شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة - حديث 760-765


الحلقة مفرغة

باب صفة الحج ودخول مكة، وهنا حديث طويل، وهو حديث جابر رضي الله عنه، لكن هذا الحديث ليس فيه مسائل؛ لأن معظم المسائل مرت، وإنما سوف نقوم بشرح هذا الحديث, واستخراج الفوائد منه بشكل تدريجي.

الحديث رقمه (742)، والحديث كما ذكر المصنف رحمه الله رواه مسلم في صحيحه والحديث مطول, ولكن المصنف اقتصر منه على مواضع، وكان بودي أن نشرحه جميعاً, لو كان الوقت يتسع نشرح حتى ما لم يذكره المصنف من بعض الألفاظ؛ لأنه أفضل وأتم حديث ورد في حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد عني العلماء بهذا الحديث، حتى إن الحافظ ابن المنذر صنف فيه جزءاً خاصاً، واستخرج من الحديث نحواً من مائة وخمسين ونيف فائدة, كما ذكر ذلك النووي في شرحه على مسلم، وكذلك من المتأخرين من صنف فيه, كما صنف الشيخ الألباني رحمة الله تعالى عليه كتاباً في حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جابر , وغيره من أهل العلم صنفوا في صفة حج النبي عليه الصلاة والسلام، فهو حديث عظيم, جليل القدر, مليء بالفوائد، ولم يسق أحد قصة حجة النبي عليه الصلاة والسلام ويضبطها كما فعل جابر رضي الله عنه وأرضاه.

خروج النبي صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع

يقول: ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حج ), وهذه حجة الوداع أو حجة البلاغ كما ذكرنا، وكانت سنة عشر، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت.

قال: ( فخرجنا معه ), يعني: خرج الصحابة وخرج الناس الذين أتوا المدينة، وكان الناس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ما بين راكب وماش، وهذا دليل على تنوع الصحابة, وأن منهم من كان راكباً، ومنهم من كان ماشياً، والعلماء اختلفوا في الأفضل في الحج: الماشي أو الراكب، فمن فضل الركوب فضله لأنه حج النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان على بعيره، ومن فضل المشي فضله أيضاً للبداية بقوله: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27]. والصواب أن الأفضل من ذلك هو الأكثر تحقيقاً للخشوع والتقوى ومعنى العبادة.

الإحرام من الميقات

قال: ( حتى أتينا ذا الحليفة ). وهو مهل أهل المدينة، وقد ذكرناه بالأمس, وحددنا معالمه, والبعد بينه وبين المدينة، وبينه وبين مكة، وهو اليوم المعروف بأبيار علي.

قال: ( فولدت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذا دليل على شدة الحرص, فإن أسماء رضي الله عنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وولدت وهي بـذي الحليفة، على مسافة بضع كيلو مترات من المدينة المنورة، وهذا دليل أن الصحابة لم يكن يمنعهم من الاستجابة لنداء الله ونداء رسوله صلى الله عليه وسلم مانع. فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا دليل أيضاً على أن العلم ليس مقصوراً على الرجال، وإنما يسأل الرجال والنساء، الكل يسأل عما أشكل عليه وعما يحتاج إليه، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام فأمرها أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم، فقال لها: اغتسلي ). وهذا دليل على مشروعية الاغتسال لمن أراد الإحرام؛ لأن الاغتسال بالنسبة للنفساء لا يغير من الحدث شيئاً، وإنما الاغتسال هنا للتنظف والتطيب، ولهذا أخذ منه الجمهور استحباب الاغتسال للمحرم، وهو الصحيح وعليه الأدلة، وذهب ابن حزم إلى أن هذا واجب على النفساء، ولا وجه لما اختاره رحمه الله.

قال: ( واستثفري بثوب ). الاستثفار: هو التحفظ، أن تضع على فرجها ثوباً وتعصبه حتى لا ينزل الدم، فيكون ثوب تضعه أمامها وثوب تضعه خلفها وتربطه؛ وذلك من أجل ألا ينزل الدم.

( وأحرمي ). وهذا دليل على أن الحائض تحرم، والنفساء تحرم، والجنب لو أحرم فإحرامه صحيح أيضاً.

قال: ( وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ). وهو يسمى مسجد الشجرة. وهذا المسجد في الميقات، في المحرم، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم اختلف فيها، فقيل: هي صلاة الفجر، وقيل: صلاة الظهر، والأقرب أنها كانت صلاة الظهر، وهذا دليل على أنه يستحب الإحرام عقب صلاة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، بل مذهب الكافة من أهل العلم أنه يستحب أن يحرم عقب صلاة، وجمهور الفقهاء وعامة العلماء يرون أنه إن لم يصادف وقت صلاة استحب له أن يصلي ركعتين للإحرام، ولا بأس بذلك, والأمر فيه سعة، وهو أيضاً مذهب الجمهور من أهل العلم أنه إن لم يصادف وقت صلاة صلى ركعتين للإحرام وأحرم عقبهما، وقد تكون هاتان ركعتان للوضوء، أو لتحية المسجد، أو لما شاء الله مما له سبب.

وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم واختار ابن تيمية رحمه الله أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، ولـابن تيمية رأي آخر كمذهب الجمهور، وأنا رأيت أن معظم من كتبوا في المناسك يلحون على هذه النقطة، وكأنها من البدع أن يصلي الإنسان ركعتين، وفي الواقع أنه وإن لم تثبت في السنة بشكل صريح إلا أن لها ما يشهد لها, والجمهور على فعلها، بل هناك ما يمكن أن يستدل به, كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك, وقل: عمرة في حجة ). فقد تكون هذه صلاة الإحرام؛ ولذلك الأمر في ذلك واسع.

( وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ). المهم هو أن يحرم الإنسان عقب صلاة فريضة أو نافلة.

قال: ( ثم ركب القصواء ). والقصواء: هي اسم لناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه دليل على تسمية الحيوانات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم له خيول وأفراس وألوان من الحيوانات، وكان لها أسماء، منها قضية القصواء, وهي التي سبقت يوماً من الأيام, فشق ذلك على الناس, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ) أو هي التي خلأت، الأصح أنها هي التي خلأت, ( فقال الناس: خلأت القصواء في الحديبية، فقال: ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به على البيداء ). والبيداء هي الشرف .. الصحراء المواجهة لهذا الميقات أو لمسجد الشجرة.

( أهل بالتوحيد ). وفي ذلك الإشارة إلى وقت إهلال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرنا أن في إهلاله ثلاثة أقوال, منهم من قال: أهل عقب صلاته، ومنهم من قال: أهل عقب استوائه على راحلته، ومنهم من قال: أهل لما علا على البيداء وعلى شرفها، ورجحنا أن ما ذكره ابن عمر وغيره أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما استوى على راحلته.

وقوله: ( أهل بالتوحيد ). فالإهلال بالتوحيد هو قوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فهذا معناه التوحيد، الإيمان بالله سبحانه وتعالى وعبادته.

قوله: (لبيك)، أي: إقامة بعد إقامة، وليس المقصود التثنية، وإنما المقصود التكرار, كما في قوله تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:3-4]. فليس المقصود (كرتين) يعني: مرتين، وإنما مرة بعد مرة، المقصود التكرار وليس التثنية، فهنا: لبيك، يعني: إجابة بعد إجابة.

والعلماء أطالوا في كلمة لبيك ومعناها، والمقصود بها: الإقامة على طاعة الله، والمقصود بالتلبية: الإجابة، وكأن هذا إجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام, وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]. والناس كلهم يعرفون في العربية معنى لبيك، فإذا نادى أحد أحداً فكان أجمل ما يقول له: لبيك، يعني: قد أجبتك، وهذا كاف، فإن هذه اللفظة من ألفاظ الإجابة، مثل: نعم، وبلى .. ونحو ذلك، ولا يحتاج إلى أن نتعمق في معناها اللغوي, فمعناها واضح ومباشر، أنه إجابة لله بعد إجابة، أجيبك يا رب في دعائك، فيستحضر المحرم حاجاً أو معتمراً أن الأمر هنا ليس عادة, وإنما هو إجابة لدعوة الله ودعوة رسله عليهم الصلاة والسلام.

ثم قال: ( لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد ) إن بكسر الهمزة، وهذا أحسن؛ لأن معناه الاستئناف, وإثبات أن الحمد لله عز وجل بكل حال، وأن النعمة لله، وأن الملك لله، وكذلك فتح الهمزة يجوز, لبيك أن الحمد، لكن على الفتح يضعف المعنى, ويكون المعنى: ألبيك لأن، فتكون المسألة مسألة تعليل, لبيك وأجبتك لأن الحمد لك، فنقول: لبيك إن الحمد لك أقوى وأثقل.

أحكام الطواف

قال: (حتى إذا أتينا البيت). والنبي صلى الله عليه وسلم سنذكر فيما بعد من أين دخل مكة في أحاديث, منها حديث جابر وغيره مما سوف يذكره المصنف، ثم كيف دخل البيت أيضاً من باب بني شيبة، ثم استلم الركن, فكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة كانت الكعبة إزاءه وفي وجهه، ولما دخل البيت من باب بني شيبة كان الركن أمامه مباشرة والباب أمامه مباشرة أيضاً، فكان هذا من حسن المدخل، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء:80].

( استلم الركن ) والمقصود بالركن هو الحجر الأسود، وهو ركن الكعبة، فالمقصود به الحجر الأسود، ويستحب استلامه باتفاق العلماء، وكذلك تقبيله باتفاقهم، أو يستلمه بشيء ويقبل ما استلمه فيه، والسجود عليه أيضاً ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه, وسوف يأتي له حديث.

فبدأ باستلام الركن، وهذا دليل على مشروعية استلام الركن قبل بدء الطواف، وهذا الطواف الذي بدأ فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو طواف القدوم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قارناً، أحرم بالحج والعمرة كما ذكرنا، وطواف القدوم سنة عند الجمهور، والأطوفة كم عددها؟ كم أنواع الأطوفة؟ نمر عليها بسرعة.

- هناك طواف القدوم, هذا نوع.

وطواف الإفاضة الذي يسمى طواف الحج، ويسمى طواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، ويسمى طواف الركن، ويسمى طواف الصدر أيضاً، هذا طواف الإفاضة الذي بعد الوقوف بعرفة.

وطواف الوداع، وهو عقب الانتهاء من أعمال الحج، وليس للعمرة وداع على ما هو الراجح من قول الجماهير من أهل العلم, والحديث الذي فيه ذكر الوداع للعمرة حديث شاذ لا يثبت، فالوداع إنما يكون للحج، وكثير من أهل العلم يقولون: إن الوداع هنا هو عبادة مستقلة وليس مرتبطاً بالنسك، هذه ثلاثة أطوفة.

وطواف النافلة، كون الإنسان يتنفل في الطواف، فهذا أيضاً نوع من الطواف، وهناك طواف العمرة لم يذكر, وهو ركن في العمرة، غير طواف الحج.

لم يرد حديث مرفوع في فضل الطواف بالبيت، لكن ورد عن جمع من الصحابة: (أن من طاف بالبيت أسبوعاً فهو كعدل رقبة). وهذا أثر صحيح.

قال: ( استلم الركن, فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ). وفيه استحباب الرمل في الأطوفة الثلاثة الأولى كلها من الركن إلى الركن, رمل صلى الله عليه وسلم من الركن إلى الركن، والرمل هو مشي سريع مع تقارب الخطا، وله علة حتى يثبت لأهل مكة خلاف ما زعموه من أن الصحابة قد وهنتهم الحمى، وهذا كان في عمرة القضية، وكان يمشي ما بين الركنين، ما بين الركن اليماني والحجر الأسود.

أما في حجة الوداع فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في الأشواط الثلاثة كلها، فيكون آخر الأمرين من النبي عليه الصلاة والسلام هو الرمل في الأشواط الثلاثة كلها، وبعضهم يقول: يمشي بين الركنين -بين الركن اليماني والحجر الأسود- والأمر واسع, والأول أولى وأقوى، أن يرمل في الأشواط الثلاثة كلها، ومع الرمل هناك سنة خاصة بطواف القدوم أيضاً, الرمل خاص بطواف القدوم، وهناك سنة أخرى خاصة بطواف القدوم, وهي الاضطباع، والاضطباع: أن يظهر كتفه الأيمن، يعني: يجعل الرداء تحت إبطيه هكذا، ويظهر الكتف الأيمن, ثم يجعل طرف الرداء الآخر على كتفه الأيسر، فهذا يسمى الاضطباع, وهو أيضاً من سنة طواف القدوم.

قال: ( ومشى أربعاً ). فالطواف أسبوع, يعني: سبعة أشواط، وبالاتفاق أن الطواف ينبغي أن يستوعب الكعبة وما يسمى بالحطيم, وهو الحجر الذي إلى شمال الكعبة، فهذا أيضاً ينبغي أن يكون الطواف من ورائه، ولا يجزئه أن يطوف من داخله؛ لأنه من الكعبة.

( ثم أتى صلى الله عليه وسلم مقام إبراهيم ). ومقام إبراهيم عند الجمهور هو المقام المعروف الذي فيه قدم إبراهيم.

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل

كما قال أبو طالب .

وفيه أثر القدم إلى اليوم, وهو من آيات الله سبحانه وتعالى وعلاماته.

وقال مجاهد وجمع: إن مقام إبراهيم هو الحرم كله. والأول أصح.

( فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين )؛ وذلك لقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]. وهاتان الركعتان تسمى ركعتا الطواف، وهما سنة عند الجمهور، وهو الصحيح.

ولذلك لو تركها فقد ترك السنة ولا شيء عليه، وذهب بعضهم إلى وجوبها، والراجح هو الأول، وكما يأتي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1], وقرأ في الركعة الثانية بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وقال بعضهم: إن هذا مدرج على جابر , وليس من حديثه، وقد ورد قراءة هاتين السورتين.

( ثم رجع إلى الركن فاستلمه ), يعني: بعد صلاة الركعتين، وهذا دليل على أن استلام الحجر الأسود سنة حتى في غير الطواف، يعني: أن يأتي الإنسان فيستلم الحجر الأسود في غير الطواف, فهذا سنة، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه.

أحكام السعي بين الصفا والمروة

( ثم خرج من الباب إلى الصفا ). خرج جهة الصفا، والصفا هي الحجارة الشديدة، وهو مكان معروف, وهو بداية المسعى، وذكره الله تعالى في قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].

(فلما دنا من الصفا), قيل: إن الصفا مفرد، وقيل: إنه جمع صفاة، وفي معنى الصفاء أن يتعلم الإنسان الصفاء في عبادته, وأن تثمر العبادة صفاء قلبه، وصلاح داخله وضميره.

( فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] ). فهل هذا سنة أن يقرأ الإنسان هذه الآية إذا دنا من الصفا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها؟ قال بذلك قوم.

وقال آخرون: إن ذلك على سبيل التعليم، وهو الأقرب؛ لأنه عند المروة ذكر ذلك أيضاً, وكذلك قال هنا: ( أبدأ بما بدأ الله به ). فلا نقول: إن هذا مشروع, فالأقرب أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعليم، وذكر الآية الكريمة, إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]. وفي الآية كلام طويل, وخلاصته: أن الله تعالى بين أنها من شعائر الله، فهي إذاً من الحج ومن العمرة، وأزال ما كان يعتقده أهل الجاهلية، ولذلك قوله: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158] هذا ليس لبيان الحكم, وإنما لإزالة ما كانوا يشعرون به من التحوب والتأثم لفعل أمر كانوا يفعلونه في الجاهلية حين كانت الأصنام منصوبة عند الصفا وعند المروة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( أبدأ بما بدأ الله به ). وهذا أيضاً على سبيل التعليم, وليس على سبيل أن يقولها الإنسان، وفيه مشروعية البداءة بما بدأ الله به، وتعظيم ما عظم الله، والعناية بالقرآن الكريم، وأخذ الدروس والعبر منه، وكثير منا قد يغلب جانب العناية بالسنة النبوية على العناية بالقرآن، ولهذا كم أتمنى أن تكون الدورات دائماً تعطي حظاً أكبر للتفسير ومعرفة القرآن، وحتى في التفسير لا نعتني فقط بالإعراب والأحكام المجردة، وإنما نعتني بالمعاني العظيمة التي عليها مدار ومقاصد القرآن الكريم؛ حتى نفهم عن الله تعالى رسالته.

وفي سنن النسائي قال: ( ابدءوا بما بدأ الله به ). بلفظ الفعل، وهذه رواية شاذة، والرواية الصحيحة هي ما في مسلم هاهنا.

... (ثم قال: أبدأ بما بدأ الله به، فرقي الصفا) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقي على الصفا, ولو طاف أو سعى من دون أن يرقى أجزأه ذلك, لكنه صعد صلى الله عليه وسلم إلى أعلى الجبل, حتى رأى البيت, هذا دليل على أنه استدار عليه الصلاة والسلام واستقبل القبلة فنظر إلى البيت, واليوم ربما يصعب رؤية البيت بسبب الأعمدة والعوازل، لكن المقصود: أن يستقبل القبلة.

( فاستقبل القبلة ) يعني: وقف على الصفا -وهذه سنة-, وفيه دليل على أن البداءة بالسعي من أين تكون؟ من الصفا. من الصفا إلى المروة سعية, ومن المروة إلى الصفا سعية أخرى؛ حتى تكتمل من ذلك سبع, ولو أنه بدأ بالمروة لكان الشوط الأول لغواً لا يعتد به, ويعتد ببدايته من الصفا؛ لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

كذلك فيه استحباب الصعود على جبل الصفا, وفيه استحباب استقبال القبلة, وفيه استحباب الوقوف طويلاً, فإنه صلى الله عليه وسلم وقف ( فوحد الله وكبره ) يعني: رفع يديه, فيه استحباب رفع اليدين وهو مستقبل القبلة على الصفا, ( فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده) , هذا التوحيد الآن.

ثم قال: ( أنجز وعده ) بنصر المؤمنين: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55] وأي إنجاز للوعد من أن يكون هذا الشريد الطريد الذي خرج بالأمس من مكة مطلوباً وهناك مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً, اليوم يأتي فاتحاً ويدخل مكة من أوسع أبوابها, ويدخل الحرم من أوسع أبوابه، والناس بالعدد الغفير من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله, كان عدد الذين حضروا حجة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة وعشرة آلاف كما ذكر ذلك العلماء, ومنهم الإمام الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك , وكذلك أصحاب السير, مائة وعشرة آلاف أو مائة وعشرون ألفاً هؤلاء فقط هم الذين حجوا معه عليه الصلاة والسلام.

( ونصر عبده ) والمقصود بعبده هنا: رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.

( وهزم الأحزاب وحده ) وكثير من العلماء قالوا: المقصود بالأحزاب: هم الذين تجمعوا على المدينة يوم الأحزاب، ونزلت فيهم السورة المعروفة بهذا الاسم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، وهذا صحيح, ولكن الأولى أن يقال: إن المقصود بالأحزاب: كل الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, هزم الله قريش الوثنية التي كانت تحاربه, وهزم الله الوثنيين في الجزيرة الذين حاربوه, وهزم الله اليهود الذين تحالفوا عليه, فهزم جميع الأحزاب الذين وقفوا في وجه الدعوة.

( ثم دعا ما بين ذلك ثلاث مرات ) وبعض الفقهاء يقولون: الدعاء بهذا يكون مرتين؛ لأنه هلل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم دعا, ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم دعا, ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم انصرف.

فيكون الذكر ثلاثاً, والدعاء مرتين، وهذا واسع.

أو نقول: إنه هلل ثلاثاً ودعا ثلاثاً وختم بالدعاء ثلاث مرات, وفي ذلك استحباب تكرار الدعاء ثلاثاً, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال كلمة قالها ثلاثاً, وإذا دعا دعا ثلاثاً.

( ثم نزل إلى المروة ) هذا هو الشوط الأول ( حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى )، وهذا كان وادياً وهو اليوم معروف بما بين العلمين الأخضرين الذي يسعى فيه, ويسمى الأبطح؛ ولذلك جاء في الحديث: ( لا يقطع الأبطح إلا شداً ) يعني: سرعة.

والسعي هنا, قال: ( انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ) هذا سعي خاص, وإلا فالعمل كله سعي, ما بين الصفا والمروة هو سعي, لكن ما بين العلمين الأخضرين وفي الأبطح هو سعي بمعنى الركض, وهو أشد من الرمل الذي يكون في الأشواط الثلاثة، الرمل في الأشواط الثلاثة مشي مع تقارب الخطا, أما هذا فهو سعي الإنسان المجهود يعني: يركض ركضاً.

( حتى إذا صعدتا ) يعني: انتهى أو خرج من الوادي ( مشى ) صلى الله عليه وسلم مشياً معتاداً ( إلى المروة ) , وما يقوله صلى الله عليه وسلم في هذا السعي، وكذلك ما يقال في الطواف لم يرد فيه تحديد, اللهم إلا أنه ورد في الطواف ما بين الركن والحجر الأسود أنه يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وكذلك البداءة بـ (بسم الله), هذا ثبت عن ابن عمر، والتكبير عند الحجر الأسود هذا ثبت, وكذلك الوقوف هنا على الصفا والوقوف على المروة والتهليل والدعاء, وما سوى ذلك فإنه يقرأ القرآن أو يسبح أو يذكر الله أو يستغفر, وإن تحدث مع أحد فيما لا إثم فيه، فلا حرج في ذلك, ولهذا الأمر في ذلك واسع.

( ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى, حتى إذا صعدتا مشى إلى المروة, ففعل على المروة كما فعل على الصفا ) يعني: أنه وقف واستقبل القبلة حتى رأى البيت ثم رفع يديه, وهلل الله وسبحه وحمده, ودعا واستغفر, فعل ذلك ثلاثاً حتى اكتمل له من ذلك سبعة أطوفة, سبعة أشواط في السعي.

ومن ميزة السعي: أنه ليس بعده صلاة, بخلاف الطواف.

وكذلك من ميزة السعي: أنه ليس له نفل, بخلاف الطواف، فإن الإنسان يتنفل في الطواف بالبيت, لكن لا يتنفل بالسعي إلا السعي الواجب.

ومن ميزة السعي: أنه لا يشترط له طهارة, بخلاف الطواف فإن العلماء مختلفون في اشتراط الطهارة للطواف, منهم من ذهب إلى اشتراطه، واستدلوا بحديث عائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وأنه توضأ له صلى الله عليه وسلم واغتسل.

والقول الراجح: أنه ليس شرطاً, بل وليس واجباً, وهذا مذهب أبي حنيفة، ومنقول عن جماعة من السلف, ورواية في مذهب الإمام أحمد رجحها ابن تيمية رحمه الله, وابن القيم , واختارها شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين : أن الإنسان إن كان طاف على طهارة فهو أفضل, وإن كان على غير طهارة أجزأه ذلك.

وكذلك السعي, فإن السعي لا يشترط له طهارة.

قال: (فذكر الحديث) هنا المصنف رحمه الله طوى بعض الحديث واختصره.

قال: ( وفيه: فلما كان يوم التروية ) ويوم التروية قلنا: هو اليوم الثامن، وبعده التاسع وهو عرفة , وبعده العاشر وهو النحر, وبعده الحادي عشر وهو القر, وبعده الثاني عشر وهو النفر الأول، والثالث عشر هو النفر الثاني، فهذه أسماء تلك الأيام.

أحكام يوم التروية

( فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى )، يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم بـمكة وملأ من أصحابه, فتوجهوا بعد ذلك إلى منى , وهذا فيه دليل على استحباب الذهاب إلى منى ضحى يوم التروية, وإحرام من لم يكن أحرم, مثل المتمتع الذي حل من عمرته، يستحب له أن يحرم في ذلك اليوم.

( وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بها ) يعني: بخيمته بـمنى ( الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ) وصلاته صلى الله عليه وسلم بها كانت قصراً؛ لأنه مسافر, ولكن لم يجمع عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنه صلى كل صلاة في وقتها قصراً من غير جمع.

و المسافر يستحب له القصر، ويجوز له الجمع, وإن صلى كل صلاة في وقتها إذا لم يشق عليه فذلك خير له , أما غير المسافر من المكي الذي هو من أهل مكة فالأقرب عندي -والله أعلم- أنه لا يقصر في الحج وإنما يتم؛ وذلك لأنه لا يعد مسافراً, وإنما يكون القصر للمسافر, وهذا ليس بمسافر خاصة اليوم أن منى ومزدلفة وعرفة أصبحت شديدة القرب من مكة، بل البناء شبه متصل, بل هو متصل, ولذلك فإن المكي -فيما يظهر لي- لا يتمتع بالقصر, القصر ليس له علاقة بالنسك, وهذا ما عليه جماهير أهل العلم: أن القصر لا يتعلق بالنسك وإنما يتعلق بالسفر.

والقول بأن القصر هو للنسك ذهب إليه بعض المتأخرين من المالكية، ووافقهم بعض الحنابلة على ذلك, وبعضهم أخذ بظاهر النص, لكن الأقرب عندي: أن المكي لا يقصر, وإنما يتم؛ لأنه لا يعد مسافراً.

وكذلك الحال في عرفة الذي يظهر لي أن المكي لا يقصر الآن.

قال: ( ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ) يعني: مكث صلى الله عليه وسلم بـمنى، وهذا دليل على أنه لا يدفع إلى عرفة إلا بعد طلوع الشمس استحباباً, وإلا فلو أنه لم يذهب إلى منى أصلاً وذهب إلى عرفة ابتداء أجزأه ذلك, لكن هذه هي السنة.

أحكام يوم عرفة

( فأجاز صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة )، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق من منى ومر بـوادي محسر فهو الطريق، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع فيه؛ فلذلك نقول: إن القول بأن الإسراع في وادي محسر أنه نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل ليس بقوي, بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يسرع فيه إلا لما كان راجعاً من مزدلفة والله تعالى أعلم , هذا إذا كان طريقه من منى إلى عرفة يمر بهذا الوادي.

( حتى أتى عرفة , فوجد القبة قد ضربت له بـنمرة ) وهذا دليل على أنه لا بأس أن يخدم الكبير والعظيم والإمام وصاحب المقام, وأن ذلك لا يضير في شيء, خاصة إذا كان الذين يقومون بهذا العمل لمصالح المسلمين أو للانشغال، يَشرفون بذلك ويعتبرونها فضيلة ومزية, أو كان هذا مقابل جعل أو عطاء لهم.

( فوجد القبة قد ضربت له بـنمرة ) ونمرة هي موضع معروف, وهو الذي فيه المسجد, ويسمى مسجد نمرة, وقد وسع المسجد فأصبح بعض المسجد من عرفة وبعضه خارج عرفة , والذي يظهر لي أنه يوجد داخل المسجد معالم ولوحات ومواضع تبين ما كان من عرفة وما ليس من عرفة حتى يعلم بذلك الحاج.

( فنزل بها ) النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا هو الموضع الأول؛ لأنه نزل في عرفة عليه الصلاة والسلام في ثلاثة مواضع, الأول منها: نمرة، وكأنه منزل للارتفاق, فنزل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجلس فيه حتى زالت الشمس.

قال: ( حتى إذا زاغت ) بالغين, ومعناها: زالت الشمس وهو دخول وقت الظهر ( أمر بالقصواء ) وهي ناقته عليه الصلاة والسلام ( فرحلت له ) يعني: جهزت وضع عليها رحله ( فأتى بطن الوادي ) وهذا الوادي اسمه عرنة، وهذا أيضاً ليس من عرفة.

( فأتى بطن الوادي فخطب الناس ) وهذه الخطبة ليست خطبة الجمعة، وإنما هي خطبة خاصة بـعرفة , وخطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم, وكان غالب ما بينه هو حقوق الناس بعضهم على بعض, في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحقوق النساء على الرجال, والرجال على النساء مما تمس الحاجة إليه, وهذا دليل على عظم شأن هذه الأمور؛ لأنها لا تجبر بالتوبة، ولا بد فيها من رعاية حقوق العباد.

(فخطب الناس) وهذه أيضاً واحدة من ثلاث خطب خطبها النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الإمام أحمد , أما الشافعي فيقول: واحدة من أربع خطب, فخلال حجته كلها خطب ثلاث مرات أو أربعاً, وبين فيها معالم الحج ومناسكه وأحواله, وبين فيها حقوق الناس بعضهم على بعض.

وفيها أيضاً استشهد الناس وقال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً, وأي يوم هذا .. أي شهر هذا؟ ) إلى غير ذلك.

( ثم أذن ثم أقام ) وذلك أنه صلى الظهر ( ثم أقام فصلى العصر ) وفيه دليل على الجمع بعرفة، وفيه دليل على أن الجمع يكون بأذان واحد, وهو قول الجمهور, وفيه دليل على أن الجمع يكون بإقامتين, لكل صلاة إقامة, فصلى بها الظهر قصراً, ثم أقام فصلى العصر قصراً أيضاً ( ولم يصل بينهما شيئاً ) يعني: لم يسبح بينهما شيئاً، أي: لم يتنفل, وهذا دليل على أن المسافر ليس عليه سنن راتبة, إلا راتبة الفجر, وإلا صلاة الوتر وما تيسر من قيام الليل أو صلاة الضحى.

وذلك الجمع من أجل أن يتفرغ للذكر والعبادة, فهذا هو الموضع الثاني الذي مكث فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

( ثم ركب حتى أتى الموقف ) والمقصود بالموقف: المكان بـعرفة المخصص لوقوف النبي صلى الله عليه وسلم, وهو الذي يقف فيه الأئمة والخلفاء بعد ذلك, وهذا الموقف كما بينه قال: ( فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ) والصخرات: هي حجارة موضوعة على الأرض.

( فجعل بطن الناقة إلى الصخرات, وجعل حبل المشاة ) والحبل: هو الرمل المرتفع, وجمعه على حبال ( فجعل حبل المشاة بين يديه ).

إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أصبح مستقبلاً لهذه الصخرات، وهو في الوقت ذاته مستقبل للقبلة, والسنة للإنسان أن يستقبل القبلة في دعائه وذكره في عرفة أياً ما كان.

( وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً ) وليس المقصود هنا بالوقوف الوقوف على قدميه, وإنما المقصود: الوقوف بـعرفة، حتى ولو كان جالساً أو مضطجعاً أو حتى نائماً؛ فإنه يسمى واقفاً بعرفة.

( حتى غربت الشمس ) وهو يدعو عليه الصلاة والسلام, وذلك لفضل يوم عرفة وأنه أفضل الأيام، كما في الحديث: ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة , وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) الحديث رواه أهل السنن وأحمد وفي سنده مقال يسير.

فهذا دليل على استحباب أن يقول الإنسان هذا الذكر, وأن يدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة؛ لفضل هذا اليوم، وأن الله تعالى يدنو ثم يباهي بأهل الموقف الملائكة، ويقول: ما أراد هؤلاء؟!

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم يسبح الله ويذكره ويدعو حتى غربت الشمس, وهذا دليل على وجوب الوقوف بـعرفة , وهو ركن باتفاق العلماء؛ لـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة ) رواه أهل السنن وأحمد وسنده صحيح , فهذا أحد أركان الحج.

يكون مضى معنا ركن الإحرام, هذا ركن, وكذلك الوقوف بـعرفة فهو ركن, والطواف بالبيت وهو ركن باتفاقهم, والسعي ركن عند بعضهم، وواجب عند قوم، وسنة عند آخرين, فهي ثلاثة أقوال في السعي.

وكل قول منها له وجه وله اعتبار, وما سوى ذلك فهي واجبات أو سنن, مثل الوقوف بـعرفة , الوقوف بـمزدلفة , والمبيت بـمزدلفة , وهما شيئان: المبيت في الليل، والوقوف بعد الفجر، فهذا أيضاً معروف أحكامه، وكذلك المبيت بـمنى , وكذلك رمي الجمرات، وكذلك ط

يقول: ( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حج ), وهذه حجة الوداع أو حجة البلاغ كما ذكرنا، وكانت سنة عشر، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت.

قال: ( فخرجنا معه ), يعني: خرج الصحابة وخرج الناس الذين أتوا المدينة، وكان الناس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ما بين راكب وماش، وهذا دليل على تنوع الصحابة, وأن منهم من كان راكباً، ومنهم من كان ماشياً، والعلماء اختلفوا في الأفضل في الحج: الماشي أو الراكب، فمن فضل الركوب فضله لأنه حج النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان على بعيره، ومن فضل المشي فضله أيضاً للبداية بقوله: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27]. والصواب أن الأفضل من ذلك هو الأكثر تحقيقاً للخشوع والتقوى ومعنى العبادة.

قال: ( حتى أتينا ذا الحليفة ). وهو مهل أهل المدينة، وقد ذكرناه بالأمس, وحددنا معالمه, والبعد بينه وبين المدينة، وبينه وبين مكة، وهو اليوم المعروف بأبيار علي.

قال: ( فولدت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذا دليل على شدة الحرص, فإن أسماء رضي الله عنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وولدت وهي بـذي الحليفة، على مسافة بضع كيلو مترات من المدينة المنورة، وهذا دليل أن الصحابة لم يكن يمنعهم من الاستجابة لنداء الله ونداء رسوله صلى الله عليه وسلم مانع. فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا دليل أيضاً على أن العلم ليس مقصوراً على الرجال، وإنما يسأل الرجال والنساء، الكل يسأل عما أشكل عليه وعما يحتاج إليه، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام فأمرها أن تغتسل وتستثفر بثوب وتحرم، فقال لها: اغتسلي ). وهذا دليل على مشروعية الاغتسال لمن أراد الإحرام؛ لأن الاغتسال بالنسبة للنفساء لا يغير من الحدث شيئاً، وإنما الاغتسال هنا للتنظف والتطيب، ولهذا أخذ منه الجمهور استحباب الاغتسال للمحرم، وهو الصحيح وعليه الأدلة، وذهب ابن حزم إلى أن هذا واجب على النفساء، ولا وجه لما اختاره رحمه الله.

قال: ( واستثفري بثوب ). الاستثفار: هو التحفظ، أن تضع على فرجها ثوباً وتعصبه حتى لا ينزل الدم، فيكون ثوب تضعه أمامها وثوب تضعه خلفها وتربطه؛ وذلك من أجل ألا ينزل الدم.

( وأحرمي ). وهذا دليل على أن الحائض تحرم، والنفساء تحرم، والجنب لو أحرم فإحرامه صحيح أيضاً.

قال: ( وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ). وهو يسمى مسجد الشجرة. وهذا المسجد في الميقات، في المحرم، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم اختلف فيها، فقيل: هي صلاة الفجر، وقيل: صلاة الظهر، والأقرب أنها كانت صلاة الظهر، وهذا دليل على أنه يستحب الإحرام عقب صلاة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، بل مذهب الكافة من أهل العلم أنه يستحب أن يحرم عقب صلاة، وجمهور الفقهاء وعامة العلماء يرون أنه إن لم يصادف وقت صلاة استحب له أن يصلي ركعتين للإحرام، ولا بأس بذلك, والأمر فيه سعة، وهو أيضاً مذهب الجمهور من أهل العلم أنه إن لم يصادف وقت صلاة صلى ركعتين للإحرام وأحرم عقبهما، وقد تكون هاتان ركعتان للوضوء، أو لتحية المسجد، أو لما شاء الله مما له سبب.

وقد خالف في ذلك بعض أهل العلم واختار ابن تيمية رحمه الله أنه ليس للإحرام صلاة تخصه، ولـابن تيمية رأي آخر كمذهب الجمهور، وأنا رأيت أن معظم من كتبوا في المناسك يلحون على هذه النقطة، وكأنها من البدع أن يصلي الإنسان ركعتين، وفي الواقع أنه وإن لم تثبت في السنة بشكل صريح إلا أن لها ما يشهد لها, والجمهور على فعلها، بل هناك ما يمكن أن يستدل به, كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك, وقل: عمرة في حجة ). فقد تكون هذه صلاة الإحرام؛ ولذلك الأمر في ذلك واسع.

( وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ). المهم هو أن يحرم الإنسان عقب صلاة فريضة أو نافلة.

قال: ( ثم ركب القصواء ). والقصواء: هي اسم لناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه دليل على تسمية الحيوانات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم له خيول وأفراس وألوان من الحيوانات، وكان لها أسماء، منها قضية القصواء, وهي التي سبقت يوماً من الأيام, فشق ذلك على الناس, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه ) أو هي التي خلأت، الأصح أنها هي التي خلأت, ( فقال الناس: خلأت القصواء في الحديبية، فقال: ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به على البيداء ). والبيداء هي الشرف .. الصحراء المواجهة لهذا الميقات أو لمسجد الشجرة.

( أهل بالتوحيد ). وفي ذلك الإشارة إلى وقت إهلال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرنا أن في إهلاله ثلاثة أقوال, منهم من قال: أهل عقب صلاته، ومنهم من قال: أهل عقب استوائه على راحلته، ومنهم من قال: أهل لما علا على البيداء وعلى شرفها، ورجحنا أن ما ذكره ابن عمر وغيره أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما استوى على راحلته.

وقوله: ( أهل بالتوحيد ). فالإهلال بالتوحيد هو قوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فهذا معناه التوحيد، الإيمان بالله سبحانه وتعالى وعبادته.

قوله: (لبيك)، أي: إقامة بعد إقامة، وليس المقصود التثنية، وإنما المقصود التكرار, كما في قوله تعالى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:3-4]. فليس المقصود (كرتين) يعني: مرتين، وإنما مرة بعد مرة، المقصود التكرار وليس التثنية، فهنا: لبيك، يعني: إجابة بعد إجابة.

والعلماء أطالوا في كلمة لبيك ومعناها، والمقصود بها: الإقامة على طاعة الله، والمقصود بالتلبية: الإجابة، وكأن هذا إجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام, وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27]. والناس كلهم يعرفون في العربية معنى لبيك، فإذا نادى أحد أحداً فكان أجمل ما يقول له: لبيك، يعني: قد أجبتك، وهذا كاف، فإن هذه اللفظة من ألفاظ الإجابة، مثل: نعم، وبلى .. ونحو ذلك، ولا يحتاج إلى أن نتعمق في معناها اللغوي, فمعناها واضح ومباشر، أنه إجابة لله بعد إجابة، أجيبك يا رب في دعائك، فيستحضر المحرم حاجاً أو معتمراً أن الأمر هنا ليس عادة, وإنما هو إجابة لدعوة الله ودعوة رسله عليهم الصلاة والسلام.

ثم قال: ( لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد ) إن بكسر الهمزة، وهذا أحسن؛ لأن معناه الاستئناف, وإثبات أن الحمد لله عز وجل بكل حال، وأن النعمة لله، وأن الملك لله، وكذلك فتح الهمزة يجوز, لبيك أن الحمد، لكن على الفتح يضعف المعنى, ويكون المعنى: ألبيك لأن، فتكون المسألة مسألة تعليل, لبيك وأجبتك لأن الحمد لك، فنقول: لبيك إن الحمد لك أقوى وأثقل.

قال: (حتى إذا أتينا البيت). والنبي صلى الله عليه وسلم سنذكر فيما بعد من أين دخل مكة في أحاديث, منها حديث جابر وغيره مما سوف يذكره المصنف، ثم كيف دخل البيت أيضاً من باب بني شيبة، ثم استلم الركن, فكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة كانت الكعبة إزاءه وفي وجهه، ولما دخل البيت من باب بني شيبة كان الركن أمامه مباشرة والباب أمامه مباشرة أيضاً، فكان هذا من حسن المدخل، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء:80].

( استلم الركن ) والمقصود بالركن هو الحجر الأسود، وهو ركن الكعبة، فالمقصود به الحجر الأسود، ويستحب استلامه باتفاق العلماء، وكذلك تقبيله باتفاقهم، أو يستلمه بشيء ويقبل ما استلمه فيه، والسجود عليه أيضاً ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه, وسوف يأتي له حديث.

فبدأ باستلام الركن، وهذا دليل على مشروعية استلام الركن قبل بدء الطواف، وهذا الطواف الذي بدأ فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو طواف القدوم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قارناً، أحرم بالحج والعمرة كما ذكرنا، وطواف القدوم سنة عند الجمهور، والأطوفة كم عددها؟ كم أنواع الأطوفة؟ نمر عليها بسرعة.

- هناك طواف القدوم, هذا نوع.

وطواف الإفاضة الذي يسمى طواف الحج، ويسمى طواف الإفاضة، ويسمى طواف الزيارة، ويسمى طواف الركن، ويسمى طواف الصدر أيضاً، هذا طواف الإفاضة الذي بعد الوقوف بعرفة.

وطواف الوداع، وهو عقب الانتهاء من أعمال الحج، وليس للعمرة وداع على ما هو الراجح من قول الجماهير من أهل العلم, والحديث الذي فيه ذكر الوداع للعمرة حديث شاذ لا يثبت، فالوداع إنما يكون للحج، وكثير من أهل العلم يقولون: إن الوداع هنا هو عبادة مستقلة وليس مرتبطاً بالنسك، هذه ثلاثة أطوفة.

وطواف النافلة، كون الإنسان يتنفل في الطواف، فهذا أيضاً نوع من الطواف، وهناك طواف العمرة لم يذكر, وهو ركن في العمرة، غير طواف الحج.

لم يرد حديث مرفوع في فضل الطواف بالبيت، لكن ورد عن جمع من الصحابة: (أن من طاف بالبيت أسبوعاً فهو كعدل رقبة). وهذا أثر صحيح.

قال: ( استلم الركن, فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ). وفيه استحباب الرمل في الأطوفة الثلاثة الأولى كلها من الركن إلى الركن, رمل صلى الله عليه وسلم من الركن إلى الركن، والرمل هو مشي سريع مع تقارب الخطا، وله علة حتى يثبت لأهل مكة خلاف ما زعموه من أن الصحابة قد وهنتهم الحمى، وهذا كان في عمرة القضية، وكان يمشي ما بين الركنين، ما بين الركن اليماني والحجر الأسود.

أما في حجة الوداع فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في الأشواط الثلاثة كلها، فيكون آخر الأمرين من النبي عليه الصلاة والسلام هو الرمل في الأشواط الثلاثة كلها، وبعضهم يقول: يمشي بين الركنين -بين الركن اليماني والحجر الأسود- والأمر واسع, والأول أولى وأقوى، أن يرمل في الأشواط الثلاثة كلها، ومع الرمل هناك سنة خاصة بطواف القدوم أيضاً, الرمل خاص بطواف القدوم، وهناك سنة أخرى خاصة بطواف القدوم, وهي الاضطباع، والاضطباع: أن يظهر كتفه الأيمن، يعني: يجعل الرداء تحت إبطيه هكذا، ويظهر الكتف الأيمن, ثم يجعل طرف الرداء الآخر على كتفه الأيسر، فهذا يسمى الاضطباع, وهو أيضاً من سنة طواف القدوم.

قال: ( ومشى أربعاً ). فالطواف أسبوع, يعني: سبعة أشواط، وبالاتفاق أن الطواف ينبغي أن يستوعب الكعبة وما يسمى بالحطيم, وهو الحجر الذي إلى شمال الكعبة، فهذا أيضاً ينبغي أن يكون الطواف من ورائه، ولا يجزئه أن يطوف من داخله؛ لأنه من الكعبة.

( ثم أتى صلى الله عليه وسلم مقام إبراهيم ). ومقام إبراهيم عند الجمهور هو المقام المعروف الذي فيه قدم إبراهيم.

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل

كما قال أبو طالب .

وفيه أثر القدم إلى اليوم, وهو من آيات الله سبحانه وتعالى وعلاماته.

وقال مجاهد وجمع: إن مقام إبراهيم هو الحرم كله. والأول أصح.

( فأتى النبي صلى الله عليه وسلم مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين )؛ وذلك لقوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]. وهاتان الركعتان تسمى ركعتا الطواف، وهما سنة عند الجمهور، وهو الصحيح.

ولذلك لو تركها فقد ترك السنة ولا شيء عليه، وذهب بعضهم إلى وجوبها، والراجح هو الأول، وكما يأتي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1], وقرأ في الركعة الثانية بـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وقال بعضهم: إن هذا مدرج على جابر , وليس من حديثه، وقد ورد قراءة هاتين السورتين.

( ثم رجع إلى الركن فاستلمه ), يعني: بعد صلاة الركعتين، وهذا دليل على أن استلام الحجر الأسود سنة حتى في غير الطواف، يعني: أن يأتي الإنسان فيستلم الحجر الأسود في غير الطواف, فهذا سنة، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه.

( ثم خرج من الباب إلى الصفا ). خرج جهة الصفا، والصفا هي الحجارة الشديدة، وهو مكان معروف, وهو بداية المسعى، وذكره الله تعالى في قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158].

(فلما دنا من الصفا), قيل: إن الصفا مفرد، وقيل: إنه جمع صفاة، وفي معنى الصفاء أن يتعلم الإنسان الصفاء في عبادته, وأن تثمر العبادة صفاء قلبه، وصلاح داخله وضميره.

( فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] ). فهل هذا سنة أن يقرأ الإنسان هذه الآية إذا دنا من الصفا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها؟ قال بذلك قوم.

وقال آخرون: إن ذلك على سبيل التعليم، وهو الأقرب؛ لأنه عند المروة ذكر ذلك أيضاً, وكذلك قال هنا: ( أبدأ بما بدأ الله به ). فلا نقول: إن هذا مشروع, فالأقرب أن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعليم، وذكر الآية الكريمة, إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158]. وفي الآية كلام طويل, وخلاصته: أن الله تعالى بين أنها من شعائر الله، فهي إذاً من الحج ومن العمرة، وأزال ما كان يعتقده أهل الجاهلية، ولذلك قوله: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ [البقرة:158] هذا ليس لبيان الحكم, وإنما لإزالة ما كانوا يشعرون به من التحوب والتأثم لفعل أمر كانوا يفعلونه في الجاهلية حين كانت الأصنام منصوبة عند الصفا وعند المروة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( أبدأ بما بدأ الله به ). وهذا أيضاً على سبيل التعليم, وليس على سبيل أن يقولها الإنسان، وفيه مشروعية البداءة بما بدأ الله به، وتعظيم ما عظم الله، والعناية بالقرآن الكريم، وأخذ الدروس والعبر منه، وكثير منا قد يغلب جانب العناية بالسنة النبوية على العناية بالقرآن، ولهذا كم أتمنى أن تكون الدورات دائماً تعطي حظاً أكبر للتفسير ومعرفة القرآن، وحتى في التفسير لا نعتني فقط بالإعراب والأحكام المجردة، وإنما نعتني بالمعاني العظيمة التي عليها مدار ومقاصد القرآن الكريم؛ حتى نفهم عن الله تعالى رسالته.

وفي سنن النسائي قال: ( ابدءوا بما بدأ الله به ). بلفظ الفعل، وهذه رواية شاذة، والرواية الصحيحة هي ما في مسلم هاهنا.

... (ثم قال: أبدأ بما بدأ الله به، فرقي الصفا) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقي على الصفا, ولو طاف أو سعى من دون أن يرقى أجزأه ذلك, لكنه صعد صلى الله عليه وسلم إلى أعلى الجبل, حتى رأى البيت, هذا دليل على أنه استدار عليه الصلاة والسلام واستقبل القبلة فنظر إلى البيت, واليوم ربما يصعب رؤية البيت بسبب الأعمدة والعوازل، لكن المقصود: أن يستقبل القبلة.

( فاستقبل القبلة ) يعني: وقف على الصفا -وهذه سنة-, وفيه دليل على أن البداءة بالسعي من أين تكون؟ من الصفا. من الصفا إلى المروة سعية, ومن المروة إلى الصفا سعية أخرى؛ حتى تكتمل من ذلك سبع, ولو أنه بدأ بالمروة لكان الشوط الأول لغواً لا يعتد به, ويعتد ببدايته من الصفا؛ لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

كذلك فيه استحباب الصعود على جبل الصفا, وفيه استحباب استقبال القبلة, وفيه استحباب الوقوف طويلاً, فإنه صلى الله عليه وسلم وقف ( فوحد الله وكبره ) يعني: رفع يديه, فيه استحباب رفع اليدين وهو مستقبل القبلة على الصفا, ( فوحد الله وكبره، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده) , هذا التوحيد الآن.

ثم قال: ( أنجز وعده ) بنصر المؤمنين: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55] وأي إنجاز للوعد من أن يكون هذا الشريد الطريد الذي خرج بالأمس من مكة مطلوباً وهناك مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً, اليوم يأتي فاتحاً ويدخل مكة من أوسع أبوابها, ويدخل الحرم من أوسع أبوابه، والناس بالعدد الغفير من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله, كان عدد الذين حضروا حجة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة وعشرة آلاف كما ذكر ذلك العلماء, ومنهم الإمام الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك , وكذلك أصحاب السير, مائة وعشرة آلاف أو مائة وعشرون ألفاً هؤلاء فقط هم الذين حجوا معه عليه الصلاة والسلام.

( ونصر عبده ) والمقصود بعبده هنا: رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.

( وهزم الأحزاب وحده ) وكثير من العلماء قالوا: المقصود بالأحزاب: هم الذين تجمعوا على المدينة يوم الأحزاب، ونزلت فيهم السورة المعروفة بهذا الاسم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، وهذا صحيح, ولكن الأولى أن يقال: إن المقصود بالأحزاب: كل الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, هزم الله قريش الوثنية التي كانت تحاربه, وهزم الله الوثنيين في الجزيرة الذين حاربوه, وهزم الله اليهود الذين تحالفوا عليه, فهزم جميع الأحزاب الذين وقفوا في وجه الدعوة.

( ثم دعا ما بين ذلك ثلاث مرات ) وبعض الفقهاء يقولون: الدعاء بهذا يكون مرتين؛ لأنه هلل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم دعا, ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم دعا, ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. ثم انصرف.

فيكون الذكر ثلاثاً, والدعاء مرتين، وهذا واسع.

أو نقول: إنه هلل ثلاثاً ودعا ثلاثاً وختم بالدعاء ثلاث مرات, وفي ذلك استحباب تكرار الدعاء ثلاثاً, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال كلمة قالها ثلاثاً, وإذا دعا دعا ثلاثاً.

( ثم نزل إلى المروة ) هذا هو الشوط الأول ( حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى )، وهذا كان وادياً وهو اليوم معروف بما بين العلمين الأخضرين الذي يسعى فيه, ويسمى الأبطح؛ ولذلك جاء في الحديث: ( لا يقطع الأبطح إلا شداً ) يعني: سرعة.

والسعي هنا, قال: ( انصبت قدماه في بطن الوادي سعى ) هذا سعي خاص, وإلا فالعمل كله سعي, ما بين الصفا والمروة هو سعي, لكن ما بين العلمين الأخضرين وفي الأبطح هو سعي بمعنى الركض, وهو أشد من الرمل الذي يكون في الأشواط الثلاثة، الرمل في الأشواط الثلاثة مشي مع تقارب الخطا, أما هذا فهو سعي الإنسان المجهود يعني: يركض ركضاً.

( حتى إذا صعدتا ) يعني: انتهى أو خرج من الوادي ( مشى ) صلى الله عليه وسلم مشياً معتاداً ( إلى المروة ) , وما يقوله صلى الله عليه وسلم في هذا السعي، وكذلك ما يقال في الطواف لم يرد فيه تحديد, اللهم إلا أنه ورد في الطواف ما بين الركن والحجر الأسود أنه يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وكذلك البداءة بـ (بسم الله), هذا ثبت عن ابن عمر، والتكبير عند الحجر الأسود هذا ثبت, وكذلك الوقوف هنا على الصفا والوقوف على المروة والتهليل والدعاء, وما سوى ذلك فإنه يقرأ القرآن أو يسبح أو يذكر الله أو يستغفر, وإن تحدث مع أحد فيما لا إثم فيه، فلا حرج في ذلك, ولهذا الأمر في ذلك واسع.

( ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى, حتى إذا صعدتا مشى إلى المروة, ففعل على المروة كما فعل على الصفا ) يعني: أنه وقف واستقبل القبلة حتى رأى البيت ثم رفع يديه, وهلل الله وسبحه وحمده, ودعا واستغفر, فعل ذلك ثلاثاً حتى اكتمل له من ذلك سبعة أطوفة, سبعة أشواط في السعي.

ومن ميزة السعي: أنه ليس بعده صلاة, بخلاف الطواف.

وكذلك من ميزة السعي: أنه ليس له نفل, بخلاف الطواف، فإن الإنسان يتنفل في الطواف بالبيت, لكن لا يتنفل بالسعي إلا السعي الواجب.

ومن ميزة السعي: أنه لا يشترط له طهارة, بخلاف الطواف فإن العلماء مختلفون في اشتراط الطهارة للطواف, منهم من ذهب إلى اشتراطه، واستدلوا بحديث عائشة : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وأنه توضأ له صلى الله عليه وسلم واغتسل.

والقول الراجح: أنه ليس شرطاً, بل وليس واجباً, وهذا مذهب أبي حنيفة، ومنقول عن جماعة من السلف, ورواية في مذهب الإمام أحمد رجحها ابن تيمية رحمه الله, وابن القيم , واختارها شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين : أن الإنسان إن كان طاف على طهارة فهو أفضل, وإن كان على غير طهارة أجزأه ذلك.

وكذلك السعي, فإن السعي لا يشترط له طهارة.

قال: (فذكر الحديث) هنا المصنف رحمه الله طوى بعض الحديث واختصره.

قال: ( وفيه: فلما كان يوم التروية ) ويوم التروية قلنا: هو اليوم الثامن، وبعده التاسع وهو عرفة , وبعده العاشر وهو النحر, وبعده الحادي عشر وهو القر, وبعده الثاني عشر وهو النفر الأول، والثالث عشر هو النفر الثاني، فهذه أسماء تلك الأيام.

( فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى )، يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم بـمكة وملأ من أصحابه, فتوجهوا بعد ذلك إلى منى , وهذا فيه دليل على استحباب الذهاب إلى منى ضحى يوم التروية, وإحرام من لم يكن أحرم, مثل المتمتع الذي حل من عمرته، يستحب له أن يحرم في ذلك اليوم.

( وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بها ) يعني: بخيمته بـمنى ( الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ) وصلاته صلى الله عليه وسلم بها كانت قصراً؛ لأنه مسافر, ولكن لم يجمع عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنه صلى كل صلاة في وقتها قصراً من غير جمع.

و المسافر يستحب له القصر، ويجوز له الجمع, وإن صلى كل صلاة في وقتها إذا لم يشق عليه فذلك خير له , أما غير المسافر من المكي الذي هو من أهل مكة فالأقرب عندي -والله أعلم- أنه لا يقصر في الحج وإنما يتم؛ وذلك لأنه لا يعد مسافراً, وإنما يكون القصر للمسافر, وهذا ليس بمسافر خاصة اليوم أن منى ومزدلفة وعرفة أصبحت شديدة القرب من مكة، بل البناء شبه متصل, بل هو متصل, ولذلك فإن المكي -فيما يظهر لي- لا يتمتع بالقصر, القصر ليس له علاقة بالنسك, وهذا ما عليه جماهير أهل العلم: أن القصر لا يتعلق بالنسك وإنما يتعلق بالسفر.

والقول بأن القصر هو للنسك ذهب إليه بعض المتأخرين من المالكية، ووافقهم بعض الحنابلة على ذلك, وبعضهم أخذ بظاهر النص, لكن الأقرب عندي: أن المكي لا يقصر, وإنما يتم؛ لأنه لا يعد مسافراً.

وكذلك الحال في عرفة الذي يظهر لي أن المكي لا يقصر الآن.

قال: ( ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ) يعني: مكث صلى الله عليه وسلم بـمنى، وهذا دليل على أنه لا يدفع إلى عرفة إلا بعد طلوع الشمس استحباباً, وإلا فلو أنه لم يذهب إلى منى أصلاً وذهب إلى عرفة ابتداء أجزأه ذلك, لكن هذه هي السنة.

( فأجاز صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة )، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق من منى ومر بـوادي محسر فهو الطريق، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع فيه؛ فلذلك نقول: إن القول بأن الإسراع في وادي محسر أنه نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل ليس بقوي, بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يسرع فيه إلا لما كان راجعاً من مزدلفة والله تعالى أعلم , هذا إذا كان طريقه من منى إلى عرفة يمر بهذا الوادي.

( حتى أتى عرفة , فوجد القبة قد ضربت له بـنمرة ) وهذا دليل على أنه لا بأس أن يخدم الكبير والعظيم والإمام وصاحب المقام, وأن ذلك لا يضير في شيء, خاصة إذا كان الذين يقومون بهذا العمل لمصالح المسلمين أو للانشغال، يَشرفون بذلك ويعتبرونها فضيلة ومزية, أو كان هذا مقابل جعل أو عطاء لهم.

( فوجد القبة قد ضربت له بـنمرة ) ونمرة هي موضع معروف, وهو الذي فيه المسجد, ويسمى مسجد نمرة, وقد وسع المسجد فأصبح بعض المسجد من عرفة وبعضه خارج عرفة , والذي يظهر لي أنه يوجد داخل المسجد معالم ولوحات ومواضع تبين ما كان من عرفة وما ليس من عرفة حتى يعلم بذلك الحاج.

( فنزل بها ) النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا هو الموضع الأول؛ لأنه نزل في عرفة عليه الصلاة والسلام في ثلاثة مواضع, الأول منها: نمرة، وكأنه منزل للارتفاق, فنزل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجلس فيه حتى زالت الشمس.

قال: ( حتى إذا زاغت ) بالغين, ومعناها: زالت الشمس وهو دخول وقت الظهر ( أمر بالقصواء ) وهي ناقته عليه الصلاة والسلام ( فرحلت له ) يعني: جهزت وضع عليها رحله ( فأتى بطن الوادي ) وهذا الوادي اسمه عرنة، وهذا أيضاً ليس من عرفة.

( فأتى بطن الوادي فخطب الناس ) وهذه الخطبة ليست خطبة الجمعة، وإنما هي خطبة خاصة بـعرفة , وخطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم, وكان غالب ما بينه هو حقوق الناس بعضهم على بعض, في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحقوق النساء على الرجال, والرجال على النساء مما تمس الحاجة إليه, وهذا دليل على عظم شأن هذه الأمور؛ لأنها لا تجبر بالتوبة، ولا بد فيها من رعاية حقوق العباد.

(فخطب الناس) وهذه أيضاً واحدة من ثلاث خطب خطبها النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الإمام أحمد , أما الشافعي فيقول: واحدة من أربع خطب, فخلال حجته كلها خطب ثلاث مرات أو أربعاً, وبين فيها معالم الحج ومناسكه وأحواله, وبين فيها حقوق الناس بعضهم على بعض.

وفيها أيضاً استشهد الناس وقال: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً, وأي يوم هذا .. أي شهر هذا؟ ) إلى غير ذلك.

( ثم أذن ثم أقام ) وذلك أنه صلى الظهر ( ثم أقام فصلى العصر ) وفيه دليل على الجمع بعرفة، وفيه دليل على أن الجمع يكون بأذان واحد, وهو قول الجمهور, وفيه دليل على أن الجمع يكون بإقامتين, لكل صلاة إقامة, فصلى بها الظهر قصراً, ثم أقام فصلى العصر قصراً أيضاً ( ولم يصل بينهما شيئاً ) يعني: لم يسبح بينهما شيئاً، أي: لم يتنفل, وهذا دليل على أن المسافر ليس عليه سنن راتبة, إلا راتبة الفجر, وإلا صلاة الوتر وما تيسر من قيام الليل أو صلاة الضحى.

وذلك الجمع من أجل أن يتفرغ للذكر والعبادة, فهذا هو الموضع الثاني الذي مكث فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

( ثم ركب حتى أتى الموقف ) والمقصود بالموقف: المكان بـعرفة المخصص لوقوف النبي صلى الله عليه وسلم, وهو الذي يقف فيه الأئمة والخلفاء بعد ذلك, وهذا الموقف كما بينه قال: ( فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ) والصخرات: هي حجارة موضوعة على الأرض.

( فجعل بطن الناقة إلى الصخرات, وجعل حبل المشاة ) والحبل: هو الرمل المرتفع, وجمعه على حبال ( فجعل حبل المشاة بين يديه ).

إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أصبح مستقبلاً لهذه الصخرات، وهو في الوقت ذاته مستقبل للقبلة, والسنة للإنسان أن يستقبل القبلة في دعائه وذكره في عرفة أياً ما كان.

( وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً ) وليس المقصود هنا بالوقوف الوقوف على قدميه, وإنما المقصود: الوقوف بـعرفة، حتى ولو كان جالساً أو مضطجعاً أو حتى نائماً؛ فإنه يسمى واقفاً بعرفة.

( حتى غربت الشمس ) وهو يدعو عليه الصلاة والسلام, وذلك لفضل يوم عرفة وأنه أفضل الأيام، كما في الحديث: ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة , وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) الحديث رواه أهل السنن وأحمد وفي سنده مقال يسير.

فهذا دليل على استحباب أن يقول الإنسان هذا الذكر, وأن يدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة؛ لفضل هذا اليوم، وأن الله تعالى يدنو ثم يباهي بأهل الموقف الملائكة، ويقول: ما أراد هؤلاء؟!

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم يسبح الله ويذكره ويدعو حتى غربت الشمس, وهذا دليل على وجوب الوقوف بـعرفة , وهو ركن باتفاق العلماء؛ لـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الحج عرفة ) رواه أهل السنن وأحمد وسنده صحيح , فهذا أحد أركان الحج.

يكون مضى معنا ركن الإحرام, هذا ركن, وكذلك الوقوف بـعرفة فهو ركن, والطواف بالبيت وهو ركن باتفاقهم, والسعي ركن عند بعضهم، وواجب عند قوم، وسنة عند آخرين, فهي ثلاثة أقوال في السعي.

وكل قول منها له وجه وله اعتبار, وما سوى ذلك فهي واجبات أو سنن, مثل الوقوف بـعرفة , الوقوف بـمزدلفة , والمبيت بـمزدلفة , وهما شيئان: المبيت في الليل، والوقوف بعد الفجر، فهذا أيضاً معروف أحكامه، وكذلك المبيت بـمنى , وكذلك رمي الجمرات، وكذلك طواف الوداع.

قال: ( وذهبت الصفرة قليلاً ) وهذا دليل على أنه يقف بـعرفة حتى تغيب الشمس, بحيث يكون وقف قدراً من النهار وقدراً من الليل, وإلى هذا ذهب الإمام مالك حتى رأى أنه لا يجزئه إلا ذلك, ولو دفع قبل الغروب فعليه دم، والجمهور على خلاف قول مالك رحمه الله, وأكثر الفقهاء أنه لا دم عليه.

والأقرب دليلاً: أنه إن وقف ساعة من ليل أو نهار فلا شيء عليه؛ لحديث عروة بن مضرس وغيره من الأحاديث الصحيحة التي تدل على أن من وقف بليل أو نهار في عرفة أجزأه ذلك, وإن جلس حتى تغيب الشمس فهذا هو الأفضل والأحوط.

قال: ( حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً ) يعني: صفرة الشمس ( حتى غاب القرص ودفع ) صلى الله عليه وآله وسلم, والمقصود بالدفع هنا: الانصراف إلى مزدلفة : ( وقد شنق للقصواء الزمام ) والزمام: هو الحبل الذي تقاد به الناقة, وقوله: شنق، يعني: شده وجذبه إليه حتى لا تسرع ( حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ) يعني: الرحل هو ما على الناقة يجلس عليه الراكب، فيكون أحياناً أمامه شيء مثل الوسادة أو المخدة الصغيرة يضع عليه رجله إذا تعب, فكان رأس الناقة يشده النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصيب المكان الذي يضع عليه رجله, من باب المبالغة في عدم الإسراع.

( ويقول بيده اليمنى ) عليه الصلاة والسلام يشير إلى الناس، ويقول: ( أيها الناس! السكينة السكينة ) يعني: هذا من باب الحض: اسكنوا اسكنوا! فهو منصوب على الإغراء, ينادي الناس ألا يسرعوا؛ لأن الأمر هنا: ( البر ليس بالإيضاع ) وليس بالإسراع.

( كلما أتى حبلاً )، وهو الرمل المرتفع -كما ذكرت- ( أرخى لها قليلاً ) يعني: أرخى الزمام ( حتى تصعد ).