألفاظ القرآن، لم يرد خلق الظلمات والنور في القرآن، وإنما الذي ورد جعل، فعندما نأتي إلى مثل هذا يرد سؤال: لماذا اختير الجعل في الظلمات والنور، والخلق في السموات والأرض؟ الذي أردته هو أنهم قالوا: الثناء على الله بصفاته التي كلها أوصاف وكمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية، فهو الذي أنشأ السموات والأرض، وخلق الظلمات والنور، فقد فسروا الجعل بمعنى الخلق، وهذا من باب تغيير العبارة، والمراد من الجعل هنا خلق الظلمات، وليس التصيير الذي هو تحويل من شيء إلى شيء، ومعنى ذلك أن الأولى هي بمعنى الثانية، ولكن خالف بينهما بناءً على التفسير الميسر، مخالفة الألفاظ من باب التفنن، وإلا في النهاية فالمعنى واحد عندهم، أو أن يكون خلق شيء وجعل شيء آخر؛ لأن المخلوق أمر مرتبط بالذوات، والمجعول مرتبط بصفات الذوات؛ لأن الظلمات والنور مرتبطة بالسموات والأرض، التي هي مرتبطة بالشمس والقمر.

والذي أريده وأقصد إليه أن البحث عن هذه الدقائق عسير وأحياناً يدخله التكلف، ولهذا ما نجد عند السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم البحث والفحص عن مثل هذه الفروقات بين جعل وخلق، ولماذا عبر بخلق هنا؟ ولماذا عبر بجعل هنا؟ وإنما كانوا يفسرونها على ظاهرها، لكن لا يعني هذا أنه لا يصح لنا أن نبحث، وأن ننقب عن المعنى، لكن ينتبه إلى أنه قد يقع التكلف في هذا الأمر.

معنى قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)

ثم قال: فإن الكافرين ليسوون بالله غيره ويشركون به، فـ(يعدلون) بمعنى يميلون، يعني: عدل عن الشيء إذا مال، فهم يميلون عن التوحيد إلى الشرك، فوصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم يعدلون، وليس المراد بالعدل هنا العدل المحمود، وإنما هذا عدل مذموم، وبناءً على هذا ينتبه إلى أن اللفظ الواحد قد يأتي لأكثر من معنى، وهو الذي يسمى عند علماء العربية بأحرف التضاد، فيعدلون في هذا الموطن بمعنى يميلون عن الحق إلى الباطل، ويميلون عن التوحيد إلى الشرك، ولكن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فهذا هو العدل المحمود، فإذاً ننتبه إلى أنه وإن اتفقت المادة إلا أن لها معنى هنا، ولها معنى نقيضه في موطن آخر، وهذا ما يسمى عندهم بالأضداد، وهو نوع من المشترك اللفظي.

مناسبة أول سورة الأنعام مع آخرها

هذه المقدمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، ونريد أن نربط بين أول السورة وآخر السورة، قال في آخر السورة: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165].

فلو نحن أردنا أن نربط بين آخر آية وأول آية في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] بقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165]، وهذا ما يسمى برد العجز على الصدر، العجز الذي هو آخر الشيء على الصدر الذي هو أوله، وهذا أيضاً من المباحث التي بحثها العلماء وأفاضوا فيها، مثل كتاب نزل قريباً في السنوات الأخيرة للسيوطي، وهو في المطالع والمقاطع، يعني: مطلع السورة وخاتمة السورة نفسها، والعلاقة بينهما، وخاتمة السورة ومطلع السورة التي بعدها، فهذا يدل على الترابط، وهذا مما يقع فيه نوع من التكلف، ولكن أحياناً يبين المعنى ويكون معنى واضحاً، وأحياناً قد يخفى حتى يحتاج الإنسان إلى أن يتكلف التدبر؛ لكي يبرز الرابط الموجود بين معاني هذه الآيات، فلو اجتهدنا في محاولة الربط ما العلاقة بين آخر هذه السورة وأول السورة؟ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165] مع قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، فمن تفضيله وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الأنعام:165] يعني: هو خلقهم، فبعضهم مؤمن وبعضهم كافر، ولا شك أن درجة المؤمن أعلى من درجة الكافر.

وقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، يعني: إن بعضهم كفر بربه، وبعضهم آمن، هذا احتمال، فإن هذا باب واسع جداً للاجتهاد، ويقع فيه شيء من التكلف.

قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ [الأنعام:165] يتناسب مع ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] ففيه نوع من التناسب؛ لأن تقديم التهديد مناسب للذين كفروا بربهم، هذا عند أخذ آية مع آية، ولكن عند أخذ جملة من الآيات مع جملة من الآيات في الآخر سيكون نوع أيضاً من الترابط أوسع وأكثر؛ لأن الربط إذا كان بين آية وآية يضيق أكثر.

العلاقة بين المعجزة والإيمان بها

ثم في قوله سبحانه وتعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4] قضية وهي أنه لا يلزم من رؤية الآيات الإيمان بها، فالكفار قد رأوا عياناً انشقاق القمر ومع ذلك ما آمن منهم إلا قليل، وادعوا أنه سحر من الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن القرآن كان ينزل عليهم وهو أعظم المعجزات ومع ذلك ما آمنوا به، وبعضهم آمن به ولكنه كفر جحوداً.

فإذاً المقصود من ذلك أننا حينما نأتي إلى مثل هذا الأمر يجب أن نعلم أن بعض الناس في نفسه إشكال في قضية الإيمان، مع وضوح الأمر عنده، مثلما حصل لـأبي طالب ، فـ أبو طالب موقن يقيناً تاماً أن محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه، ولكن منعه ما منعه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبناءً على هذا عندما نأتي إلى مثل هذه الأمور في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يجب أن يكون عندنا نوع من الاعتدال في التعامل، وأن يكون عندنا اعتدال في قضية الطرح، والاعتدال في التعامل مثلما قلنا: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ [النور:54]، فهو يأتيهم بالآيات ويشاهدونها ومع ذلك يكفرون، فإذاً هناك نفوس عصية، والله سبحانه وتعالى يقول لـموسى في أول دعوته هو وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44]، مع أنه سابق في علم الله أنه كافر، وأنه سيموت على الكفر، ومع ذلك يأمر موسى عليه الصلاة والسلام وهارون عليه الصلاة والسلام بأن يتلطفا بالقول معه (لعله يتذكر أو يخشى)، وهذا يدل على أن الإنسان مأمور بأن يعمل من منظوره هو، ولا يتألى على الله ويقول: إن هذا الإنسان لن يهديه الله، ولن تكون له هداية، وإنما أنت تعمل من منظورك أنت كبشر، فالأصل عندك أنك إذا دعوت بالدعوة الصحيحة أن يستجاب لك، إذا لم يستجب لك فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ولا تكلف نفسك عليهم، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

قوله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، من باب الفائدة إذا جئنا إلى ألفاظ القرآن، لم يرد خلق الظلمات والنور في القرآن، وإنما الذي ورد جعل، فعندما نأتي إلى مثل هذا يرد سؤال: لماذا اختير الجعل في الظلمات والنور، والخلق في السموات والأرض؟ الذي أردته هو أنهم قالوا: الثناء على الله بصفاته التي كلها أوصاف وكمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية، فهو الذي أنشأ السموات والأرض، وخلق الظلمات والنور، فقد فسروا الجعل بمعنى الخلق، وهذا من باب تغيير العبارة، والمراد من الجعل هنا خلق الظلمات، وليس التصيير الذي هو تحويل من شيء إلى شيء، ومعنى ذلك أن الأولى هي بمعنى الثانية، ولكن خالف بينهما بناءً على التفسير الميسر، مخالفة الألفاظ من باب التفنن، وإلا في النهاية فالمعنى واحد عندهم، أو أن يكون خلق شيء وجعل شيء آخر؛ لأن المخلوق أمر مرتبط بالذوات، والمجعول مرتبط بصفات الذوات؛ لأن الظلمات والنور مرتبطة بالسموات والأرض، التي هي مرتبطة بالشمس والقمر.

والذي أريده وأقصد إليه أن البحث عن هذه الدقائق عسير وأحياناً يدخله التكلف، ولهذا ما نجد عند السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم البحث والفحص عن مثل هذه الفروقات بين جعل وخلق، ولماذا عبر بخلق هنا؟ ولماذا عبر بجعل هنا؟ وإنما كانوا يفسرونها على ظاهرها، لكن لا يعني هذا أنه لا يصح لنا أن نبحث، وأن ننقب عن المعنى، لكن ينتبه إلى أنه قد يقع التكلف في هذا الأمر.

ثم قال: فإن الكافرين ليسوون بالله غيره ويشركون به، فـ(يعدلون) بمعنى يميلون، يعني: عدل عن الشيء إذا مال، فهم يميلون عن التوحيد إلى الشرك، فوصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم يعدلون، وليس المراد بالعدل هنا العدل المحمود، وإنما هذا عدل مذموم، وبناءً على هذا ينتبه إلى أن اللفظ الواحد قد يأتي لأكثر من معنى، وهو الذي يسمى عند علماء العربية بأحرف التضاد، فيعدلون في هذا الموطن بمعنى يميلون عن الحق إلى الباطل، ويميلون عن التوحيد إلى الشرك، ولكن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فهذا هو العدل المحمود، فإذاً ننتبه إلى أنه وإن اتفقت المادة إلا أن لها معنى هنا، ولها معنى نقيضه في موطن آخر، وهذا ما يسمى عندهم بالأضداد، وهو نوع من المشترك اللفظي.

هذه المقدمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، ونريد أن نربط بين أول السورة وآخر السورة، قال في آخر السورة: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165].

فلو نحن أردنا أن نربط بين آخر آية وأول آية في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] بقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165]، وهذا ما يسمى برد العجز على الصدر، العجز الذي هو آخر الشيء على الصدر الذي هو أوله، وهذا أيضاً من المباحث التي بحثها العلماء وأفاضوا فيها، مثل كتاب نزل قريباً في السنوات الأخيرة للسيوطي، وهو في المطالع والمقاطع، يعني: مطلع السورة وخاتمة السورة نفسها، والعلاقة بينهما، وخاتمة السورة ومطلع السورة التي بعدها، فهذا يدل على الترابط، وهذا مما يقع فيه نوع من التكلف، ولكن أحياناً يبين المعنى ويكون معنى واضحاً، وأحياناً قد يخفى حتى يحتاج الإنسان إلى أن يتكلف التدبر؛ لكي يبرز الرابط الموجود بين معاني هذه الآيات، فلو اجتهدنا في محاولة الربط ما العلاقة بين آخر هذه السورة وأول السورة؟ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:165] مع قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، فمن تفضيله وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [الأنعام:165] يعني: هو خلقهم، فبعضهم مؤمن وبعضهم كافر، ولا شك أن درجة المؤمن أعلى من درجة الكافر.

وقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]، يعني: إن بعضهم كفر بربه، وبعضهم آمن، هذا احتمال، فإن هذا باب واسع جداً للاجتهاد، ويقع فيه شيء من التكلف.

قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ [الأنعام:165] يتناسب مع ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] ففيه نوع من التناسب؛ لأن تقديم التهديد مناسب للذين كفروا بربهم، هذا عند أخذ آية مع آية، ولكن عند أخذ جملة من الآيات مع جملة من الآيات في الآخر سيكون نوع أيضاً من الترابط أوسع وأكثر؛ لأن الربط إذا كان بين آية وآية يضيق أكثر.

ثم في قوله سبحانه وتعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4] قضية وهي أنه لا يلزم من رؤية الآيات الإيمان بها، فالكفار قد رأوا عياناً انشقاق القمر ومع ذلك ما آمن منهم إلا قليل، وادعوا أنه سحر من الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن القرآن كان ينزل عليهم وهو أعظم المعجزات ومع ذلك ما آمنوا به، وبعضهم آمن به ولكنه كفر جحوداً.

فإذاً المقصود من ذلك أننا حينما نأتي إلى مثل هذا الأمر يجب أن نعلم أن بعض الناس في نفسه إشكال في قضية الإيمان، مع وضوح الأمر عنده، مثلما حصل لـأبي طالب ، فـ أبو طالب موقن يقيناً تاماً أن محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه، ولكن منعه ما منعه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبناءً على هذا عندما نأتي إلى مثل هذه الأمور في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يجب أن يكون عندنا نوع من الاعتدال في التعامل، وأن يكون عندنا اعتدال في قضية الطرح، والاعتدال في التعامل مثلما قلنا: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ [النور:54]، فهو يأتيهم بالآيات ويشاهدونها ومع ذلك يكفرون، فإذاً هناك نفوس عصية، والله سبحانه وتعالى يقول لـموسى في أول دعوته هو وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44]، مع أنه سابق في علم الله أنه كافر، وأنه سيموت على الكفر، ومع ذلك يأمر موسى عليه الصلاة والسلام وهارون عليه الصلاة والسلام بأن يتلطفا بالقول معه (لعله يتذكر أو يخشى)، وهذا يدل على أن الإنسان مأمور بأن يعمل من منظوره هو، ولا يتألى على الله ويقول: إن هذا الإنسان لن يهديه الله، ولن تكون له هداية، وإنما أنت تعمل من منظورك أنت كبشر، فالأصل عندك أنك إذا دعوت بالدعوة الصحيحة أن يستجاب لك، إذا لم يستجب لك فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ولا تكلف نفسك عليهم، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.


استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
دورة الأترجة القرآنية [2] 3245 استماع
دورة الأترجة القرآنية [7] 3102 استماع
دورة الأترجة القرآنية [5] 3099 استماع
دورة الأترجة القرآنية [6] 3066 استماع
دورة الأترجة القرآنية [1] 2337 استماع
دورة الأترجة القرآنية [3] 1724 استماع