هل كل عالم دون طلابه جميع أقواله ومروياته في العلم؟ وهل كل عالم روى أو كتب جميع علمه؟
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
هل كل عالم دوَّن طلابُه جميع أقوالِه ومروياته في العلم؟وهل كلُّ عالم روى أو كتب جميعَ علمِه؟
هل كل عالم دوَّن طلابُه جميع أقواله ومروياته في العلم؟ وهل كل عالم روى أو كتب جميع علمه؟
كلا، ويدل على هذا أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما من آيةٍ في كتاب الله إلا وأنا أعلمُ فيم نزلتْ)، ومع هذا نجد آيات كثيرة في كتاب الله لم ينقل فيها رواية عن ابن مسعود، وقال مجاهد: (سألت ابن عباس عن تفسير القرآن آية آية من فاتحته إلى خاتمته)، ومع هذا نجد آيات كثيرة ليس فيها أي رواية في تفسيرها عن ابن عباس ولا عن تلميذه مجاهد، فالعلم بحر واسع، وليس كل العلم مكتوب، فلو هيئ أن سأل بعض التابعين أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليًّا، أو ابن مسعود أو أُبي بن كعب رضي الله عنهم عن تفسير جميع آيات القرآن، لوجد عندهم علمًا واسعًا، وفي صحيح البخاري ومسلم أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن آية، فما أستطيع هيبة له، ثم لما حج سأله فأجابه، ولو لم يسأله لما علمنا بجوابه، فالعلم خزائن مفاتيحها السؤال.
• وهكذا نجد كثيرًا من الأحاديث لم يحدث بها الرواة إلا حين يسألون، وإن كانوا في الأصل يحدثون بالأحاديث ابتداءً نشرًا للعلم، ولكن ليس كل صحابي حدث بجميع ما سمع من العلم، فمثلًا أبو بكر الصديق صاحب رسول الله، هو أعلم الناس بحديثه، ولم يرو عنه إلا القليل لتقدم وفاته رضي الله عنه.
• وهكذا لا نجد لفقهاء التابعين كلامًا في جميع المسائل الفقهية، مع ضرورة أن لهم علمًا فيها، فليس كل عالم تكلم بجميع علمه، ولو تكلم فليس كل علمه منقول إلينا، فمثلًا سيد التابعين، وأفقه أهل المدينة سعيد بن المسيب رحمه الله نجد أن المحفوظ من أقواله وفتاواه في الفقه أقل من المحفوظ عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، الذين دون طلابهم كثيرًا من أقوالهم وفتاواهم، وتجد تفصيل ذلك في كتابي المنشور في الإنترنت: قصة نشأة المذاهب الفقهية، وليس كل علم هؤلاء الأئمة الأربعة الفقهاء مكتوب، وإن كان المحفوظ عنهم كثير جدِّا، لكن كم من مسألة في الفقه لا يجد الفقهاء نصا من كلامهم فيها، مع أنهم لو سئلوا عنها لتكلموا فيها بعلمهم، فليس علم كل عالم مكتوب كله ومدون جميعه، فالعلم واسع جدًّا.
• ️وهكذا في علم الحديث نجد مثلًا أن الإمام البخاري رحمه الله أخبر عن نفسه أنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث ضعيف، والمراد بالحديث هنا الرواية بالإسناد، وهذا يدل على سعة علم المتقدمين، ولعلنا لا نجد هذا العدد الكبير فيما بين أيدينا من الكتب المسندة، وهذا يؤكد أنه ليس كل عالم كتب أو روى كل علمه، وليس كل عالم دون طلابه جميع علمه، وإن كان في المكتوب منها والمنقول كفاية بحمد الله، لكن نؤكد أنه ليس كل عالم كتب جميع علمه، فضلًا عن علم غيره، فمثلًا الحافظان الكبيران أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان رحمهما الله، علمهما بالحديث وعلله علم عظيم معروف عند أهل الحديث، وغالب ما بأيدينا من علمهما هو ما سألهما عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه العظيم علل الحديث، المطبوع في ستة مجلدات، فقد سألهما أو نقل عنهما 2840 سؤالًا أو فائدة، ولو زاد من سؤالهما لزادا له من الفوائد، فليس كل علمهما مدون في ذلك الكتاب، ولا في غيره، بل إن كثيرًا من حفاظ الحديث المتقنين لم يؤلفوا شيئًا، وماتوا وفي صدورهم علم عظيم، كأمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج، وتلميذه يحيى بن سعيد القطان، ولا شك أنهما نشرًا من علمهما بقدر الاستطاعة، ولكن لا نستطيع أن نقول: إن جميع علمهما في الحديث وعلله مدون مكتوب، فكم من حديث يختلف المحدثون في صحته أو ضعفه، ولو سألنا عنه شعبة أو يحيى القطان لوجدنا عندهما منه علمًا، تصحيحًا أو تضعيفًا.
• والحمد لله ففي الكتب القديمة خاصة المسندة علم نافع، فأي كتاب مسند فيه فوائد عظيمة جدًّا عن المتقدمين، فعليك يا طالب العلم أن تحرص عليها، لكن لا تظن أن جميع العلم النافع مدون، ومن الخطأ أن تقول: ما ترك المتقدم للمتأخر شيئًا.
العلم بحر منتهاه يبعد
ليس له حد إليه يقصد
• فلا تسارع إلى من فتح الله عليه بفائدة في التفسير أو شرح الحديث أو علل الحديث أو الفقه، فتقول له: من سبقك بهذا؟!
نعم، إن كان قوله مخالفًا للنصوص أو أصول الشريعة أو الإجماع، فلا عبرة بقوله المحدث، أما إن كان قوله مبنيًّا على قواعد ذلك العلم، وهو متبع منهج أهل ذلك العلم، فلا حرج عليه، وما يدريك لعل بعض العلماء السابقين أو المعاصرين يقول بقوله، أو قد يوافقه على قوله لو عرض عليه؟! فليس كل عالم منقولة أقواله كما تقدم.
• ️والعلم رزقٌ يرزقه الله جل جلاله من يشاء من عباده، ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255]، وهو سبحانه يبثه بين عباده كيف يشاء، فيبسطه لمن يشاء، ويصرفه عمن يشاء، وهو سبحانه الكريم الوهاب الفتاح، قد يهب الصغار ما لا يهبه الكبار، وقد يفتح على بعض المتأخرين بما لم يفتحه على المتقدمين، روى عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (20946) عن معمر عن الزهري قال: كان مجلس عمر مغتصًّا من القراء شبابًا كانوا أو كهولًا، فربما استشارهم فيقول: (لا يمنع أحدًا منكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن العلم ليس على حداثة السن ولا قدمه، ولكن الله يضعه حيث شاء).
• ️وقد أخبر الله في كتابه أنه فهَّم سليمان مسألة لم يفهمها داود عليهما الصلاة والسلام، مع كونه نبيًّا ملكًا قد علَّمه الله مما يشاء، فقال سبحانه: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 78، 79]، فهذان نبيان كريمان حكَما في حكومة واحدة، فخص الله أحدهما بفهمها مع صغره، ومع وجود أبيه داود عليه الصلاة والسلام.
• ️قال ابن مالك النحوي في مقدِّمة كتابه تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد: "وإذا كانت العلومُ مِنَحًا إلهية، ومواهبَ اختصاصيةً، فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما عسُرَ على كثيرٍ من المتقدِّمين، أعاذنا الله من حسدٍ يسدُّ بابَ الإنصاف ويصدُّ عن جميل الأوصاف".
وعلق المرتضى الزَّبيديُّ على كلام ابن مالك، فقال: "والمعنى أن تَقدُّم الزمان وتأخُّرَه ليست له فضيلةٌ في نفسه؛ لأن الأزمانَ كلَّها متساويةٌ، وإنما المعتَبر الرجالُ الموجودون في تلك الأزمان، فالمصيبُ في رأيه ونقلِه ونقدِه لا يضرُّه تأخُّرُ زمانِه الذي أظهره اللهُ فيه، والمخطئ الفاسدُ الرأيِ الفاسدُ الفهمِ لا ينفعه تقدُّم زمانِه، وإنما المُعاصرة كما قيل: حِجابٌ والتقليد المَحْضُ وبالٌ على صاحبه وعذاب.
وأنشدنا شيخنا الأديب عبد الله بن سلامة المؤذن:
قُلْ لمَن لا يرى المُعاصِرَ شيئًا
ويرى للأوائل التَّقْديما
إنَّ ذاك القديمَ كانَ حديثًا
وسَيُسمَّى هذا الحديثُ قَديما".
• ️وقال حاجي خليفة في مقدِّمة كشف الظنون: "واعلم أن نتائجَ الأفكار لا تقف عند حدٍّ، وتصرُّفاتِ الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظٌّ يُحْرزه في وقته المقدَّر له، وليس لأحدٍ أن يزاحمه فيه؛ لأن العالَم المعنوي واسعٌ كالبحر الزاخر، والفيضَ الإلهي ليس له انقطاعٌ ولا آخر، والعلومُ منحٌ إلهية ومواهبُ صَمَدانية، فغير مستبعد أن يُدَّخَر لبعض المتأخِّرين ما لم يدَّخر لكثير من المتقدِّمين فلا تغترَّ بقول القائل: "ما ترك الأول للآخر"، بل القول الصحيح الظاهر: "كم ترك الأول للآخر" فإنما يُستجَاد الشيء ويُسترذَل لجَوْدته ورداءته لا لقِدَمه وحدوثه، ويقال: ليس بكلمةٍ أضرَّ بالعلم من قولهم: "ما ترك الأول شيئاً" لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التقاعد عن التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدَّم الأولُ من الظواهر وهو خطر عظيم وقول سقيم، فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها".
• ولا يعني هذا أن يخالف المتأخر الإجماع، أو يتكلم في العلم بالهوى والظنون والأوهام، فإن هذا ضلال مبين، وجهل عظيم، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]، وإنما المراد أن المتأخر قد يفتح الله عليه بأشياء من العلم فاتت كثير من المتقدمين، فيستنبط من الكتاب والسنة الصحيحة ما لم يستنبطه من قبله، أو يظهر له دليل فات الاستدلال به من قبله، أو يظهر له ضعف قول راج على كثير ممن قبله، ونحو ذلك مما لا يخالف النصوص، ولا الإجماع الصحيح، مع الاعتراف بفضل علم السلف على علم الخلف، ولابن رجب في تقرير ذلك رسالة نافعة معروفة.
• روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم كتاب؟ قال: (لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم)، قال القسطلاني في شرح هذا الأثر: "يفهم منه جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة"؛ إرشاد الساري ج1ص 204، وينظر: تفسير الرازي ج9ص490، وتفسير ابن عاشور ج1 ص30.
• وما أحسن ما قاله ابن الحاج في المدخل ج1 ص75: "عجائب القرآن والحديث لا تنقضي إلى يوم القيامة، كل قرن لا بد له أن يأخذ منه فوائد جمة خصه الله بها، وضمها إليه؛ لتكون بركة هذه الأمة مستمرة إلى يوم القيامة".
• وأختم مقالي هذا بقول الشيخ بكر أبو زيد في كتابه "حلية طالب العلم" (ص: 174): "احذر غلط القائل: ما ترك الأول للآخر، وصوابه: كم ترك الأول للآخر! فعليك بالاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، وابذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق، ومهما بلغت في العلم، فتذكر: كم ترك الأول للآخر!".