شرح بلوغ المرام - كتاب الزكاة - حديث 627-630


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأصلي وأسلم على سيدنا وإمامنا معلم الناس الخير محمد، وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم أيها المؤمنون.

فإن فيما سنتلوه -إن شاء الله- في الغد وليس الليلة حديث عبد الله بن أبي أوفى : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم ).

اليوم عندنا حقيقة الدرس رقمه (207) من أمالي شرح بلوغ المرام، وهذه ليلة الأربعاء الحادي عشر من شهر جمادى الآخرة من سنة (1428هـ) في هذا المسجد المبارك مسجد الدخيل بحي الشهداء بـالرياض .

عندنا مجموعة أحاديث الحقيقة ضرورية وأساسية في موضوع الزكاة، فأحاديث اليوم تشكل معنىً ومعلماً مهماً، وفيها عدد من الأبحاث الضرورية.

أول هذه الأحاديث هو حديث رقم (605)، وهو حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( في كل إبل سائمة في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء ).

وفيما يتعلق بهذا الحديث عندنا عدة أبحاث. ‏

تخريج الحديث

أولاً: تخريجه، فإن الحديث رواه أبو داود والنسائي في كتاب الزكاة، ورواه أحمد في مسنده، والبيهقي، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن خزيمة في صحيحه .

وفي الواقع أن في حديث بهز بن حكيم اختلافاً كثيراً بين أهل العلم، فمنهم من يأخذ رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، كـيحيى بن معين وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل كان يقول: حديث بهز بن حكيم صحيح، وجماعة من أهل العلم والترمذي أيضاً فإنه يميل إلى ثبوتها.

بينما آخرون يميلون إلى تضعيف هذه السلسلة، يعني: أي رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وليس خصوص هذا الحديث، وذلك كـأبي حاتم الرازي الإمام صاحب الجرح والتعديل؛ فإنه لا يقوي بهز بن حكيم، وكذلك الشافعي رضي الله عنه وأبي حاتم بن حبان وغيرهم.

إذاً: رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيها اختلاف، منهم من يقبلها ومنهم من يردها، ولعل الأولى أن رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده تشبه رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فيقبل منها ما وافق حديث الجماعة، ويرد منها ما انفردت به من الغرائب والمناكير، هذا من حيث عموم الرواية.

أما من حيث حديث الباب نفسه: ( في كل إبل سائمة في أربعين بنت لبون، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله ) وهذا النص فيه كلام آخر، زيادة على كونه من حديث بهز بن حكيم، فإن في متنه بعض الغرابة، وهذا ما يسميه العلماء بنقد المتن، وهو من العلم العظيم النادر، ولهذا الإمام أحمد رحمه الله مع كونه يقوي حديث بهز بن حكيم إلا أنه يقول: هذا الحديث لا أدري ما وجهه، يعني: استغربه واستنكره، وكذلك الشافعي رحمه الله كان يأخذ بهذا الحديث في مذهبه القديم، ثم رجع عنه وعلق القول به على ثبوت الحديث وصحته.

و ابن حبان ذكر هذا الحديث، وقال: لولا هذا الحديث لأدخلت بهز بن حكيم في كتاب الثقات لي، وإنما امتنع من إدخال بهز بن حكيم في الثقات بسبب ورود هذا الحديث عنه، وما في هذا الحديث من الغرابة.

ولا شك أن الحديث انفرد بعدد من المسائل:

المسألة الأولى، منها:

- قوله في أول الحديث: ( في كل إبل سائمة في أربعين بنت لبون ) فأنت تلاحظ أنه هنا .. صحيح أن الأربعين فيها بنت لبون، ولكن الحديث الآخر حديث أبي بكر الصديق كان أكثر دقة وأكثر تحديداً، فجعل بنت اللبون تستوعب ما بين ست وثلاثين إلى خمس وأربعين، وليس أربعين فقط، كما يدل عليه حديث بهز بن حكيم .

- وكذلك قوله: ( ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله ) فإن هذا لم يرد في شيء من النصوص فيما هو معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: تهديد مانع الزكاة بأن يؤخذ شيء من ماله، ومثل هذه المسائل التي يُبنى عليها حكم جديد وتخالف أصول القواعد، فإن الأصل أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، إلى غير ذلك، فمثل هذا لا يؤخذ فيه بالأسانيد والروايات المتوسطة والحسان، وإنما يؤخذ فيه بالأشياء القوية الصحيحة الثابتة، ومن هنا توقف كثير من أهل العلم في قبول هذا الحديث.

وقد رأيت للإمام ابن القيم رحمه الله في تعليقه على سنن أبي داود كلاماً على هذا الحديث وتشديداً على من لم يأخذ به، حتى إنه قال: ليس لمن ترك الأخذ بهذا الحديث حجة.

والذي يظهر لي أن من ترك الأخذ بهذا الحديث كالأئمة وغيرهم معهم حجة قوية، سواء من حيث النظر في إسناده أو غرابته، أو غير ذلك من المآخذ، أو كونهم أعرضوا عن الحديث إلى الأخذ بما هو أثبت وأصح منه.

معاني ألفاظ الحديث

النقطة الثانية: ما يتعلق بمفردات الحديث وغريبه.

قوله: (سائمة الإبل) يدخل في السائمة بهيمة الأخنعام كما سبق، والسائمة من السوم، والمقصود بالسوم: الرعي، على ما بينا وأسلفنا: أن السوم شرط في وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.

قوله: (بنت لبون) معروف، وهذا سن للإبل.

أول أسنان الإبل الواجبة في الزكاة هي بنت مخاص، وبنت المخاض سنها سنة ودخلت أو طعنت في الثانية.

وبعدها بنت اللبون أو ابن اللبون، وعمره سنتان وطعن في الثالثة.

وبعده حقة طروقة الجمل أو طروقة الفحل، وهذه عمرها ثلاث وطعنت في الرابعة. وبعدها جذعة، وعمرها أربع سنوات وطعنت في الخامسة.

أيضاً قوله في هذا الحديث: (لا تفرق إبل عن حسابها) هذا اللفظ فيه غموض، ولعل الأقرب فيه أن المقصود: لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، فيكون الحديث هنا متعلقاً بالخلطة، إذا كانت خلطة لشريكين.

ويحتمل أن يكون قوله: (لا تفرق إبل عن حسابها) معناه: أنه إذا كانت الإبل صغاراً أو مراضاً، أو ما كان دون السن فإنها تحسب، يعني: لا تخصم أو تلغى، بل تحسب من ضمن الإبل ولكنها لا تؤخذ، كما في حديث عمر : ( اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم ).

وقوله: (من أعطاها مؤتجراً) يعني: من أعطى الزكاة مؤتجراً محتسباً طالباً للأجر.

( فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله) والشطر هو: النصف أو الجزء من الشيء، وبناءً عليه فالمعنى هنا أن من منع الزكاة فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدده بأن يأخذ، أو يأخذ ولي الأمر منه الزكاة ويأخذ منه مع الزكاة شطر المال زيادة أو عقوبة أو نكاية له.

وقد ذكر إبراهيم الحربي -وهو إمام محدث لغوي جليل، وله كتاب في غريب الحديث فيما أحسب- ذكر أن اللفظ هنا فيه غلط، وأن الرواية الصحيحة: (فإنا آخذوها من شطر ماله) وقال: إن المعنى أن المصدق يقسم مال هذا الإنسان الممتنع من الزكاة إلى جياد وإلى رديئة، فيأخذ الزكاة من الجياد عقوبة له على منع الزكاة.

وإن كان ابن القيم رحمه الله وغفر له استسمج هذا القول، مع أن القول لا يخلو من وجه.

وقوله: (عزمة من عزمات ربنا) إما بالرفع (عزمةٌ) أو بالنصب (عزمةً من عزمات ربنا) يعني: أمر جد لا هزل فيه وشدة، وليست رخصة، هذا معنى (عزمة).

(لا يحل لآل محمد منها شيء) أي: أنها لفقراء المسلمين، ولا تحل لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وآل محمد هم أهل بيته الذين حرموا الصدقة بعده، من هم الذين حرموا الصدقة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟

آل علي، وآل جعفر، وآل العباس، وآل عقيل، وآل الحارث، هؤلاء هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين حرموا الصدقة.

مسألة: حكم أخذ الشطر من مال مانع الزكاة

النقطة الثالثة في الحديث مسألة: أخذ الشطر من مال مانع الزكاة.

القول الأول في هذه المسألة: أنه لا يؤخذ منه شيء، وإنما تؤخذ منه الزكاة التي منعها فحسب، وهذا مذهب الجمهور: الشافعي في المذهب الجديد ومالك وأبي حنيفة، وهو أيضاً قول عند الحنابلة، وهو المنقول عن الصحابة؛ لأنه لم ينقل عنهم خلاف ذلك.

وحجة هذا القول:

أولاً: فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مانع الزكاة، فإنه لم ينقل أنه أخذ من أحد منهم فوق الزكاة المفروضة.

كما إنهم يضعفون هذا الحديث إما سنداً وإما متناً.

القول الثاني: أنه يؤخذ من مانع الزكاة مع الزكاة شطر ماله تعزيراً له بالمال، وهذا مذهب الشافعي في القديم، كان يقول به ثم رجع عنه، وهو مذهب إسحاق وأبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة، وبعض المتأخرين مالوا إليه، وكما أشرت أن ابن القيم رجحه في تهذيب سنن أبي داود .

وحجتهم حديث الباب، ويرون أن الحديث ثابت فيأخذون بظاهره.

القول الثالث: أنه يؤخذ منه الزكاة من طيب ماله وجياده، لكن يؤخذ القدر والسن المشروع بغير زيادة، وهذا مذهب من؟ إبراهيم الحربي كما ذكرت قبل قليل، فيرى أن ماله يشطر إلى شطرين، فيأخذ المصدق من المال الجيد السن الواجبة بنت لبون أو بنت مخاض أو حقة أو جذعة، واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً دون زيادة، ولكن يأخذ من الجياد عقاباً له، فيكون العقاب هنا بأخذ الجيد، بينما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياك وكرائم أموالهم ) .

والذي نرجحه من هذه الأقوال هو الأول، وهو مذهب الجمهور، وهو الجادة، أنه لا يؤخذ من مانع الزكاة شيء فوق الواجب عليه بأصل الشريعة.

حكم الصدقة على آل البيت

النقطة الرابعة مسألة: الصدقة على آل البيت، وقد أشار إليها في الحديث أيضاً، وهي مسألة مهمة، وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم قدر وفضل، وهذا المصطلح مصطلح (آل البيت) فيه أقوال كثيرة حتى في تعريفه.

فالقول الأول هو: أن آل البيت هم من حرموا الصدقة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الأصناف الخمسة الذين ذكرتهم قبل قليل.

وقيل: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه، كما في قوله سبحانه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، وهذا في سياق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ [الأحزاب:30].

وقيل: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم أمته، وقيل: هم الصلحاء من أتباعه، وهذا وارد في قوله: ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ).

آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز لهم أن يأخذوا الزكاة أم لا يجوز؟

في المسألة أقوال، أهمها قولان:

الأول: أنه لا يجوز لآل البيت الذين ذكرتهم أن يأخذوا الزكاة إلا أن يكونوا من العاملين عليها، أما أن يكونوا فقراء أو مساكين أو غارمين أو ما أشبه ذلك فلا يأخذون من الزكاة، وإن كانوا محتاجين، وإن كانوا من أهل الزكاة؛ لأن الزكاة أوساخ الناس كما في الحديث؛ لأن الناس يتطهرون بها، فلا تحل لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لآل محمد.

وهذا القول -أنها لا تحل لهم- هو مذهب الأئمة الأربعة في المشهور عنهم: الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد، وهو مذهب أكثر الصحابة أيضاً.

ومن أقوى حججهم: حديث أبي هريرة المشهور المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الحسن أخذ تمرة من تمر الصدقة، فقال له: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأخذ الصدقة؟ ) فهذا نص في أنهم لا يأكلون ولا يأخذون الصدقة كباراً ولا صغاراً.

وأيضاً: الحديث الآخر المتفق عليه حديث عائشة في قصة بريرة التي اشترتها عائشة وأعتقتها، ثم أهدي لها لحم فجاءت به إلى عائشة رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قربوه، هو لها صدقة، وهو علينا هدية ) فهذا دليل على أنه لا يجوز لو كانت صدقة.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) وهو في الصحيح.

إذاً: هذا هو القول الأول.

القول الثاني: أن ذلك جائز إذا كانوا محتاجين أو من أهل الزكاة. وهذا قول في مذهب أبي حنيفة اختاره الإمام الطحاوي صاحب معاني الآثار ومشكل الآثار، واحتج عليه بأن ذلك كان لأنهم يأخذون خمس الخمس من الغنيمة، فبموت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع هذا الخمس أصبحوا محتاجين إلى الصدقة وإلى الزكاة.

و لا شك أن القول الأول هو الأرجح؛ أن الصدقة لا تحل لآل محمد عليه الصلاة والسلام، إلا إذا اضطروا إلى ذلك، يعني: إذا أمكن استغناؤهم فيما بينهم، أو من أوقاف أو من تبرعات أو ما أشبه ذلك، فهذا هو المتعين عليهم، أما إذا وصل الأمر إلى حد الضرورة فإن الله سبحانه وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، وقد يجوز أن يكون من آل البيت اليوم أمم كثيرة في الهند وفي بلاد العرب وغيرها، وربما يكونون جياعاً وفقراء، وقد ضاعت مصارف بيت المال، وانتهى أمر المغانم، فإذا افتقر هؤلاء واحتاجوا واضطروا فليس عليهم حرج أن يأخذوا من الزكاة.

وأؤكد بهذه المناسبة أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم قدر وفضل ومكانة، والله سبحانه وتعالى قال: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] ولهم محبة عند المؤمنين، فصالحهم يُحب كصالح المؤمنين وزيادة، وفاسقهم يُحب أيضاً كفاسق المؤمنين وزيادة، فلهم قدر الفضيلة والقرب من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] والأصل أيضاً تصديقهم في أنسابهم، كما كان يقول الإمام مالك: (الناس مؤتمنون على أنسابهم ولا يُطعن عليهم فيها). مع أن هناك جهات مختصة ومسئولة وذات اعتبار ومتابعة ومعرفة بموضوع الأنساب وتدوينها يرجع إليها في ذلك.

أولاً: تخريجه، فإن الحديث رواه أبو داود والنسائي في كتاب الزكاة، ورواه أحمد في مسنده، والبيهقي، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن خزيمة في صحيحه .

وفي الواقع أن في حديث بهز بن حكيم اختلافاً كثيراً بين أهل العلم، فمنهم من يأخذ رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، كـيحيى بن معين وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل كان يقول: حديث بهز بن حكيم صحيح، وجماعة من أهل العلم والترمذي أيضاً فإنه يميل إلى ثبوتها.

بينما آخرون يميلون إلى تضعيف هذه السلسلة، يعني: أي رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وليس خصوص هذا الحديث، وذلك كـأبي حاتم الرازي الإمام صاحب الجرح والتعديل؛ فإنه لا يقوي بهز بن حكيم، وكذلك الشافعي رضي الله عنه وأبي حاتم بن حبان وغيرهم.

إذاً: رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيها اختلاف، منهم من يقبلها ومنهم من يردها، ولعل الأولى أن رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده تشبه رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فيقبل منها ما وافق حديث الجماعة، ويرد منها ما انفردت به من الغرائب والمناكير، هذا من حيث عموم الرواية.

أما من حيث حديث الباب نفسه: ( في كل إبل سائمة في أربعين بنت لبون، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله ) وهذا النص فيه كلام آخر، زيادة على كونه من حديث بهز بن حكيم، فإن في متنه بعض الغرابة، وهذا ما يسميه العلماء بنقد المتن، وهو من العلم العظيم النادر، ولهذا الإمام أحمد رحمه الله مع كونه يقوي حديث بهز بن حكيم إلا أنه يقول: هذا الحديث لا أدري ما وجهه، يعني: استغربه واستنكره، وكذلك الشافعي رحمه الله كان يأخذ بهذا الحديث في مذهبه القديم، ثم رجع عنه وعلق القول به على ثبوت الحديث وصحته.

و ابن حبان ذكر هذا الحديث، وقال: لولا هذا الحديث لأدخلت بهز بن حكيم في كتاب الثقات لي، وإنما امتنع من إدخال بهز بن حكيم في الثقات بسبب ورود هذا الحديث عنه، وما في هذا الحديث من الغرابة.

ولا شك أن الحديث انفرد بعدد من المسائل:

المسألة الأولى، منها:

- قوله في أول الحديث: ( في كل إبل سائمة في أربعين بنت لبون ) فأنت تلاحظ أنه هنا .. صحيح أن الأربعين فيها بنت لبون، ولكن الحديث الآخر حديث أبي بكر الصديق كان أكثر دقة وأكثر تحديداً، فجعل بنت اللبون تستوعب ما بين ست وثلاثين إلى خمس وأربعين، وليس أربعين فقط، كما يدل عليه حديث بهز بن حكيم .

- وكذلك قوله: ( ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله ) فإن هذا لم يرد في شيء من النصوص فيما هو معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: تهديد مانع الزكاة بأن يؤخذ شيء من ماله، ومثل هذه المسائل التي يُبنى عليها حكم جديد وتخالف أصول القواعد، فإن الأصل أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، إلى غير ذلك، فمثل هذا لا يؤخذ فيه بالأسانيد والروايات المتوسطة والحسان، وإنما يؤخذ فيه بالأشياء القوية الصحيحة الثابتة، ومن هنا توقف كثير من أهل العلم في قبول هذا الحديث.

وقد رأيت للإمام ابن القيم رحمه الله في تعليقه على سنن أبي داود كلاماً على هذا الحديث وتشديداً على من لم يأخذ به، حتى إنه قال: ليس لمن ترك الأخذ بهذا الحديث حجة.

والذي يظهر لي أن من ترك الأخذ بهذا الحديث كالأئمة وغيرهم معهم حجة قوية، سواء من حيث النظر في إسناده أو غرابته، أو غير ذلك من المآخذ، أو كونهم أعرضوا عن الحديث إلى الأخذ بما هو أثبت وأصح منه.

النقطة الثانية: ما يتعلق بمفردات الحديث وغريبه.

قوله: (سائمة الإبل) يدخل في السائمة بهيمة الأخنعام كما سبق، والسائمة من السوم، والمقصود بالسوم: الرعي، على ما بينا وأسلفنا: أن السوم شرط في وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.

قوله: (بنت لبون) معروف، وهذا سن للإبل.

أول أسنان الإبل الواجبة في الزكاة هي بنت مخاص، وبنت المخاض سنها سنة ودخلت أو طعنت في الثانية.

وبعدها بنت اللبون أو ابن اللبون، وعمره سنتان وطعن في الثالثة.

وبعده حقة طروقة الجمل أو طروقة الفحل، وهذه عمرها ثلاث وطعنت في الرابعة. وبعدها جذعة، وعمرها أربع سنوات وطعنت في الخامسة.

أيضاً قوله في هذا الحديث: (لا تفرق إبل عن حسابها) هذا اللفظ فيه غموض، ولعل الأقرب فيه أن المقصود: لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، فيكون الحديث هنا متعلقاً بالخلطة، إذا كانت خلطة لشريكين.

ويحتمل أن يكون قوله: (لا تفرق إبل عن حسابها) معناه: أنه إذا كانت الإبل صغاراً أو مراضاً، أو ما كان دون السن فإنها تحسب، يعني: لا تخصم أو تلغى، بل تحسب من ضمن الإبل ولكنها لا تؤخذ، كما في حديث عمر : ( اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم ).

وقوله: (من أعطاها مؤتجراً) يعني: من أعطى الزكاة مؤتجراً محتسباً طالباً للأجر.

( فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله) والشطر هو: النصف أو الجزء من الشيء، وبناءً عليه فالمعنى هنا أن من منع الزكاة فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدده بأن يأخذ، أو يأخذ ولي الأمر منه الزكاة ويأخذ منه مع الزكاة شطر المال زيادة أو عقوبة أو نكاية له.

وقد ذكر إبراهيم الحربي -وهو إمام محدث لغوي جليل، وله كتاب في غريب الحديث فيما أحسب- ذكر أن اللفظ هنا فيه غلط، وأن الرواية الصحيحة: (فإنا آخذوها من شطر ماله) وقال: إن المعنى أن المصدق يقسم مال هذا الإنسان الممتنع من الزكاة إلى جياد وإلى رديئة، فيأخذ الزكاة من الجياد عقوبة له على منع الزكاة.

وإن كان ابن القيم رحمه الله وغفر له استسمج هذا القول، مع أن القول لا يخلو من وجه.

وقوله: (عزمة من عزمات ربنا) إما بالرفع (عزمةٌ) أو بالنصب (عزمةً من عزمات ربنا) يعني: أمر جد لا هزل فيه وشدة، وليست رخصة، هذا معنى (عزمة).

(لا يحل لآل محمد منها شيء) أي: أنها لفقراء المسلمين، ولا تحل لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

وآل محمد هم أهل بيته الذين حرموا الصدقة بعده، من هم الذين حرموا الصدقة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟

آل علي، وآل جعفر، وآل العباس، وآل عقيل، وآل الحارث، هؤلاء هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين حرموا الصدقة.

النقطة الثالثة في الحديث مسألة: أخذ الشطر من مال مانع الزكاة.

القول الأول في هذه المسألة: أنه لا يؤخذ منه شيء، وإنما تؤخذ منه الزكاة التي منعها فحسب، وهذا مذهب الجمهور: الشافعي في المذهب الجديد ومالك وأبي حنيفة، وهو أيضاً قول عند الحنابلة، وهو المنقول عن الصحابة؛ لأنه لم ينقل عنهم خلاف ذلك.

وحجة هذا القول:

أولاً: فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مانع الزكاة، فإنه لم ينقل أنه أخذ من أحد منهم فوق الزكاة المفروضة.

كما إنهم يضعفون هذا الحديث إما سنداً وإما متناً.

القول الثاني: أنه يؤخذ من مانع الزكاة مع الزكاة شطر ماله تعزيراً له بالمال، وهذا مذهب الشافعي في القديم، كان يقول به ثم رجع عنه، وهو مذهب إسحاق وأبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة، وبعض المتأخرين مالوا إليه، وكما أشرت أن ابن القيم رجحه في تهذيب سنن أبي داود .

وحجتهم حديث الباب، ويرون أن الحديث ثابت فيأخذون بظاهره.

القول الثالث: أنه يؤخذ منه الزكاة من طيب ماله وجياده، لكن يؤخذ القدر والسن المشروع بغير زيادة، وهذا مذهب من؟ إبراهيم الحربي كما ذكرت قبل قليل، فيرى أن ماله يشطر إلى شطرين، فيأخذ المصدق من المال الجيد السن الواجبة بنت لبون أو بنت مخاض أو حقة أو جذعة، واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً دون زيادة، ولكن يأخذ من الجياد عقاباً له، فيكون العقاب هنا بأخذ الجيد، بينما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياك وكرائم أموالهم ) .

والذي نرجحه من هذه الأقوال هو الأول، وهو مذهب الجمهور، وهو الجادة، أنه لا يؤخذ من مانع الزكاة شيء فوق الواجب عليه بأصل الشريعة.

النقطة الرابعة مسألة: الصدقة على آل البيت، وقد أشار إليها في الحديث أيضاً، وهي مسألة مهمة، وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم قدر وفضل، وهذا المصطلح مصطلح (آل البيت) فيه أقوال كثيرة حتى في تعريفه.

فالقول الأول هو: أن آل البيت هم من حرموا الصدقة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الأصناف الخمسة الذين ذكرتهم قبل قليل.

وقيل: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه، كما في قوله سبحانه: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، وهذا في سياق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ [الأحزاب:30].

وقيل: إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم أمته، وقيل: هم الصلحاء من أتباعه، وهذا وارد في قوله: ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ).

آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز لهم أن يأخذوا الزكاة أم لا يجوز؟

في المسألة أقوال، أهمها قولان:

الأول: أنه لا يجوز لآل البيت الذين ذكرتهم أن يأخذوا الزكاة إلا أن يكونوا من العاملين عليها، أما أن يكونوا فقراء أو مساكين أو غارمين أو ما أشبه ذلك فلا يأخذون من الزكاة، وإن كانوا محتاجين، وإن كانوا من أهل الزكاة؛ لأن الزكاة أوساخ الناس كما في الحديث؛ لأن الناس يتطهرون بها، فلا تحل لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لآل محمد.

وهذا القول -أنها لا تحل لهم- هو مذهب الأئمة الأربعة في المشهور عنهم: الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد، وهو مذهب أكثر الصحابة أيضاً.

ومن أقوى حججهم: حديث أبي هريرة المشهور المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الحسن أخذ تمرة من تمر الصدقة، فقال له: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأخذ الصدقة؟ ) فهذا نص في أنهم لا يأكلون ولا يأخذون الصدقة كباراً ولا صغاراً.

وأيضاً: الحديث الآخر المتفق عليه حديث عائشة في قصة بريرة التي اشترتها عائشة وأعتقتها، ثم أهدي لها لحم فجاءت به إلى عائشة رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قربوه، هو لها صدقة، وهو علينا هدية ) فهذا دليل على أنه لا يجوز لو كانت صدقة.

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) وهو في الصحيح.

إذاً: هذا هو القول الأول.

القول الثاني: أن ذلك جائز إذا كانوا محتاجين أو من أهل الزكاة. وهذا قول في مذهب أبي حنيفة اختاره الإمام الطحاوي صاحب معاني الآثار ومشكل الآثار، واحتج عليه بأن ذلك كان لأنهم يأخذون خمس الخمس من الغنيمة، فبموت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع هذا الخمس أصبحوا محتاجين إلى الصدقة وإلى الزكاة.

و لا شك أن القول الأول هو الأرجح؛ أن الصدقة لا تحل لآل محمد عليه الصلاة والسلام، إلا إذا اضطروا إلى ذلك، يعني: إذا أمكن استغناؤهم فيما بينهم، أو من أوقاف أو من تبرعات أو ما أشبه ذلك، فهذا هو المتعين عليهم، أما إذا وصل الأمر إلى حد الضرورة فإن الله سبحانه وتعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، وقد يجوز أن يكون من آل البيت اليوم أمم كثيرة في الهند وفي بلاد العرب وغيرها، وربما يكونون جياعاً وفقراء، وقد ضاعت مصارف بيت المال، وانتهى أمر المغانم، فإذا افتقر هؤلاء واحتاجوا واضطروا فليس عليهم حرج أن يأخذوا من الزكاة.

وأؤكد بهذه المناسبة أن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم قدر وفضل ومكانة، والله سبحانه وتعالى قال: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] ولهم محبة عند المؤمنين، فصالحهم يُحب كصالح المؤمنين وزيادة، وفاسقهم يُحب أيضاً كفاسق المؤمنين وزيادة، فلهم قدر الفضيلة والقرب من سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] والأصل أيضاً تصديقهم في أنسابهم، كما كان يقول الإمام مالك: (الناس مؤتمنون على أنسابهم ولا يُطعن عليهم فيها). مع أن هناك جهات مختصة ومسئولة وذات اعتبار ومتابعة ومعرفة بموضوع الأنساب وتدوينها يرجع إليها في ذلك.