شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض - حديث 464-466


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

رقم هذا الدرس: (169) من أمالي شرح بلوغ المرام، والتاريخ هو السادس والعشرون من شهر ربيع الثاني من سنة (1425هـ)، والمكان جامع الراجحي بـبريدة، ضمن الدورة العلمية المقامة في الصيف لهذا العام.

والدرس هو امتداد لشرح أحاديث متعلقة بصلاة المسافر والمريض، وقد أنجزنا أمس بحمد الله عدداً من الأحاديث المتعلقة بهذا الموضوع، وبالذات حديث أنس رضي الله عنه في الجمع بين الصلاتين.

واليوم عندنا تقريباً ثلاثة أحاديث إن شاء الله ننهيها؛ لأنه ليس فيها مسائل كثيرة، فهي تدور حول بعض الموضوعات التي ذكرناها سلفاً.

الحديث الأول منها: ما ذكره المصنف رحمه الله ورقمه: (439) عن معاذ رضي الله عنه قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً )، رواه مسلم.

تخريج الحديث

هذا الحديث خرجه مسلم رحمه الله في صحيحه : كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين، بألفاظ وروايات عديدة كثيرة كما هو معروف من صنيع الإمام مسلم؛ فإن من عادته أن يسوق الحديث في موضع واحد بروايات مختلفة، بخلاف صنيع البخاري فإنه يفرِّق الألفاظ الموجودة عنده على أبواب وكتب شتى، وطريقة مسلم أضبط وأجمع، وطريقة البخاري فيها جانب الفقه والاستنباط على ما هو معروف.

وهكذا خرَّجه أهل السنن، فقد رواه النسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه في أبواب الصلاة، ورواه أحمد في مسنده ومالك في موطئه في باب النداء للصلاة، والدارمي، وهو في مستخرج أبي نعيم وأبي عوانة .. وغيرهم.

قصة الحديث

وكما ذكرتُ لكم، فهذا الحديث رواه مسلم وغيره بألفاظ كثيرة، وله قصة، فإنَّ في الخبر: ( أن معاذاً

خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم -وكذلك الصحابة- إلى تبوك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع -كما في الحديث هنا- بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فلما كان ذات يوم دخل ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً، ثم قال لأصحابه رضي الله عنهم: إنكم ستقدمون غداً على عين تبوك، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئاً، قال: فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم غدا على العين فإذا عندها رجلان، فسألهما: هل مسستم من مائها شيئاً؟ قالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم نظر في مائها فإذا هو مثل الشِّراك، وإذا هي تبضُ، فأخذ الناس من مائها بأيديهم شيئاً فشيئاً ووضعوه في إناء، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم فيه يده وتمضمض فيه ثم صبه على العين فجاشت بالماء، فأخذ الناس منه وتوضئوا وشربوا
)، هذه خلاصة الرواية.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخره لـمعاذ أيضاً الحديث المشهور: ( يوشك يا معاذ

إن طال بك عمر أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً ).

معاني ألفاظ الحديث

ونحن نشرح أولاً بعض الألفاظ، ثم ننتقل إلى ما يتعلق بالموضوع، ففيما يتعلق بـ تبوك فهي المدينة على الحدود الشمالية كما قلنا سابقاً، وبينها وبين المدينة (700) كيلو متر تقريباً، وهي مدينة مشهورة وكبيرة وعامرة، وهي ممنوعة من الصرف للعلمية ووزن الفعل، فإن تبوك مثل: يقوم وغير ذلك.

أما غزوة تبوك المشار إليها في الحديث فكانت سنة تسع، أظنها في رجب سنة (9هـ)، وهي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان معه جمع غفير من أصحابه، وقصَد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الروم بالشام؛ لأن تبوك على حدودهم، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم وصالح أقواماً وأخذ الجزية من أقوام، ثم رجع من تبوك ولم يلقَ حرباً.

وفي تلك الغزوة حصلت أحداث كثيرة جداً وقصص معروفة، مثل: قصص المنافقين الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا يعتذرون، ومثل قصة الثلاثة الذين خلفوا: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:118]، ونزل فيهم ما نزل، وذكر كعب بن مالك قصته مع صاحبيه.

وأيضاً: مثل محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم في عَقَبَةٍ على الطريق من قبل بعضهم .. وقصص كثيرة جداً وقعت، وفي آخرها بعدها نزلت سورة التوبة التي كان ابن عباس وغيره يسمونها الفاضحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين فيها أحوال كثير من المنافقين، وكأن تلك الغزوة كانت من جهة تهييباً لقبائل العرب: أن الإسلام وقوته وانتشاره وصل إلى حيث أصبح يناهز ويناهض ويناوش الأمم والدول الكبرى كفارس والروم، وهذا يجعلهم يكفون عن التفكير بغزو المدينة أو أذية المسلمين.

ومن جهة أخرى: فيها توجيه للمسلمين إلى أن يفكروا بفتح الدول والأمم الأخرى والتخطيط لغزوها وإزالة الظلم والطغيان الذي كان يسيطر على بلاد فارس وبلاد الروم وغيرها من أمم الأرض، خصوصاً إذا علمنا أن تلك الأمم كلها لم يكن بينها وبين المسلمين لا عقد ولا عهد ولا ميثاق ولا أي أمر من الأمور، بل كان المسلمون يخشون من سطوتها وسلطانها، وفي صحيح مسلم قصة ابن عباس الطويلة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (كنا نتحدث أنهم ينعلون الخيل لحربنا)، فكانوا يتوقعون في أي لحظة أن يكون عليهم هجوم، فبادءوهم بهذه الغزوة وكان عدد المسلمين -كما قلت- كبيراً بالآلاف، هذا ما يتعلق بغزوة تبوك.

ضعف رواية جمع التقديم في الحديث

وضمن الغزوة حصلت هذه القصة التي في أولها قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء) والجمع -كما ذكرناه بالأمس- معناه: أداء الصلاتين في وقت إحداهما، والجمع هنا لم يرد له تحديد، إن كان جمع تقديم أو جمع تأخير، بل الروايات الصحيحة تدل على أنه جمع تأخير، لكن هناك رواية وهي رواية لا تخلو من ضعف أو شذوذ ذكرناها بالأمس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس -في نفس حديث أنس- أخَّر الظهر إلى وقت العصر ثم صلاهما، وإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل فإنه يصلي الظهر والعصر ثم يرتحل ).

وهذه الرواية هنا في حديث معاذ تشبه الرواية التي ذكرناها أمس في حديث أنس بن مالك، وإذا كنا قلنا: إن الرواية في حديث أنس فيها شذوذ بزيادة كلمة (العصر) وهي لم ترد في الصحيحين، فكذلك نقول في حديث معاذ هنا: إن هذه الرواية التي فيها زيادة: (أنه كان يؤخر) أنها زيادة لا تصح بل هي منكرة، وإن جاءت من أكثر من طريق فقد جاءت من طريق هشام بن سعد عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي عن جابر بن عبد الله، وهشام بن سعد هنا في روايته مقال وقد خالف الثقات .

وجاءت أيضاً من طريق آخر: من طريق قتيبة عن الليث بن سعد، وهذا الطريق أيضاً طريق منكر، وأشار البخاري إلى أن بعض أصحاب قتيبة أدخلوه عليه من حديثه -أي: بعض الضعفاء- فتلقنه وأخذه ورواه، وأن الأئمة خالفوا هذه الرواية، فأكثر من روى الحديث عن الليث وعن أبي الزبير أيضاً وعن أبي الطفيل لم يذكروا هذه الزيادة: أنه كان (إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر)، يعني: جَمَعَ جَمْع تقديم.

الخلاصة: أن رواية جمع التقديم هنا لا تصح، وقد أنكرها الأئمة كما ذكرناه عن البخاري هنا، وغيره من أئمة الحديث، هذا ما يتعلق بقوله: (إنه صلى الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً).

مشروعية الجمع للمسافر وهو مقيم في سفره

الرواية الأخرى فيها: ( أنه دخل ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً )، هذا اللفظ في صحيح مسلم وهو بيت القصيد الآن من سياق الحديث؛ لأن فيه تأييداً لما ذكرناه أمس في القول الأول في جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر، حتى وإن كان المسافر مقيماً في سفره، يعني: لم يجدّ به السفر، خلافاً لما يختاره الإمام مالك وجماعة، في المشهور عنه: أنه لا يجمع إلا إذا جدّ به السفر أو كان على ظهر سير، فهذه الرواية كما يقول جماعة من أهل العلم، ذكر هذا الإمام الشافعي في الأم، وذكره ابن عبد البر أيضاً وذكره الباجي، وجمع من الأئمة حتى من المالكية أنفسهم، قالوا: إن هذا الحديث يقضي على ما أنكره بعض الأئمة من الجمع والإنسان مقيم حال سفره، فإن كون النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر ثم دخل، أين دخل؟

دخل في خبائه أو خيمته التي نصبت له، ثم خرج منها وصلى المغرب والعشاء، وما زعمه بعضهم من أنه ترك الطريق فهذا ضعيف جداً، والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيماً مع أصحابه وضُرب له خباء أو خيمة فخرج منها وصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل فيها ثم خرج وصلى المغرب والعشاء جميعاً.

ولهذا نقول: إن حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة وهو صحابي من صغار الصحابة وهو آخر الصحابة موتاً كما يقول بعضهم، مات سنة مائة وعشرة هجرية، يروي عن معاذ بن جبل وهو صحابي أيضاً، فـأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي يروي عن أبي الطفيل الذي هو عامر بن واثلة، وعامر يروي عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الجمع وهو مقيم، فهذه حجة قوية لجواز جمع الإنسان وهو مسافر، وهذه الحجة لا ينقضها شيء، فهو دليل على جواز ذلك، ولذلك قال بعض الشراح: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، ونحن نقول: الجواز كافٍ.

ضابط مشروعية الجمع بين الصلاتين

وأما مقدار المشروعية فهذا فيه اختلاف، هناك رواية عن مالك أن ذلك مكروه، وهناك رواية عند الحنابلة والشافعية بجواز ذلك من غير كراهة، وهو الذي نختاره: أن الإنسان إذا احتاج إلى الجمع فهو جائز من غير كراهة، سواءً كان مسافراً أو احتاج إلى الجمع لسبب آخر، وقد سألني البارحة بعض الإخوة، بعث رسالة بالجوال عقب هذا الدرس وقال: ما هو الضابط؟

فأقول: ذبحتنا الضوابط، يعني: إذا جاءنا سعة في الشريعة ما هناك داع لأن نسأل ونشدد على أنفسنا، بينما نجد أن الضابط أصلاً هو الحاجة، طيب، واحد يقول: ما ضابط الحاجة؟ ما لها ضابط.

أن الإنسان محتاج إلى هذا الأمر، وحتى لو كان هناك سبب أصلي مثل السفر، فإذا احتاج الإنسان إلى حاجة للجمع فليس عليه في ذلك حرج، مثلما لو كان يريد أن يصلي المغرب والعشاء لينام مبكراً، أو كان يريد أن يصلي الظهر والعصر جمعاً؛ لأنه يريد أن ينطلق في السفر ولا يريد أن يتوقف، أو كان يريد أن يجمعهما حتى يكون عنده وقت طويل للمراجعة ومتابعة بعض الإجراءات وبعض المعاملات الموجودة له في إحدى الدوائر الحكومية، أو مثلما حصل في الحج: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر بـعرفة من أجل الدعاء.

طيب! والذي ما يدعو أيضاً ما نقول: يجمع؟ يجمع، حتى لو كان يريد أن ينام أو يسولف مع رفقته، وهكذا جمع بين المغرب والعشاء بـمزدلفة ونام بعدها، وإن كان جمع مزدلفة هو جمع تأخير على ما هو معروف.

فالمقصود: أن الضابط هو الحاجة، ولا يسأل أحد ما ضابط الحاجة، الحاجة هي الضابط.

إذاً: هذا هو مدار المسألة ومدار هذا الحديث في موضوع قوله: ( ثم دخل، ثم خرج فصلى الظهر والعصر، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء ).

تابع معاني ألفاظ الحديث

وأيضاً من معاني ألفاظ الحديث:

قوله صلى الله عليه وسلم لهم: ( إنكم تأتون غداً عين تبوك )، وهي عين فيها ماء كما هو واضح تبض بالماء، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلمسوا أو يقربوا منها شيئاً حتى يكون صلى الله عليه وسلم هو أول من يباشرها؛ لأنهم كانوا بحاجة إلى الماء؛ بسبب السفر وليس معهم ماء، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو من يباشرها حتى تنزل فيها البركة.

فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجد عندها رجلين فسألهما: ( هل مسستما -وهي تنطق بكسر السين مسستما، على الأفصح، ويجوز فيها الفتح مسستما- من مائها شيئاً؟ فقالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم )، وقد يكون ذلك عتاباً منه صلى الله عليه وسلم على ما بدر منهما.

وقيل: إن هذين الرجلين كانا من المنافقين، وهذا ليس ببعيد، وقد يكون الرجلان -كما يقول بعض الشراح- حملا نهي النبي صلى الله عليه وسلم على الكراهة، أو يكونا لم يعلما بنهيه، وهذا بعيد؛ لأنهما لو لم يعلما لاعتذرا بذلك وعذرهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يعذر فيما هو أبعد من هذا، فالأقرب ما قاله جمع من الشراح بأن الرجلين كانا من المنافقين.

( ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى العين فإذا هي تبض مثل الشراك )، تبض بالباء والضاد المنقوطة، يعني: تفيض بالقليل من الماء، يقال: يبض، يعني: يخرج قليلاً، وهذا يطلق على الأشياء المادية والمعنوية، إذا طلبت من إنسان غني -مثلاً- أن يتبرع لمشروع خيري ولم يخرج إلا القليل، تقول: فلان لا يبض إلا بالقليل، تشبهه بالماء القليل الذي يخرج من العيون، بخلاف الماء الكثير الغزير.

وبعضهم نطقها بالصاد: (تبص) وهذه ما هو معناها؟ هذه معروفة، يعني: قال: بص، يعني: انظر، يعني: أن فيها وميضاً من الماء.

وقوله: (مثل الشراك) ما هو الشراك؟ الشراك هو شراك النعل، وكأن المقصود: أنه لا يوجد فيها إلا شيء قريب منها، يعني: مثل قرب النعل من الأرض، يعني: ليس فيها ماء كثير.

(فأخذوا من هذا الماء قليلاً ثم وضعوه في شيء فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده فيه وبرك عليه ثم صبوه فيها فجاشت وفاضت وأخذ الناس بأوانيهم وتوضئوا وشربوا من عند آخرهم).

وفي آخر الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ، وهذا دليل على أن معاذاً رضي الله عنه كان قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة والغزوة؛ ولذلك خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم خطاباً خاصاً، فقال: ( يوشك يا معاذ -يعني: يقرب- إن طال بك عمر أن ترى ما هاهنا قد مليء جناناً )، وهذه من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه أخبر معاذاً وقد كانوا في صحراء جرداء لا ماء فيها ولا مرعى ولا شجر ولا ما يستر أو يظلل أو يغطي، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخبر معاذاً بأنه يوشك أن تتحول هذه المناطق إلى جنان، يعني: بساتين وزروع وأنهار.

فهذا فيه: قوة إيمان معاذ رضي الله عنه حيث أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن ضعفاء الإيمان لو أخبروا بخلاف المحسوس الذي يستبعدونه لربما ضعف يقينهم وإيمانهم به، لكن لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من صدق إيمان معاذ فإنه أخبره بهذا الخبر، وكانت هذه معجزة، فإننا نحن نجد -وربما هذا حصل مرات وليس الآن فقط- لكن نحن نجد الآن أن كثيراً من هذه المناطق في تبوك وما حولها قد ملئت جناناً وأنهاراً، وهناك شركات زراعية في معظم المناطق التي كانت مناطق نائية كـالجوف وتبوك والمدينة وغيرها، وفيها من ألوان الأشجار والمشاريع والخيرات ما يوزع على أنحاء البلاد، بل وإلى بلاد أخرى مجاورة، ولعل في المستقبل أيضاً -والله أعلم- من مثل هذا أو ما هو أجلى وأوضح منه ما يصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وبشارته لـمعاذ رضي الله عنه.

هذا ما يتعلق بموضوع حديث معاذ رضي الله عنه.

فوائد الحديث

طبعاً: هذه معاني الكلمات، وأما ما يتعلق بالمسائل الفقهية طبعاً فيه مسألة الجمع: جمع التقديم، وقد ذكرناها بالأمس ضمن أقوال أهل العلم.

وأما ما يتعلق بفوائد الحديث، ففيه فوائد كثيرة جداً منها -بل من أهمها-:

جواز جمع الصلاتين في وقت إحداهما للمسافر وإن لم يكن جد به السفر، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، خلافاً للمشهور من مذهب الإمام مالك .

ومن فوائد الحديث أيضاً: بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون في تلك البلاد.

ومنها: فضيلة لـمعاذ رضي الله عنه وأرضاه.

وفيه: وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأن الأصل فيه الوجوب؛ ولذلك سب النبي صلى الله عليه وسلم هذين الرجلين.

وفيه بركة النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك بآثاره الحسية كالتبرك بثيابه وشعره وعرقه صلى الله عليه وسلم وريقه .. وما أشبه ذلك من الأشياء الثابتة عنه، وإن كان معظم هذه الأشياء أو كلها قد اندرس ولم يعد موجوداً، وربما تجد في بعض المتاحف في تركيا أو غيرها آثاراً بسيطة يقولون: هذه آثار -مثلاً- شعرات النبي صلى الله عليه وسلم، أو هذا شيء من ثيابه عليه الصلاة والسلام أو بردته، وتحقيق مثل هذا الأمر شيء عزيز، فالله تعالى أعلم به، يحتمل أن يكون الأمر كذلك، أو أن تكون هذه الأشياء قد ذهبت واندرست .

وقد كان عند أم سليم رضي الله عنها شعرات من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم في جلجل، فكان إذا مرض أحد صبت عليه من الماء وأعطته المريض فيشفى بإذن الله تعالى، لكن نقول: كأنه لم يعد بقي شيء من هذه الآثار النبوية التي يتبرك بها .

هذا الحديث خرجه مسلم رحمه الله في صحيحه : كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الجمع بين الصلاتين، بألفاظ وروايات عديدة كثيرة كما هو معروف من صنيع الإمام مسلم؛ فإن من عادته أن يسوق الحديث في موضع واحد بروايات مختلفة، بخلاف صنيع البخاري فإنه يفرِّق الألفاظ الموجودة عنده على أبواب وكتب شتى، وطريقة مسلم أضبط وأجمع، وطريقة البخاري فيها جانب الفقه والاستنباط على ما هو معروف.

وهكذا خرَّجه أهل السنن، فقد رواه النسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجه في أبواب الصلاة، ورواه أحمد في مسنده ومالك في موطئه في باب النداء للصلاة، والدارمي، وهو في مستخرج أبي نعيم وأبي عوانة .. وغيرهم.

وكما ذكرتُ لكم، فهذا الحديث رواه مسلم وغيره بألفاظ كثيرة، وله قصة، فإنَّ في الخبر: ( أن معاذاً

خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم -وكذلك الصحابة- إلى تبوك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع -كما في الحديث هنا- بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فلما كان ذات يوم دخل ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً، ثم قال لأصحابه رضي الله عنهم: إنكم ستقدمون غداً على عين تبوك، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئاً، قال: فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم غدا على العين فإذا عندها رجلان، فسألهما: هل مسستم من مائها شيئاً؟ قالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم نظر في مائها فإذا هو مثل الشِّراك، وإذا هي تبضُ، فأخذ الناس من مائها بأيديهم شيئاً فشيئاً ووضعوه في إناء، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم فيه يده وتمضمض فيه ثم صبه على العين فجاشت بالماء، فأخذ الناس منه وتوضئوا وشربوا )، هذه خلاصة الرواية.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخره لـمعاذ أيضاً الحديث المشهور: ( يوشك يا معاذ

إن طال بك عمر أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً ).

ونحن نشرح أولاً بعض الألفاظ، ثم ننتقل إلى ما يتعلق بالموضوع، ففيما يتعلق بـ تبوك فهي المدينة على الحدود الشمالية كما قلنا سابقاً، وبينها وبين المدينة (700) كيلو متر تقريباً، وهي مدينة مشهورة وكبيرة وعامرة، وهي ممنوعة من الصرف للعلمية ووزن الفعل، فإن تبوك مثل: يقوم وغير ذلك.

أما غزوة تبوك المشار إليها في الحديث فكانت سنة تسع، أظنها في رجب سنة (9هـ)، وهي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان معه جمع غفير من أصحابه، وقصَد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الروم بالشام؛ لأن تبوك على حدودهم، وذهب النبي صلى الله عليه وسلم وصالح أقواماً وأخذ الجزية من أقوام، ثم رجع من تبوك ولم يلقَ حرباً.

وفي تلك الغزوة حصلت أحداث كثيرة جداً وقصص معروفة، مثل: قصص المنافقين الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا يعتذرون، ومثل قصة الثلاثة الذين خلفوا: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:118]، ونزل فيهم ما نزل، وذكر كعب بن مالك قصته مع صاحبيه.

وأيضاً: مثل محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم في عَقَبَةٍ على الطريق من قبل بعضهم .. وقصص كثيرة جداً وقعت، وفي آخرها بعدها نزلت سورة التوبة التي كان ابن عباس وغيره يسمونها الفاضحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين فيها أحوال كثير من المنافقين، وكأن تلك الغزوة كانت من جهة تهييباً لقبائل العرب: أن الإسلام وقوته وانتشاره وصل إلى حيث أصبح يناهز ويناهض ويناوش الأمم والدول الكبرى كفارس والروم، وهذا يجعلهم يكفون عن التفكير بغزو المدينة أو أذية المسلمين.

ومن جهة أخرى: فيها توجيه للمسلمين إلى أن يفكروا بفتح الدول والأمم الأخرى والتخطيط لغزوها وإزالة الظلم والطغيان الذي كان يسيطر على بلاد فارس وبلاد الروم وغيرها من أمم الأرض، خصوصاً إذا علمنا أن تلك الأمم كلها لم يكن بينها وبين المسلمين لا عقد ولا عهد ولا ميثاق ولا أي أمر من الأمور، بل كان المسلمون يخشون من سطوتها وسلطانها، وفي صحيح مسلم قصة ابن عباس الطويلة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (كنا نتحدث أنهم ينعلون الخيل لحربنا)، فكانوا يتوقعون في أي لحظة أن يكون عليهم هجوم، فبادءوهم بهذه الغزوة وكان عدد المسلمين -كما قلت- كبيراً بالآلاف، هذا ما يتعلق بغزوة تبوك.