رحلة إلى الملكوت الأعلى


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نحن في هذه الدنيا في سفر إلى الله تعالى والدار الآخرة، فعلى العبد المسافر أن يجمع زاده، وأن يأخذ لسفره أهبته، وهذا شأن الحازمين العقلاء من بني الإنسان، وقد كتب الله علينا وبدون استشارة منا ولا اختيار لنا، كتب علينا أن نقضي ردحاً من الزمن على سطح هذا الكوكب، ثم نرتحل حيث لا نعود إلى هذه البلاد، حيث نستقر إما في الملكوت الأعلى، وإما في الملكوت الأسفل، ويتوقف هذا على مدى اختيارنا لأزودتنا وما أخذناه من أهبة لسفرنا، فهنا في هذه الدار، في هذه الحياة يتسلم أحدنا بطاقة السعادة أو بطاقة الشقاء، هذه حقيقة يجب أن نتحملها، ولنكن على مستوى المسئولية.

لقد صاح فينا صائح الحق، وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

الرحلة مداها بعيد، وغايتها بعيدة، فلهذا لابد من الإعداد الكافي، لابد من التحضير، لابد من جمع كل ما يتوقف عليه نجاحنا في رحلتنا التي ها نحن نتحفز لمباشرتها والدخول فيها، وسوف تنتهي بإذن الله.

الله نسأل أن تكون إلى الملكوت الأعلى لا إلى الملكوت الأسفل.

ولا بأس أن نوزع الآن عليكم بطاقات صغيرة تحمل برنامج الرحلة، أو نماذج من الملكوت الأعلى الذي تتهيئون للسفر إليه، ولم تكن هذه البطاقات إلا على نمط ما يوزع في الحفلات، حيث يُقدم نموذج لما سيجري ويدور في الاحتفال.

هذه البطاقات هي عبارة عن آيات نور من كلام الحق، من كلام الذي بنى جنة عدن وخلقها وغرس أشجارها وبنى قصورها وأعدها لأوليائه، فعل ذلك بنفسه وبيده، تلكم الجنة التي لما أحضرت وتهيأت لاستقبال الوافدين قيل لها: انطقي فنطقت، فقالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] هذه كلمة دار السلام، كلمة جنة عدن، قالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1].

أقول: معشر الأبناء! قبل أن نتكلم عما نعده لرحلتنا إلى الملكوت الأعلى أضع بين أيديكم نماذج من ذلك الملكوت الذي تتهيئون للسفر إليه والارتحال إلى سوحه، حيث تنزلون منازل الأبرار.

أبواب الجنة ونعيمها

ماذا أقول؟ انظر بعيني بصيرتك، إن لدار السلام أبواباً أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما بين مصراعي الباب كما بين مكة وهجر، أو كما بين المدينة وبصرى الشام.

وللجنة ثمانية أبواب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام ) (كظيظ) فعيل بمعنى مفعول أي: مكتظة من زحام الداخلين، أولئك الذين أعدوا عدتهم وأخذوا أهبتهم اليوم وعلى سطح هذا الكوكب الصغير تزدحم بهم أبواب الجنة.

افتح عينيك وانظر بكل أحاسيسك إلى الجنة، واسمع خبر الله: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:20-21].

وتقدم قليلاً واخط خطوات وأنت تشاهد ما جاء في قول الله عز وجل: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الإنسان:15-18].

حور الملكوت الأعلى

هناك الحور العين، هناك المقصورات في الخيام، هناك نساء يقول خالقهن: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35] يريد نشأة خاصة فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:36-38].

هذا الخالق يعلن عن سلعته، عما خلق تشويقاً لأوليائه ليخفوا، لكنهم يتباطئون ويتململون، لا يريدون أن يلتحقوا حيث أعدت كل الترتيبات للملكوت الأعلى، فهو -سبحانه- يشوقهم.

إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:35-36] والأبكار جمع بكر وهي التي لم يطمثها إنس ولا جان.

فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا [الواقعة:36-37] جمع عرباء، والعرباء قالت العلماء: المحببة إلى زوجها، العرباء من النساء التي لا يهفو قلبها إلا إلى زوجها، ولا يخطر على بالها ود من ود الناس إلا لزوجها، تلك هي المرأة المفضلة، هذه الحوراء، والحور لا كالعور، أن يغلب بياض العين على سوادها، وهو أجمل عين، من شأنها أن تجتذب النفوس، والواحدة حوراء وجمعها حور، والعيناء واسعة العين، والجمع عِين: بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:54]، وإن سألت أو أحببت أن تزيح الستار لتشاهد جمال أولئك النسوة فما هناك خير من أن يصف لك ذلك الخالق صاحب السلعة التي يعرضها عليكم علكم تتحفزون، فيقول: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:48-49]. حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:74] .

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54]، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:52] أي: في سن واحدة، ما هناك جارية، ولكنهن الكواعب الأتراب، سنهن واحد لا تتفاوت: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ [ص:52-53].

وإن شئت أن تعرج معي على أنهار الجنة لترتشف بروحك لا بكفيك ولا بشفتيك رحيقاً من ذلك الرحيق، وسلسبيلاً من ذلك السلسبيل، تلك الجنة التي عرفها لنا فعرفناها: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15].

أما الفواكه على اختلاف أنواعها وتباين طعومها وخصائصها فحدث يا عشيق عاشق، يا مطلوب طالب حدث ولا حرج، ولا بأس إن قلت: إنكم معشوقون، إن أولئك النساء ينتظرنكم، ومن الحول إلى الحول يجرين ترتيبات لاستقبالكم، وهن في انتظار، وهن عاشقات معشوقات، وكل واحدة قد عرفت زوجها، وهي تنتظر بفارغ الصبر، فلهذا أنتم عاشقون معشوقون، وطالبون مطلوبون.

فواكه الملكوت الأعلى

إن أردتم أن تنظروا إلى الفواكه فاسمعوا أقرأ عليكم قول الله عز وجل من سورة البقرة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25].

الفواكه كثيرة، ومن غريب ما نسمع أنها لا مقطوعة ولا ممنوعة، لا تقطع بالزمن إذ ما هناك صيف ولا شتاء، ولا فصول أربعة، فلا تمنع أبداً بالثمن، ولا تقطع بالزمن، على خلاف مشتهيات محطتنا هذه، في رحلتنا الطويلة، الفواكه إما أن تمنع منك؛ لأنك لا تملك ثمنها، وإما أن يتعذر عليك حصولها والحصول عليها؛ لأنها تقطع بالزمن، أما هناك فليست مقطوعة ولا ممنوعة.

وأختم هذا الأنموذج الذي عرضناه أمامكم حتى تعرفوا بعض الشيء عن رحلتكم؛ لأن أكبر نعيم ينعم به أهل دار النعيم هو أن ينظر الرحمن إليهم، وأن يتجلى لهم، ويكشف الحجاب الكريم عن وجهه الكريم، فينظرون فيسعدون، فلا يكون نعيم في الجنة هو أشهى ولا ألذ من ذلك النعيم الذي هو النظر إلى وجه الله الكريم، وكأني بهم وقد ختم على صك سعادتهم بأن قال لهم مولاهم: ( اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً )، فهذا منتهى النعيم، وليس فوقه من نعيم.

معشر الأبناء! هذه هي البطاقة التي بين أيديكم تعطيكم فكرة صالحة عما يهيأ لكم ويعد لنزلكم.

ماذا أقول؟ انظر بعيني بصيرتك، إن لدار السلام أبواباً أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما بين مصراعي الباب كما بين مكة وهجر، أو كما بين المدينة وبصرى الشام.

وللجنة ثمانية أبواب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام ) (كظيظ) فعيل بمعنى مفعول أي: مكتظة من زحام الداخلين، أولئك الذين أعدوا عدتهم وأخذوا أهبتهم اليوم وعلى سطح هذا الكوكب الصغير تزدحم بهم أبواب الجنة.

افتح عينيك وانظر بكل أحاسيسك إلى الجنة، واسمع خبر الله: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:20-21].

وتقدم قليلاً واخط خطوات وأنت تشاهد ما جاء في قول الله عز وجل: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الإنسان:15-18].

هناك الحور العين، هناك المقصورات في الخيام، هناك نساء يقول خالقهن: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35] يريد نشأة خاصة فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:36-38].

هذا الخالق يعلن عن سلعته، عما خلق تشويقاً لأوليائه ليخفوا، لكنهم يتباطئون ويتململون، لا يريدون أن يلتحقوا حيث أعدت كل الترتيبات للملكوت الأعلى، فهو -سبحانه- يشوقهم.

إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:35-36] والأبكار جمع بكر وهي التي لم يطمثها إنس ولا جان.

فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا [الواقعة:36-37] جمع عرباء، والعرباء قالت العلماء: المحببة إلى زوجها، العرباء من النساء التي لا يهفو قلبها إلا إلى زوجها، ولا يخطر على بالها ود من ود الناس إلا لزوجها، تلك هي المرأة المفضلة، هذه الحوراء، والحور لا كالعور، أن يغلب بياض العين على سوادها، وهو أجمل عين، من شأنها أن تجتذب النفوس، والواحدة حوراء وجمعها حور، والعيناء واسعة العين، والجمع عِين: بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:54]، وإن سألت أو أحببت أن تزيح الستار لتشاهد جمال أولئك النسوة فما هناك خير من أن يصف لك ذلك الخالق صاحب السلعة التي يعرضها عليكم علكم تتحفزون، فيقول: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:48-49]. حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72]، لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:74] .

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54]، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:52] أي: في سن واحدة، ما هناك جارية، ولكنهن الكواعب الأتراب، سنهن واحد لا تتفاوت: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ [ص:52-53].

وإن شئت أن تعرج معي على أنهار الجنة لترتشف بروحك لا بكفيك ولا بشفتيك رحيقاً من ذلك الرحيق، وسلسبيلاً من ذلك السلسبيل، تلك الجنة التي عرفها لنا فعرفناها: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15].

أما الفواكه على اختلاف أنواعها وتباين طعومها وخصائصها فحدث يا عشيق عاشق، يا مطلوب طالب حدث ولا حرج، ولا بأس إن قلت: إنكم معشوقون، إن أولئك النساء ينتظرنكم، ومن الحول إلى الحول يجرين ترتيبات لاستقبالكم، وهن في انتظار، وهن عاشقات معشوقات، وكل واحدة قد عرفت زوجها، وهي تنتظر بفارغ الصبر، فلهذا أنتم عاشقون معشوقون، وطالبون مطلوبون.

إن أردتم أن تنظروا إلى الفواكه فاسمعوا أقرأ عليكم قول الله عز وجل من سورة البقرة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25].

الفواكه كثيرة، ومن غريب ما نسمع أنها لا مقطوعة ولا ممنوعة، لا تقطع بالزمن إذ ما هناك صيف ولا شتاء، ولا فصول أربعة، فلا تمنع أبداً بالثمن، ولا تقطع بالزمن، على خلاف مشتهيات محطتنا هذه، في رحلتنا الطويلة، الفواكه إما أن تمنع منك؛ لأنك لا تملك ثمنها، وإما أن يتعذر عليك حصولها والحصول عليها؛ لأنها تقطع بالزمن، أما هناك فليست مقطوعة ولا ممنوعة.

وأختم هذا الأنموذج الذي عرضناه أمامكم حتى تعرفوا بعض الشيء عن رحلتكم؛ لأن أكبر نعيم ينعم به أهل دار النعيم هو أن ينظر الرحمن إليهم، وأن يتجلى لهم، ويكشف الحجاب الكريم عن وجهه الكريم، فينظرون فيسعدون، فلا يكون نعيم في الجنة هو أشهى ولا ألذ من ذلك النعيم الذي هو النظر إلى وجه الله الكريم، وكأني بهم وقد ختم على صك سعادتهم بأن قال لهم مولاهم: ( اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً )، فهذا منتهى النعيم، وليس فوقه من نعيم.

معشر الأبناء! هذه هي البطاقة التي بين أيديكم تعطيكم فكرة صالحة عما يهيأ لكم ويعد لنزلكم.

الآن نريد أن نتحدث قليلاً عن الإعداد اللازم لأعظم رحلة في الملكوت الأعلى، واعلموا أن الأمر يتطلب جهداً كبيراً، وقد علمتم أن الذين يحاولون أن يقعوا على جِرم من هذه الأجرام السماوية الدائرة في هذه الأفلاك كجرم القمر أو الزهرة، تعلمون أنهم يعدون إعدادات هائلة، وحسبكم أن تنظروا إلى إعدادات الجامعة لهذا المؤتمر، فإنكم تشاهدونها قائمة قاعدة في تعبئة كاملة لإعداد لا إلى الملكوت الأعلى ولا إلى الأسفل، وإنما في محيطها التي تعيش فيه، ومع هذا فقد رأيتم الإعدادات.

أما الذين يتهيئون للقمر فسلوا مراصد أمريكا وروسيا وبريطانيا وممن يحاولون غزو الفضاء كما يقولون، ما هي الترتيبات والإعدادات؟ إن أرقامها المالية تهولنا إذا سمعناها، الأرقام المالية التي تنفق لرحلة واحدة لا نسمع منها إلا القليل ويخفون الكثير منها.

إذاً: فالرحلة تتطلب إعداداً أعظم إعداد؛ تتطلب منا ألا يبقى لنا هدف ولا غرض في الحياة إلا ما نعده زاداً لتلك الساعة السعيدة التي نتجاوز فيها هذه الأرض لنلتحق بالملكوت الأعلى، مع العلم أنه ليس في إمكاننا أن نتخلى عن هذه الرحلة، وليس هناك من يعتذر فيقبل منه عذره بحال من الأحوال، فلابد وأننا سنلزم بالرحيل ونكره عليه، ولا تفكر أبداً في أنك تملك أن تختار، هذا ما كان ولن يكون.

إذاً: فلنواجه الحقيقة بصدق وعزم، إننا راحلون، فما هي إعداداتنا لأعظم رحلة في الملكوت الأعلى؟ إنها لن تكون أبداً مناطيد نصنعها، ولا بالونات ننفخها، ولا صواريخ تدفع، ولا أقمار صناعية ترفع، ولكن الحقيقة هي ما تعلمون؛ الحقيقة هي أن نفسك التي بين جنبيك، هذه النفس العجيبة أم العجائب، هذه الصغيرة الكبيرة، السعيدة الشقية، التي دوخت هذه الأرض، هذه النفس هي التي سوف ترحل، وهي التي سوف تلتحق بالملكوت الأعلى أو الأسفل، وأما هذه الجثث الآدمية فإنها بعد مفارقة النفس لها إنما هي جيف توارى بالتراب وتدفن ستراً لها، وبعداً من أذيتها، وليست هي كل شيء، وإنما الروح النفس البشرية، هي التي يتم لها الرحيل، وأنتم حسب ما أعرف عنكم أنكم راجون طامعون، ولكم أن ترجوا وتطمعوا، وقد طمعكم الله ورجاكم، وهو وليكم ومولاكم، فلا غرابة أبداً أن تتوقوا، ولا غرابة أن تتهيئوا لتلك الرحلة العظيمة.

وقد واعدتكم في عنوان الكلمة بأننا نتكلم على ما يعدكم للملكوت الأعلى، على ما يحملكم إلى ذلكم المقام الكريم؛ إلى دار الأبرار ومنازل الأخيار؛ إلى مأوى المتقين ودار السلام: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25].

معشر الأبناء! النفس: هي هذا التيار الهوائي الساري في هياكلنا، وله صورة، وله ذات، وليس هو خيال ولا معنى؛ فهي النسمة كسائر النسم، كنسمة الملائكة والجان، هذه النفس التي بين جنبينا هي قوام وجودنا، ما دامت مستقرة في هياكلنا فنحن نسمع ونبصر ونتذوق ونشُم الروائح، ونعقل ونفكر ونهتم، ونكرب ونحزن، ونفرح ونسر، ونقول ونبِين، ونفعل ونترك، ونأتي ونذر، وإذا برحت وفارقت هذه الهياكل وأقفرت منها الدار، بقيت هذه هياكل فارغة كالبيوت الخربة، ما بها من عمار ولا من سكان.

هذه الروح مما يعرف عنها أن شأنها شأن الأجسام المادية، الجسم يمرض تنتابه العلل والأوجاع والأسقام، يصاب بالنحولة وبالهزال، تخرمه الآلام، وتحطمه العلل، وقد يداوى ويستعمل في علاجه الدواء الناجع فتعود الصحة، ويأتي الشفاء، ويتماثل له، وإذا به صحيح الجسم سليم البنية قوي الإدراك كامل الذات، والروح كالجسم في ذلك.

معشر الأبناء! لا أخالكم تغفلون عن هذه الكلمات، وهي زادكم في طلبكم العلم، وهي زادكم لرحلتكم التي تتحفزون لها في الملكوت الأعلى.

الجسم يُهمل ويضيع فتتراكم عليه الأوساخ، لا يغسل ولا تجرى له عملية تنظيف، فيمهل صاحبه أياماً ولا أقول: شهوراً ولا أعواماً، وإذا به وقد انتابته العلل والأسقام؛ نتيجة تلك الأوساخ والأدران التي تكونت عليه وتراكمت، ولكن إذا حزم صاحبه وعرف أن جسمه في حاجة إلى تنظيف وتطهير، وهدي إلى المادة المطهرة المصلحة؛ الماء والصابون، الماء الصالح والصابون الذي شاء الله أن يكون حاملاً مادة التطهير، فأخذ يطهر هذا الشخص جسمه وينظفه، فإنه لا يلبث حسب سنة الله في أن يطهر هذا الجسم وينظف، ويصبح بعدها نظيفاً جميلاً ذا رائحة طيبة نشطاً، خالياً من كل الآثار التي تجلب له المرض أو العجز أو الكلل والملل.