أرشيف المقالات

أنواع المخالفين لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
أنواع المخالفين لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم


بعد أن يرسخ ابن تيمية هذا الأصل الكبير من أصول معرفة الدين وعقائده، يذكر أن المعرضين عن طريقته - صلى الله عليه وسلم - في الاستدلال نوعان:
الأول: من لم يكونوا عالمين بصدقه فهم ممن يقال له في قبره: ما قولك في هذا الرجل الذى بعث فيكم؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه.
وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاها لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين.
 
الثاني: من يظن أنه يستطيع أن يستدل بغير الآيات والأدلة التي دعا بها الناس فهو مع كونه مبتدئًا لابد أن يخطئ كبعض النظار الغالطين أصحاب الاستدلال والاعتبار والنظر، وهو من جنس ظنه أنه يأتي بعبادات غير ما شرّعه توصل إلى مقصوده كبعض أرباب العبادة والمحبة والارادة والزهد[1].
 
وهذان الصنفان من أهل الباع، صنف يتبع الأهواء وما تهوى الأنفس فيؤصل لنفسه أصل دين وضعه إما برأيه وقياسه الذي يسميه عقليات وهم المتكلمون، وصنف آخر وضع دينه بذوقه ويجعل ذلك حجة وهم الصوفية وكل منهما يحتج من القرآن بما يتأوله على غير تأويله[2].
 
وتمهيدًا لبحثنا القادم سنهتم بإزاحة الظن عن تعارض أدلة النقل والعقل من طريقنا لأنهما في حقيقة الأمر يتطابقان ولا يتعارضان.
 
أما الظن بان أدلة العقول هى الأفضل فيرجع الى أسباب منها:
1- النقل الحرفي من الفلسفة اليونانية والتأثر بنظرتها للعقل، ولم يفطن البعض إلى اختلاف مدلول العقل بين الفلسفة اليونانية واللغة العربية، فإن لفظ (العقل) عند فلاسفة اليونان يقصد به جوهرًا قائمًا بذاته، وليس الأمر كذلك في اللغة العربية، كذلك العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يراد به جوهر قائم بنفسه باتفاق المسلمين وانما يُراد به العقل الذي في الإنسان.
 
جاء تعريف العقل في (لسان العرب) بأنه: [الحجر والنهي ضد الحمق].
 
وعن ابن الأنباري: (رجل عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه.
والعقل التثبت في الأمور.
والعقل القلب، والقلب العقل.
 
وسمي العقل عقلًا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك؛ أي يحبسه.
 
ويتضح من هذه التعريفات الحفاوة بالعقل، واعتباره أداة للمعرفة كما أن له مدلول أخلاقي.
 
ولكن مع هذا التقدير المتميز للعقل لغة واصطلاحًا، ظل علماء السنة يضعونه في مكانته بالموازنة مع الشرع، فالشرع هو المقدِّم، ويأتي دور العقل ليؤدي دوره في الفهم والتفسير والاستنباط والاستدلال.
 
هذا، وقد مدح الله تعالى مسمى العقل في القرآن الكريم في غير آية.
 
كذلك يقرر ابن تيمية أن القرآن الحكيم مملوء من ذكر الآيات العقلية - أي التي يستدل بها العقل، وهي شرعية دل عليها وأرشد إليها، لكن كثيرًا من الناس لا يسمى دليلًا شرعيًا إلا ما دل بمجرد خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو اصطلاح قاصر فكيف يزعم البعض أن الأدلة الشرعية غير عقلية والآيات القرآنية الحاضة على النظر العقلي بلغت من الكثرة حدًا يلفت النظر[3]؟.
 
وأيضا وفي هذا الغرض يقول الدكتور صبحى الصالح - رحمه الله تعالى تحت عنوان: وظيفة العقل في استنباط الأدلة:
والإشادة بالعقل لم تكن - كما يتهم المستشرقون والباحثون الغربيون عامة - مزية للمعتزلة وحدهم، كأن غيرهم لم يع قيمتها، ولم ينزلها منزلتها، فما يستطيع مفكر مسلم - مهما يعول علي النصوص والغيبيات - أن يقاوم وظيفة العقل في استنباط الأدلة واكتساب المعارف، وإنما أتيح للمعتزلة تبعًا لمنهجهم القائم على العقل أصلًا والنص تبعًا - أن يغلوا في هذا الميدان غلوًا بعيدًا، نراه نسبيًا أبعد عن مناخ الإيمان والروح من ابتعاد الأشاعرة مثلًا من مناخ المنطق والبرهان.
 
ويمكننا أن نلاحظ أن القرآن، بمنطقه الوجداني البالغ التأثير، وإن تجافى عن الطريقة المنطقية المباشرة في الاستدلال، يدعو أول ما يدعو الى استخدام الطاقة (الفكرية) لدي تقرير الدلائل (العقلية) وإيراد الحجج والبراهين على حقائق الكلون والحياة، وحسبنا في هذا الصدد قوله تعالى علي وجه الإجمال: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].
 
ومن أوضح الشواهد القرآنية على هذا المنهاج الاستدلالي ما نجده في أواخر سورة يس عند إثبات البعث والنشور من سرد رائع لمقدمات متعاقبة تنتهي بالناظر فيها إلى التسليم بصحة هذه العقيدة من غير ارتياب.
 
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾ [يس: 77 - 81].
 
وإلى قيمة هذا الاستدلال العقلي، شبه المنطقي، نبه كثير من المشتغلين بالفلسفة وعلم الكلام، كالإمام فخر الدين الرازي الذي قال: (بل أقر الكل بأنه لا يمكن أن يراد في تقرير الأدلة العقلية على ما ورد في القرآن، وكحجة الإسلام الإمام الغزالي الذي قال: (وأول ما يستضاء به من الأبواب ويسلك من طريق النظر والاعتبار، ما أرشد إليه القرآن، فليس بعد الله بيان)[4].
 
2- اختلط على البعض في العصر الحديث المفاهيم الدينية المسيحية مع المفاهيم الإسلامية، ففي الأولى هناك تمييز بين المعرفة العقلية والمعرفة القلبية (العاطفية).
وانبثق عنهما اتجاهان، يرى أحدهما أن الإيمان قبل العقل، والثاني يعكس الترتيب.
(وينسبان إلى القدِّيسين أوغسطين وتوما الأكويني).
 
3- الاكتفاء بالاطلاع على مؤلفات المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة، بينما يتطلب البت في هذه القضية الهامة الاطلاع على مؤلفات علماء الحديث والسنة الذين تنبهوا منذ العصور الأولى إلى أن أدلة القرآن الكريم تستند إلى النظر العقلي، وإن هناك آيات لا حصر لها تأمر بالنظر والتدبر والتفكر، فضلًا عما تتضمنه من براهين عقلية كأفضل ما تكون هذه البراهين: مثل أدلة إثباث صفات الكمال لله عز وجل وإثبات البعث وصدق نبوة الأنبياء.
 
4- تطبيق فكرة (التطور) على عقائد الإسلام.
وهذا المنهج إن صح في عرض العقائد الدينية الأخرى، فلا يصح عند عرض العقائد الإسلامية، بل يؤدي إلى التصادم مع حقائق الوحي الإلهي في قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3] وهي الآية التي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة في حجة الوداع.
 
5- التعصب للآراء والتشبث بها - لا سيما إذا نشئ عليها - دون إفساح الصدر للآراء المخالفة.
 
بعد هذا التمهيد الضروري، سنتناول فيما يلي شرح قضية (البراهين العقلية على صحة العقائد الإسلامية) ولها رافدان:
الأول يتناول نظرية المعرفة.
 
والثاني يتناول السلوك أو الطريق إلى الله عز وجل، حيث يظن قطاع كبير من الباحئين والدارسين - فضلًا عن عامة المسلمين - أن هذا الطريق قاصر فقط على الصوفية؛ بينما سنرى كيف وضح ابن تيمية معالمه كأحسن ما يكون نقيًا من شوائب البدع وخليط الملل والنحل.

[1] النبوات ص 38.

[2] نفسه ص 89.


[3] النبوات ص 52 ط السلفية.

[4] من مقالته بعنوان (الأسس المشتركة بين الديانتين في ميادين المعتقدات)، ص 57 مجلة العلم والإيمان العدد التاسع 9 /1396هـ- 9 /1976م ج.
ع.
ل- تونس.

شارك الخبر

المرئيات-١