أرشيف المقالات

نفحات قرآنية (20)

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
نفحات قرآنية (20)
الآل، والأهل، والمودة في القربى[1]

من قُرآن يقري[2] مُرِيديه، ويبسط موائد الحِكمة والرَّحمة لوارِدِيه، ومن آيات تُغرِي بالاحتساب، وتُؤكِّد منعة المحتسبين المتوكلين.
 
سرت نفحات تشدُّ عُرَا[3] الأنفس الشاردة، وتَضبِط لفتات القلوب القلقة؛ حتى لا تتناثَر بددًا[4] بكلِّ وادٍ شعبة.
 
وتراءَتْ خِلال النفحات أنفُس دُنيا تغطُّ في الغفلة، وتغوص في الوحل، ولاحَتْ أنفُس عُليا تدرج نزيهة رفيقة، غنية نحو مقام (حَسبُنا اللهُ)، تستهدي قوله - سبحانه -: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129].
 
وتستشعر[5] قوله - سبحانه -: ﴿ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23]، ويروعنا - ونحن نتدبَّر شعار المصطفين، ونُقدِّر نظامَه[6] وكلمه - عقدها الفريد بحبَّاته الخرائد[7].
 
ولقد عَلِمنا أبعادَ أسلوب التلقين، وعرفنا إيحاءَ كلمة: (قل).
 
وبقي أنْ نقف أمام كلمة: (القربى) التي وردت مسبوقة بحرفٍ يفيد الظرفية: (في)، فبدَتْ وكأنها وعاء حشوه المودة والبر.
 
فالمودة - بمقتضى هذا التركيب - روح كلِّ قربى، وكل قرابة لا تورث التواد قرابة جَوْفاء، ميتة لا يُعتَدُّ بها؛ لأنَّ العبرة بالمودَّة التي تعمر القرابة، وتزكي أعماقها.
 
والذين ينعمون بقرابةٍ تجود بالمودة، وتفيض بالبرِّ هم (العترة)، والعترة من معانيها: أنها قلادة تُعجَن بالمسك، فالوشيجة التي تسخو وتزهو، وتطيب وتعلو، حريَّة بأنْ تُستعار لها كلمة (العترة).
 
ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يسع العالمين بقلبه الكبير الفيَّاض، كان يأسى بالغَ الأسى كلَّما أعرض قومُه عن التذكرة مُعرِضين كأنَّهم حمرٌ مُستنفِرة فرَّت من قسورة.
 
ولَكَمْ رأينا القرآن الكريم يُخفِّف من لَواعِجه ويحدُّ من أساه، ويكبح جماح مشاعره بمثل: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3]، ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6].
 
ولكم وقفنا أمام جوامع كَلِمِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي تُصوِّر لنا المُعرِضين فَراشًا (بفتح الفاء) يدنو بها الحتف إلى جاحم[8] تتأجَّج ناره؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مثلي كمثل رجل استَوقَد نارًا، فلمَّا أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقَعنَ فيها، وجعل يحجزهن ويَغلبنه، فيتقحَّمن فيها، فأنا آخُذ بِحُجَزِكم عن النار وأنتم تتقحَّمون فيها))؛ متفق عليه.
 
ومحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمشاعره الإنسانيَّة الفيَّاضة عترة قريش، وعيبتهم[9] التي تبثُّ الروح، وتزخَر بالمودَّة والبر، أمَّا كفَّار قريش فما كانوا ليرتَقُوا إلى مكانة العِترة والعَيْبة، كيف وقَرابتهم متجرِّدة من الرُّوح، وبواطنهم تغلي من الحقد والغلِّ والشنآن؟!
 
وقريش - برغم هذا - كثيرًا ما ناشَدتْ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الرَّحِم، وكثيرًا ما ضربتْ - له - على أوتار القَرابة، والأبوَّة، والبنوَّة، والدم المشترك؛ استغلالاً لمشاعره العُليا، أو تقيَّة، أو سياسة، أو خديعة ومكرًا، رجاءَ أنْ يكفَّ رسول الله عنهم، ويعفو.
 
1- ناشَدوه الرَّحِم حين أُصِيبوا بالقحط، فرقَّ ودعا لهم بالخصب؛ رعايةً للرَّحِم.
 
2- وتوسَّلوا إليه لحقِّ العمومة والأخوَّة والبنوَّة أنْ يكفَّ عن دعوته، ويطلب ما يريد؛ "روى ابن إسحاق بسنده أنَّ عتبة بن ربيعة - وكان سيدًا في قومه - قال يومًا وهو جالسٌ في نادي قريش، ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جالسٌ في المسجد وحدَه: يا معشر قريش، ألاَ أقوم إلى محمدٍ فأُكلِّمه، وأعرض عليه أمورًا لعلَّه يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنَّا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، قُمْ إليه فكلِّمْه، فقام إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا ابن أخي، إنَّك منَّا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنَّك قد أتيتَ قومك بأمر عظيم، وإنَّا والله ما نعلمُ رجلاً من العرب أدخَل على قومه مثل ما أدخَلتَ على قومك؛ فرَّقت جماعتهم، وسفَّهت أحلامهم، وعِبتَ آلهتَهم ودِينهم، وكفَّرت (بتشديد الفاء) مَن مضى من آبائهم، فاسمع منِّي يا ابن أخي…".
 
ومضى أبو الوليد يَعرِض على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويقترح عليه بأسلوب مُتلطِّف رفيق؛ آملاً أنْ يصل بالملاينة والرقَّة إلى ما لم يصلوا إليه بالمواجهة والمصادمة والنعيق.
 
وأبو الوليد وهو يتملَّق رسول الله بكلماته المعسولة إنَّما كان يلوحُ بقَرابةٍ قاحلة جَدباء خلَتْ من المودة فخلَتْ من الرُّوح، وأبو الوليد وعصبته، وإنْ كانوا يمتُّون إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بصلةٍ لا يمكن أن يكونوا عترة محمد لمجرَّد تلاعُبهم بكلمات: يا ابن أخي، أخ كريم، وابن أخ كريم...
إلخ تلك العبارات المتملِّقة التي لا تحوي إلا الجرس الرنان.
 
والقُرآن حين أدخَل أداةَ الظرف (في) على كلمة (القُربى) إنما دَعاهم إلى أنْ يملَؤوا الكلمة بالزيت لتُضِيء، ذلك شأن القرابة التي تَربِط بين الأناسي، أمَّا القرابة الخاوية الباردة فهي لا تليق إلا بالأنعام.
 
فلا عجب إذا روى البخاري، وأحمد، والحافظ الطبراني عن ابن عباسٍ ما رووا من أنَّ المعنى (لا أسألكم عليه أجرًا إلا أنْ تودُّوني في نفسي لقرابتي منكم...) القرابة إذًا وعاء ومنبع.
 
ومودَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تكمن في اتِّباعه، ومُؤازرته، ونشر دعوته، هذا هو حبُّ رسول الله، وهذا - في الوقت نفسه - عين حب الله؛ ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31].
 
واعتبارًا لهذه العلاقة الوَطِيدة بين حبِّ الله وحبِّ رسوله فسَّر قومٌ الآية ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23] بحبِّ الله، والتقرُّب إليه.
 
روى الإمام أحمد عن ابن عباسٍ (أيضًا) أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا أسألكم على ما أتيتُكم به من البيِّنات والهدى أجرًا إلا أنْ تودوا الله - تعالى - وأنْ تتقرَّبوا إليه بالطاعة)).
 
ولقد تردَّدت في تأويل الآية أقوالٌ لا تثبت عند التمحيص:
1- منها ما زعم من أنَّ الآية نزَلتْ توجيهًا لِمَن فاخَر العباس من الأنصار، ومثل هذا لا يُعوَّل عليه؛ لأن السورة مكية، والآية ذُكِرتْ في سِياق آياتٍ لا تمتُّ إلى قضيَّة المفاخرة بصلةٍ.
 
2- ومنها ما رواه ابن أبي حاتم من أنَّ الآية لَمَّا نزلت قالوا: يا رسول الله، مَن هؤلاء الذين أُمِرنا بمودَّتهم؟ قال: ((فاطمة، وولدها))؛ إذ من الثابت أنَّ فاطمة تزوَّجتْ بعد بدرٍ في السنة الثانية من الهجرة، فلم يكنْ لها في مكَّة زوج ولا ولد.
ذلك فوق أنَّ في إسناد الخبر شيعيًّا لا يُقبَل خبره، هو (حسين بن الأشقر).
 
قال ابن تيميَّة - رضي الله عنه - في "منهاج السنة":
1- (إنَّ السورة مكيَّة باتِّفاق أهل السنَّة، نزلتْ قبل أنْ تتزوَّج فاطمة، فكيف تُفسَّر الآية بوجوب مودَّة قَرابةٍ لا تُعرَف، ولم تُخلَق؟!)، المعول إذًا على ما أُثِرَ عن ترجمان القُرآن، وأعلم أهل البيت (ابن عباس - رضي الله عنه).
 
2- ويرى ابن تيميَّة أنَّ جميع ما في القُرآن من توصية بحقوق ذوي قُربَى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذوي قُربَى الإنسان إنما قيل فيها (ذوي القُربَى)، والعدول عن هذا إلى (في القُربَى) يستَوجِب النظر؛ ذلك أنَّه لو أُرِيد المودَّة لهم لقيل: (المودة لذوي القُربَى) ولم يقل: (في القربى)، فإنَّه لا يقول مَن طلب المودة: (أسألك المودَّة في فلان) ولا: (في قربى فلان)، ولكن: (أسألك المودَّة لفلان).
 
3- فوق أنَّ النبي لا يسأل على تبليغ رسالة ربِّه أجرًا ألبتَّة، بل أجره على الله؛ كما قال: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86].
﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ﴾ [الطور: 40].
﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [سبأ: 47].
 
4- والقُربَى ذكرت معرفةً بـ(أل)؛ فهي إذًا قُربَى معهودة معروفة لدى المُخاطَبين؛ وهي القُربَى التي بين الرسول وبينهم"، انتهى الاسترشادُ بكلام الإمام ابن تيميَّة.
 
وبعدُ:
فإنَّ المسلم تدعمه مُقوِّمات؛ منها: الإيمان، والأخوَّة، والحب في الله، والبُغض في الله...
إلخ، ومقومات المسلمين تظلُّ تتجاذَب وتتعالى حتى تتجاوَز بالمسلمين مستوى القُربَى؛ هذا المستوى الذي يقتضي - بالضروة - المودَّة في القُربَى.
 
والمودَّة في القُربَى سلوكٌ يغذي الانفعال بالقُربَى، ويُفضِي إلى مزيدٍ من التآلف والتداني، إلى مزيد من قُربَى فمزيد من مودة، يُصوِّرها الله - تعالى - في صورة عائد تقرُّ به عين رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ تقرُّ به عين المسلمين[10] ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23].
 
فالقُربَى هنا أهمُّ مفهومًا، وأرحَبُ أفقًا، فهي تَسَعُ العشيرة الأقربين، وتَسَعُ كلَّ مَفاهيم كلمات القُربَى التي وردَتْ في القرآن مسبوقةً بـ(ذي) أو (ذا) أو (ذوي) أو (أولو)...
إلخ، وغير مسبوقة، وتَسَعُ مفهومَ الأرحام وأولي الأرحام الذين جعل الله بعضهم أولى ببعضٍ.
 
ولا تزال الكلمة تتَّسع وتمتَلِئ حتى تنتظم المسلمين قاطبةً، فالإسلام رَحِمٌ بين أهله، والمسلمون كلُّهم إخوةٌ بمنطوق القرآن وصريح السنَّة، وروح الشريعة الغرَّاء؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10].
 
والمؤمن مُطالَب بأنْ يدرج مشتملاً بمعاني القُربَى حتى يُدرِك منزلة الأخوة الحقَّة التي امتنَّ الله بها على العباد؛ ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].
 
حديث ماء خم:
ولقائل أنْ يقول: فيمَ المحاورة والمداورة ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَّرنا اللهَ صراحةً في أهل بيته بعباراتٍ كأنها وصيَّة ضمنيَّة بهم، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن يزيد بن حيان[11] قال: "انطلقت أنا وحُصَين بن سبرة، وعمرو بن مسلمة إلى زيد بن أرقم، فلمَّا جلَسْنا إليه قال له حُصَين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا رأيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسمعتُ حديثه، وغزَوْت معه، وصلَّيت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، حدِّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرتْ سنِّي، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أَعِي من رسول الله فما حدثتكم فاقبَلوا، وما لا فلا تكلفُونِيه، ثم قال: قام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فينا خطيبًا بماءٍ يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر ثم قال: أمَّا بعدُ، ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يُوشِك أنْ يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلَيْن؛ أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخُذوا بكتاب الله واستَمسِكوا به، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أُذكِّركم اللهَ في أهل بيتي (ثلاثًا)، فقال له حصين: ومن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومَن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كلُّ هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم".
 
وهذا الحديث يتَّخذ منه المستشرقون ومَن لفَّ لفَّهم مدخلاً للطَّعن في عدالة الإسلام والتشكيك في صِدق مَبادئه، ويتَّهِمون بِمُوجَبه رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمحاباة، وتمييز خاصَّته وآله.
 
ولقد تعرَّضتُ في مَقالٍ سابق[12] لهذا الحديث وقلت: إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم ينسب في هذا الحديث إلى أهل بيته مزيدَ فضلٍ يُميِّزهم عند الله، أو يرفَعهم على الناس، ولم يَزِنْ لهم بميزانٍ يُغايِر ما يَزِنُ به لعامَّة المسلمين، كما أنَّه لم يُوصِ لهم بدُنيا زائدة، ولا طَلَبَ لهم معاملةً خاصَّة تُميِّزهم، بل لم يزد على أنْ ذكَّرنا الله في أهل بيته؛ وذلك يقتَضِي ألا نحيف، وألا نُحابِي، وألاَّ نغلو أو نُعِين عليهم الشيطان، ولعلَّه - عليه الصلاة والسلام - نظَر بفراسة المؤمن فتصوَّر ما سوف يحيق بأهل بيته، ولا سيَّما من نفوسٍ نفست على بني هاشم شرف النبوَّة، وورمتْ أنوفها لما نالوا بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ذِكرٍ، فوق أنَّ هذا الشرف الجديد قد يُورِث بني هاشم شيئًا من الزَّهو والتعالي الذي يُثِير نَوازِع الغيرة والحسد والحِقد في نفوس الآخَرين، وقد يجمَحُ ببني هاشم هذا الشُّعور، فيرَوْن أنَّ ما غمر العرب من سِيادةٍ وشرَف تُراث محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنهم أولى العالمين بتُراث محمد - عليه الصلاة والسلام - وحينئذٍ تَثُور الغيرة، وتضطرم الأحقاد، ويحسُّ الناس أنَّ بني هاشم بتعاليهم وخُيَلائهم أضحَوْا عِبئًا وثِقَلاً لا يُطاق.
 
ولكلِّ هذه المعاني كان أهل البيت عُرضةً للكبت، والقهْر والاضطهاد، وكانوا أبعثَ على القلق، وأحوجَ للوصية بهم، فلا غرو إذ ذكرنا رسولُ الله بهم آمرًا أنْ نُقِيم الوزن بالقسط ولا نخسر الميزان.
 
والحديث بميزان الجرح والتعديل يبعَثُ على التوقُّف والنظَر؛ وذلك لأنَّ الراوي الأوَّل للحديث (زيد بن أرقم - رضي الله عنه) استَبرَأ لنفسه حين شَكا من كبر السن، وقِدَم العهد، وخشي طُروق النسيان، فكأنَّه - رضي الله عنه - يُلقِي بهذا عن كاهِله مُسؤوليَّة ما يروي تورُّعًا.
 
لا يدخلون الجنَّة حتى يحبوكم لله ولقرابتي:
وقد يحلو للبعض أنْ يحتجَّ بما ورد في السنن من أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنَّة حتى يحبُّوكم لله ولقَرابتي))، قالها مُتخوِّفًا من بَوادِر جفوة وغيرة تُوشِك أنْ تَجتاحَ بعض القلوب الموتورة يومَ تجهَّم أصحابها لخاصَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأعرَضُوا وتغامَزُوا.
 
والحديث - كما لا يخفى - فوقَ ضعف سنده لم يصدر لتحديد سبب حبٍّ موجودٍ فعلاً، ولكنَّه يرتكز على أمرٍ غير الذي ذكر، ولم يُسَقْ لإيجاد حبٍّ معدوم أصلاً كي يخلق الودَّ ويزدهر، مرتبطًا بالسببين المذكورين؛ لأنَّ الحبَّ انفعالٌ غير إرادي ينبَثِق من عَوامِل وأسباب هي مركز الدائرة.
 
وكما أنَّه يستحيلُ على أحدٍ أنْ يخلق حبًّا في قلب أحد ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 63]، ((اللهم إنَّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تُؤاخِذني فيما لا أملك)، ((يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي)).
 
كذلك من المستحيل فكُّ حبٍّ من مركزه ووتده ليشدَّ ويوصل بسبب آخَر؛ بمعنى: أنَّ أولئك كانوا يحبُّون ولكن بعوامل أخرى، فأراد رسول الله أنْ يُوجِّه ذلك الحب إلى وجهة صحيحة.
 
والحقُّ أنَّ الحديث سِيقَ لغير ذلك، فهو يَرفُض بشدَّةٍ أنْ يكون بين المؤمنين تباغُض وأحقاد، ويستنكر بشدَّةٍ أنْ يكون القُرب من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سرَّ الحقد وسبب الضغينة.
 
ونعودُ فنقول: نحن لا نمنع أنْ يتمكَّن من القلوب حبُّ آل محمد القائم على منهج الله ورسوله، ولكنَّنا نرى أنَّ حبَّهم لا يترتَّب على هذه الآية الكريمة.
 
بل يجري على قواعد إسلامية عامَّة منها:
1- أنَّ الحب في الله والبغض فيه أوثق عُرى الإيمان.
 
2- وأنَّ المؤمنين دأبهم التراحُم والتواصل والتواد؛ ((مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهم...
إلخ)).
 
3- وأنَّ تيَّار المودَّة يَسرِي بين المؤمنين بفضْل الله وكرمه؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾  [مريم: 96]؛ أي: حبًّا تُعقَد أواصِرُه في السماء، ثم ينعكس شعاعُه على الأرض؛ أي: يحبُّهم الله ويحببهم إلى عباده.
 
يتبع - إن شاء الله.



[1] باقيات من نفحات ﴿ تَبَّتْ يَدَا ﴾ [المسد: 1] تجلو من كنوز الإسلام، وتفحم المبطلين، وتنقذ المبلسين الحائرين، وتُؤكِّد أنَّ الإسلام يهدي، ويرضي، ويبني، ويزن بالقسطاس المستقيم.


[2] قرى الضيف: أكرمه.


[3] جمع عروة، والعروة من الثوب: موضع الزر.


[4] متفرقة.


[5] تتخذه شعارًا.


[6] النظام: كل خيط ينظم به لؤلؤ ونحوه.


[7] جمع خريدة، والخريدة: اللؤلؤة لم تثقب.


[8] الجاحم: الجحيم.


[9] عيبة الرجل: موضع سره وثقته.


[10] راجع: نفحات عدد شعبان 1402.


[11] وثَّقه الذهبي وابن حبان وغيرهما.


[12] راجع: "مجلة التوحيد" عدد ربيع الآخر 1402.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير