دورة الأترجة القرآنية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فنبتدئ بما يتعلق بقضية غريب القرآن، ونأخذ مقدمة موجزة فيما يتعلق بهذا الموضوع، وهو من أوائل ما يجب على طالب علم التفسير أن يعلمه، وهو جانب غريب القرآن، أو معرفة دلالات مفردات الألفاظ؛ لأنه لا يمكن لكائن من كان أن يعرف المعنى دون أن يعرف دلالة اللفظ بلغة العرب، ولهذا نجد أن ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: كنت لا أعلم ما (فاطر السموات والأرض) حتى اختصم إلي أعرابيان، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدعتها، ففهم معنى دلالة (فاطر السموات والأرض) بناءً على هذا الكلام العربي الذي سمعه من هذا الأعرابي.

فإذاً: مقام ما يسمى بغريب القرآن أو مفردات ألفاظ القرآن هو أول مقام من مقامات علم التفسير يجب على قارئ التفسير أن يتقنه ويفهمه، وهناك مسائل مرتبطة به، لكن نأخذه على أنه قضية منتهية، وإلا فقد يرد هناك خلاف في مدلول الألفاظ، فماذا يفعل طالب العلم حينما يأتيه هذا الخلاف في المدلول؟ لعلنا نأخذ مثالاً في القراءة التطبيقية على بعض خلافات المفسرين من خلال تفسير ابن جرير ونناقشه إن شاء الله.

هناك مسائل كثيرة فيما يتعلق بقضية الغريب، ولكن نبدأ بما يتعلق بغريب هذه الآيات، والطريقة المشروحة هي وضع الكلمة الغريبة مكانها في الآيات، باعتبار أنها لا تقرأ على أنها آية منزلة، وإنما تقرأ على أنها تفسير، فما يحتاج إلى تفسير يفسر، وما لا يحتاج إلى تفسير لا يفسر، وهذه الطريقة هي أشبه بالترجمة، ففي مثل هذه الطريقة تكون مبينة للمعنى المراد باللفظة فقط، فنحن سنقرأ على أنه نص مكتوب، وليس على أنه آيات بحيث يتبين للطالب كيف يمكن أن يفهم دلالة الكلمة المفردة التي ينتقل منها إلى المعنى الإجمالي.

تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم ...)

[ قال الله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ [المائدة:82-83] تمتلئ أعينهم بالدمع فتصبه، مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83] ].

في هذا النص الذي أمامنا تفسير لمعنى (تفيض) ولو أردنا أن نأخذ تمريناً وقلنا: ما هي الألفاظ الغريبة في هذا النص؟

فسنجد أن الألفاظ الغريبة عند فلان غير الألفاظ الغريبة عند فلان، فمثلاً سيقول أحدهم: ما معنى قسيسين؟ وآخر يقول: ما معنى رهبان؟ وآخر سيقول: ما الفرق بين قسيسين ورهبان؟ ومعنى ذلك أن مسألة الغريب نسبية، وليس المقصود هنا أن نأخذ جميع ما يتعلق بالغريب؛ لأن الوقت ضيق جداً، لكن هو مجرد تدريب على فكرة الغريب، فمثلاً إذا قرأتُ هذا النص: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تمتلئ بالدمع فتصبه مما عرفوا من الحق)، الآن الجملة متناسقة وليس فيها نبوء يعني: المطلب الذي نحتاجه في هذه الطريقة هو أن تسبك عبارة الغريب بحيث يتناسق معها الكلام، وهذه هي الفكرة المعروضة عندنا، وهذا اجتهاد سريع لم يراجع، لكن لو وقع فيه أي إشكال يمكن أن يعدل، وهذه اللبنة الأولى التي يمكن أن نفهم بها المعاني، وسنقف إن شاء الله عند هذه اللفظة (تفيض من الدمع) في بعض كتب غريب القرآن أو كتاب أنموذج؛ لكي ننظر كيف تعامل مع لفظة (تفيض من الدمع) وكيف عرفها.

تفسير قوله تعالى: (ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ...)

[ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:84-88] ].

هذا المقطع الطويل ليس فيه بالنسبة لنا أي كلمة غريبة، ونحن نعتمد على كتاب كلمات القرآن لـحسنين محمد مخلوف ، وهذه الجملة من الآيات ليس فيها شيء يحتاج إلى بيان، بناءً على هذا الكتاب، والمعاني الآن من جهة الألفاظ واضحة.

ما هو الشيء الذي نجده غير واضح في هذه الآية؟ مثلاً قد يقول قائل: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا [المائدة:87]، ما هي الطيبات التي أحلها الله؟ المسألة هنا ليست مرتبطة باللفظة من جهة دلالتها اللغوية، ولكنها مرتبطة باللفظة من جهة المراد بها في هذا السياق، فالدلالة اللغوية واضحة جداً، ومعنى الطيبات واضح، لكن ما هي الطيبات؟

هذه قضية خارجة عن النص، لا تؤخذ من اللفظة نفسها، وإنما تؤخذ من مصدر آخر، وهنا تأتي قضية بيان الشريعة إما من القرآن، وإما من السنة، وإما من الإجماع وغير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ...)

[ لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ [المائدة:89] بالحلف الذي تعتقدون صدقه، والأمر بخلافه، أو ما يجري على اللسان مما لا يقصد به اليمين، وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا [المائدة:89] وثقتموها بالقصد والنية، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:89] ].

قوله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [المائدة:89]، المفسر عندنا قوله: (باللغو في أيمانكم)، واللغو قد يكون حَلِفاً يحلف على شيء يعتقد صدقه، والأمر بخلافه، وهو راجع إلى نيته، ويعتقد أنه صادق في هذا، لكن الواقع خلافه، أو ما يجري على اللسان مما لا يقصد به اليمين، وهذا يكثر الآن عندنا كمن يقول: لا والله، وبلى والله، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (هو قول الرجل: لا والله، وبلى الله)، وأمثالها، فهذا كثير وهو يسمى لغواً، أي: لا معنى له، ولا يترتب عليه أي شيء.

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ [المائدة:89] أي: وثقتموها بالقصد والنية، فمن قصد عند قوله: لا والله الحلف فإنه يكون يميناً، لكن إذا قال: لا والله ما رأيته اليوم ولم يقصد الحلف، وإنما هو يجري على اللسان، فهذا يسمى لغو يمين.

إذاً: افترق لغو اليمين عن غيره في قضية النية والقصد، الآن إذا نظرنا إلى النص يتبين المعنى العام للآية بالنسبة لنا، وكأن الدلالة اللغوية هنا تبين بها المعنى تبيناً كاملاً ولا نحتاج فيه إلى مصدر آخر، لكن أحياناً يتبين المعنى بالدلالة اللغوية، ولكن نحتاج أيضاً إلى مصدر آخر؛ لأننا نبحث ما المراد به في هذا السياق؟

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ...)

[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [المائدة:90] والحجارة التي حول الكعبة تعظمونها، والأقداح التي تطلبون بها علم ما يقسم لكم، خبيث قذر نجس، مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:90-93] إثم وحرج فيما شربوا أو أكلوا من المحرم قبل تحريمه، إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:94] ليختبرنكم ويمتحننكم بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ [المائدة:95] محرمون بحج أو عمرة، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ [المائدة:95] الإبل والبقر والضأن والماعز، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً [المائدة:95] واصل الحرم فيذبح به، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ [المائدة:95] معادل الطعام ومقابله، صِيَاماً لِيَذُوقَ [المائدة:95] ثقل فعله، وسوء عاقبة ذنبه، عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95].

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ [المائدة:96] وللمسافرين، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة:96] ].

في المقطع الأول بعض المفردات التي تحتاج إلى بيان، وهذا التفسير للغريب بناء على كتاب كلمات القرآن للشيخ حسنين محمد مخلوف رحمه الله، ويمكن لو رجعنا إلى كتاب آخر في غريب القرآن واعتمدناه فإنها قد تزيد عندنا كلمات وتنقص كلمات، فقضية الغريب نسبية، وهذه فائدة نستفيدها في أن كل واحد منا لو احتاج أن يعرف الغريب، فالغريب عندك غير الغريب عند فلان، فتحتاج أنك تقيد الألفاظ الغريبة عندك، فمثل (ليبلونكم) أنا في رأيي لا نضعها في الغريب؛ لأنها كلمة صارت معروفة ومتداولة أن معناها ليختبرنكم أو ليمتحننكم، لكن الشيخ رحمه الله تعالى وضعها، فنحن وضعناها بناءً على وضعه فقط، وإلا كانت كلمة (قسيسين) و(رهباناً) بالنسبة لي أولى أن تبين من أن تبين (ليبلونكم) مثلاً، فإذاً: صارت المسألة عندنا هنا نسبية في قضية دلالة الألفاظ، والسؤال الآن الذي نحتاج إليه: ما مقدار الفهم للآيات من خلال تبين هذه المفردات الآن؟ فينظر: هل تبينت المعاني أو بقي شيء من المعاني لم يتبين؟ ولا نتكلم هنا عن الاستنباط وما بعده، ثم بعد ذلك إذا جئنا إلى الدلالات السياقية التي سنأتي إليها ونقرأها إن شاء الله من خلال التفسير الميسر هل استوعب المعنى من جهة الألفاظ ومن جهة السياق أم لا؟ نأخذ الآن أنموذجاً في الآية الأولى من خلال التفسير الميسر.

تفسير قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة)

[ آية: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً [المائدة:82]، لتجدن أيها الرسول أشد الناس عداوةً للذين صدقوك وآمنوا بك واتبعوك، اليهود؛ لعنادهم، وجحودهم، وغمطهم الحق، والذين أشركوا مع الله غيره، كعبدة الأوثان وغيرهم، ولتجدن أقربهم مودةً للمسلمين الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم علماء بدينهم متزهدين، وعباداً في الصوامع متنسكين، وأنهم متواضعون لا يستكبرون عن قبول الحق، وهؤلاء هم الذين قبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا بها ].

لو أردنا أن ننظر الآن في طريقة التفسير بالمعنى الإجمالي، فعندما قال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً [المائدة:82] أضافوا لنا: أيها الرسول، على أن المخاطب أولاً بهذا القرآن هو محمد صلى الله عليه وسلم، أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:82] صدقوك وآمنوا بك، يعني: أضافوا لفظة التصديق إشارة إلى أن أصل الإيمان هو التصديق، اليهود، وبينوا السبب لعنادهم وجحودهم، وغمطهم الحق، والذين أشركوا مع الله غيره، فبينوا معنى الإشراك كعبدة الأوثان وغيرهم، ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا هم الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم علماء بدينهم متزهدين، وعباداً في الصوامع متنسكين، وأنهم متواضعون لا يستكبرون عن الحق، وهؤلاء هم الذين قبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بها.

الآن بناءً على هذا التفسير الجملي تبينت لنا المعاني اللفظية وهي غريب القرآن، والمعاني السياقية، وأيضاً المحذوفات التي في النص أضافوها بحيث اكتمل عندنا المعنى الكامل لهذه الآية من خلال النظر في هذا السياق، ولا نتكلم عما وراء التفسير إنما المراد هو المعنى الذي أراده الله، وكثيراً ما أنبه على هذه القضية أن لها أهميتها البالغة إلا أن من يطلب علم التفسير يغفل عن هذه المرحلة، فالمرحلة هذه هي المبتدأ وهي المنتهى، فنحن أخذنا نتيجة مما عمله من قبلنا، وأخذنا الثمرة عنهم، وأخذنا المعاني وانتهينا، فهي بالنسبة لنا مبتدأ، فعند التقدم في علم التفسير شيئاً بعد شيء، ستكون قضية المبتدأ هذه هي المنتهى مرة أخرى، بمعنى أنني حينما أطلع على خلافات المفسرين فأنا سأعالج التفسير وخلافات المفسرين، وقد أصل إلى معنىً غير المعنى الذي اختاره هؤلاء، فأنا آخذ ما أنتهي إليه من كتب وأختصر في التفسير، إذا قويت ملكتي في التفسير، وعرفت مناهج المفسرين، وعرفت منهج التفسير، وعرفت كيفية التعامل مع اختلاف المفسرين، يمكن أن أرجح غير ما رجح هؤلاء فيتغير عندي المعنى، فقضية تحرير المعنى هي المبتدأ، وهي المنتهى في علم التفسير، وبعض من يطلب علم التفسير يجهل هذه القضية، فيبحث دائماً عن الغرائب والمشكلات واللطائف والنكت، وينسى هذه القضية.

فإذا قلت له: بين لنا المعنى؟ تجده لا يستطيع أن يوضح المعنى توضيحاً تاماً، صحيح أنه ليس في كل القرآن يعجز، لكن في بعض المناطق خاصة إذا كانت مواطن شائكة تحتاج إلى إبراز المعنى بطريقة ونوع من الاحتراف في اختيار الألفاظ، وبيان المعاني.

[ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [المائدة:83]، ومما يدل على قرب مودتهم للمسلمين أن فريقاً منهم وهم وفد الحبشة لما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، فأيقنوا أنه حق منزل من عند الله تعالى، وصدقوا بالله واتبعوا رسوله، وتضرعوا إلى الله أن يكرمهم بشرف الشهادة مع أمة محمد عليه السلام على الأمم يوم القيامة ].

قوله: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [المائدة:83]، كأنه يقول: إن الآية هذه دليل للآية السابقة وهو أن مما يدل على قرب مودتهم للمسلمين، يعني: قرب هؤلاء النصارى للمسلمين أن فريقاً منهم يعني: ليس كل النصارى، وإنما بعض النصارى، إذا سمعوا ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فاضت أعينهم من الدمع، وضرب له أنموذجاً بأهل الحبشة، ولهذا قال: وصدقوا بالله واتبعوا رسوله، وتضرعوا إلى الله أن يكرمهم بشرف الشهادة مع أمة محمد عليه السلام على الأمم يوم القيامة.

[ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ [المائدة:84] وقالوا: وأي شيء علينا في إيماننا بالله، وتصديقنا بالحق الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله واتباعنا له، ونرجو أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته في جنته يوم القيامة، فجزاهم الله بما قالوا من الاعتزاز بإيمانهم وبالإسلام، وطلبهم أن يكونوا مع القوم الصالحين جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها لا يخرجون منها، ولا يحولون عنها، وذلك جزاء إحسانهم في القول والعمل ].

الشيخ حسنين رحمه الله لم يتعرض لقوله تعالى (خالدين)، والمفسرون قالوا: ماكثين، يعني أنهم فسروا الخلود بالمكوث، فهذا لا شك أنه نوع من إضافة.

وما بقي شيء في الآية غامضاً من جهة المعنى، وليس من جهة المشكلات، مثلما في قضية النصارى، نجد الآن النصارى فيهم إشراك، والنصارى فيهم عداوة، وهذه مسألة ليست في بيان المعنى مباشرة؛ لأن المعنى أن الله سبحانه وتعالى يخبر أن بعض النصارى فيهم هذه الصفة، [ والذين جحدوا وحدانية الله، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بآياته المنزلة على رسله، أولئك هم أصحاب النار الملازمون لها ].

عندنا (الملازمون لها) أخذوها من لفظة أصحاب؛ لأن الصاحب هو الملازم، فإذاً: عبروا عن أصحاب بالملازمين.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ...)

[ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات أحلها الله لكم من المطاعم والمشارب ونكاح النساء، فتضيقوا ما وسع الله عليكم، ولا تتجاوزوا حدود ما حرم الله، إن الله لا يحب المعتدين ].

أشبه ما يكون تفسيراً لفظياً ليس فيه أي إضافة، يعني: الآية هي نفس المعنى لكن أضافوا: طيبات أحلها الله لكم من المطاعم والمشارب، يعني: أنواع الطيبات.

[ وتمتعوا أيها المؤمنون بالحلال الطيب مما أعطاكم الله ومنحكم إياه، واتقوا الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه; فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراقبته لا يعاقبكم الله أيها المسلمون فيما لا تقصدون عقده من الأيمان، مثل قول بعضكم: لا، والله، وبلى والله، ولكن يعاقبكم فيما قصدتم عقده بقلوبكم، فإذا لم تفوا باليمين فإثم ذلك يمحوه الله بما تقدمونه مما شرعه الله لكم كفارة من إطعام عشرة محتاجين لا يملكون ما يكفيهم ويسد حاجتهم، لكل مسكين نصف صاع من أوسط طعام أهل البلد، أو كسوتهم، لكل مسكين ما يكفي في الكسوة عرفاً، أو إعتاق مملوك من الرق، فالحالف الذي لم يف بيمينه مخير بين هذه الأمور الثلاثة، فمن لم يجد شيئاً من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام، تلك مكفرات عدم الوفاء بأيمانكم، واحفظوا أيها المسلمون أيمانكم باجتناب الحلف، أو الوفاء إن حلفتم، أو الكفارة إذا لم تفوا بها، وكما بين الله لكم حكم الأيمان والتحلل منها يبين لكم أحكام دينه; لتشكروا له على هدايته إياكم إلى الطريق المستقيم ].

وهذا في الآية للتخيير، ففي أيها فعلت فقد وفيت كفارة الحلف، وهذا أنموذج من النماذج التي تدل على حسن الصياغة، وإبراز تمام المعنى على وجازة التعبير، بحيث أنك إذا قرأت يتبين لك المعنى تاماً، ولا أزال أقول: المعنى، لاحظ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، بالنظر إلى الدلالة اللغوية نجد أن عندنا دلالة موجزة، وقد يكون الشيخ حسنين ذكر نوعاً لم يذكره المفسرون، لكن ما ذكروه متكامل من جهة صياغة المعنى، بحيث أن أي قارئ يقرأ هذا النص يجد أن المعنى عنده متكامل، ويفهم مراد الله سبحانه وتعالى.

لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، ما هو لغو الإيمان؟ بناءً على ما ذكروه، قال: (فيما لا تقصدون عقده من الأيمان، مثل قول بعضكم: لا والله، وبلى والله)، وتركوا النوع الأول من اللغو الذي ذكره الشيخ، قال: (ولكن يعاقبكم فيما قصدتم عقده بقلوبكم)، فهذا ما يؤاخذ به الله سبحانه وتعالى، فالمعنى واضح جداً، ثم قال: (فإذا لم تفوا باليمين فإثم ذلك يمحوه الله بما تقدمونه مما شرعه الله لكم كفارةً من إطعام)، وفسر المساكين فقال: (عشرة محتاجين لا يملكون ما يكفيهم ويسد حاجتهم)، فهذا بيان لمعنى المسكين، (لكل مسكين نصف صاع من أوسط طعام أهل البلد)، مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة:89] بينها لنا.

(أو كسوتهم، لكل مسكين ما يكفي في الكسوة عرفاً)، أي: ما تعارف عليه الناس، (أو إعتاق مملوك من الرق، فالحالف الذي لم يف بيمينه مخير بين هذه الأمور الثلاثة)، بينوا أن (أو) هنا للتخيير، ويمكن لواحد أن يبدع فإنه يجعلها في مكان آخر، مثلاً عند قوله (فكفارته) فهو مخير في الكفارة أن يطعم عشرة مساكين إلى آخره، بحيث اخترت العبارة وبينت المعنى، لكن المفسرين اجتهدوا بأن يكونوا مرتبطين بالنص القرآني فتركوها في هذا المكان، وجاءت بهذا السياق، لكن الذي سيفسر تفسيراً إجمالياً ولم يرتبط بجمل الآيات يمكن أن يختصر هذه العبارة من سطر إلى كلمتين، بحيث أنه يختصر التعبير، ويكون قد أدى المعنى، كما قلت: مما شرع لكم فهو مخير في الكفارة من إطعام عشرة مساكين إلى آخره، وأنبه هنا أن أحكام الله سبحانه وتعالى دائماً فيها تعليل؛ خصوصاً قضية الأحكام الشرعية، وهذا الجانب من الأحكام الشرعية جانب مهم أن ينتبه له، ونأتي إليه في الفوائد؛ لأن الله سبحانه وتعالى حينما يأتي بالقضايا الشرعية يربطها في كثير من الأحيان بأسمائه أو بعض صفاته، فتكون مربوطة بالإيمان؛ لأن المقصود الكلي من الأعمال هو تحقيق الإيمان التام والعبودية التامة لله سبحانه وتعالى، ولهذا نجد كثيراً أن هذه الأحكام الشرعية تربط بأسماء الله سبحانه وتعالى، أو ببعض صفاته، ولعلنا نقف عندها إن شاء الله من خلال حديثنا عن بعض الفوائد بإذن الله.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ...)

[ يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بشرعه إنما الخمر وهي: كل مسكر يغطي العقل، والميسر وهو: القمار، وذلك يشمل المراهنات ونحوها، مما فيه عوض من الجانبين، وصد عن ذكر الله، والأنصاب وهي: الحجارة التي كان المشركون يذبحون عندها تعظيماً لها، وما ينصب للعبادة تقرباً إليه، والأزلام وهي: القداح التي يستقسم بها الكفار قبل الإقدام على الشيء، أو الإحجام عنه، إن ذلك كله إثم من تزيين الشيطان، فابتعدوا عن هذه الآثام؛ لعلكم تفوزون بالجنة ].

هذه من الأمثلة الجيدة في قضية بيان المعنى، وهي إضافة قضايا للدلالات، قال: (والحجارة التي حول الكعبة تعظمونها، والأقداح التي تطلبون بها علم ما يقسم لكم، خبيث قذر نجس)، لكن قد لا تعرف الأقداح ما هي؟ والميسر كيف طريقته في هذا البيان وسيكون أكثر إيضاحاً أمامك؛ لأنه قال بعدما ذكر الخمر والميسر، وهو القمار الذي يشمل المراهنات، إلى أن قال: (والأنصاب وهي: الحجارة التي كان المشركون يذبحون عندها تعظيماً لها)، هذا نوع من أنواع الأنصاب، (وما ينصب للعبادة تقرباً إليه)، يعني: الأصنام التي تنصب للعبادة أيضاً، أو الأحجار التي تنصب للعبادة، كل هذه أنصاب، فنصب لنا الحجارة هذه، قال بعد ذلك: (والأزلام وهي: القداح التي يستقسم بها الكفار قبل الإقدام على الشيء، أو الإحجام عنه)، يعني: هي أزلام كانوا يدخلونها في كيس، ثم يدخل يده ويخرج منه، فإذا خرج له اذهب ذهب، وإذا خرج له لا تذهب لا يذهب، هذا نوع من أنواع التشاؤم والطيرة، فالله سبحانه وتعالى حرم هذا العمل، فهم الآن يأخذون قسمتهم يعني قدرهم بهذه الطريقة، أي يستكشف القدر بهذه الطريقة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وبين أنها كلها من تزيين الشيطان.

قال: (فابتعدوا عن هذه الآثام؛ لعلكم تفوزون بالجنة)، فبين معنى الفلاح أنه الفوز بالجنة.

[ إنما يريد الشيطان بتزيين الآثام لكم أن يلقي بينكم ما يوجد العداوة والبغضاء؛ بسبب شرب الخمر ولعب الميسر، ويصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة بغياب العقل في شرب الخمر، والاشتغال باللهو في لعب الميسر، فانتهوا عن ذلك، وامتثلوا أيها المسلمون طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما تفعلون وتتركون، واتقوا الله وراقبوه في ذلك، فإن أعرضتم عن الامتثال فعملتم ما نهيتم عنه، فاعلموا أنما على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين.

ليس على المؤمنين الذين شربوا الخمر قبل تحريمها إثم في ذلك، إذا تركوها واتقوا سخط الله وآمنوا به، وقدموا الأعمال الصالحة التي تدل على إيمانهم ورغبتهم في رضوان الله تعالى عنهم، ثم ازدادوا بذلك مراقبةً لله عز وجل وإيماناً به، حتى أصبحوا من يقينهم يعبدونه، وكأنهم يرونه. وإن الله تعالى يحب الذين بلغوا درجة الإحسان حتى أصبح إيمانهم بالغيب كالمشاهدة ].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ...)

[ يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، ليبلونكم الله بشيء من الصيد يقترب منكم على غير المعتاد حيث تستطيعون أخذ صغاره بغير سلاح، وأخذ كباره بالسلاح; ليعلم الله علماً ظاهراً للخلق الذين يخافون ربهم بالغيب؛ ليقينهم بكمال علمه بهم، وذلك بإمساكهم عن الصيد وهم محرمون. فمن تجاوز حده بعد هذا البيان فأقدم على الصيد وهو محرم فإنه يستحق العذاب الشديد.

يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تقتلوا صيد البر وأنتم محرمون بحج أو عمرة، أو كنتم داخل الحرم، ومن قتل أي نوع من صيد البر متعمداً فجزاء ذلك أن يذبح مثل ذلك الصيد من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، بعد أن يقدره اثنان عدلان، وأن يهديه لفقراء الحرم، أو أن يشتري بقيمة مثله طعاماً يهديه لفقراء الحرم لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم بدلاً من ذلك يوماً عن كل نصف صاع من ذلك الطعام، فرض الله عليه هذا الجزاء; ليلقى بإيجاب الجزاء المذكور عاقبة فعله.

والذين وقعوا في شيء من ذلك قبل التحريم فإن الله تعالى قد عفا عنهم، ومن عاد إلى المخالفة متعمداً بعد التحريم فإنه معرض لانتقام الله منه، والله تعالى عزيز قوي منيع في سلطانه، ومن عزته أنه ينتقم ممن عصاه إذا أراد، لا يمنعه من ذلك مانع.

تفسير غريب قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة ...)

[ أحل الله لكم أيها المسلمون في حال إحرامكم صيد البحر، وهو ما يصاد منه حياً، وطعامه: وهو الميت منه; من أجل انتفاعكم به مقيمين أو مسافرين، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم محرمين بحج أو عمرة، واخشوا الله ونفذوا جميع أوامره، واجتنبوا جميع نواهيه; حتى تظفروا بعظيم ثوابه، وتسلموا من أليم عقابه عندما تحشرون للحساب والجزاء ].

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
دورة الأترجة القرآنية [2] 3239 استماع
دورة الأترجة القرآنية [7] 3101 استماع
دورة الأترجة القرآنية [5] 3096 استماع
دورة الأترجة القرآنية [6] 3063 استماع
دورة الأترجة القرآنية [4] 2052 استماع
دورة الأترجة القرآنية [3] 1723 استماع