شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض - حديث 467-469


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رقم هذا الدرس (170) من أمالي شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الثلاثاء السابع والعشرون من شهر ربيع الثاني من سنة (1425هـ).

ننتقل إلى أحاديثنا اليوم، الحديث الأول منها: هو حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: ( كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؟ فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب )، رواه البخاري.

تخريج الحديث

حديث عمران هذا رواه البخاري -كما قال المصنف- في كتاب الجمعة، باب تقصير الصلاة، وساقه ضمن ترجمة: (إذا لم يطق المصلي الصلاة قاعداً صلى على جنب) بنحو ما ساقه المصنف من لفظه، ورواه أبو داود أيضاً في الصلاة: باب صلاة القاعد.

ورواه الترمذي أيضاً في الصلاة: باب صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، ورواه ابن ماجه في الصلاة أيضاً: باب صلاة المريض، وخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن الجارود والدارقطني في السنن، والبيهقي، وأحمد في المسند، وابن المنذر في الأوسط، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه أيضاً، والطبراني وغيرهم، هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

زيادات الحديث وشواهده

والمصنف ساقه هنا بهذا اللفظ، وساقه في موضع آخر سبق، وزاد في آخره لفظ: ( وإلا فأومئ إيماءً )، وهذا اللفظ لم أجده في شيء من المصادر، فالظاهر أنها زيادة وليست في شيء من المصادر المشهورة المتداولة بهذا اللفظ.

وأيضاً: المصنف -رحمه الله- ساق هذا اللفظ عن البخاري، وللبخاري لفظ آخر عن عمران رضي الله عنه، أنه قال: ( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الرجل قاعداً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد ).

اختلاف ألفاظ الحديث وتوجيهها

وهذا كما تلاحظ لفظ مختلف عن اللفظ الذي معنا؛ لأن الفظ الذي معنا فيه أنه قال: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب )، فرهن الأمر بالاستطاعة، بينما اللفظ الآخر وهو في صحيح البخاري قال: ( إن صلى قائماً فهو أفضل، وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد ) النائم ما معناها؟

المضطجع، نعم. يعني: كما ذكر البخاري رحمه الله وقال: صلاة النائم عندي معناه: المضطجع، وليس معناه النائم الذي غط في نومه؛ لأن هذا لا يصلي ولا تصح صلاته، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان إذا كان يصلي ثم وجد النعاس وأمره بأن يرتاح وينام؛ لأنه ربما أراد أن يدعو فدعا على نفسه أو سب نفسه، وإنما المقصود بالنائم هنا هو المضطجع.

طيب!! إذاً: هذا اللفظ الجديد يطرح علينا سؤالاً: هل الحديث في صلاة المريض المضطر أم هو في صلاة المتنفل؟

حديث عمران رضي الله عنه كله هل هو في صلاة المريض المضطر أم هو في صلاة المتنفل؟ طبعاً كلا الأمرين محتمل، ونحن سوف نعرض الاحتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون هذا ورد في صلاة المريض، بدليل أن عمران ماذا كان يقول؟ ( وكانت به بواسير )، وفي رواية قال: ( كان مبسوراً )، يعني: مصاباً بالبواسير، فهنا نقول: إن الحديث على هذا الاعتبار يكون للمريض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب )، فعلق الأمر بقدرته واستطاعته، إن كان المريض يستطيع القيام وقف، ما يستطيع قعد، ما يستطيع القعود صلى على جنبه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، هذا أولاً.

أيضاً مما يدل على أن الحديث للمريض: قوله صلى الله عليه وسلم: ( فعلى جنب )، لأن المتنفل لا يصلي على جنبه، يصلي قائماً، وإذا أحب أن يقعد في النافلة قعد، لكن هل يجوز للمتنفل أن يصلي وهو نائم، يعني: يصلي النافلة صلاة الليل أو الوتر وهو نائم؟ هنا الخطابي رحمه الله يقول: لا أعلم ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في ذلك، في كون الإنسان يتنفل وهو مضطجع على جنبه، أو مستلقٍ على ظهره وهو يستطيع فيما يتعلق بالنافلة، إذاً: على هذا الاحتمال يكون الحديث خطاباً للمريض.

طيب!! هل يوجد عندنا إشكال في هذه الحالة؟

بلى في الحديث إشكال: إذا كان للمريض فكيف يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن صلى قائماً فهو أفضل، وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد )، معنى أن هذا قادر على القيام؟ والله سبحانه وتعالى يقول: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، يعني: في الفريضة، والقيام مع القدرة، إذاً كيف يقول: ( إن صلى قائماً فهو أفضل ).

فنقول والله أعلم: الجواب على هذا الإشكال: أن هذا في المريض الذي يستطيع القيام ولكن بمشقة، يشق عليه القيام، أو يكون القيام سبباً في زيادة مرضه، أو في تأخير برئه، أو في حصول مرض آخر عليه، أو ما أشبه ذلك من الأحوال التي يستطيع المريض معها أن يقوم، ولكن يكون ذلك بمشقة أو بضرر، وهذا الذي رجحه الخطابي في تفسير الحديث.

وأيده عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال عن كلام الخطابي : وهو متجه. يعني: وجيه، وله حظ من النظر، وهو أيضاً ظاهر صنيع البخاري نفسه، فإن تبويب البخاري وسياقه بل والأحاديث التي ذكرها، فإنه ذكر حديث أنس : ( لما سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرسه وجحش ساقه وصلى بأصحابه وهو مريض قاعداً فصلوا وراءه قياماً، وأشار إليهم أن: اجلسوا، وكان ذلك في بيته عليه الصلاة والسلام )، ومثله حديث عائشة رضي الله عنها، فهذا يدل على ما اختاره البخاري من أن الحديث يتعلق بصلاة المريض.

ويؤيد ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال الحافظ ابن حجر : رجاله ثقات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يصلون في المسجد وهم محمومون قد أصابتهم الحمى، وهم يصلون عن قعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا حينئذٍ القيام ) يعني: تكلفوا القيام طمعاً في مزيد الثواب والأجر.

إذاً: هذا هو الوجه الأول وهو الذي نختاره ونرجحه، أن سياق حديث عمران في المريض الذي يستطيع القيام ولكن بمشقة، أو يستطيع القعود ولكن بمشقة، فيصلي الفريضة مضطجعاً.

لكن هناك قول آخر في تأويل الحديث عند جماعة من أهل العلم، وهو أنهم صنفوه ضمن صلاة النفل، وذلك لأن النافلة يخفف فيها ما لا يخفف في الفريضة، فيجوز للإنسان أن يصلي النفل وهو قاعد حتى لو كان صحيحاً شحيحاً، وهكذا قيام الليل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يصلي قاعداً في آخر عمره، فإذا جاء وقت الركوع قام، يعني: صلاة الليل، ثم ركع عن قيام وأحياناً يصلي الصلاة كلها قاعداً، فحملوا هذا الحديث على صلاة النافلة، وهذا الذي حكاه ابن التين عن جماعة من أهل العلم كـأبي عبيد وابن الماجشون من المالكية والإسماعيلي والقاضي إسماعيل والداوودي وغيرهم.

وكذلك حكاه الترمذي رحمه الله في جامعه عن الثوري، وقال: [ إن الإنسان إذا تنفل قائماً فهو أفضل، وإن تنفل قاعداً فله النصف من الأجر، وإن تنفل مضطجعاً فله نصف أجر القاعد ].

وبناءً عليه نقول: إن تنفل الإنسان وهو مضطجع ليس فيه إجماع كما قاله الخطابي، وإنما فيه خلاف، فقد نقل الترمذي بإسناده عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله أنه أجاز تنفل الإنسان قاعداً، وهو مذهب جماعة من العلماء، ووجه عند الشافعية، بل اختاره جماعة من متأخريهم ورجحوه، وحكاه القاضي عياض أيضاً وجهاً عند المالكية واختاره الأبهري وغيره، واحتجوا له بهذا الحديث وأمثاله.

إذاً: هذا الاتجاه الآخر في تأويل الحديث وفي تصنيفه، أنهم صنفوه في أبواب صلاة النافلة، وأن الإنسان إن صلى قائماً له الأجر كاملاً أو قاعداً فله نصف الأجر أو مضطجعاً فله ربع أجر الصلاة قائماً، يعني: ربع أجر الصلاة الأصلية، مع أن الصلاة يتفاوت أجرها باعتبارات كثيرة جداً، لكن هذا إشارة إلى أنك لو صليت قائماً لك مثلاً مائة درجة، فإن قعدت فلك خمسون، فإن نمت فلك خمس وعشرون، وإلا فإنه قد تكون صلاة النائم المضطجع بحضور قلب وخشوع أفضل من صلاة قائم آخر يصلي وقلبه غافل، وإنما المقصود كما أشرت وأسلفت.

إذاً: الحديث هناك اختلاف في تصنيفه تبعاً لهذا الباب أو ذاك.

فيما يتعلق بألفاظ حديث عمران رضي الله عنه:

ترجمة راوي الحديث

أولاً: عمران بن حصين صحابي جليل معروف، أسلم في السنة السابعة من الهجرة، في السنة التي أسلم فيها أبو هريرة، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشهد معه الغزوات، وبعثه عمر إلى البصرة أميراً عليها، فلم يقدم على البصرة من هو خير منه فانتفع به أهلها واستفادوا من علمه كما قال الحسن البصري، وأصيب في آخر عمره بالاستسقاء في بطنه وكان صابراً على ذلك، فكان يقول: إن الملائكة كانت تأتيه وتحدثه حتى اكتوى في آخر عمره فكأنهم انقطعوا عنه، وهو ممن اعتزل الفتنة بين الصحابة ولم يدخل مع أي طرف من الأطراف.

معاني ألفاظ الحديث

أما قوله: ( كانت بي بواسير )، فالبواسير جمع باسور، وهو داء يصيب المقعدة، وهو معروف ومشهور جداً، حتى إنهم يقولون: إنه يصيب (12%) من الناس، يعني: كل مائة منهم اثنا عشر مصاباً بداء البواسير خصوصاً ما بين سن العشرين إلى سن الخمسين، وهو عبارة عن داء يصيب نهاية المستقيم والشرج ويؤثر على الدوالي بحيث يكون من جراء ذلك ألم، وكذلك ربما دوالي تخرج من الشرج أو من المقعدة، وغالباً ما يكون بسبب نقص الألياف في الطعام، أو بسبب الإمساك، أو بسبب معاناة الأعمال الصعبة، وقد يقع ذلك بسبب الحمل للمرأة، وكذلك التدخين من أسباب الإصابة به، إلى غير ذلك مما هو معروف عند أهل الاختصاص، وله مستويات معروفة.

ولذلك يقال: إن البواسير ليست مرضاً يؤدي إلى الأمر الذي سأله عمران، فالبواسير لا تمنع من القيام ولا من القعود ولا من شيء، ولهذا فالذي رجحه الخطابي وجماعة أن سؤال عمران رضي الله عنه ليس على سبيل أنها حالة كان يحتاجها ذلك الوقت، ولكنه على سبيل المعرفة والتفقه، وهذا احتمال جيد أن لا يكون سؤال عمران لأنه احتاج إلى ذلك.

طيب، طبعاً ستأتي بقية الألفاظ خصوصاً قوله عليه الصلاة والسلام: ( فإن لم تستطع فعلى جنب ) سوف نذكر الأقوال المختلفة في تفسيرها.

حد المرض الموجب للرخصة

فيما يتعلق بمسائل الحديث عندنا فيه عدة مسائل:

أولاً: ما يتعلق بحد المرض الموجب للرخصة، وطبعاً الرخصة ثابتة للمريض ثبوتاً مؤكداً في القرآن والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، ويقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فهذا نص عام في عدم تحميل الإنسان ما لا يتحمل ولا يطيق من التبعات.

وكذلك قول الله سبحانه وتعالى في صفة عباده المؤمنين المتقين: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، فقد ذكر غير واحد من المفسرين أن قوله: وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، يعني: في حالة المرض، وإن كان النص أعم من ذلك؛ لأن ذكر الله ليس خاصاً بالصلاة، وإنما القرآن والذكر والتسبيح كله داخل في هذا، لكن يدخل فيه أيضاً بالتبع صلاة المريض على جنبه.

وهكذا أيضاً حديث الباب -حديث عمران - وحديث أنس وعائشة في الصحيحين كما أشرت إليه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد في منزله، وصلاة أصحابه وراءه؛ لأن ساقه قد جرح أو جحش، فهذا يدل على الأصل القطعي الثابت في وجود الرخصة للمريض في الصلاة، وفي الطهارة أيضاً للتيمم إذا كان يضره الماء، وفي الصوم فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، وفي غيرها من العبادات، وقد أجمع العلماء في الجملة على هذا الأصل.

أما ضابط المرض فإن العلماء يقولون: إن الضابط هو أن يكون الإنسان مريضاً لا يستطيع القيام أو لا يستطيع القعود، هذه واحدة، وهذه مسلمة، وهي محل اتفاق أيضاً؛ لأن كل واجب من واجبات الشرع يسقط بالعجز باتفاق العلماء.

ولكن ليس الأمر مقصوراً على العجز كما يظنه البعض، يظنون المرض فقط هو أن يكون عاجزاً لا يستطيع القيام، لا. هذه هي الحالة المتفق عليها والتي لا إشكال فيها؛ لأنه لا يكلف ما لا يستطيع، لكن أيضاً لو ترتب على قيامه أو على قعوده مرض آخر جاز له ترك القيام، لو ترتب على قيامه أو قعوده تأخر البرء من هذا المرض الذي هو فيه جاز له ترك القيام أيضاً.

نقول: لو كان يلحقه بالقيام، مشقة، هو لا يترتب عليه أثر ولا قال الطبيب: إن القيام يضره، لكن ترتب على القيام مشقة عليه، يشعر أنه إذا قام فإن القيام ثقيل عليه، فهل يجوز له ترك القيام حينئذٍ؟

يجوز له، نقول: يجوز له إذا ترتب عليه مشقة، يأتي أخ يقول: ما هو الضابط؟

نقول له: ما هناك ضبط؛ الضابط المشقة، من الذي يحدد المشقة؟ هو نفسه يحددها والأمر فيه سعة.

كذلك لو كان يترتب على قيامه ما يشوش عليه، يعني: نوع من المشقة قد تشوش عليه أو تضعف خشوعه في الصلاة وهو مريض فهل يقعد؟ يقعد أيضاً، وهذا مما نص عليه بعض أهل العلم كما ذكره في المجموع عن إمام الحرمين : أنه إن كان مريضاً وترتب على قيامه ثقل ومشقة تشوش على حضور قلبه في الصلاة وخشوعه، بينما إذا قعد كان أقرب للخشوع، قال: يجوز له حينئذٍ القعود.

كذلك نقول: إذا كان المريض قادراً على القيام ولكن ربما ترتب على قيامه حصول خلل في طهارته مثل الإنسان الذي فيه سلس كسلس البول مثلاً، فإذا صلى وهو قاعد لم يأته السلس، وإذا قام ربما خرج منه البول أو غيره، هل نقول: يقعد؟

نعم. يقعد، وهذا قول الحنابلة، والشافعية وغيرهم؛ لأن هذا أولاً: مرض، وثانياً: من أجل المحافظة على طهارته.

طيب هنا سؤال: لو أنه لا يستطيع القيام بنفسه بل يحتاج إلى أحد يقيمه، فهل يصلي قاعداً أو يقوم؟

يصلي قاعداً إلا إذا وجد من يقيمه بغير منة، مثل ولده أو عبده أو من يمونه ولا يكون في ذلك عليه منٌّ ولا أذى، أما أن يطلب من الناس أن يقيموه فليس عليه أن يطلب منتهم في ذلك.

طيب!! إذا كان يستطيع أن يقوم على عصى مثلاً، أو يتكئ على جدار، وليس عليه مشقة إذا أمسك بالعصا أو الجدار، هل نقول: يقوم أو يقعد؟

في هذه الحالة نقول: يقوم؛ لأنه لا مشقة عليه في ذلك، وهذا طبعاً قول، وإن كان بعضهم -وهم المالكية- يرون أن له أن يجلس في هذه الحالة؛ لأنه لا يخلو من بعض المشقة، طيب!! لو أنه لم يستطع القيام منتصباً قائماً هكذا ولكنه يقوم محدودباً مثل الأحدب الذي يكون في ظهره مشكلة، وقد يكون كهيئة الراكع ماذا نطلب منه؟

نطلب منه أن يقوم على هيئته، وإذا أراد أن يركع يحني ظهره أكثر مما هو عليه، يكون هناك تمييز بين حال القيام عنده الذي هو محدودب أصلاً وبين حال الركوع.

إذا عجز عن القيام بسبب الصيام، مثل صائم رمضان وعجز عن القيام بسبب الصيام ماذا نقول عليه: يفطر أو يقعد؟

يقعد في الصلاة.

في حالات معينة، هي عبارة عن سؤال، وإن كانت من الحالات النادرة، لكن ذكرها بعض الفقهاء، حالة إنسان قادر على القيام صحيح شحيح كامل القوى، ومع ذلك يجوز له أن يصلي قاعداً لأمر يتعلق بغيره ولا يتعلق به هو؟

إذا كان الإمام قاعداً.

إذا كان اللباس غير ساتر، هذه حالة صحيحة.

وهناك حالة ثالثة ذكرها الفقهاء وهي ما إذا كان في حرب وهو في حالة خمول، ممكن يكون في خندق مستخفٍ عن العدو فلو قام أبصره العدو فقتله وهو مستخفٍ، ففي هذه الحالة وهو قاعد نقول: يصلي على الحال التي هو عليها، هذه حالة يقول الفقهاء: إنها نادرة وليست من حالات المرض، لكن بحثها يلحق بهذا الموضوع، طيب!!

هنا سؤال أيضاً ضمن ضابط المرض، إذا قدر المريض على القيام وقدر على القعود، وعجز عن الركوع وعن السجود فبماذا نطالبه؟

ما دام قادراً على القيام وقادراً على القعود يقوم واقفاً ويومئ بالركوع، ثم يقعد ويومئ بالسجود؛ لأنه يكلف ما يستطيع من القيام والقعود، ويومئ بما لا يستطيع من الركوع والسجود، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور: الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم، واستدلوا بعموم الأدلة مثل قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، على وجوب القيام، وكذلك: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فهذا يستطيع أن يقوم ويستطيع أن يقعد، وكذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: ( فإن لم تستطع فقاعداً ) فمن مجموع الأدلة أخذوا أنه يقوم ويومئ بالركوع، ويقعد ويومئ بالسجود.

وهناك للحنفية قول وهو: أنهم يرون أنه يقعد ويصلي الصلاة كلها قاعداً، وليس لهم في ذلك حجة واضحة؛ لأنهم يقولون: إن القيام الواجب هو القيام الذي بعده سجود، وهذا الكلام ليس عليه دليل قوي.

هذا ما يتعلق تقريباً بموضوع صفة أو ضابط المرض.

هيئة الجلوس في الصلاة للمريض

المسألة الثانية في حديث عمران رضي الله عنه: مسألة: هيئة القعود، النبي عليه الصلاة والسلام الآن قال: ( فإن لم تستطع فقاعداً )، طيب، هيئة القعود، كيف يقعد؟

دعونا نقول في البداية: إنه إذا جلس الآن للتشهد، فإنه يجلس مثلما يجلس في العادة، يجلس مفترشاً، والافتراش ما معناه؟ أن يقعد على رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، هذه جلسة الافتراش تكون في الجلسة بين السجدتين، وتكون في التشهد الأول، وتكون في التشهد الأخير في الصلاة الثنائية، فهذا نقول: للمريض ولغير المريض.

إذاً: هذا ينبغي أن لا يكون فيه كلام، وهكذا موضوع التورك في التشهد الأخير وهو في الصلاة التي فيها تشهدان، في الصلاة التي فيها تشهدان يتورك في التشهد الأخير، والتورك معناه أن يفضي بمقعدته إلى الأرض ويجعل رجليه عن جهة اليمين، اليمنى تكون منصوبة واليسرى مفروشة أو كلاهما مفروشة على اختلاف، هذا أيضاً للمريض ولغير المريض.

إذاً: الخلاف في صفة الجلوس ينبغي أن يحصر في قعوده فيما سوى ذلك، القعود الذي هو بديل عن القيام مثلاً، وبديل عن الركوع، وبديل عن السجود، هذا هو الأصل، فنقول: إن هذا القعود فيه عدة أقوال:

القول الأول: أنه يقعد مفترشاً، فيكون قعوده في الصلاة كلها على هذا الوجه: وهو أن يفرش رجله اليسرى ويقعد عليها وينصب اليمنى، وهذا هو الأصح في مذهب الشافعية، وقال به أبو حنيفة وزفر من أصحاب أبي حنيفة .

قالوا: لأن قعوده في الصلاة قعود عبادة، فينبغي أن يكون متميزاً عن ألوان القعود الأخرى التي يقعدها الناس في غير الصلاة، وطبعاً دليل الافتراش في دون السجدتين أو في التشهد معروف، فقالوا: ينبغي أن يكون قعوده في سائر الصلاة مثل قعوده بين السجدتين أو قعوده في التشهد الأول.

القول الثاني: قالوا: يجلس متربعاً، أنه يقعد على الأرض ويجعل ركبته اليمنى باتجاه اليمين وركبته اليسرى باتجاه اليسار، ويجعل رجليه فوق بعضهما، بحيث أنه ممكن يكون مؤخرة القدم اليمنى تحت الفخذ اليسرى، ومؤخرة القدم اليسرى تكون تحت الفخذ اليمنى، وتلاحظون أن التربع ربما جلسة مريحة قليلاً، ولذلك -ما شاء الله- كنت أفكر وأنا آتي أن أشرح لكم التربع، لكن لم أجد ما يحتاج إلى شرح بعدما تبين أنكم متربعون، بعضكم الآن غير متربع وإنما هو جالس جلسة أخرى مثل جلسة الأخ هذا، الذي يضع رجليه على الأرض وساقاه منصوبتان، هذه تسمى جلسة الاحتباء، وأنا لما تذكرت الجلسة هذه ذكرت أن ابن أبي شيبة وغيره ذكروا عن جماعة من السلف أنهم أجازوا أيضاً هذه الجلسة للمريض، أنه يصلي محتبياً، يعني: يقعد على الأرض وينصب فخذيه وساقيه .

المهم نرجع إلى القول الثاني كما قلت لكم: وهو أنه يقعد متربعاً، وهذه رواية أيضاً عن الشافعي ذكرها البويطي في المختصر، وإن كان المشهور والأصح عند الشافعية كما قلت لكم هو القول الأول، وهو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، وإسحاق والثوري وأبي يوسف ومحمد من الأحناف، وبعض أهل الظاهر وغيرهم، واحتجوا بحجج نقلية وعقلية.

أما حجتهم العقلية فقالوا: إن هذا القعود بديل عن القيام أو عن الركوع أو عن السجود، فينبغي أن يتميز عن بقية هيئات الصلاة، كهيئة الافتراش أو هيئة التورك، وفي نظري أن هذا الاستدلال ليس بقوي؛ لأنه لا دليل على التميز، وقد نقول بالعكس: إن بقاء المصلي على حالة واحدة أولى، خصوصاً إذا كان لم يسجد، وهذا ما سوف أشير إليه بعد قليل.

لكن المهم في ذلك حجتهم النقلية، فلهم في ذلك حجج جيدة، منها ما سوف نذكره بعد قليل وقد أشار إليه المصنف ما رواه النسائي في سننه وصححه الحاكم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً ) والحديث قد رواه الدارقطني وصححه الحاكم .

وقال النسائي عنه بعدما ساقه قال: روى هذا الحديث أبو داود الحفري ولا أراه إلا خطأً، فكأن الإمام النسائي ضعف هذا الحديث، وأشار إلى تفرد أبي داود الحفري فيه، وإشارة الإمام النسائي وإن كان الإمام النسائي حجة في العلل ومعرفتها، إلا أنه لم يسق ولم يذكر حجة في تضعيفه لهذا الإسناد، ولذلك تعقبه جماعة منهم المقدسي صاحب المحرر، فقال: إن أبا داود الحفري هو أولاً: ثقة، وثقه أهل العلم حتى النسائي قال: ثقة، وابن حجر رحمه الله في التقريب قال: ثقة أيضاً، فليس فيه مقال.

وأيضاً قد توبع أبو داود الحفري، وأبو داود الحفري اسمه عمر بن سعد تابع رجلاً اسمه محمد بن سعيد الأصبهاني وهو ثقة أيضاً، فتبين أنه لم يتفرد بهذا الحديث وأن هذا الحديث لا بأس به إن شاء الله تعالى .

إذاً: هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً، دليل لهم على أن السنة في الصلاة التربع، وكذلك جاء هذا عن جماعة من الصحابة كـأنس وعائشة وابن مسعود وغيرهم، فيحتج بما نقل، نقله البيهقي وغيره عن جمع من الصحابة على أن السنة للمريض القاعد أن يصلي متربعاً.

القول الثالث: أنه يجلس متوركاً كهيئته في التشهد الأخير، ولا أعلم لهذا القول وجهاً، إلا أنهم قد يقولون: إنه أرفق بالمريض، وليس ذلك بالضروري، فإن التربع قد يكون أرفق به في الغالب.

ولذلك نحن نختار من هذه الأقوال:

أولاً نقول: إن الخلاف في هذه المسألة خلاف على الأولى، وإلا فهم مجمعون على أن أي هيئة من هيئات القعود قعدها المصلي فهو جائز، تربع أو افترش أو تورك كل ذلك واسع، وإنما الخلاف فيما هو الأولى والأفضل.

فقد نقول نحن: إن الأولى والأفضل ما لا يشق على المريض؛ لأن الشرع راعى في المريض في أصل الرخصة رفع الحرج ورفع المشقة، فعلى سبيل المثال: لو كان المريض سوف يومئ بالركوع ويومئ بالسجود، في هذه الحالة أليس استمراره على الحالة التي هو عليها أفضل؟ بخلاف ما إذا كان سوف يسجد، معناه: أنه غير جلسته، فإذا أراد أن يستعيد الجلسة مرة أخرى قلنا: يجلس مفترشاً بين السجدتين، لكن أن يقول: سوف يومئ بالسجود، ثم يقال له: غير جلستك بعد الإيماء، فهذا فيه مشقة على المريض.

فنقول: إذاً الخلاف في صفة الجلوس هو خلاف على الأفضل والأولى هذا أولاً، وإلا فكلها جائزة.

ونقول ثانياً: الأنسب والأفضل ما هو أخف للمريض وأهون عليه وأقل كلفة.

وثالثاً نقول: إذا تساوت فإن الأفضل له أن يكون متربعاً، بدليل حديث عائشة والآثار الواردة في الباب، والله تعالى أعلم.

طيب!! هذه المسألة الثانية في حديث عمران صلاة القاعد.

صفة الاضطجاع للمريض

طيب عندنا في حديث عمران قال: ( فإن لم تستطع فعلى جنب )، وفي اللفظ الآخر قال: ( صلاة النائم على النصف من صلاة القاعد )، وهذا يقودنا إلى المسالة الثالثة، وهي: صفة الاضطجاع للمريض، وهذه المسألة يقول بعض الفقهاء: إنها ليست كالقعود؛ لأن فيها ترك استقبال القبلة أيضاً، فهي ربما أشد من الأولى، ومبناها على الوجوب بالنسبة للقادر، بمعنى: أن من قدر على حال يتحقق معها فيه استقبال القبلة لم يجز له أن يتركها، فإن شق عليه صلى حيث كان، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، قال: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، طيب!!

فيما يتعلق بالمضطجع أو ما سماه النائم، نقول: هذا الاضطجاع له ثلاث صور:

الصورة الأولى: أن يضطجع على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة، فيكون حاله مثل حال الميت الذي يسجى في قبره، فإن الميت يدرج أو يدخل في قبره ليكون مستقبل القبلة وهو على جنبه الأيمن، فهذه الصورة الأولى.

طيب! لو صلى على جنبه الأيسر مستقبل القبلة ما فيه إشكال، لكن نقول: الأيمن أفضل، طيب. وهذا الوضع أو هذه الصفة هي الأصح عند الشافعية، وهو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل وداود الظاهري، وروي عن جماعة من الصحابة كـعمر وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وهذه الصفة يؤيدها حديث عمران، قال: ( فإن لم تستطع فعلى جنب )، هذه صفة على جنب أو لا؟ فهذه على جنب، فيقويها ويعززها حديث عمران، وأيضاً أنه مستقبل القبلة ببدنه وبوجهه.

الصورة الثانية: أنه يستلقي على قفاه .. على ظهره وتكون رجلاه إلى جهة القبلة، ويضع تحت رأسه وسادة أو شيئاً بحيث يرتفع وينتهض رأسه قليلاً، ويكون وجهه إلى جهة القبلة أيضاً، وهذه هي الصورة الثانية، الصورة هذه عند الحنفية، هل نقول: إنه في هذه الحالة على جنب؟ لا. هذا ليس على جنب وإنما هو على ظهر، فهذا مذهب الحنفية، ولكنهم قالوا: إن هذه الصفة أولى وأليق باستقبال القبلة؛ لأنه يستقبل القبلة ببدنه كله وهو أشبه بالإنسان، يعني: الذي كأنه نام عن قيام، فرجلاه إلى القبلة، ووجهه كاملاً إلى القبلة.

وهؤلاء من أدلتهم: أنه جاء في رواية وإن كان سندها ضعيفاً، أنه قال: ( فإن لم يستطع اضطجع على ظهره ورجلاه إلى القبلة )، لكن هذه الزيادة فيها راوٍ ضعيف، فيها الحسن بن الحسين العرني وهو ضعيف .

الصورة الثالثة: قالوا: يضطجع على جنبه الأيمن أو الأيسر كما ذكرنا في الأولى، ويعطف أسفل قدميه إلى القبلة، وهذا وجه في مذهب الشافعي، وهي لا تختلف عن الصورة الأولى تقريباً.

يبقى أن الأمر بالنسبة للصورتين المذكورتين فيه سعة، سواءً أخذ بمذهب الأحناف أو أخذ بمذهب الجمهور، فيه سعة، فنقول: ما كان المريض عليه ويشق عليه مخالفته جاز له أن يصلي بتلك الحال، خصوصاً إذا كان المريض على سرير، وقد لا يجد من يقلبه أو يغير حاله أو يغير وضع السرير وأوضاع المرضى في المستشفيات، فإنه يشق عليهم كثيراً أن يتحولوا للصلاة خصوصاً ما دام سوف يصلي وهو نائم، فيقول: إن كان نائماً على ظهره صلى على الحال التي هو عليها، وإن كان على جنبه الأيمن أو الأيسر مستقبلاً القبلة صلى كذلك، فإن لم يكن مستقبلاً القبلة ولم يجد من يوجهه إلى القبلة صلى على أي حال كان، كما قال سبحانه: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239].

وقال في حديث ابن عمر : (عمران هذا رواه البخاري -كما قال المصنف- في كتاب الجمعة، باب تقصير الصلاة، وساقه ضمن ترجمة: (إذا لم يطق المصلي الصلاة قاعداً صلى على جنب) بنحو ما ساقه المصنف من لفظه، ورواه أبو داود أيضاً في الصلاة: باب صلاة القاعد.

ورواه الترمذي أيضاً في الصلاة: باب صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، ورواه ابن ماجه في الصلاة أيضاً: باب صلاة المريض، وخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن الجارود والدارقطني في السنن، والبيهقي، وأحمد في المسند، وابن المنذر في الأوسط، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه أيضاً، والطبراني وغيرهم، هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

والمصنف ساقه هنا بهذا اللفظ، وساقه في موضع آخر سبق، وزاد في آخره لفظ: ( وإلا فأومئ إيماءً )، وهذا اللفظ لم أجده في شيء من المصادر، فالظاهر أنها زيادة وليست في شيء من المصادر المشهورة المتداولة بهذا اللفظ.

وأيضاً: المصنف -رحمه الله- ساق هذا اللفظ عن البخاري، وللبخاري لفظ آخر عن عمران رضي الله عنه، أنه قال: ( سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الرجل قاعداً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد ).

وهذا كما تلاحظ لفظ مختلف عن اللفظ الذي معنا؛ لأن الفظ الذي معنا فيه أنه قال: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب )، فرهن الأمر بالاستطاعة، بينما اللفظ الآخر وهو في صحيح البخاري قال: ( إن صلى قائماً فهو أفضل، وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد ) النائم ما معناها؟

المضطجع، نعم. يعني: كما ذكر البخاري رحمه الله وقال: صلاة النائم عندي معناه: المضطجع، وليس معناه النائم الذي غط في نومه؛ لأن هذا لا يصلي ولا تصح صلاته، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان إذا كان يصلي ثم وجد النعاس وأمره بأن يرتاح وينام؛ لأنه ربما أراد أن يدعو فدعا على نفسه أو سب نفسه، وإنما المقصود بالنائم هنا هو المضطجع.

طيب!! إذاً: هذا اللفظ الجديد يطرح علينا سؤالاً: هل الحديث في صلاة المريض المضطر أم هو في صلاة المتنفل؟

حديث عمران رضي الله عنه كله هل هو في صلاة المريض المضطر أم هو في صلاة المتنفل؟ طبعاً كلا الأمرين محتمل، ونحن سوف نعرض الاحتمالات:

الاحتمال الأول: أن يكون هذا ورد في صلاة المريض، بدليل أن عمران ماذا كان يقول؟ ( وكانت به بواسير )، وفي رواية قال: ( كان مبسوراً )، يعني: مصاباً بالبواسير، فهنا نقول: إن الحديث على هذا الاعتبار يكون للمريض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب )، فعلق الأمر بقدرته واستطاعته، إن كان المريض يستطيع القيام وقف، ما يستطيع قعد، ما يستطيع القعود صلى على جنبه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، هذا أولاً.

أيضاً مما يدل على أن الحديث للمريض: قوله صلى الله عليه وسلم: ( فعلى جنب )، لأن المتنفل لا يصلي على جنبه، يصلي قائماً، وإذا أحب أن يقعد في النافلة قعد، لكن هل يجوز للمتنفل أن يصلي وهو نائم، يعني: يصلي النافلة صلاة الليل أو الوتر وهو نائم؟ هنا الخطابي رحمه الله يقول: لا أعلم ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في ذلك، في كون الإنسان يتنفل وهو مضطجع على جنبه، أو مستلقٍ على ظهره وهو يستطيع فيما يتعلق بالنافلة، إذاً: على هذا الاحتمال يكون الحديث خطاباً للمريض.

طيب!! هل يوجد عندنا إشكال في هذه الحالة؟

بلى في الحديث إشكال: إذا كان للمريض فكيف يقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن صلى قائماً فهو أفضل، وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد )، معنى أن هذا قادر على القيام؟ والله سبحانه وتعالى يقول: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، يعني: في الفريضة، والقيام مع القدرة، إذاً كيف يقول: ( إن صلى قائماً فهو أفضل ).

فنقول والله أعلم: الجواب على هذا الإشكال: أن هذا في المريض الذي يستطيع القيام ولكن بمشقة، يشق عليه القيام، أو يكون القيام سبباً في زيادة مرضه، أو في تأخير برئه، أو في حصول مرض آخر عليه، أو ما أشبه ذلك من الأحوال التي يستطيع المريض معها أن يقوم، ولكن يكون ذلك بمشقة أو بضرر، وهذا الذي رجحه الخطابي في تفسير الحديث.

وأيده عليه الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال عن كلام الخطابي : وهو متجه. يعني: وجيه، وله حظ من النظر، وهو أيضاً ظاهر صنيع البخاري نفسه، فإن تبويب البخاري وسياقه بل والأحاديث التي ذكرها، فإنه ذكر حديث أنس : ( لما سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرسه وجحش ساقه وصلى بأصحابه وهو مريض قاعداً فصلوا وراءه قياماً، وأشار إليهم أن: اجلسوا، وكان ذلك في بيته عليه الصلاة والسلام )، ومثله حديث عائشة رضي الله عنها، فهذا يدل على ما اختاره البخاري من أن الحديث يتعلق بصلاة المريض.

ويؤيد ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال الحافظ ابن حجر : رجاله ثقات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يصلون في المسجد وهم محمومون قد أصابتهم الحمى، وهم يصلون عن قعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا حينئذٍ القيام ) يعني: تكلفوا القيام طمعاً في مزيد الثواب والأجر.

إذاً: هذا هو الوجه الأول وهو الذي نختاره ونرجحه، أن سياق حديث عمران في المريض الذي يستطيع القيام ولكن بمشقة، أو يستطيع القعود ولكن بمشقة، فيصلي الفريضة مضطجعاً.

لكن هناك قول آخر في تأويل الحديث عند جماعة من أهل العلم، وهو أنهم صنفوه ضمن صلاة النفل، وذلك لأن النافلة يخفف فيها ما لا يخفف في الفريضة، فيجوز للإنسان أن يصلي النفل وهو قاعد حتى لو كان صحيحاً شحيحاً، وهكذا قيام الليل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يصلي قاعداً في آخر عمره، فإذا جاء وقت الركوع قام، يعني: صلاة الليل، ثم ركع عن قيام وأحياناً يصلي الصلاة كلها قاعداً، فحملوا هذا الحديث على صلاة النافلة، وهذا الذي حكاه ابن التين عن جماعة من أهل العلم كـأبي عبيد وابن الماجشون من المالكية والإسماعيلي والقاضي إسماعيل والداوودي وغيرهم.

وكذلك حكاه الترمذي رحمه الله في جامعه عن الثوري، وقال: [ إن الإنسان إذا تنفل قائماً فهو أفضل، وإن تنفل قاعداً فله النصف من الأجر، وإن تنفل مضطجعاً فله نصف أجر القاعد ].

وبناءً عليه نقول: إن تنفل الإنسان وهو مضطجع ليس فيه إجماع كما قاله الخطابي، وإنما فيه خلاف، فقد نقل الترمذي بإسناده عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله أنه أجاز تنفل الإنسان قاعداً، وهو مذهب جماعة من العلماء، ووجه عند الشافعية، بل اختاره جماعة من متأخريهم ورجحوه، وحكاه القاضي عياض أيضاً وجهاً عند المالكية واختاره الأبهري وغيره، واحتجوا له بهذا الحديث وأمثاله.

إذاً: هذا الاتجاه الآخر في تأويل الحديث وفي تصنيفه، أنهم صنفوه في أبواب صلاة النافلة، وأن الإنسان إن صلى قائماً له الأجر كاملاً أو قاعداً فله نصف الأجر أو مضطجعاً فله ربع أجر الصلاة قائماً، يعني: ربع أجر الصلاة الأصلية، مع أن الصلاة يتفاوت أجرها باعتبارات كثيرة جداً، لكن هذا إشارة إلى أنك لو صليت قائماً لك مثلاً مائة درجة، فإن قعدت فلك خمسون، فإن نمت فلك خمس وعشرون، وإلا فإنه قد تكون صلاة النائم المضطجع بحضور قلب وخشوع أفضل من صلاة قائم آخر يصلي وقلبه غافل، وإنما المقصود كما أشرت وأسلفت.

إذاً: الحديث هناك اختلاف في تصنيفه تبعاً لهذا الباب أو ذاك.

فيما يتعلق بألفاظ حديث عمران رضي الله عنه: