مختصر التحرير [67]


الحلقة مفرغة

لا تأسي فيما كان خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم

هذا الفصل في أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو مبحث مهم جداً؛ لأن مبحث الأفعال صار فيه نزاع بين العلماء كثير، استناداً إلى قول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ، فإن ظاهر الآية: أن نتأسى بكل قولٍ يقوله، وبكل فعلٍ يفعله؛ ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل فعلاً لا يوافق عليه، لم يوافقه عليه الصحابة، يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، حتى إنه في أسفاره يتحرى الموضع الذي أناخ فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بعيره لينيخ بعيره فيه، يتحرى الموضع الذي بال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام من أجل أن يبول فيه، كل هذا أخذاً بعموم قوله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ، ولكن خالفه الصحابة رضي الله عنهم في هذا.

والعلماء اختلفوا في الأفعال اختلافاً كثيراً بناءً على بعض العمومات من القرآن والسنة الدالة على أن كل فعل شرع، فالمؤلف فصل في هذا قال: [فصل: ما اختص من أفعاله صلى الله عليه وسلم به فواضح].

يعني: فأمره واضح أننا لا نتأسى به لأنه خاص به، مثل قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً [الأحزاب:50]، أي: وأحللنا لك امرأة مؤمنة، إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]

إذاً لا أحد يتزوج بالهبة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بالإجماع؛ لأن فيه دليلاً: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] .

ومثل الوصال في الصوم، يعني: أن لا يفطر بين اليومين فأكثر، فإن هذا خاص به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن الوصال، فقالوا: يا رسول الله! إنك تواصل )، يعني: ونحن نفعل مثلك، فقال: (إني لست كهيأتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)، فهذا يدل على أنه خاص به.

وكذلك نكاح أكثر من أربع خاص به، والخصوصيات كثيرة، ونحيلكم على الفصل الذي ذكره الفقهاء في أول كتاب النكاح، فإنهم ذكروا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة، فليرجع إليها.

المهم أن ما اختصّ به صلى الله عليه وسلم من الأفعال فأمره واضح أنه خاصٌ به، وليس لنا أن نتأسى به.

فإذا قال قائل: هل دعوى الخصوصية للتأسي؟

الجواب: لا، فالخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والأصل وجوب التأسي، والدليل على ذلك قوله تبارك وتعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [الأحزاب:37].

وجه الدلالة: أن زيد بن حارثة مولىً للرسول عليه الصلاة والسلام من وجه، وابن له من وجه آخر (بالتبني)، تبناه الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كان يدعى زيد بن محمد، فلما أبطل الله التبني بطل، وصار مولى رسول الله وليس ابن رسول الله، وكان العرب يقولون: إن زوجة ابن التبني لا تحل كزوجة ابن الصلب، فلما أحلّ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم زينب امرأة زيد بن حارثة ، قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:37]، ولم يقل: لكي لا يكون عليك، مع أن القضية وقعت على الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما كان القضية التي وقعت على النبي صلى الله عليه وسلم عامة للأمة، دلّ هذا على أنّ الأصل فيما فعله التأسي؛ ولهذا نقول: إن كثيراً من أهل العلم إذا أعيتهم النصوص قالوا: هذا خاصٌ بالرسول، أو لعله خاصٌ بالرسول صلى الله عليه وسلم، نقول لهم: هذا ملجأٌ لا يعصمه؛ لأن الأصل التأسي وعدم الخصوصية.

التأسي في الأفعال النبوية الجبلية

ثم قال: [وما كان جبليا كنوم، أو يحتمله كجلسة الاستراحة، ولبسه السبتي فمباح].

ما كان جبلياً كنوم، يقول المؤلف: إنه مباح، ويقول غيره: إنه لا حكم له، فلا يوصف بالإباحة؛ لأن الإنسان يفعل بمقتضى الجبلة، فهل نقول: يسن للإنسان أن ينام كما نام الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا؛ لأن النوم تدعو إليه الجبلة، لكن يمكن أن يكون وصف هذه الجبلة مطلوباً مثل النوم على الجنب الأيمن، والأكل جبلي ليس له حكم؛ لأن الإنسان يتركه بمقتضى الطبيعة، لكن قد يكون بعض أوصافه مطلوباً، مثل: الأكل باليمين، عدم الاتكاء حال الأكل، وما أشبه ذلك.

المؤلف يرى أن الجبلي له حكم وهو الإباحة، والصحيح: أنه ليس له حكم؛ لأن الإنسان يفعله بمقتضى الطبيعة.

أما الارتعاش عند البرد ولمَّ الثياب، هذا طبيعي جبلي، لا نقول له حكم، حتى لو وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم لا نقول: إن هذا مشروع، نقول: هذا ليس له حكم؛ لأنه جبلي.

التأسي في الأفعال النبوية المحتملة للجبلة والتعبد

المثال الثاني قال: [أو يحتمله] يعني: يحتمل الجبلية ويحتمل التعبد، [كجلسة الاستراحة]، وهي الجلسة التي تكون عند القيام للركعة الثانية، أو الثانية والرابعة في الرباعية، هذه الجلسة هل هي بمقتضى الطبيعة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كبر صار يفعلها؟ أو هي جلسة عبادة يشرع للإنسان أن يجلسها؟ للعلماء في هذا ثلاثة أقوال:

قول: أنها غير مشروعة إطلاقاً.

والقول الثاني: أنها مشروعة إطلاقاً بكل حال.

والقول الثالث: إن اقتضتها الجبلة فهي مشروعة، وإلا فلا.

متى تقتضيها الجبلة؟

تقتضيها الجبلة إذا كان يشق على الإنسان أن يقوم من السجود إلى الوقوف مرةً واحدة، فالواحد إذا كان عاجزاً لكبرٍ أو مرض تجده يتعثر، ولهذا ورد أنه يتكئ على يديه عليه الصلاة والسلام عند القيام من هذه الجلسة من أجل أن يقوى على النهوض، والراجح: أنها سنة إذا احتاج الإنسان إليها، يعني: إذا دعت إليها الجبلة، بدليل: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يشرع لها تكبيراً ولا ذكراً، والجلسة المقصودة لذاتها لا بد أن يكون لها افتتاح واختتام، ولا بد أن يكون فيها ذكر، كالجلسة بين السجدتين مثلاً، فلما لم يكن لها ذكرٌ مشروعٌ في الابتداء ولا في الانتهاء ولا في الممارسة في حال الجلوس علم أنها ليست مقصودةً لذاتها، وحينئذٍ نقول: لا تكلف نفسك، لكن إذا احتجت إلى أن تجلس فاجلس.

وأما الجلوس الذي يفعله بعض الناس اليوم فليس هو الجلسة التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام، بعض الناس يجلس ثم على طول يقوم، وظاهر حديث مالك بن الحويرث : (أنه لم ينهض حتى يستويَ قاعداً)، أنه لا بد من استقرار، ثم بعد ذلك ينهض.

وهل ينهض ضاماً كفيه كالعاجن، أو ينهض معتمداً على الأرض باليدين حسب ما تقتضيه الطبيعة؟

يرى بعض العلماء أنه ينهض كالعاجن، يعني: يجمع كفيه لحديث ورد في ذلك، لكن هذا الحديث ضعفه النووي في شرح المهذب وقال: إنه لا يصح أن يكون كالعاجن، إنما يقوم معتمداً على يديه كيفما تيسر له، إما كالعاجن أو مبسوطة على الأرض، أو ما أشبه ذلك.

المهم أن المؤلف رحمه الله يرى أن ما يحتمل التعبد والجبلة يكون مباحاً؛ لأنه تنازعه أمران، أنا أتكلم عن جلسة الاستراحة، فكونه يقعد في الصلاة وجميع أفعال الصلاة عبادة يقتضي أن تكون هذه عبادة يتعبد الله بها، وكونه يأتي بها على صفة المستعين بها لكونه يعتمد على يديه ليقوم وينهض يدل على أنه جلسها بمقتضى الجبلة، فلما تنازع الأمران صارت دائرة بين الاستحباب أو الإباحة، ولكن الذي نرى أنها مستحبة عند الحاجة، ويستحب عدمها عند عدم الحاجة.

قال: [ولبسه السبي]، السبتي نوع من النعال فيها سير سبتة تربط على الرجل، فهل هذا فعله على سبيل العادة، أو على سبيل التعبد؟ لأن النعال السبتية تمسك بالرجل، نقول: إن هذا محتمل، لكن هذا إلى العادة أقرب منه إلى العبادة؛ لأنه يتعلق بهيئة اللباس؛ ولهذا نقول: لبس العمامة ولبس الإزار والرداء من باب العادة، وليس من باب العبادة، بل لأن الناس في ذلك العهد كانوا يعتادون هذا اللباس، فلبسه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يتخذ لباس شهرة؛ لأنه لو لبس لباساً على خلاف ما يلبسه الناس كان هذا لباس شهرة تنفر منه النفوس؛ ولهذا جاء في الحديث: (من لبس لباس شهرةٍ ألبسه الله لباس مذلة).

واتخاذ شعر الرأس هل هو سنة أو عادة؟ في هذا خلاف أيضاً، فمن العلماء من يقول: هو سنة؛ لأن كون الرسول عليه الصلاة والسلام يبقي هذا الشعر مع أنه يحتاج إلى مئونة من الترجل والتنظيف وغيره، ولا يحلقه أو يقصره إلا في النسك يدل على أنه عبادة؛ لأنه كما سمعتم يحتاج إلى مئونة، ثم هو في الشتاء في أيام البرد فيه مشقة؛ لأن الإنسان إذا اغتسل وله شعر كثير بقي الشعر مبتلاً بالماء، فيؤذي ببرودته، فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يحافظ على بقاء هذا الشعر يدل على أنه سنة.

ومن العلماء من يرى أنه عادة، ولكن الرسول حافظ عليه؛ لأن العادة في وقته اتخاذه، فحافظ على هذه العادة؛ لئلا يخرج عما اعتاده الناس.

فعلى الأول نقول: يسن للإنسان أن يتخذ شعر الرأس. وعلى الثاني نقول: لا يسن، بل يرجع إلى عادة الناس الذي هو في بلدهم، إن اتخذوه اتخذه وإلا تركه.

الإمام أحمد رحمه الله يقول: هو سنة لو نقوى عليه اتخذناه، ولكن له كلفة ومئونة؛ لأنه يحتاج إلى ملاحظة بالغسل والترجيل وما أشبه ذلك.

لكن لو قال قائل: ما هو الأرجح في هذا؟

فالجواب: أن الأرجح في هذا أنه ليس عبادة؛ لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليلٌ على أنها عبادة؛ لأن العبادة دين، فلا يشرع منه إلا ما علم أنه مشروع، قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فما دام الأمر متردداً بين كون هذا الشيء عبادة أو عادة أو جبلة نقول: الأصل أنه ليس بعبادة حتى يقوم دليلٌ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله على سبيل التعبد لله.

الفعل النبوي الوارد بياناً وحكم البيان

قال: [وبيانه بقول أو فعل فواجب عليه].

بيان الفعل واجب على الرسول عليه الصلاة والسلام، سواء كان بيان بالقول مثل: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، هذا بين لنا الآن أفعال صلاته، وأقوال صلاته، وهو أننا مأمورون بأن نصلي كما يصلي، وكلمة (كما أصلي) تدل على أن المراد الكيفية دون العدد في صلواتٍ منفصلة لا في صلاة واحدة، فالصلاة التي تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم يجب اتباع العدد فيها كما يجب اتباع الكيفية، فالظهر مثلاً لو أراد الإنسان أن يجعلها ستاً قلنا: لا، لكن الصلوات المنفصل بعضها عن بعض بتسليم هذه ليس لها حد، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي إحدى عشرة ركعة في الليل لا يزيد عليها في رمضان ولا غيره، لم يمنع أن يصلي الإنسان إحدى وعشرين ركعة أو أكثر؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـربيعة بن مالك قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) ولم يقيد، وقال حين سئل عن صلاة الليل قال: (مثنى مثنى) ولم يقيد؛ ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يزيدون على إحدى عشرة، ولا سيما في رمضان، ولا يعدون هذا أمراً منكراً. والله أعلم.

والجلوس معناه الجلوس إذا أراد أن يقوم إلى الثانية أو إلى الرابعة، أليست الثالثة وتراً، والأولى وتراً، ولذلك قال مالك بن الحويرث : (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وترٍ من صلاته لا يقوم حتى يستوي جالساً). وذكر المحشي أن جلسة الاستراحة هي الجلسة بين الخطبتين في صلاة الجمعة، وهذا غلط عظيم، الجلسة بين الخطبتين لا تسمى جلسة الاستراحة، بل جلسة الاستراحة عند أهل العلم هي الجلسة بعد الركعة الأولى للقيام للثانية، وبعد الثالثة للقيام للرابعة.

فالذي عنده الشرح يكتب عليها تعليقاً؛ لأن هذا غلط.