مختصر التحرير [26]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف: [وفعله وأمره تعالى لا لعلة وحكمة في قول].

فعل الله عز وجل ليس له علة وحكمة، مثل إنزال المطر، إيجاد المرض، وغير ذلك مما يفعله الله عز وجل، ليس له حكمة وليس له علة في قول.

كذلك أمره، كأمره بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وعبادة الله، ونهيه عن الشرك وما أشبه هذا أيضاً ليس له حكمة وليس له علة (في قول) يعني: وهناك قول آخر أن له علة وحكمة، والقولان على اصطلاح المؤلف متساويان لا ترجيح بينهما؛ لأن القائلين بهما متعادلون. هذا ما ذهب إليه المؤلف، وعلى هذا فمجرد مشيئة الله للشيء يكون مرجحاً بدون أي حكمة، وهذا ما ذهب إليه طائفة من المتكلمين، وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لا يوصف فعله بحكمة ولا بعلة، بل يفعل ما يشاء لمشيئته له، ولكن هذا القول ضعيف جداً، بل باطل بالأدلة السمعية والأدلة العقلية.

أما الأدلة السمعية فما أشهر الأحكام المقرونة ببيان علتها، مثل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ... [المائدة:32] إلى آخره.

وكل نص فيه لام التعليل فإن فيه إثبات الحكمة، وكل نص فيه باء السببية فإن فيه إثبات الحكمة، وكل نص فيه (إن) وما أشبهها من حروف التعليل فهو دال على الحكمة، قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] إذاً: هذه الحكمة.

جاء ابن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة فأخذهما وألقى الروثة وقال: (إنها ركس)، إذاً: هذا تعليل.

(إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس).

والنصوص في إثبات الحكمة والعلة في فعله وأمره عز وجل كثيرة لا تحصى.

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم:41] هذه حكمة في فعله.

فالصواب المقطوع به: أن الله تعالى يفعل لحكمة ويأمر لحكمة؛ للأدلة السمعية التي سمعتموها في الكتاب والسنة، والأدلة العقلية.

الأدلة العقلية أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى كامل الصفات، وكامل الصفات لا يمكن أن يقول أو أن يفعل شيئاً لغواً ولعباً، لأنه لو فعل شيئاً لغواً ولعباً لكان ذلك نقصاً في كماله.

إذاً: فلا بد لثبوت كمال الله أن يكون فعله لحكمة وأمره لحكمة، وإلا لكان لغواً ولعباً، وكان نقصاً في كمال الله عز وجل، والعقل يدل دلالة قاطعة على أن الله قد ثبت له صفات الكمال، وأنت لو تصورت أن مخلوقاً يفعل هكذا اعتباطاً بدون ملاحظة شيء لقلت: إن هذا رجل سفيه، وإذا علمت أن هذا رجل عاقل علمت أنه لا يفعل فعلاً أو يقول قولاً إلا وله غاية وغرض في هذا الشيء، ليس يفعله اعتباطاً بدون قصد وإرادة.

والواقع أيضاً، فنحن ذكرنا دلالة السمع والعقل.. والواقع يشهد بأن الله تعالى يفعل الشيء لحكمة، وذلك بربط الأسباب بمسبباتها، فإن ربط الأسباب بمسبباتها وجعل الشيء مقروناً بسببه لا شك أنه من كمال الفاعل الدال على حكمته؛ لأن هذا الانتظام والتلاؤم بين المخلوقات وعدم التنافر، وارتباطها بعضها ببعض؛ كل هذا لا شك أنه صادر عن حكمه.

فإن قال قائل: إننا نرى بعض الموجودات وبعض المخلوقات، أو إن شئت فقل: بعض المفعولات لله عز وجل، وليس لها حكمة، أو تأتينا أوامر الله وليس لها حكمة؟

فالجواب: أن عدم رؤية الحكمة في المفعولات أو المأمورات ليس لانتفائه ولكن لقصورنا أو تقصيرنا، إما أننا قاصرون عن إدراك هذه الحكمة؛ لأنها فوق مستوانا وفوق عقولنا، وإما أننا مقصرون لم نبحث عن الحكمة ولم ننقب عنها حتى نصل إليها، أما أن يوجد شيء من مأمورات الله أو من مخلوقات الله بلا حكمة فهذا أمر مستحيل.

يوجد بعض الأشياء المخلوقة لا نعلم لها حكمة، لكن إذا تأملتها وجدت أن لها حكمة، ولنفرض هذا في اللواسع كالعقرب وشبهها، وفي المؤذيات كالبعوض والذباب وما أشبه ذلك، يقول القائل: ما الحكمة من هذا؟

فالجواب: تأمل تجد حكماً، لا حكمة واحدة، أما أن تنظر للشيء نظرة سطحية وتقول: والله هذا ما له حكمة، فهذا قصور منك أو تقصير، إما قصور بأن تأملت وعجزت أن تلقى شيئاً، أو أنك مقصر لم تتأمل.

ويُذكر أن ملكاً جباراً أراد أن يتحدى بعض أهل العلم، وقال له: ما الحكمة من خلق الذباب؟ فقال: الحكمة أن يرغم الجبارين أمثالك؛ لأنه يقع على أنفه رغماً عليه، فيمكن أن يفرفش برجليه أو بجناحيه وهو على أنف هذا الرجل الجبار الذي يخفض البشر رءوسهم عنده خوفاً منه، فهذا في الحقيقة جواب لطيف ومقنع.

يعني الله عز وجل يتأمل ليعرف الناس أنهم أذلاء؛ ولهذا تحدى الذين يعبدون من دون الله قال: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] .

المهم أنك لا يمكن أن تجد شيئاً بلا حكمة، لكن تخفى علينا الحكمة لقصورنا أو تقصيرنا، والله أعلم.